الهوية وتشكل الدولة في المجتمعات متعددة الطوائف

الهوية وتشكيل الدولة في المجتمعات متعددة الطوائف: بين الوطنية والطائفية في سورية

Identity and state formation in multi‐sectarian
societies: Between nationalism and sectarianism in Syria

رايموند هينيبوش Raymond Hinnebusch

ترجمة عمر حداد

ملخص
باعتماد سورية حالة للدراسة، دُرست العلاقة بين الهوية وتشكيل الدولة في المجتمعات متعددة الطوائف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تبحث الورقة في تأثير مزيج الطائفية والوطنية في تشكيل مؤسسات الدولة، ومن ثم تأثير هذا الأخير في هذا المزيج. أدى التصدير المعيب لنظام الدولة “الويستفالي” Westphalian State System إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى تأسيس السياق البنيوي–هويات متعددة، دول هجينة- الذي تتنافس وتتداخل وتتعايش فيه الهويتان معًا. بعد ذلك، يتم سبر العوامل التي تفسر تنوع أنماط الهوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعواقبه المحتملة في تشكيل الدولة؛ بعد ذلك، وبعكس التحليل، يتم استكشاف تأثير تشكيل الدولة، ومؤسساتها، في التوازن بين الوطنية والطائفية. ولتوضيح الحجة، نوقشت الحالة السورية بإيجاز، بالنظر إليها في ثلاث مراحل، تفاعل فيها ميزان الهوية بأشكال مختلفة مع تشكيل الدولة: مرحلة سورية ما قبل البعث، حين طغت الوطنية على الطائفية، مرحلة سورية البعثية (1970-2000)، حين جرى تعويض الاستغلال الأبوي السلطوي patrimonial instrumentalization للطائفية، بواسطة المؤسسات البيروقراطية الشمولية والسياسات الشعبوية، والأيديولوجيا القومية، ومرحلة سورية الـ “نيوليبرالية” تحت حكم بشار الأسد (2000-2010) حين تقلص الشمول، ما أدى إلى إحياء الطائفية، والحرب الأهلية في سورية 2010، حين أدى الفشل الجزئي للدولة إلى تعزيز الطائفية المتشددة الإقصائية على حساب الوطنية.
Abstract
The relation between state formation and identity in MENA multi‐sectarian societies is examined, taking Syria as a case study. The paper looks at the impact of the mix of sectarianism and nationalism on the formation of state institutions and the impact of the latter on this mix. The flawed export of the Westphalian state system to MENA established the structural context—multiple identities, hybrid states— wherein the two identities compete, overlap, and coexist.
Next, the factors that explain varying identity patterns in MENA are surveyed and their likely consequences for state formation; then, reversing the analysis, the impact of state formation and state institutions on the nationalism–sectarianism balance is examined. The Syrian case is briefly discussed in order to illustrate the argument, looking at three periods when the identity balance interacted differently with state formation: pre‐Ba’thist Syria when nationalism eclipsed sectarianism; Ba’thist Syria (1970‐2000) when patrimonial instrumentalization of sectarianism was compensated for by inclusive bureaucratic institutions, populist policies, and nationalist ideology; neo‐liberal Syria under Bashar al‐Asad (2000‐2010) when inclusion shrank, reanimating sectarianism; and civil war Syria (2010‐) when partial state failure fostered exclusionary militant sectarianism at the expense of nationalism.

مقدمة
تدرس هذه المقالة الترابط بين الهوية المجتمعية -على وجه التحديد مزيج الطائفية والوطنية- وتشكيل الدولة، في الشرق الأوسط. تربط وجهة النظر السائدة في العلوم السياسية السائدة الدول القوية والشمولية بالقومية؛ وعلى العكس من ذلك، فإن المستبعدين في الدول الضعيفة أو غير الشمولية قد يعتنقون الهويات الفرعية -هويات ما دون الدولة- مثل الطائفية (Wimmer, 2002). يمكن أن تكون هذه التوقعات صحيحة على المدى التاريخي الطويل؛ ومع ذلك، فهي لا تستنفد الاحتمالات الممكنة، ففي الواقع، إن السياسات الأكثر تعقيدًا وتغيرًا و”القائمة بالفعل” في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقع “بين” القطبين. تشكل هذه الورقة بداية لكشف الغطاء عن الديناميات الأكثر تعقيدًا. تجمع هذه الورقة معًا دراسات حول كل من الهوية وتشكيل الدولة، من أجل تحديد المتغيرات الأساسية اللازمة لفهم العلاقة المتبادلة بينهما. فهي تحدد أولًا السياق البنيوي الذي حدث فيه تشكيل الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أي التصدير المشوه لنموذج دولة ويستفاليا (Westphalian state) إلى المنطقة. رُصدت التبدلات في الهوية، وخصوصًا العلاقة المتبادلة بين الوطنية والطائفية، وتأثيرها في تشكيل الدولة؛ ثم جرى التحليل في الاتجاه المعاكس، لدراسة تأثير تشكيل الدولة في الهوية. ثم لُخِّصت هذه النتائج عبر إطار بنائي للتحليل. بعد ذلك، تم تطبيق الإطار على دراسة الحالة السورية، التي يسمح فيها التباين في كل من الهوية وتكوين الدولة على مدار الوقت باستكشاف دستورهما المشترك. لا يسعى التحليل لإظهار الفرضيات السببية، بل يهدف إلى إنشاء سرد أولي انتقائي يسترشد بإطار يمكن القول إنه خطوة أولى ضرورية لتحقيق الهدف السابق.

تشكيل الدولة والهوية: السياق والإشكالية
2.1 تأسيس الدولة: تصدير نظام دولة مشوه
أُنشئ السياق البنيوي لتشكيل الدولة وهويتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال محاولة “تصدير” نظام الدولة الويستفالي (Westphalian State System)- أي الدول الفيبيرية (Weberian states) المتطابقة مع الجماعات القومية (دولة الأمة)- من قلب أوروبا إلى العالم غير الغربي (Bull & Watson, 1984). فقد دُمِّرت، بحركة أولى، الإمبراطوريات متعددة الإثنيات في المنطقة، وفرضت القوى الإمبريالية الغربية “دولًا” جديدة – بشكل أولي كيانات إقليمية، ومراكز قيادة بيروقراطية، ما أدى إلى تقسيم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل تعسفي، بما يناسب مصالحها الجيوسياسية. لذلك، ناضلت الحركات القومية من أجل الاستقلال، وبعد التحرر من الاستعمار، حاول بناة الدولة من الشعوب الأصلية ملء هذه الكيانات الإقليمية بالمؤسسات السياسية، والهويات الوطنية. سعى قادة الدولة لتشكيل هوية وطنية مشتركة بين شعوبهم، (Murphy, 1996; Smith, 1981) لأن الدول القومية في منظورهم كانت تشكل النموذج الأكثر فاعلية للحكم.
كان الادعاء بتمثيل الأمة هو مفتاح الشرعية، وكانت الدولة القومية، القادرة على حشد شعبها للقتال، ودفع الضرائب، ناجحة جدًا في الصراعات الدولية، حتى أن الدول ما قبل القومية لم تكن قادرة على المنافسة. وكان الاعتقاد بأن زيادة التطابق ما بين الهوية القومية والدولة ستؤدي على الأرجح إلى زيادة قوة هذه الأخيرة، وكلما نقص هذا التطابق، زادت مستويات الصراع الداخلي والوحشية. أصبحت القومية أيديولوجيا “تحديث دفاعي” للحاق بدول المركز المتطورة، بينما تبنى بناة الدولة والحركات القومية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مُثُلها العليا لتقرير المصير الوطني و”أمة واحدة، دولة واحدة”، وكان أفضل تجلياتها تشكيل أتاتورك دولة تركية من الإرث العثماني.
على أي حال، لم يكن نجاح نظام ويستفاليا حتميًا خارج الغرب. وفي الواقع ولأسباب متعددة، “انحرفت” نتائج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عن نموذج الدولة القومية. أولًا، كانت الظروف مختلفة (HINNEBUSCH 139) لدى بناة الدولة الأخيرين عما كانت لدى أولئك الموجودين في قلب أوروبا. في أوروبا، أُسِّست الدولة نتيجة عوامل محلية كأداة لصنع الحرب، ما أدى إلى تمركز السلطة، وظهور البيروقراطيات الحديثة، وتعبئة المواطنين لتكوين هويات وطنية مرتبطة بالدولة (Tilly, 1975)؛ على النقيض من ذلك، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فُرضت العملية من الخارج، على شكل بيروقراطيات مستوردة امتزجت بالممارسات الأبوية السلطوية الباقية، ما أدى إلى ظهور أشكال أبوية سلطوية جديدة أضعف من الحكم “الهجين” (Bacik, 2008)؛ كما كان بناة الدولة أقل اعتمادًا على الجنود المواطنين، ودافعي الضرائب المحليين، لأن الموارد والحماية غالبًا ما يتم توفيرها من قبل الرعاة الدوليين. ثانيًا، لم يتمكن بناة الدولة في شرق المتوسط وشمال أفريقيا من التغلب على تحديات التحديث بصورة متتابعة. على سبيل المثال، العجز عن إنشاء المؤسسات السياسية بشكل جيد قبل أن تتعمق مطالب المشاركة. ثالثًا، لم يكن نموذج الدولة القومية متوافقًا مع الهويات الموجودة مسبقًا، بحيث تعايشت سيادة الدولة الجديدة وتناقضت مع العروبة والإسلام كروابط فوق الدولة (Buzan & Gonzalez‐Palaez, 2009)، ما قلل من الولاء للدول القطرية؛ وقد تفاقم هذا بسبب الفرض الخارجي لحدود تعسفية قاطعة للهويات، والضمانات الخارجية لهذه الحدود التي منعت حروب التوسع التي يحدث فيها ابتلاع الدول الأقوى للوحدات السياسية الأقل قابلية للحياة، وتصاغ فيها الهويات الوطنية (Lustik, 1997). وهكذا، فإن أسس قوة الدولة في المركز – الهويات الوطنية واعتماد الجمهور على كتلة النخبة التي تشكلت في الحرب- كانت أكثر هشاشة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. على هذا النحو، فإن ما “تم تصديره” إلى المنطقة كان في البداية “أشباه دول”، مدعومة بالدعم الخارجي، لكنها تفتقر إلى بنى دولتية قوية في داخلها (Clapham, 1998; Jackson, 1993).
كانت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بمرور الوقت، مستقرة نسبيًا، أحيانًا بسبب التعبئة القومية ضد الإمبريالية، أو عن طريق شن الحرب. لكن ظروف تكوين الدولة خلفت عاقبتين مستمرتين: على مستوى الهوية؛ استمر التوتر بين الهويات الموجودة سابقًا -ما فوق، وما تحت الدولة- ونموذج الدولة الوطنية التي يتم تشكيلها في المنطقة. علاوة على أن عدم تجانس الهوية هذا قد أدى إلى صعوبة توليد إجماع حول هوية وطنية شاملة داخل الدول، فقد مكن أيضًا الوكلاء السياسيين – بناة النظام وخصومهم – من استغلال الهويات المتعددة، بما في ذلك القومية والطائفية. كان هناك أيضًا توتر بين المؤسسات الويستفالية التي يُفترض أنها شاملة، والممارسات الأبوية السلطوية الموجودة مسبقًا، بما في ذلك استغلال الانتماءات ما دون الدولة مثل الطائفية في بناء النظام، مع نتائج غالبًا على شكل مؤسسات هجينة بين الموروث والجديد مع تأثيرات متبدلة تمامًا في الشمولية، ومن ثم في قدرة هذه المؤسسات على تكوين هويات وطنية. ثم لاحقًا بعد وقت طويل، وفي ظل العولمة التي تحركها الليبرالية الجديدة، أدى تراجع الشمول إلى تحفيز التعبئة ضد الدولة من قبل الحركات التي غالبًا ما تنشر هويات ما دون الدولة وما فوقها (Delanty and O’Mahony (2002): 169‐87, Barber, 1995).
تحاول الورقة أدناه أيضًا استكشاف عواقب تصدير النظام الويستفالي على الهوية والمؤسسات. ومع ذلك، فإن الرابطة بين القومية والطائفية وعلاقتها النظرية بتكوين الدولة في حاجة إلى مزيد من الدراسة.
2.2 إشكالية الوطنية-الطائفية وبناء الدولة
نظرًا إلى ظروف تصدير النظام الويستفالي إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بقيت القومية والطائفية، في المجتمعات متعددة الطوائف في المنطقة، هويات متنافسة قابلة للحياة وتفرض تأثيرها في بناء الدولة. من حيث المبدأ، يبدو أن لكل منهما عواقب محتملة مختلفة تمامًا عن الأخرى على الدولة: داخل الدولة، غالبًا ما يُنظر إلى القومية، ولا سيما القومية المدنية، على أنها عالمية وشاملة لمن يحملون صفة المواطنة، ومن ثمّ، فهي أكثر توافقًا مع بناء الدولة. يعتقد العديد من الدارسين (Calhoun, 1997; Rustow, 1970) بأن الهوية القومية الموحدة داخل الدولة، هو أمر بالغ الأهمية للحفاظ على سلمية المنافسة السياسية حول قضايا “من يحصل على ماذا”. من جهة أخرى، يمكن تعريف الطائفية أنها التماهي مع مجتمع ديني ما دون الدولة، أو عابر لها، يرسخ الحدود مع “الآخر”، خصوصًا عندما تنطوي على ادعاءات احتكار الحقيقة الدينية كمبدأ لتنظيم الحياة العامة. إنه مرتبط بالتضامن الخاص داخل المجموعة، والعداء المحتمل تجاه “الآخر”، ومن ثمّ، فهي مثيرة للانقسام سياسيًا، وتؤدي إلى ممارسات حكم إقصائية داخل الدول (Toft, 2007). دلاليًا تعتبر الطائفية تسمية تحقيرية تُلصق بـ “الآخر” وتنكر على الذات، في خطاب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. ففي الممارسة العملية، يمكن أن تتداخل الهويتان، كما هو الحال عندما يتم بناء نسخ من القومية التي تعكس وجهة نظر الجماعات الطائفية المهيمنة، مثل النسخ المارونية من القومية اللبنانية وهيمنة الشيعية في العراق على شكل الهوية العراقية حاليًا (Haddad, 2011)، والقومية البحرينية السنية المرتبكة )140 HINNEBUSCH) التي يصور فيها الشيعة البحرينيون على أنهم الطابور الخامس للعدو “الوطني”، إيران. ولكن حتمًا، تشعر الطوائف الأخرى بأنها مستبعدة من مثل هذه النسخ من “القومية”. غالبًا ما تكون هناك أيضًا سرديات متعددة للقومية (Hutchinson, 2005)، ولا تتمتع كلها بالعمومية والشمول: فقد تكون قومية إثنية، بما في ذلك القومية العربية، إقصائية تجاه الأقليات الإثنية (مثل الأكراد)، وبذلك فهي ترفض الاستيعاب بطريقة مشابهة للقومية الطائفية (Rørbæk & Knudsen, 2015) والقومية المدنية، إذا كانت، من حيث المبدأ، أكثر شمولاً وإدماجًا في الممارسة، ممزوجة بعناصر من القومية الإثنية. وكما يطرح حداد Haddad 2014))، يمكن أن تكون القومية المدنية العلمانية إقصائية تجاه أصحاب العقليات الدينية.
علاوة على ذلك، فإن الطائفية، كما القومية، بعيدًا عن كونها ظاهرة موحدة (Haddad, 2011)، فإنها تتباين على طول الخط، مع وجود متغيرات لها علاقات مختلفة تمامًا مع القومية، وعواقب مختلفة على تشكيل الدولة. عند الطرف المنخفض الكثافة للطيف، قد تكون الهويات الطائفية مبتذلة وبسيطة وغير مسيّسة، ومتوافقة مع تبني هوية قومية أوسع في الوقت نفسه. لا يمكن تسييس الهويات الطائفية واستغلالها فحسب كوسيلة من وسائل المنافسة الجماعية التي لا تتعلق إلا قليلًا بالعقيدة الدينية، إنما بشكل رئيس حول الوصول إلى الموارد أو السلطة الشحيحة، بل يمكن أيضًا استخدامها من قبل النخب الحاكمة لاستقطاب العملاء و/ أو فرق تسد؛ يمكن إقامة مثل هذه “الطائفية الأداتية” بالتزامن مع الهويات الوطنية، على الرغم من أن كل واحدة قد تتنافس مع الأخرى وتضعفها، وعلى الرغم من أنها عادة ما تكون غير عنيفة، إلا أنها يمكن أن تصبح عنيفة. أما حيث تزداد الكثافة والتركيز، فيصبح القطب عبارة عن طائفية متشددة وعلى مستوى عال من التسييس، وتؤكد على امتلاك الحقيقة الدينية وفرضها على الحياة العامة، وتحث على استخدام العنف ضد الكفار أو المرتدين، وغالبًا ما تكون عابرة للوطنية، لذلك فهي من المحتمل أن تنافي الولاء للدولة الوطنية (Brubaker, 2015).
على هذا النحو، على الرغم من أن الطائفية والقومية ترتبطان بعلاقة عكسية في الحالة الأخيرة، لكن هذا لا ينطبق على الأنواع الأخرى من الطائفية. بالنظر إلى ذلك، فإنه من الأفضل ألا ننظر إلى “التوازن” القومي-الطائفي على أنه انقسام، وإنما سلسلة متصلة من أنماط الهوية الممكنة في المجتمع، تراوح ما بين الأكثر عالمية/شمولية في أحد قطبيه إلى الأنماط الخصوصية/ الحصرية في القطب الآخر. في الحالة الأولى، ستكون هناك دولة قائمة على القومية المدنية، تشمل جميع من يحملون جنسيتها، مع بقاء الهويات الطائفية غير مسيسة؛ في الحالة الثانية، سنكون أمام مجتمع ثنائي القطبية وعالي الاستقطاب من قبل الحركات الطائفية المتشددة، التي تنكر عضوية “الآخر” في المجتمع السياسي. تراوح بين هاتين الحالتين الحالة المتوسطة كالتي يمتلك فيها الفاعلون في الوقت نفسه هويات طائفية أداتية وهوية إثنو-قومية، كما هو الحال في معظم بلاد الشام. قد يكون لكل دولة “توازن” قومي- طائفي خاص.
يكون لمثل هذه التباينات في أنماط الهوية عواقبها على تشكيل الدولة. يمكن القول إن الهويات الأكثر شمولًا تؤدي إلى تشكيل مؤسسات دولة أكثر شمولًا، في حين إن الهويات الضيقة الخاصة قد تجعل مؤسسات الدولة غير شاملة، وفي الحالات الأشد تؤدي إلى فشل الدولة. ومع ذلك، فإن الكثير من السياسات القائمة فعليًا في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقع في “الحالات المتوسطة”، بهويات متعددة تعزز ممارسات بناء الدولة الهجينة التي تستخدم كلًا من الطائفية والقومية.
قبل النظر إلى بناء الدولة، يبحث القسم الآتي عن كثب في أنماط الهوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعلى وجه التحديد، العلاقة بين القومية والطائفية.
أصول وتنوع الهويات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
تتعايش الهويات المتعددة، المتنافسة في الغالب، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: الهويات الفرعية (القبيلة، والطائفة، والطبقة)، والهويات المحلية (أو قومية الدولة)، والهويات ما فوق الدولة (القومية العروبية والإسلام). هذه الهويات تتمتع بالديمومة والاستمرارية: فقد وجدت الاستطلاعات على مدى عقود أن هويات الأفراد مقسمة بالتساوي تقريبًا بين المنتمين إلى الدولة والعروبة والإسلام، على الرغم من أن القوة النسبية لهذه الهويات تتفاوت إلى حد ما مع الزمن. تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة تصاعدًا في القلق بشأن العداء الطائفي، وهو ما تعارضه الأغلبيات. ما العوامل التي تفسر مثل هذه الهويات، وتنوعاتها؟ كيف تؤثر في تشكيل الدولة؟
3.1 تراث هوية الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
يقيد النمط التاريخي الموروث للهوية (لكنه لا يحدد) الهويات التي يمكن بناؤها. إن القومية، في حين أنها متجذرة في “إثنية” ومدعومة من خلال التواصل الاجتماعي الذي جرى تمكينه من خلال اللغة المشتركة، (HINNEBUSCH 141) تتوافق مع مجتمع متخيل، لا مع مجتمع موجود (Anderson, 1983)، ومن ثمّ، يجب أن يتم بناؤها بشكل مقصود، ويزداد احتمال نجاحها إذا توافقت هذه الدولة مع ذكريات تاريخية طويلة للجماعة السياسية المتشاركة في إقليم ما. أما في حال غياب وجود أمة أولية، أو إذا كانت الحدود محبطة بدلًا من أن تكون مساعدة، فيمكن أن يفشل بناء الأمة أو يؤدي إلى التوجه نحو الوحدوية (O’Leary, 1998; Smith, 1995: 29‐50; Armstrong, 1982). أعاقت العديد من العوامل الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التوافق الويستفالي بين الأمة والدولة، والذي كان من المحتمل أن يؤدي إلى تهميش الهويات المتنافسة، ما تحت، وما فوق الدولة، ولا سيما الطائفية.
أولًا، في هذه المنطقة القاحلة حيث المدن التجارية، والقبائل البدوية، حيث وُجدت محدِّدات الهوية الأقوى، والمرتبطة تاريخيًا بوحدات ما دون الدولة -مدن، قبائل، طوائف دينية- أو ما فوق الدولة “الأمة الإسلامية الأكبر”؛ بُنيت الإمبراطوريات الإسلامية على هذه الهويات، ونظرًا إلى التقلبات الكبيرة في حدودها، فإن تحديد محددات هويتها في مقابل دول المنطقة، لم يكن واضحًا وحادًا. (Weulersse, 1946: 79‐83). علاوة على ذلك، كانت ممارسة الحكم تتم على أساس الجماعات الدينية، وليس على أساس المناطق، في حد ذاتها، مع حكم الخليفة على الأمة الإسلامية ذات الأغلبية، والأقليات المستقلة التي سمح لها أن تحكم من قبل قادتها الدينيين.
لقد أدى الفرض التعسفي للحدود من قبل الغرب، إلى خلق عقبات إضافية كبيرة أمام نموذج -الدولة القومية- فكان تأجيج المظالم يغذي تحشيد القوميين العرب. وبقدر إصرار القوميين العرب على وجود أمة عربية سالفة، كان شعورهم بالإحباط شديدًا بسبب تجزئة العالم الناطق بالعربية. إن التناقض بين الامتداد الإقليمي للدول، والهويات الموجودة من قبل، سواء ما فوق، أوما دون الدولة، والذي تفاقم بسبب الفرض التعسفي للحدود القاطعة لهويات المجتمعات، كان ملحوظًا بشكل خاص في المشرق العربي، إذ أدى تفكيك سورية التاريخية، واختلاق العراق باتفاقية “سايكس بيكو”، بعد الحرب العالمية الأولى سيئة السمعة، إلى التنافس المستمر على شرعية الدول الجديدة، من خلال التنافس بين حركات الهوية ما فوق الدولة، وما دون الدولة. ومع ذلك، فقد سمح هذا الوضع أيضًا -وكان ينظر إلى ذلك أنه من متطلبات الحكم- للقوى الاستعمارية والدول المستقلة التي خلفتها لاحقًا باستغلال الهويات ما دون الدولة مثل الطائفية، وكذلك الهويات ما فوق الدولة. على العكس من ذلك، فإن المناطق ذات التوافق الأكبر بين الأمة والدولة، وحيث كان للدولة تاريخ طويل داخل حدود محددة، كانت أكثر احتمالية للقبول من قبل القوى الاستعمارية (على سبيل المثال، مصر)، أو حيث تشكلت الحدود نتيجة مواجهة السكان الأصليين لهذه القوى (كما في أتاتورك تركيا) (Hinnebusch, 2015; Maddy‐Weizman, 1993). كان قلب إمبراطوريات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (الصفوية والعثمانية) أكثر استعدادًا لبناء الهويات القومية من أطراف الإمبراطورية العربية الأقل تماسكًا.
كان على بناة الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التلاعب بمزيج الهوية الذي ورثوه، أو تحسينه، أو تخفيفه، أو محاولة تغييره، -ولا سيما المتغيرات السائدة من الطائفية والقومية- كما هو موضح أدناه.
3.2 القومية والطائفية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
على أي حال، يوفِّر التجانس اللغوي النسبي لمنطقة الشرق الأوسط المكون الأساسي لبناء الأمة. أربعة وثمانون في المئة من الدول لديها أغلبيات على أساس لغوي، وفي العالم العربي يسود الناطقون باللغة العربية إلى حد كبير، ما يشكل الأساس اللغوي للقومية العربية (Scarritt, 2005). وهكذا تم ترويج القوميات الإثنية -العربية والإيرانية والتركية- من قبل الدول لاستيعاب الأقليات الطائفية التي تشترك في اللغة السائدة، (وإن كان ذلك على حساب الأقليات اللغوية، ولا سيما الأكراد). ومع ذلك، وعلى الرغم من الجذور الثقافية الطويلة، إلا أن هذه الهويات القومية لم تصبح بارزة سياسيًا إلا بسبب الشروط البنيوية: فقد ترك الانهيار العثماني فراغًا في الهوية، في حين حفزت مقاومة الإمبريالية الغربية القوميات التي سعت إلى سد الفجوة.
ومع ذلك، كانت هناك نسخ متعددة من القومية. عززت حركات الاستقلال ضد الإمبريالية الغربية قومية الدولة (المشار إليها باسم الوطنية) في كل من الدول بشكل منفرد. ومع ذلك، خصوصًا حيث كان يُنظر إلى الدولة على أنها صنيعة الامبريالية، كانت قومية الدولة في العالم العربي موضع تعارض، ونزاع مع العروبة كهوية فوق الدولة (التي يُشار إليها بالقومية الوطنية)، وهي حركة تسعى للتغلب على التقسيم “المصطنع” للأمة العربية إلى دويلات متعددة، وتحقيق التطابق بين الدولة والأمة. في الفترة الممتدة ما بين 1940-1980، كانت العروبة هي الهوية المهيمنة في العالم العربي، ولم تكن تهمش الهويات ما دون الدولة، مثل الطائفية، فحسب، ولكنها أيضًا تؤخر دمج القوميات الاخرى في الدولة، ولا سيما تلك التي تتمتع بتمايز حاد عن الناطقين بالعربية (أظهر استطلاع عام 2016 أن 77 في المئة من المجيبين ما زالوا يعتقدون أن العرب هم أمة وليسوا عدة أمم).
مع مرور الوقت مالت العروبة إلى أن تصبح “عادية”، بعد أن استعملتها الدول القطرية/المنفردة كجزء من هوياتها المميزة نوعا ما (142 HINNEBUSCH) (Phillips, 2013)؛ وعلى أي حال، كان هذا يعني أن على الدول العربية الاحتفاظ بالعروبة كجزء من خطاب الهوية، ما ساعد في إعادة إنتاجها. كما أنها كانت تميل إلى جعل شرعية الحكومات العربية المنفردة مشروطة برؤيتها تدافع عن القضية العربية المشتركة في سياساتها الخارجية وليس عن سيادة الدولة الفردية. ولكن أكثر ما أعاد إنتاج القومية العربية، هو الصراع المستمر على فلسطين، والتهديد من إسرائيل، والتدخل الغربي المستمر في المنطقة.
إن الأساس الرئيس لتمييز الهوية داخل (وإلى حد ما بين) دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو أساس ديني – أي ما سيظهر داخل أي دولة من جماعات طائفية مختلفة (Wimmer, 2015). إن الموروث الطائفي للمجتمعات متعددة الطوائف هو نتاج فترة طويلة، والهويات الطائفية لها بعض المزايا على قومية الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من جانب أنها أكثر علاقة بالنسب – تنتقل عن طريق النسب- وغالبًا ما تتشكل في “مجتمعات صغيرة” حقيقية متواصلة، ومرئية (وليست متخيلة)، ومن ثم تعززها التنشئة الاجتماعية، عبر مجموعات الأقارب والأقران. على هذا النحو، فإن الاختلافات في التوزع الديموغرافي للمجموعات الطائفية مسألة مهمة: وجدت الدراسات التي أجراها Scarritt (2005) وMerkel and Wieffen (2012) أنه لم يكن تنوع الهوية بقدر ما هو استقطاب الهوية ما يؤدي إلى نشوب صراع مجتمعي، ومن المحتمل أن يكون ذلك أكثر احتمالًا في المجتمعات التي احتوت مجموعتين أو ثلاث مجموعات منقسمة، بحسب معايير متعددة، ومتوازنة من حيث الحجم، ومتساوية في الوعي المجتمعي، والتعبئة (على النقيض من المجتمعات المجزأة إلى العديد من المجموعات الصغيرة ما دون الدولة، غير المنقسمة بشكل حاد، أو تلك التي تضم أغلبية كبيرة، والعديد من الأقليات الأصغر، حيث يكون الاندماج في هوية وطنية مشتركة أكبر هو الأرجح). وحول ما إذا كانت نتائج الاستقطاب ستتأثر فعليًا بنوع -شدة- الطائفية: إذا كانت الاختلافات الطائفية غير مسيسة، فالاحتمال الأرجح أن يكون الاستقطاب منخفضًا؛ وإذا استُغلت الاختلافات الطائفية، سيكون الاستقطاب متوسطًا، وفي حال الطائفية المتشددة سيكون الاستقطاب عاليًا. باختصار، كان بناة الدولة مقيدين من قبل العديد من الهويات التاريخية المتنافسة المحتملة، بما في ذلك الطائفية، والأشكال المختلفة للقومية، والتي يمكن أن يكونوا قد قاموا باستغلالها أحيانًا. فما الذي حدد الهويات التي سادت في زمان ومكان معينين؟
3.3 التحديث والهوية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
تعدّ القومية الجماهيرية إحدى وظائف التحديث، ولا سيما التعبئة الاجتماعية (نشر التعليم بين الناس، محو الأمية، وسائل الإعلام، وما إلى ذلك)، ما يسمح بتوسيع الهويات إلى ما هو أبعد من الهويات الفرعية، لتصبح الهوية منسجمة مع الدولة؛ يتيح كل من اقتصاد السوق المتكامل، والبنية التحتية داخل حدود الدولة أيضًا، التفاعلات التي تسهل بناء الهوية القومية (Gellner, 1983; Hall, 1998; Taylor, 1998). كما هو متوقع، تزامن تحديث منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فعليًا بالقومية، وكلما ازدادت هذه حضورًا، كلما اتجهت إلى استيعاب، أو إلغاء تسييس الهويات الخاصة/ المحلية التي كانت سائدة في عصور ما قبل الحداثة. علاوة على ذلك، يعزز التطور الرأسمالي الهويات الطبقية الحديثة التي تتقاطع وتتنافس مع، وقد تخفف من، الهويات الضيقة مثل الطائفية، وغالبًا ما تعزز القومية (Delanty & O’Mahony, 2002: 14‐15). وهكذا، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع تسييس الطبقات المتوسطة، والعاملة الجديدة في فترة الأربعينيات، وحتى السبعينيات من القرن الماضي، اختلطت المظالم الطبقية بالقومية الراديكالية لتصبح هي الوسيلة السائدة للتعبئة ضد الأوليغارشية الحاكمة التي يُنظر إليها أنها تابعة للإمبريالية، فاستوعبت الاختلافات الطائفية، وطغت عليها في أوساط الطبقتين الوسطى والدنيا (Gershoni, 1996).
ومع ذلك، يمكن أيضًا أن يزيد التحديث من بروز الهويات الطائفية، لأنه يزيد المنافسة على الموارد الشحيحة. وفي مجتمعات قيد التحديث، حيث يترك الأفراد “مجتمعاتهم الصغيرة” للتنافس في الساحة الاجتماعية الأوسع، غالبًا ما تُستخدم الطائفية في الصراعات على الموارد المادية. بدأ ذلك بالحدوث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، منذ السبعينيات، حيث قامت الدول، التي تتلقى عائدات نفطية أو مساعدات كبيرة، بتوزيع هذه الموارد عبر شبكات العملاء، وأحيانًا على أساس طائفي. في الفترات التي أدى فيها انخفاض أسعار النفط إلى انخفاض الموارد المتاحة، ومع استمرار النمو السكاني، واشتداد المنافسة، قد يعزو الخاسرون النتائج غير المتكافئة إلى التمييز الطائفي، ما يزيد من التفكير الطائفي.
إن إنتاج التحديث لهويات قومية أكثر شمولًا أو تعزيز الهويات الخاصة مثل الطائفة، يعتمد على أثر تفاعل الانقسامات الطبقية (الأفقية) والطائفية (الرأسية) على مستويات ومحاور الصراع.
وهكذا، يمكن أن تؤخر الانقسامات الطائفية الوعي الطبقي. إذا تداخلت الانقسامات الطبقية والطائفية، وعزَّز بعضها بعضًا (على سبيل المثال، فئة مجتمعية تشكل الطبقة العليا، وأخرى الطبقة الدنيا)، فكلما تقاطعت الانقسامات الطبقية والطائفية، وامتزجت ببعضها بعضًا، كلما زاد تطييف الوعي وكان الصراع الطائفي العنيف أكثر احتمالًا HINNEBUSCH 143.
تزداد احتمالية حضور القومية الشمولية القادرة على استيعاب الهويات الطائفية (Grove, 1987)؛ عندما تندرج الطبقة على الهويات الطائفية، وهو ما ينتج قومية ثورية عابرة للطوائف (Tonnesson, 2009). قد تشتغل في وقت واحد عدة عوامل فاعلة، أو قد يهيمن أحدها أو الآخر في منعطفات معينة، وعلى الرغم من التفسيرات التي تتناول متى وأين تكون هذه الهيمنة خارج نطاق هذه المقالة، لكن يمكن القول إن تصرفات السياسيين هي أحد العوامل الحاسمة.
3.4 العمل السياسي: استغلال الهوية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
على الرغم من أن البنية تقيد الاحتمالات، إلا أن النتائج الفعلية تعتمد على الفاعلين: في إطار الصراع على السلطة يعزِّز رواد السياسة تغيرات الهوية، وإعادة إنتاجها. في فترات النزاع الهوياتي، كما هو الحال غالبًا في الشرق الأوسط، تعتمد النتائج على صراع الجهات الفاعلة المتنافسة التي تحاول قلب التوازن بين ممكنات الهوية.
كانت القومية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تحتل المقام الأول، كإحدى أدوات التعبئة ضد المستعمِر، عندما ظهرت الحركات والأحزاب القومية في جميع أنحاء المنطقة؛ كان النضال ضد “الآخر” الإمبريالي ينحو إلى امتصاص الهويات غير القومية، وكلما طال أمد النضال القومي وشدته، وكلما كانت الحدود التي رسمتها الإمبريالية أكثر إحباطًا للهوية بدلًا من إرضائها، كانت القومية المناهضة للإمبريالية أقوى. بعد الاستقلال، روجت نخب الدولة على نطاق واسع لقومية الدولة -وهي هوية مرتبطة بحدود الدولة التي كانوا يأملون أنها ستكون قادرة على تهميش الهويات الفرعية المنافسة سواء أكانت ما دون الدولة أو عابرة لها- كان لدى نخب الدولة حوافز قوية لغرس الهوية القومية داخل دولهم (أي القومية المرتبطة بالدولة = الدولة الوطنية) – تزداد الشرعية الداخلية من كونها تمثل جماعة قومية/وطنية، ومن التحديث الاقتصادي الذي يسهله التكامل المعزز، ومن تعبئة القوة/السلطة في المنافسة الدولية. على وجه الخصوص، إذا كانت هناك “إثنية” مهيمنة موجودة مسبقًا، فسوف يحاولون استيعاب الأقليات فيها أو تعزيز القومية المدنية (Beissinger, 1998; Taylor, 1998). في العالم العربي، حتى في حالة عدم وجود أمة تاريخية أولية تتوافق مع الدول المنفردة/القطرية (على سبيل المثال، العراق)، حاولت النخب فرض واحدة من فوق (Simon, 1997). وكان لديهم العديد من الأدوات المساعدة في القيام بذلك، ولا سيما السيادة على الإقليم، والتجهيزات المادية للدولة -البيروقراطيات، والبنية التحتية، ووسائل الاتصال، والتعليم، والتجنيد الإلزامي… إلخ. كان إنشاء مؤسسات سياسية شاملة تعزز هوية المواطن بدلالة الدولة، وإسكات الولاءات للهويات الفرعية ما دون الدولة، أمرًا محوريًا لبناء مثل هذه الأمة من فوق.
على أي حال، فمع أن الأحداث التي تتم تحت سيطرة نخب الدولة، مثل الحروب، يمكن أن تعزز القومية، ولكنها إذا فشلت، كما هو الحال غالبًا في العالم العربي، فإنها تقوض الأنظمة التي تسعى لاكتساب الشرعية من خلالها.
على الرغم من أن الترويج للقومية الشاملة أمر منطقي بالنسبة إلى النخب على المدى الطويل، إلا أنه في صراعات السلطة قصيرة المدى في المجتمعات متعددة الطوائف، ولا سيما حيث تظهر الهويات الفرعية كأدوات “جاهزة” للتعبئة السياسية، فقد تسعى النخب الحاكمة لتعبئة جماعاتها الخاصة، واستغلال الانقسامات المجتمعية، ولا سيما الطائفية، على مبدأ “فرق تسد”، في حين أن النخب المضادة التي تمثل المجموعات المستبعدة لديها حوافز لتعبئة معاكسة واستغلال الهويات الأخرى ما دون/ أو العابرة للدولة ضد الأنظمة (Binder, 1999; Peleg, 2007) وتنطوي مثل هذه السيناريوهات على مخاطر نشوب حرب أهلية قد تؤدي إلى درجات من فشل الدولة (Hashemi, 2015) حيث تميل الطائفية إلى الازدهار على حساب القومية.
بين هذين القطبين، قد تنشر نخب الدولة استراتيجيات هجينة وممارسات تمزج بين الهويات والممارسات الأكثر والأقل شمولًا. في الواقع، نظرًا إلى أن قومية الدولة المحلية/القطرية في العالم العربي، لم تكن يومًا قوية بما يكفي لتهميش الهويات ما فوق وما دون الدولة، فقد حاولت النخب عادةً استغلال مستويات الهوية الثلاثة جميعها. فقد يكسبون ولاء جماعة هويتهم الفرعية من خلال منحهم امتيازات، وفي الوقت ذاته يعملون على رفع العروبة فوق الدولة لإضفاء الشرعية على أنظمتهم بين الجمهور الأوسع. وعندما لم يكن هناك تاريخ طويل لقيام الدولة أو لم توجد الأمة الأولية كأساس متين لقومية الدولة (كما هو الحال في الدول “المصطنعة”)، فقد يسعون إلى تصوير دولهم قائدةً للهوية فوق الدولة التي كانت سائدة في زمان ومكان معينين، كما حدث عندما زعمت سورية أنها حاملة لواء قضية القومية العربية، أو المملكة العربية السعودية حامية الإسلام.
لا يعمل هؤلاء داخل الدول فحسب، بل على المستوى الإقليمي أيضًا، وتتغلغل الهويات التي يروجون لها في صراعاتهم الجيوسياسية بسهولة في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأخرى (سهلة الاختراق). لقد بُنيت الهويات فوق الدولة، واستُغلت من قبل القوى الإقليمية المتنافسة، على سبيل المثال، روجت مصر عبد الناصر لعروبة علمانية (144 HINNEBUSCH) في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، فيما سعت إيران الإسلامية إلى تصدير ثورتها الإسلامية في الثمانينيات (Barnett, 1998). فالأولى، أي مصر الناصرية، نزعت شرعية استغلال الهويات الانقسامية “التقليدية” مثل الطائفية والقبلية، لكن هزيمة 1967 على يد إسرائيل دمرت هيمنتها. أدى هذا إلى التحول نحو الإسلام، الذي سرعته الثورة الإسلامية الإيرانية التي، على الرغم من تأطيرها صراحة على أنها مناهضة للطائفية، إلا أنها مهدت الطريق للطائفية من جانب أنها وضعت الدين في المجال العام، بحيث بدأت الانقسامات السياسية في اتخاذ شكل ديني-طائفي. وبذلك كان استغلال السعودية، وإيران للاختلافات السنية-الشيعية هو ما حفز استقطابات ثنائية طائفية قوية في المنطقة، وأزاح الهويات الأكثر شمولًا. كان ذلك بدوره نتيجة للصراعات الإقليمية على السلطة التي اندلعت بسبب إخفاقات الدول المتعددة في جميع أنحاء المنطقة، بدءًا من تفكيك الولايات المتحدة للعراق عام 2003، واستمرارًا في الدول العربية حيث أطلقت الانتفاضات العنان للحروب الأهلية.
بناء دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: المؤسسات السياسية ما بين الوطنية والطائفية.
يعتمد تشكيل الدولة على التفاعل بين بنية نظام الدولة وفاعلية بناة الدولة. وهكذا، شكل التصدير المشوه لنظام الدولة الويستفالي الأيدي العاملة في اللعبة السياسية لبناء الدولة، لكن الطريقة التي تعاملت فيها هذه الأيدي كانت مهمة في صوغ ميزان القومية والطائفية.
تؤكد الدراسات الأكاديمية التي تتناول مقاربات فهم الهوية أن بإمكان المؤسسات السياسية أن تقوم بإنتاج الهوية، وإعادة إنتاجها، أو تغييرها تبعًا لتصميم ما ترسمه لها.
وفقًا لعلماء الاجتماع التاريخيين مثلHuntington (1968) وMann (2008)، فإن العوامل الأكثر شيوعًا والتي قد تؤثر في تصميم الدول، هي (1) مركزية السلطة، واختراق مؤسسات الدولة للبنية التحتية للمجتمع (المأسسة)، و(2) إدماج القوى المجتمعية في المؤسسات السياسية (التشاركية). على أحد طرفي السلسلة، ثمة دول قوية، ذات مستوىً عال في كليهما، حيث تعطي في الغالب التمثيل لمعظم الجماعات الهوياتية، وتنظم التنافس بين هذه الجماعات بشكل سلمي، وتوفر الأمن، والسلع العامة بما يعزز ولاء المواطن للأمة، ومن ثمّ، فهي تقطع الطريق أمام تفعيل الهويات العابرة للدولة، والتي يتم التلاعب بها من الخارج. على الجانب الآخر ثمة دول ضعيفة، تعاني نقصًا في كل من مركزية السلطة، والاستيعاب الكافي، ومن ثمّ، نقصًا في القدرة على إرضاء حاجات المواطنين، الذين تزداد احتمالية أن يأخذ ولاؤهم شكل الهويات الفرعية دون الدولة (إثني أو طائفي)، قابل للاشتعال بفعل الخارج.
في الواقع تميل معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لأن تأخذ مواقع وسطية، على طول السلسلة بين هذين القطبين، دول قومية شمولية، وأخرى إقصائية تعتمد على هويات فئوية خاصة دون الدولة (Wimmer, 2002; Coakley, 2012: 219‐39).
إن الطريقة التي تُبنى بها سلطة الدولة عامل مهم. ينطوي بناء الدولة على العديد من التحديات، أو الأزمات التي من الأفضل معالجتها بشكل متسلسل، كما حدث في بناء الدولة الغربية، أي: أولًا، تركيز السلطة في المركز، حيث يُهزم فيه بناة الدولة المنافسون، والتغلغل في المجتمع والأرض عن طريق البنية التحتية للدولة؛ لوفي وقت لاحق فحسب، تتطابق ولادة الهويات القومية مع حدود الدولة من خلال توسيع المشاركة والتوزيع المجتمعي.
تكمن مشكلة المطوِّرين المتأخرين في أن مطالب المشاركة والرعاية تنشأ “قبل الأوان”، أي قبل توحيد وتركيز السلطة (Binder & LaPalombara, 1971)؛ ومن ثمّ، يتعين على بناة الدولة تسوية التناقض بين تركيز السلطة على مستوى النخب، وتوسيعها من خلال المشاركة الشاملة للجماهير، وإعادة التوزيع الاجتماعي. نظرًا إلى صعوبة تحقيق ذلك بشكل صحيح، فإن حدوث الأشكال المختلفة من اختلالات التوازن هو أمر مألوف.
في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تعدّ هذه الاختلالات بين المأسسة والإدماج/الشمولية أمرًا شائعًا. ومن ثمّ، قد تكون الدولة متعددة الطوائف اندماجية/شاملة نسبيًا، لكنها تكون، نتيجة ضعف المأسسة، عرضة للتعبئة الطائفية، وقابلة للاختراق بشكل كبير من قبل الطائفية العابرة للدول (“التوافقية” اللبنانية). قد يتم إضفاء الطابع المؤسسي على الدول الاستبدادية ضعيفة الاندماج/الشمولية، لقمع المعارضة بعض الوقت، لكن مظالم المجموعات المستبعدة تجعلها عرضة للتعبئة المناهضة للنظام، إذا انخفضت قدرة الدولة. سيحدد الشكل الذي تتخذه المعارضة تبعًا لنوع الإقصاء ما إذا كان على أساس طائفي أو طبقي: تجريبيًا، استبعدت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الحالية الطبقات الدنيا؛ ومع ذلك، فإن منطقة الشرق الأوسط هي أيضًا المنطقة التي تشهد أعلى مستويات الإقصاء الحالية على أساس الهويات الفئوية، والتي غالبًا ما تكون طائفية (Bormann Bormann, Girardin, Hunziker, & Vogt, 2015).
وما يزيد الأمور تعقيدًا هو أن بُعدي تشكيل للدولة يجب ألا يكونا مرتفعين أو منخفضين، ويمكن أن تجمع الدول، على سبيل المثال، بين المأسسة المتوسطة والإدماج/الشمول المتوسط، بطرائق مختلفة؛ في مثل هذه الحالات، من المرجح أن يكون تأثير المؤسسات HINNEBUSCH 145 في الهوية مختلطًا، وربما يعيد إنتاج كل من القومية والطائفية.
في الواقع، كانت مثل هذه السيناريوهات الوسطية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نموذجًا شائعًا في العقود الأولى من بناء الدولة بعد الاستعمار، ولا سيما استخدام ممارسات الأبوية الجديدة الهجينة.
مع إنهاء الاستعمار، لم يستطع بناة الدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الاعتماد على شرعية كافية من القومية المتمركزة حول الدولة، واستغلوا الهويات الفرعية، مثل القبلية والطائفية، في بناء السلطة الأبوية على نطاق واسع. وأدى ذلك، جنبًا إلى جنب مع الممارسات والهياكل البيروقراطية “الويبرية”، إلى إنتاج أنظمة استبدادية أبوية جديدة هجينة (Bacik, 2008). وهكذا، فإن التنوع في الممارسات الأبوية الجديدة كان يحدث بسبب التنوع في أشكال الإدماج/الشمول والاستيعاب ومن ثمّ، التنوع في الهويات. على وجه التحديد، كان للتوازن النسبي بين الأبوية السلطوية والسلطة البيروقراطية في أي نظام معين تأثير في المأسسة والإدماج، فكلما كان النظام أبويًا، زاد احتمال استغلال النخب للطائفية (وغيرها من الهويات ما دون الدولة) على حساب العقلانية البيروقراطية والشمولية-على سبيل المثال، من خلال التجنيد الطائفي للقوات العسكرية/ الأمنية وتشجيع الصراع الطائفي بين الناس من أجل التفرقة والإقصاء والحكم. أدت هذه الممارسات إلى إضعاف المؤسسات اللازمة لتجسيد تحالفات عابرة للطبقات والطوائف، والتي يمكنها أن تضعف الطائفية، وتشكل دولًا أكثر متانة. على العكس من ذلك، كلما تم تطوير الجانب البيروقراطي للنظام-مع التوظيف على أسس الجدارة ولو جزئيًا، وتعزيز العقلانية البيروقراطية، والمعاملة المتساوية أمام القانون، والمؤسسات مثل الأحزاب السياسية المصممة لتنظيم المشاركة والاستقطاب العابر للطبقات، التحالفات العابرة للطوائف- كلما كان النظام أكثر إدماجًا وشمولًا، وسيزداد احتمال تمركز الهويات حول الدولة، وبعبارة أخرى، هوية قومية/وطنية.
تباينت أشكال الشمول بحسب أصول الأنظمة العربية، إذ ظهرت أشكال أكثر شمولًا من الاستبداد الشعبوي نتيجة الحركات القومية والانقلابات الثورية ضد الأوليغارشية القديمة في الخمسينيات من القرن الماضي، والتي سعت لتعبئة ودمج الدوائر الانتخابية العمالية والفلاحية، من خلال حزب واحد، والمؤسسات النقابية، من أجل إبعاد الأوليغارشية القديمة، وغيرها من المنافسين السياسيين. استمدت هذه الأنظمة شرعيتها بشكل صريح من خلال المزاوجة بين القومية العربية، والعقد الاجتماعي الشعبوي، حيث حصلت الأنظمة على الدعم السياسي في مقابل تقديم الاستحقاقات المادية للمواطنين، بغض النظر عن أصولهم المجتمعية. تميل مثل هذه الأنظمة إلى تجسيد تحالفات عابرة للطوائف، من الطبقتين الوسطى والدنيا، والتي تضعف الهويات الطائفية التي أعيد إنتاجها في الوقت نفسه من خلال الممارسات الأبوية السلطوية التي استُخدمت لتوطيد السلطة حول القائد. لقد كانت الشعبوية من منتوجات النظام العالمي الجديد الذي أنتجته الحرب الباردة “الكينزية الجديدة” (neo‐Keynesian) عندما قدم المركزان العالميان (الشيوعية والرأسمالية) منافع مادية كبيرة لدول الأطراف، وعززت المعايير العالمية استراتيجيات التنمية القائمة على المساواة. في حقبة ما بعد الحرب الباردة “النيوليبرالية” اللاحقة، بدأت الأنظمة التابعة التي واجهت تخفيض الدعم تتعرض للضغوط العالمية “النيوليبرالية” للتراجع عن العقد الاجتماعي. استوعبت النخب المعايير “النيوليبرالية” التي شجعت الإثراء الذاتي، وأعادت أيضًا مواءمة سياساتها الخارجية، وتحالفاتها تجاه الغرب، ومن ثمّ، تخلت عن مكوِّن القومية العربية في شرعيتها. لقد تطورت في الغالب إلى أنظمة ما بعد الشعبوية، إذ بقيت استبدادية، لكنها غيرت من قواعدها الانتخابية، وضمت رأسماليين تابعين ذوي امتيازات جديدة، واستبعدت الطبقات الدنيا. في العموم كان تأثير إعادة توزيع الثروة في المجتمعات الطائفية غير متساو، ما أدى إلى إحساس بالتمييز الطائفي، وتراجع الولاء للدولة لدى الفئات الخاسرة.
على الطرف البعيد من السلسلة المتصلة بالدول القوية، توجد الحالات الأسوأ من تشكيل الدولة -الدول الفاشلة ذات المؤسسات المنهارة، جزئيًا على الأقل، إذ افتقدت القدرة على احتكار العنف المشروع على مساحة أراضيها. يمكن لإضعاف الدولة في الدول متعددة الطوائف، وفي ظل الإقصاء المتنامي، واستغلال الطائفية، أن يفتح الباب أمام الحرب الأهلية، وإمكان فشل الدولة. غالبًا ما يؤدي انهيار النظام في الدول الفاشلة، وفقًا لـ(Zartman 1995: 1)، إلى النكوص إلى الهويات ما دون الدولة، إذ قد ينقل الناس ولاءاتهم من الدولة إلى جماعة طائفية مسلحة (Bormann et al., 2015; Byman, 2014)، وهو ما يولد معضلات أمنية (Posen, 1993)، إذ تبدأ كل فئة مجتمعية، بالنظر إلى الآخر على أنه تهديد، وتعمل بصورة استباقية لزيادة أمنها- على سبيل المثال، من خلال الميليشيات، والتطهير الطائفي- بطريقة تجعل الجميع أقل أمانًا، ومن ثمّ، زيادة تصورات التهديد الوجودي من “الآخر”. في موازاة ذلك، تتدخل القوى الخارجية بشكل متكرر في الدول الفاشلة لتمكين القوات الصديقة- غالبًا ما تستخدم مجموعات تشاركها هويتها الفئوية لشن حروب بالوكالة – ومن ثمّ، تفاقم الصراع. توفر الدول الفاشلة أرضًا خصبة مثالية لتمكين أشكال الطائفية الإقصائية الأكثر تشددًا، على حساب الهوية القومية/الوطنية الشاملة. أخيرًا، في سيناريوهات فشل الدولة، يتم التعجيل بـ”إعادة تشكيل النظام التنافسي” إذ يسعى الخصوم المتنافسون 146 HINNEBUSCH لتعبئة الكيانات ذات الأرضية الفئوية، لإعادة تأسيس الأنظمة، ولكن مع أشكال حكم أكثر قسرية وإقصائية (Heydemann, 2013).
نلاحظ مما سبق، أن تشكيل الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم يحدث وفق تطور خطي متزايد للدولة الفيبرية، إنما وفق منحنى على شكل جرس، يتزايد من نقطة منخفضة عند الاستقلال، عندما كانت الدول شديدة التأثر بتغلغل القومية العربية العابرة للدول. وصل خطاب الهوية إلى نقطة عالية في السبعينيات والثمانينيات حيث أنشأت الأنظمة عقودًا اجتماعية شعبوية شاملة، وأنشأت بيروقراطيات أكبر، وأكثر نفوذًا، تم تمكينها جزئيًا من خلال ريع النفط، ما سمح للطبقات الوسطى أن تكون شريكة في الخيارات، وجعلت الحدود أقل نفاذية وتعززت هوية الدولة. ومع ذلك، فقد تراجعت هذه الدول بعد ذلك تحت تأثير العولمة، ما أدى إلى الاتجاه نحو الإقصاء، ما بعد الشعبوي (Hinnebusch, 2010). لقد وقعت دول الأطراف في كماشة بين اللبرلة الجديدة المفروضة من أعلى (McWorld) ومقاومة حركات الهوية من الأسفل (“jihad” for Barber [1999]). كان المشرق العربي، بسبب هويته الأولية/ تناقضاته الإقليمية، وممارساته الأبوية السلطوية الجديدة، عرضة بصورة خاصة لهذه الضغوط.
إطار التحليل
لفهم التوازن بين الطائفية والقومية، وارتباطهما بتشكيل الدولة في الدول متعددة الطوائف، يمكن تلخيص التحليل السابق في النموذج الآتي. يعكس النموذج نسخة بنائية كثيفة تعطي ثقلًا متساويًا للبنية والفاعلين والموارد، والفكر.
بنية الهوية، وبشكل خاص القومية والطائفية، السياق الذي يتجسد فيه تشكل الدولة من خلال مجموعتين من العوامل:
إن التراث التاريخي يقيِّد (لكنه لا يحدِّد) الهويات التي يمكن بناؤها. فالهويات لا يمكن عادة اختلاقها بشكل قسري (كما قد تعتقد الذرائعية الساذجة)، لأن القوى المحركة للهوية متجذرة في الذاكرة التاريخية المشتركة، والمكونات الثقافية، كاللغة وتوزع الجماعات الطائفية في المجتمع، وكلاهما بني على مدى طويل. (Armstrong, 1982; Smith, 19951995)؛ بمجرد بنائها، فإنها تصبح “حقائق اجتماعية” تشكل الهويات الذاتية للأفراد، والأفكار المتعلقة بمصالحهم.
في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تعدّ الطائفية، والقومية القائمة على اللغة، من أقوى الهويات المديدة. ومع ذلك، وبعيدًا عن الثبات، فالهويات لا بد أن يعاد إنتاجها باستمرار، على سبيل المثال، من خلال ممارسات التنشئة الاجتماعية. وما يجعل الأمر أشد خطورة، هو أن ثمة دائمًا تحديدات وتفسيرات متعددة لها (على سبيل المثال، قومية الدولة “الوطنية” مقابل القومية فوق الدولة “كالعروبة”، والطائفية العادية مقابل الطائفية المتشددة)، والتي يمكن أن توجدا معًا في وقت واحد، مع تغيّر التوازن بينهما مع تغيّر الوقت، وإعادة خلقها وتراكبها بشكل مختلف بحسب المواقف المتغيرة بسبب الأحداث الصادمة، مثل الحروب، وانهيار الدول. إذًا ما الذي يحدد الهويات المسيطرة في وقت ما؟
تتأثر الهويات بشكل عميق، على المدى المتوسط، ​​بالتحديث، الذي يصنف المجتمع إلى طبقات، ومجموعات وظيفية، كما تتأثر بالتعبئة الاجتماعية، والطباعة، ومحو الأمية، وما إلى ذلك، وهو ما يسهل الاندماج في الهويات القومية/الوطنية؛ ولكن حتى هذا لا يخلو من الخطورة، فالتحديث يحفز أيضًا التنافس على الموارد، والذي يمكن أن يتخذ أشكالًا فئوية. فالطريقة التي تتفاعل بها الانقسامات الطبقية، مع الانقسامات الطائفية (عابرة لها أو مقوية) ستحدد ميل التوازن بين الطائفية والوطنية.
تتشكل الاختلافات في التوازن القومي-الطائفي من خلال طريقة تفاعل التبادل بين تراث الهوية والتحديث. على أحد القطبين، تكون المجتمعات الأكثر عرضة للطائفية هي المجتمعات متعددة الطوائف، والتي تؤطرها الدول المفروضة ذات الحدود المصطنعة “ولا تتمتع بوجود تاريخي طويل الأجل”، إذ تتنازع الهوية المعَرفة بدلالة الدولة، مع الهويات الفرعية، سواء دون أو فوق أو العابرة للدولة، مع استقطاب في توزع المجموعات الطائفية، والافتقار إلى الهويات الطبقية العابرة للطوائف. وعلى العكس من ذلك، يمكن أن تسود الهويات الوطنية، حتى في المجتمعات متعددة الطوائف، في حال وجود لغة مشتركة وذاكرة جمعية للدولة. ومن المرجح أن تسعى العديد من الأقليات الصغيرة، للاندماج في الهوية السائدة الأكبر، ويجري قطع الجماعات الطائفية غير المسيّسة من بوساطة الانقسامات الطبقية.
الفاعلون: يشكل رواد السياسة المتحول الذي يتدخل على المدى القصير بين بنية الهوية التاريخية وتشكيل الدولة. إنهم يستغلون بشكل انتقائي بعض الهويات المتاحة، ويهمشون أخرى، لحشد الدعم HINNEBUSCH 147 والاستيلاء على السلطة، أو الدفاع عنها. ولكن نظرًا إلى وجود العديد من رواد السياسة المتنافسين عادةً، فإن النتائج تعتمد على قدرتهم النسبية على التعبئة (الموارد، والتنظيم، والأيديولوجيا)، والقدرة على الاستفادة من الأحداث الكبرى، مثل الحروب، والثورة، وأي الهويات أكثر توافقًا مع كل من الموروث التاريخي والتحديث. عادة ما يكون لبناة الدولة اليد العليا في هذه المنافسة، تبعًا للموارد الخاضعة لسيطرتهم. إنهم يروجون للوطنية/قومية الدولة التي تضفي الشرعية على حكمهم، ولكن ربما بالاقتران مع الطائفية، في حين أن حركات المعارضة تروج عادة لهوية مضادة. وسيكون للهويات التي يستغلها المتنافسون لحشد الدعم أهي هويات شاملة اندماجية كالوطنية/القومية، أم إقصائية كالطائفية، أثرٌ في تشكيل الدولة.
التصميم المؤسساتي للدولة، بدوره، له تأثير متوسط المدى في الهوية، فوجود مؤسسات قوية -مركزية وشاملة- يعزز من القومية/الوطنية، وعلى العكس من ذلك، تميل المؤسسات الضعيفة غير الشاملة إلى تعزيز هويات أقل شمولًا- على الأرجح تلك الطائفية، في المجتمعات متعددة الطوائف. أما المؤسسات الهجينة (المؤسسات الأبوية السلطوية الجديدة) فتعزز كلًا من القومية والطائفية، مع توازن يعتمد على مزيجها البيروقراطي والأبوي السلطوي، ومن ثمّ، مستويات من المركزية والشمول/الإدماج. أما الحالة الأقصى، وهي فشل الدولة، فمن الممكن أن تعزز الطائفية المتشددة، وقد تنتج هذه الأخيرة أشكالًا أكثر قسرية وإقصائية من الحكم، والتي بدورها تزيد من تهميش الهويات الوطنية الشاملة/الاندماجية.
الحالة السورية
يمكن توضيح فائدة الإطار المذكور أعلاه، من خلال تطبيقه على سورية، حيث تباينت الهويات وتشكّل الدولة، بشكل كبير مع الزمن: بدءًا من دولة ضعيفة، خضعت سورية لمركزية واحتواء كافيين للوصول إلى مستويات متوسطة من تكوين الدولة (فترة السبعينيات)، قبل الانحدار إلى حالة الفشل الجزئي الحالية، وتزامن ذلك مع تغيرات في التوازن القومي-الطائفي. وفي كل مرحلة من هذه المراحل، كان هناك تغيرات مختلفة في الهوية والمؤسسات.
6.1 سياق الهوية والتشكيل الأولي للدولة (1946-1963)
في فترة ما بعد الاستقلال، حيث التعبئة القومية التي أتت بحزب البعث إلى السلطة، بُنيت القومية العربية العلمانية، بطريقة تهدف إلى تهميش الطائفية. لم يكن ذلك حتميًا نظرًا إلى السياق البنيوي غير الملائم، الذي كان أبرز ما ميز هذه الفترة، كانت سورية مثالًا فاقعًا للطريقة التعسفية التي تم بها تصدير نظام ويستفاليا إلى بلاد الشام، كانت النظرة الشائعة إلى هذه الدولة السورية الجديدة، أنها منتج اصطناعي للإمبريالية، لم تحظ بالولاء القوي من قبل مواطنيها، مع ارتباط العديد منهم بعروبة فوق الدولة أو الإسلام. تميل القوميات المتنافسة إلى تقسيم الحركة القومية بحسب ثلاثة متحولات، هي القومية العروبية، والوطنية السورية، والإسلام.
علاوة على ذلك، كان هناك العديد من الجماعات الهوياتية الفرعية ما دون الدولة، والتي تركزت أحيانًا في مناطق معينة (مثل جبال العلويين والدروز). ومع ذلك، فكون أكثر من 90 في المئة من السوريين هم من الناطفين باللغة العربية و74 في المئة من المسلمين السنة، وتوزع الجماعات الطائفية بشكل يمانع الاستقطاب (على الرغم من المحاولات الفرنسية للتقسيم والحكم)، ويتوافق مع الاندماج في هوية وطنية مشتركة. في الواقع، إن مقاومة الإمبريالية، بما كان لها من أثر مدمر جدًا على البلاد (تقطيع أوصال بلاد الشام-سورية التاريخية – وإنشاء إسرائيل) قد جعلت من القومية العربية هي الهوية السائدة. على هذا النحو، صاغ معظم السياسيين أيديولوجياتهم بمصطلحات قومية شاملة، وامتنعوا عن استغلال الهويات الطائفية، التي كانت أقل تسييسًا؛ وبدلًا من ذلك، سعت الأقليات الطائفية إلى الاندماج في الهوية القومية العربية، بالتوازي مع التحديث وما تبعه من تعبئة اجتماعية، على سبيل المثال، سفر أهل الريف إلى المدن بهدف التعليم.
كانت مؤسسات الأوليغارشية الليبرالية في سورية ضعيفة، (في المأسسة، والمركزية، والنفوذ، وما إلى ذلك) لكنها لم تكن إقصائية بالكامل. كانت نخب الأقليات الطائفية ممثلة في البرلمان، ولكن على أسس طبقية، هيمنت الأوليغارشية التجارية على الثروة، والسلطة، بينما كافحت أحزاب الطبقة الوسطى لاقتحام النظام السياسي.
هذا التكوين المؤسسي-الإقصائي جزئيًا على الأسس الطبقية، وليس الطائفية -يعني أنه، مع حشد الطبقة الوسطى الجديدة، والفلاحين، ضد الأوليغارشية الحاكمة، قامت السياسات الطبقية بإعادة تصنيف التقسيمات الطائفية. إضافة إلى ذلك، 148 HINNEBUSCH تم تعزيز التعبئة المناهضة للنظام، من خلال التصوير الناجح للأوليغارشية على أنها مرتبطة بالإمبريالية، ودمج قضية الطبقة بالقضايا القومية، والترويج لنسخة ثورية من القومية.
كان حزب البعث هو أنجح الأحزاب الراديكالية للطبقة الوسطى، هذه الأحزاب التي تحدت الأوليغارشية الحاكمة بعد الاستقلال. لقد دمج الأقليات الطائفية، وحشد أيضًا أجزاء من الطبقة الوسطى الجديدة، من السنة، والفلاحين، على أساس القومية العربية الراديكالية، العلمانية، والشعبوية، مستعملًا عنصر التمييز على أساس الصراع الطبقي.
جرى تسييس الجيش من قبل الضباط القوميين من الطبقة الوسطى، الذين جعلوه أداة لإجبار النظام الأوليغارشي على الانفتاح، ومن ثم إطاحته نظرًا إلى تطرفهم.
قد يؤدي إعادة ترتيب الهويات الفرعية ضمن هوية قومية مشتركة، إلى تعزيز الولاء للدولة المحلية/القطرية. ومع ذلك، نظرًا إلى أن نسخة الهوية القومية الأكثر قبولًا كانت العروبية العابرة للدولة، أدى ذلك إلى تراجع الولاء للدولة السورية، وتحفيز الوحدوية (عدم الرضا عن اقتطاع سورية من قبل القوى الإمبريالية)، وشجع القوى الإقليمية على التدخل في السياسة السورية، ما أدى إلى انقلابات مزعزعة للاستقرار (Hinnebusch, 1990: 49‐119; Hinnebusch, 2001: 15‐24; Van Dusen, 1975). أدى الاقتران بين الصراع الطبقي الداخلي والتعبئة المناهضة للإمبريالية، وضعف المؤسسات وتسييس الجيش، والتدخل الإقليمي، إلى وجود دولة ضعيفة، ومستوى عال من عدم الاستقرار، ما فتح الباب أمام استيلاء البعثيين على السلطة. ومع ذلك، فإن التعبئة البعثية للقومية الثورية عملت كأساس اجتماعي يستقر عليه نظام البعث.
6.2 بناء الدولة البعثية والهوية (1963-2000)
بدأ صراع البعث على السلطة بتسييس الهويات الطائفية. داخل نظام البعث الجديد (1963-1966)، كان الصراع يدور على درجات من الأيديولوجيا الثورية، لكن الخصوم سعوا للحصول على الدعم من خلال الاعتماد على الروابط الطائفية، (إضافة إلى الانتماءات الفرعية الأخرى كالأصول المناطقية). في الدائرة الصغيرة للنظام داخل النخبة، كانت الأقليات الطائفية الأكثر تماسكًا (العلويون والدروز) أكثر قدرة على استغلال الروابط الطائفية من البعثيين السنة المنقسمين مناطقيًا، والذين بدأوا الميل نحو الخسارة في الصراع على السلطة، ما أدى إلى زيادة التكوين الأقلوي في نخبة النظام البعثي. أثار النزاع بين البعث، وجماعات المعارضة التي يهيمن عليها السنة، الناصريون والإخوان المسلمون، معارضة عامة للدور غير المتناسب للأقليات في قيادة البعث (Van Dam, 1981; Seymour, 1970; Van Dusen, 1975). على الرغم من ذلك، تمت مأسسة نظام البعث تحت إدارة حافظ الأسد كنسخة شعبوية من الأبوية السلطوية الجديدة التي استغلت هويات متعددة، ونشرت الطائفية من خلال تركيز السلطة، ولكن تمييعها عن طريق المؤسسات الشاملة، وترويج الهوية القومية العربية، بصيغة ضمت قاعدة اجتماعية كبيرة. عيَّن الرئيس الأبوي ضباطًا علويين موثوقين لقيادة وحدات النخبة من الجيش وقوات الأمن. ومع ذلك، فقد قام كبار السياسيين، والضباط العسكريين السنة في دائرته المقربة، بدمج شبكات عملائهم؛ كان للضباط العلويين شركاء أعمال سنة – “تركيبة عسكرية تجارية” مركزها دمشق. كفلت “الحسابات الطائفية” تمثيل جميع الطوائف في المكتب السياسي للحزب ومجلس الوزراء. في القاعدة، تم دمج، وتوسيع الدائرة الانتخابية الريفية متعددة الطوائف، التي حشدها حزب البعث في الخمسينيات، مع اختراق الحزب وانتشاره في قرى السنة والأقليات، ولا سيما عندما أعاد الإصلاح الزراعي توزيع الأراضي على الفلاحين.
عزز خطاب الثورة الهويات الطبقية المناهضة لحكم الأوليغارشيا. عقد اجتماعي شعبوي يبادل الولاء السياسي مقابل المنافع، بغض النظر عن الانتماء الطائفي، التعليم العالي المجاني، والوظائف الحكومية للطبقة الوسطى، والأمن الوظيفي للعمال الصناعيين، والأراضي للفلاحين، والغذاء المدعوم للجماهير، ونقلة كبيرة نحو الأعلى للريف بكل طوائفه. اقتربت قاعدة النظام من أن تشمل نحو نصف السكان.
منذ استيلاء البعث على السلطة، كانت جماعة الإخوان المسلمين، المتحالفة مع عناصر من طبقة التجار، والأوليغارشية القديمة، ورجال الدين المسلمين المسيَّسين، هي المعارضة الأشد لحزب البعث. نصف المجتمع الذي شعر بالاستبعاد من النظام تعاطف مع الإخوان. ازداد بروز الطائفية خلال عمليات التعبئة المناهضة للنظام بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، ولكن بشكل خاص في أثناء محاولة التمرد 1978-1982، والتي تم تأطيرها على أنها حركة سنية ضد هرطقة الأقليات الحاكمة. كان أمل الإخوان الوحيد بالفوز يأتي من خلال إثارة طائفية للأغلبية السنية، لكن رسالتهم ظلت إلى حد كبير ذات طابع مديني -على سبيل المثال، كان من المؤكد أن دعوتها إلى التراجع عن الإصلاح الزراعي ستنفّر الفلاحين.
انقسم السكان السنة HINNEBUSCH 149 (على سبيل المثال، علمانيون/ إسلاميون، ومدينيون/ ريفيون)، ولم ينقسم الحزب والجيش على أسس طائفية عندما طُلب منهم استخدام القمع الهائل ضد الإخوان (على سبيل المثال، حصار حماة)، وظل الفلاحون السنة، والبرجوازية الدمشقية على الحياد. كانت المؤسسات شاملة بما يكفي، بحيث كانت الهويات الحزبية والقومية مضادة للهويات الطائفية. ومع ذلك، فقد تركت تلك الفترة بصمة دائمة على المجتمع، الاستياء في المدن، والبلدات السنية الشمالية المكبوتة، والشعور بالضعف لدى العلويين أمام الانتقام السني -معضلة أمنية كامنة.
إذًا، لقد ساعد بناء هوية شاملة، في مواجهة هذا الانقسام الطائفي المحتمل. في الأيديولوجيا البعثية، كان من المقرر استيعاب الهويات دون الدولة، الطائفية والإثنية (على سبيل المثال، الكردية) في هوية قومية عربية مشتركة. تحت حكم حافظ، تطورت نسخة من القومية العربية المتمركزة في سورية، حيث قُدمت سورية على أنها أكثر الدول العربية عروبة، والمدافع الأشد عن العرب ضد الصهيونية، والإمبريالية. وبالفعل، فإن بناء دولة أمنية قومية افتراضية قادرة على الصمود في عدة حروب ضد إسرائيل، وكذلك الاستعداد للحرب المستمرة، قد زود النظام بشرعية قومية عربية إضافة إلى تعزيز قومية الإقليم السوري (التي تركز على استعادة الأجزاء المفقودة-مرتفعات الجولان). كانت النظرة إلى الطائفية أنها غير شرعية، وتعمل في الخفاء على شكل “واسطة” للحصول على امتياز، أو الاستياء من هكذا امتياز.
وهكذا استغل النظام كلًا من الهويات ما فوق الدولة (القومية العربية)، والدولة (الوطنية المدنية السورية)، والطبقية، والهويات الطائفية، لإضفاء الشرعية على نفسه. وقد ساعد هذا في إلحاق الولاءات بالدولة السورية، وكذلك على إعادة إنتاج الهويات ما دون، وما فوق الدولة، التي من المحتمل أن يضعف معها تحديد الهوية ((Hinnebusch, 2001: 65‐88; Hinnebusch, 1990:144‐275). في موازاة ذلك، أصبحت سورية دولة أقوى، وأكثر تكاملًا، مخترقة ماديًا من قبل المركز. حوّل بناء دولة حافظ الأسد سورية من ضحية إلى لاعب في السياسة الإقليمية، وبطل للقضية القومية العربية، ضد إسرائيل. وهكذا، فالقومية أضعفت الطائفية، حتى عندما أعادت الممارسات الأبوية السلطوية إنتاجها.
6.3 تدهور الدولة: إضعاف التحالف العابر للطوائف (2000-2010)
كان نظام حافظ يعتمد على توفير الأجر مقابل المحسوبية، وعندما تدهور هذا الأجر، في عهد بشار الأسد، سعى النظام لجذب المستثمرين من خلال سياسات الليبرالية الجديدة. خلال هذه العملية، تطور النظام إلى نسخة ما بعد شعبوية من التسلط المستند على أساس التحالف مع الرأسماليين المقربين من النظام، والذي لم يكن محصنًا ضد النزاع الطائفي. أولًا، كان تركيز السلطة في يد بشار يعني إخراج أباطرة والده السنّة القدامى من السلطة، ومن ثمّ، خسارة شبكات عملائهم بين النخب السنية الأدنى. ثانيًا، أدى تركيز فرص العمل الجديدة الناتجة من الانفتاح الليبرالي الجديد على رأس المال العربي الخاص في أيدي العائلة الرئاسية، خاصة ابن خال الرئيس، رامي مخلوف، إلى نفور العديد من عملاء النظام السُنة السابقين (Hinnebusch, 2012). ثالثًا، كلف تدهور الرعاية الاجتماعية، وقطع دعم الغذاء، والوقود، وأسعار المنتوجات الزراعية، جنبًا إلى جنب مع النمو السكاني على الأراضي الثابتة، والجفاف المدمر، خسارة دعم الفلاحين، وشرائح الطبقة الدنيا. وهكذا، أصبح قلب النظام الأبوي السلطوي أكثر طائفية، ومكونًا من طبقة عليا. وبالتوازي مع ذلك، تقلص النفوذ المجتمعي لمؤسسات النظام، كالحزب الحاكم، كما أدى التركيز المفرط للمحسوبية إلى تقليص قدرته على المساعدة. مع تركز الموارد بشكل حاد في أيدي عدد قليل من الجماعة الداخلية للنظام، وعملائه، بينما يتعرض الآخرون لانخفاض حاد في مستويات معيشتهم، رأى الخاسرون أنفسهم ضحايا للتمييز الطائفي. في الوقت نفسه، أدى تشجيع النظام للإسلام غير السياسي، الذي بدأ في عهد حافظ، إلى انتشار الإسلام السياسي إلى الضواحي، والريف حيث أعد الأرضية الأيديولوجية لانتفاضة إسلامية ريفية (Hinnebusch & Zintl, 2015). وهكذا، أضحت الدولة المعزولة نسبيًا عن العولمة لفترة طويلة من الزمن، محشورة بين فكي كماشة، نظام رأس المال العالمي، ومقاومة ضحايا الليبرالية الجديدة.
6.4 الفشل الجزئي للدولة وتطييف النزاع السوري (2010)
لم تكن الانتفاضة السورية في بدايتها تدور حول القضية الطائفية بشكل علني، على الرغم من “تطييفها” لاحقًا (Abboud,2016: 183‐86)، بل إن جذورها كانت حيث الفوارق الطبقية، التي ولدت في ظل التراجع من الشعبوية إلى الرأسمالية 150 HINNEBUSCH (Donati, 2013). علاوة على ذلك، كانت الاحتجاجات الأولية، التي قادها شباب المدن العلمانيون المتعلمون، والذين غالبًا ما كانوا من أصول ريفية عابرة للطوائف، غير عنيفين، ودعوا إلى دولة مدنية ديمقراطية كان من الممكن أن تهمش الطائفية.
بعيدًا عن الحتمية، كان لا بدّ من تلاقي عدة عوامل لاستحضار الطائفية إلى الصراع.
أولًا، في خضم الصراع الوجودي على السلطة، نشر الفاعلون المتنافسون الخطاب الطائفي، النظام من جهته لتقوية نواة دعمه الأساسية، والمعارضة لحشد جمهورها المفترض. نظرًا إلى إضعاف البعثية كأيديولوجيا وتنظيم ذي جذور جماهيرية، لم يكن لدى النظام القدرة على حشد قوة دفاعية مضادة واسعة النطاق (كما فعل في تمرد الإخوان المسلمين في الثمانينيات) ضد الاحتجاجات الجماهيرية التي اندلعت في عام 2011. لذلك رأى أن فرصته الأفضل للنجاة، تكمن في حشد الأقليات، وتعزيز تماسك قاعدته العلوية، من خلال تصوير المعارضة على أنها إرهابية إسلامية.
نظرًا إلى أن النظام مارس العنف أيضًا ضد المتظاهرين العزل، فقد تبنت المعارضة بشكل متزايد خطابًا طائفيًا سنيًا ومناهضًا للعلويين، ونتيجة لعسكرتها فقد أصبحت الأيديولوجيات الإسلامية الطائفية أكثر أدوات التجنيد فعالية، ومع تعمق التعبئة المناهضة للنظام، أصبح الوزن الأكبر في المعارضة يعود لفئة العوام الخاسرين من جراء السياسات الليبرالية الجديدة، والذين كانوا أكثر عرضة لتفسير محنتهم على أنها تمييز طائفي. ولأن العلويين، الذين يشكلون الأجهزة الأمنية بشكل غير متناسب، قد خسروا نسبة كبيرة من الضحايا، فقد تعزز تضامنهم الجماعي حول النظام. أدى استغلال القوى الخارجية المتنافسة -القوى السنية من جهة وإيران الشيعية من جهة أخرى- للطائفية إلى تفاقمها. تدفق الجهاديون إلى سورية لمحاربة النظام، بتمويل وتسليح قوى إقليمية مناهضة للأسد، في حين جرى تهميش أو أسلمة جماعات المعارضة المسلحة العلمانية، ولا سيما بعد خروج متظاهري الطبقة الوسطى العلمانيين من سورية، ليحل محلهم شباب الريف المسلم كجنود مشاة للانتفاضة. كانت البلاد تتجه نحو ثنائية قطبية طائفية شديدة الاستقطاب (Balanche Balanche, 2018; Bartolomei, 2018; Hinnebusch & Imady, 2018; Phillips, 2015).
ثانيًا، مع تهشم النظام، عززت “المعضلة الأمنية” من تمايزات الناس، واعتمادهم على حماية الجماعات/ الأحياء الطائفية، ما جعل كل جانب، يقوم بتشكيل ميليشيات مسلحة للدفاع عن نفسه، والقيام بتطهير طائفي في بعض مناطق الآخر، وهو ما جعل الفريق الآخر أقل إحساسًا بالأمان. ومن ثمّ سهّل تقبل الطائفية على المستوى الشعبي. مع نمو اقتصاد الحرب، قام الإسلاميون المعارضون الأكثر راديكالية، الذين يمتلكون الموارد الأكبر (من الأسلحة والمال)، بجذب الأشخاص الذين حرموا من أسباب عيشهم بسبب الحرب الأهلية، ومن ثمّ، تمكّنوا من نشر خطابهم الطائفي الجهادي. بدأ العديد من السوريين بالتماهي مع مماثليهم في الطائفة من غير السوريين، والذين دخلوا في الصراع السوري، وليس مع المواطنين السوريين ذوي الهوية الطائفية المغايرة (Rifai, 2018; Abboud, 2016: 97‐108, 162‐87).
حتى عندما كانت الدولة منهكة، أظهر جوهر النظام مرونة ملحوظة. تكيف النظام مع الحرب الأهلية من خلال تبني شكل أكثر عنفًا وإقصاءً ولامركزية من الأبوية السلطوية الجديدة (Khaddour, 2015). كانت الحركات الإسلامية المسلحة المعارضة الأكثر فاعلية للنظام، وكانت تقوم بالتجنيد من خلال الفكر الجهادي، والخطاب الطائفي المتطرف (Lund, 2013). أعيد بناء مفهوم الأمة من منظور طائفي، فقد صور كل من النظام والجهاديين الآخر على أنه خارج الأمة. ومع ذلك، فقد نجت هوية الدولة السورية، وتجسد ذلك في معارضة تقسيم البلاد عبر الطيف السياسي، باستثناء الجهاديين المتطرفين. وبقي النظام صامدًا مصممًا على استعادة السيادة المحلية/الوطنية.
استنتاجات: تداعيات الحالة السورية على فهم التوازن القومي-الطائفي وتشكيل الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
لا يتعارض السجل السوري مع وجهة النظر القائلة إن الدول الشمولية القوية، والهويات القومية، تتعايشان معًا وتغذي كل منهما الأخرى على المدى الطويل، كما تفعل الدول الضعيفة والطائفية. ولكن على المدى القصير، توجد متحولات متعددة بين هذين القطبين.
أدى تصدير نظام الدولة إلى المنطقة، وإنشاء دول متعددة الطوائف ذات حدود مفروضة بشكل تعسفي، كما هو الحال في سورية، إلى إنشاء سياق كافحت فيه قومية الدولة لاستيعاب هويات بديلة مثل الطائفية.
للهويات الطائفية جذور تاريخية عميقة، لكن حدتها وتسييسها متغيران، وكانت عادة تتعرض للإضعاف من قبل الهويات القومية البديلة. ويعتمد التباين في التوازن بين القومية والطائفية، في جزء كبير منه على HINNEBUSCH 151 استراتيجيات الفاعلين، وشمولية المؤسسات، فضلًا عن العوامل السياقية، مثل التركيبة الطبقية، والحرب، والثورة، والعولمة، إلخ.
ساهم كل من تغيّر الهوية وتشكيل الدولة، في تشكيل بعضهما بعضًا مع الزمن. في فترة ما قبل البعث، ولّد النضال ضد الإمبريالية، والصراع الطبقي شكلًا شاملًا، وثوريًا من القومية التي همّشت الطائفية، لكنها زعزعت استقرار الدولة. ومن اللافت للنظر أن سورية وصلت إلى ذروة تشكيل الدولة في عهد حافظ الأسد عندما جرى استغلال كل من القومية والطائفية لإنشاء نظام شعبي أبوي سلطوي جديد مع مؤسسات تضم ائتلافًا عابرًا للطوائف، ومصممة للصراع مع إسرائيل. في عهد بشار الأسد، أدى قلب العقد الاجتماعي الشعبوي إلى إضعاف هذا التحالف، وإلى تمهيد الطريق للانتفاضة، حيث فتح استغلال الطائفية من قبل الأطراف المتنافسة الباب أمام فشل جزئي للدولة، أدى بدوره إلى انتشار الطائفية المتشددة على حساب قومية الدولة/الوطنية. فقد شكّل كل من ضعف الدولة والطائفية العالية أحدهما الآخر.

REFERENCES
Abboud, Samer. 2016. Syria, Cambridge UK: Polity.
Anderson, B. (1983). Imagined communities: Reflections on the origin and spread of nationalism. London: Verso.
Armstrong, J. A. (1982). Nations before nationalism. Chapel Hill: University of North Carolina Press.
Bacik, G. (2008). Hybrid sovereignty in the Arab Middle East: The cases of Kuwait, Jordan and Iraq. NY: Palgrave‐Macmillan.
Balanche, F. (2018). Sectarianism in Syria’s Civil War. Washington DC: Washington Institute for Near East Policy.
Barber, B. R. (1995). Jihad vs McWorld. New York: Times Books.
Barnett, M. (1998). Dialogues in Arab politics: Negotiations in regional order. NY: Columbia University Press.
Bartolomei, E. (2018). Sectarianism and the battle of narratives in the context of the Syrian uprising In R. Hinnebusch & O. Imady (Eds.), The Syrian Uprising (pp. 223–241).
Beissinger, M. (1998). Nationalisms that bark and nationalisms that bite: Ernest Gellner and the substantiation of nations, in Hall. State of the Nation, pp., 169–190.
Binder, L., & LaPalombara, J. (1971). Crises and sequences in political development. Princeton: Princeton University Press.
Binder, L. (Ed.) (1999) Ethnic Conflict and International Politics in the Middle East. (pp. 1–42). Gainsville: University of Florida Press.
Bormann, Nils‐Christian, Luc Girardin, Philipp Hunziker, and Manuel Vogt. 2015. ‘Research front‐end documentation RFE release 2.0′. ETH Zurich, Available at https://growup.ethz.ch/rfe/pdf/RFE_Documentation_2.0.pdf.
Brubaker, R. (2015). Religious dimensions of conflict and violence. Sociological Theory, 33(1), 1–19.
Bull, H., & Watson, A. (1984). The Expansion of International Society. Oxford: Clarendon Press.
Buzan, B., & Gonzalez‐Palaez, A. (2009). International Society and the Middle East: English School theory at the Regional Level. London: Palgrave‐Macmillan.
Byman, D. (2014). Sectarianism afflicts the New Middle East. Survival, 56(1), 79–100.
Calhoun, C. (1997). Nationalism. Buckingham: Open University Press.
Clapham, C. (1998). Degrees of statehood. Review of International Studies, 24, 143–157.
Coakley, J. (2012). (2012) Nationalism, ethnicity and the state. London: Sage Publications.
Delanty, G., & O’Mahony, P. (2002). Nationalism and social theory. London: Sage Publications.
Donati, C. (2013). In The economics of authoritarian upgrading in Syria. S. Heydemann & Leenders R. (Eds.), Middle East Authoritarianisms. Stanford CA: Stanford University Press.
Gellner, E. (1983). Nations and Nationalism. Ithaca NY: Cornell University Press.
Gershoni, I. (1996). Rethinking the formulation of Arab nationalism. In J. Jankoswki & I. Gershoni (Eds.), Rethinking Nationalism in the Arab Middle East (pp. 3–25). NY: Columbia university Press.
Grove, D. J. (1987). A Cross‐national examination of cross‐cutting and reinforcing cultural cleavages. International Journal of Comparative Sociology, 28, 3–4.
Haddad, F. (2011). Sectarianism in Iraq (pp. 1–29). London: Hurst.
Haddad, Fanar, (2014) “Secular sectarians,” in Sectarianism in the Middle East and Asia, August 1, http://www.mei.edu/content/sectarianism‐middle‐east‐and‐asia
Hall, J. A. (1998). The state of the nation: Ernest Gellner and the theory of nationalism. Cambridge: Cambridge University Press.
Hashemi, Nadar (2015) ‘Toward a political theory of sectarianism in the Middle East: The salience of authoritarianism over theology,’ Middle East Institute, October 27.
Heydemann, S. (2013). Syria and the future of authoritarianism. Journal of Democracy, 24(4), 59–73.
Hinnebusch, R. (1990). Authoritarian power and state formation in Ba`thist Syria: army, party and peasant. Boulder CO: Westview Press.
Hinnebusch, R. (2001). Syria: Revolution from above. London: Routledge.
Hinnebusch, R. (2010). Toward a historical sociology of state formation in the Middle East. Middle East Critique, 19(3). Fall
Hinnebusch, R (2012). International Affairs. Syria: From authoritarian upgrading to revolution? January.
Hinnebusch, R. (2015). The Politics of Identity in Middle East International relations. In. L. Fawcett (Ed.), International relations of the Middle East. Oxford: Oxford University Press.
Hinnebusch, R., & Imady, O. (2018). The Syrian uprising: Domestic origins and early trajectory. London and New York: Routledge.
Hinnebusch, R., & Zintl, T. (2015). The Syrian uprising and Bashar al‐Asad‐s first decade in power. In Syria from Reform to Revolt, Volume 1: Political Economy and International Relations (pp. 285–310). Syracuse, NY: Syracuse University Press.
Huntington, S. (1968). Political order in changing societies. New Haven: Yale University Press.
Hutchinson, J. (2005). Nations as zones of conflict. London: SAGE Publications.
Jackson, R. H. (1993). Quasi States: Sovereignty, International Relations and the Third World. Cambridge: Cambridge University Press.
Khaddour, K. (2015). The Assad regime’s hold on the Syrian State. Carnegie Middle East Center. July 8 Lund, Aron (2013) ‘The non‐state militant landscape in Syria,’ Combating terrorism center at West Point, August 27, https://ctc.usma.edu/posts/the‐non‐state‐militant‐landscape‐in‐syria Lustik, I. (1997). The absence of Middle East great powers: Political ‘backwardness’ in historical perspective. International Organization, 51(4, autumn), 653–683.
Maddy‐Weitzman, B. (1993). The Crystallization of the Arab state system, 1945‐1954. Syracuse University Press.
Mann, M. (2008). Infrastructural power revisited. Comparative International Development, 43, 355–365.
Merkel, W., & Wieffen, B. (2012). Does heterogeneity hinder democracy? Comparative Sociology, 11, 387–342.
Murphy, A. (1996). The sovereign state system as political‐territorial ideal: Historical and contemporary considerations,’ in Thomas Biersteker and Cynthia Weber. State Sovereignty as a Social Construct, Cambridge University press, 81–120.
O’Leary, B. (1998). ‘Ernest Gellner’s diagnoses of nationalism: A critical overview, or what is living and what is dead in Ernest Gellner’s philosophy of nationalism?’ In Hall, ed. The State of the Nation, pp. 40‐88.
Peleg, I. (2007). Democratizing the hegemonic state: Political transformation in the age of identity. Cambridge: Cambridge University Press.
Phillips, C. (2015). Sectarianism and conflict in Syria. Third World Quarterly, 36(2), 357–376.
Phillips, C. (2013). Everyday Arab identity: The daily reproduction of the Arab World, Routledge. London: Routledge.
Posen, Barry (1993) ‘The security dilemma and ethnic conflict’, Survival, 35, no. 1 (Spring).
Rifai, O. (2018). Sunni/Alawi identity clashes during the Syrian uprising: A continuous reproduction? In R. Hinnebusch O. Imady (Eds.), The Syrian Uprising (pp. 242–259).
Rørbæk, L. L., & Knudsen, A. T. (2015). Maintaining ethnic dominance: Diversity, power, and violent repression. Conflict Management and Peace Science OnlineFirst, 1–20.
Rustow, D. (1970). Transitions to democracy: Toward a dynamic model. Comparative Politics, 2(3), 337–363.Scarritt, J. R. (2005). Ethnopolitics and nationalism. In P. Burnell & V. Randall (Eds.), Politics in the developing world. Oxford University Press.
Seymour, M. (1970). The dynamics of power in Syria since the break with Egypt. Middle Eastern Studies, 6(1), 35–47.
Simon, R. (1997). The imposition of nationalism on a non‐nation state: Case of Iraq. In J. Jankowski & I. Gershoni (Eds.), Rethinking Nationalism in the Arab Middle East. New York: Columbia University Press.
Smith, A. (1981). States and homelands: The social and geopolitical implications of national territory. Millennium, 10. Autumn Smith, A. (1995). Nations and nationalism in a global era. Polity: Press.
Taylor, C. (1998). Nationalism and modernity,’ in Hall. State of the Nation, –191, 218.
Tilly, C. (1975). The formation of national states in Western Europe. Princeton: Princeton University Press.
Toft, M. D. (2007). Getting religion? The puzzling case of Islam and Civil War. International Security, 31(4), 97–131.
Tonnesson, S. (2009). ‘The class route to nationhood: China, Vietnam, Norway, Cyprus—and France. Nations and Nationalism, 15(3), 375–395.
Van Dam, N. (1981). The struggle for power in Syria: Sectarianism, regionalism and tribalism in Politics, 1961‐80. London: Croom‐Helm.
Van Dusen, M. H. (1975). Downfall of a traditional elite. In F. Tachau (Ed.), Political Elites and Political Development in the Middle East (pp. 115–155). Cambridge, MA: Schenkman/Wiley.
Weulersse, J. (1946). Paysans de Syrie et du Proche‐Orient. Paris: Gallimard.
Wimmer, A. (2002). Nationalist exclusion and ethnic conflict: Shadows of modernity. Cambridge: Cambridge University Press.
Wimmer, A. (2015). Nation‐building. A long‐term perspective and global snalysis. European Sociological Review, 31(1), 30–47.
Zartman, I. W. (1995). Collapsed states: The disintegration and reconstruction of legitimate authority. Boulder CO: Lynne Rienner Publishers.

مشاركة: