رقمنة الأنماط الثقافية: نحو مفهوم جديد للهوية الثقافية

الأنماط الثقافية الرقمية
نحو مفهوم جديد للهوية الثقافية؟
The digitalization of cultural models: towards a new concept of cultural identity?

دي فرانسيسكا فارفيللو di Francesca Varvello

ترجمة: ورد العيسى
مراجعة: جوى العامري

جدول المحتويات:

  1. الحقوق الثقافية والهوية الثقافية في القانون الدولي العام
    أ- آخر المستجدات في هذا الشأن: خطوات نحو الاعتراف الإيجابي بالهوية الثقافية.
    ب- الدوائر التخصصية والهيئات القضائية المعنية بالهوية الثقافية: الممارسة الدولية.
    ج- القانون الدولي المعاصر في مواجهة الهوية الثقافية: حتمية العنصر الإقليمي الجهوي؟
  2. الجهات الفاعلة الجديدة والسياقات الجديدة: مواجهة الهوية الثقافية الإقليمية للرقمنة
    أ- البعد الإقليمي في منظور الجهات الفاعلة الجديدة: فقدان العنصر الإقليمي؟
    ب- التكنولوجيا الجديدة وتدفق الأنماط الثقافية
    ج- رد الجهات الفاعلة الدولية على التحديات الجغرافية الثقافية الجديدة.
  3. الاستنتاجات.

الحقوق الثقافية والهوية الثقافية في القانون الدولي العام
تتمثل الخطوة الأولى من هذا التحليل في إجراء استعراض أولي أساسي لإطار الحقوق الثقافية ولآليات المحافظة عليه. وبذلك سنبدأ بتتبع الخطوات نحو الاعتراف بالحقوق الثقافية وعلاقتها بالحقوق الأساسية الأخرى، من أجل التعامل مع الاعتبارات اللاحقة بشأن وضع الحقوق الثقافية في المجتمع المعاصر.

أ- آخر المستجدات في هذا الشأن: خطوات نحو الاعتراف الإيجابي بالهوية الثقافية
تؤكد اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن “[الحقوق الثقافية جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، مثلها مثل الحقوق الأخرى، حقوق عالمية، معتمدة وغير قابلة للتجزئة]”. والواقع أن وجود الحقوق الثقافية، في القانون الدولي الحالي، أصبح متشابكًا بشكلٍ تدريجي مع الأحكام المرعية في حقوق الإنسان، الأمر الذي أسفر عن ارتياح تام لتمتعها ببعض الحقوق الأساسية هذه الخلاصة أتت كنتيجٍة للشروحات المستمرة للمواثيق الدولية القائمة، والتي أسفرت عن الوعي بالصلة المتبادلة بين الحقوق الثقافية وحقوق الإنسان العامة، على الرغم من أن الاعتراف الصريح يعود إلى السنوات الأخيرة. في الواقع، ظلت المواثيق الأولى لحقوق الإنسان ملتبسة حين الإشارة إلى الحقوق التي تخص القطاع الثقافي. وفي نهاية المطاف، اتسمت التسعينيات والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين باعترافٍ تدريجي بأهمية البعد الجماعي للحقوق الأساسية. وقد تحقق هذا الإنجاز بفضل اعتبار الأشخاص المنتمين إلى الأقليات أصحاب حقوقٍ ثقافيٍة محددٍة كغيرهم. وكان لاعتماد المواثيق الدولية المجسِّدة صراحة لهذه الفئة من الأفراد أيضًا، فضلًا عن التفسير الأوسع نطاقًا لمواثيق حقوق الإنسان الحالية، الأثر المهم في تأصيل مفهوم “الهوية الثقافية” للأشخاص المنتمين إلى الأقليات.
وبذلك اعتُرف بأولئك الأفراد كأصحاب حٍق في الحفاظ على ثقافتهم الخاصة وأصحاب حقٍ في إظهار هويتهم الثقافية وحماية “العناصر الأساسية لهويتهم، أي دينهم ولغتهم وتقاليدهم وتراثهم الثقافي”. وعلى الرغم من أن التمييز بين الحقوق الجماعية “المحضة” ــ وهي الحقوق المعترف بها للمجتمع ــ والحقوق المعترف بها لأفراد هذا المجتمع المحدد بقي ملتبسًا بشكلٍ ما، فإن القانون الدولي يقبل حق المجتمع في تعريف هويته الثقافية الخاصة، ويدعو الدول إلى اعتماد الوسائل اللازمة للسماح بأكثر مظاهر هذا التعريف حريًة وتكاملًا.
تعتمد الهوية الثقافية المحافظة على التراث الثقافي بشكٍل جوهري، ولكنها تعتمد أيضًا على إمكان الوصول إلى هذا التراث وإعادة إنشائه وإخراجه. وحين النظر في “ممارسات أو تمثيلات أو تعبيرات أو معارف” المجتمع ــ أي تراثه الثقافي اللامادي ــ فإن الارتباط بطريقة الحياة اليومية في ذلك المجتمع يصبح غير قابل للتجزئة، لدرجة يصعب فيها التمييز بين البعد الثقافي والبيئة المحيطة به. وبذلك تصبح البيئة المادية التي يعيش فيها المجتمع ويتطور، وبشكلٍ أدق، إدارة هذه البيئة واستغلالها، في بعض الأحيان، عناصر أساسية في الهوية الثقافية لهذا المجتمع.
بعض المواثيق الدولية الحديثة (المعلنة والملزمة) تؤكد الاعتراف بالبعد الإقليمي بوصفه أحد العناصر الضرورية للهوية الثقافية للأقليات والسكان الأصليين. المادة 13 من الاتفاقية رقم 169 بشأن السكان الأصليين والقبليين تزعم أن هناك حاجة عامة إلى الحفاظ على «[…] الأهمية الخاصة لثقافات الشعوب المعنية وقيمها الروحية من جهة علاقتها بالأراضي أو الأقاليم، أو كليهما، بحسب الاقتضاء، والتي تشغلها هذه الشعوب أو تستخدمها بطريقة ما، ولا سيما الجوانب الجماعية لهذه العلاقة”. وقد تم التوصل إلى النتائج نفسها في إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق السكان الأصليين: “من خلال ذلك، فإن تحكم الشعوب الأصلية في الظروف التي تؤثر عليها وعلى أراضيها وأقاليمها ومواردها ستمكنها من الحفاظ على مؤسساتها وثقافاتها وتقاليدها وتعزيزها، وتعزيز تنميتها وفقًا لتطلعاتها واحتياجاتها” (الديباجة). ويذهب الإعلان إلى ما هو أبعد من ذلك “اعتبار أن احترام معارف السكان الأصليين وثقافاتهم وممارساتهم التقليدية يساهم في التنمية المستدامة والمنصفة والإدارة السليمة للبيئة”. وهو بذلك يربط صراحة بين حماية التقاليد الثقافية والحفاظ عليها وبين حماية البيئة المادية التي يعيش فيها المجتمع ويطور بعدها الثقافي.
وكدليل آخر على هذه العلاقة الوثيقة بين البعد الثقافي والبعد الطبيعي (والمادي)، فإن رأي الدوائر التخصصية والهيئات القضائية الدولية المعاصرة يستحق بلا أدنى شك بعض الاهتمام.

ب- الدوائر التخصصية والهيئات القضائية بشأن الهوية الثقافية: الممارسة الدولية
مع الأخذ في الحسبان اعتناق القناعة المتعلقة بهذه المسألة، فإن تنفيذ المواثيق التي أشرنا إليها يظهر درجة عالية من الوعي بشأن العلاقة بين الهوية الثقافية للمجتمعات المحلية والبيئة المحيطة بها.
الدوائر التخصصية من جانبها، واضحة في الجدل حول هذه النقطة. بعد اعتماد التعليق العام رقم 21، تبنت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عدة ملاحظات ختامية تقر فيها بوجود صلة بين الحقوق الثقافية للسكان الأصليين وحيازة أراضي أجدادهم. تُعرّف أراضي الأجداد صراحةً “[…] كجزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية [الأصلية]”. وتكفل حماية البيئة الطبيعية المحيطة والتمتع بالحقوق الثقافية للسكان الأصليين الذين يقطنونها. وتوصي اللجنة بالآتي، “[…] أن تولي الدولة في برامجها لاستعادة الأراضي هذا الجزء [أجزاء] الاعتبار الواجب لحق الشعوب الأصلية في أراضي أجدادها، الأمر الذي يعد أساسيًا للتعبير عن هويتهم الثقافية وبقاء هذه الشعوب في العالم”. وعلى الرغم من أن الملاحظات الختامية للجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تستحق اهتمامًا كبيرًا، إلا أنها تظل مصدرًا تخصصيًا، يفتقر إلى البنود الملزمة.
وعلى العكس من ذلك، يؤكد البعد القضائي اعتماده على الإطار المادي الذي يعمل فيه. فعلى الرغم من أن السياق الأوروبي واحدٌ من أكثر السياقات إنتاجية من حيث السوابق القضائية، إلا أنه واقعيًا لا يسمح بمزيدٍ من الاهتمام بقضية الصلة بين الهوية الثقافية وأراضي الأجداد. كما أنه يلتزم الصمت التام في ما يتعلق بقضية “البعد الإقليمي” للهوية الثقافية. ومع ذلك، فإن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR) صارمة في الاعتراف بوجود “حاجات خاصة للأقليات وكذلك التزام حماية أمنهم وهويتهم وأسلوب حياتهم […] ليس فقط لغرض حماية مصالح الأقليات نفسها، ولكن للحفاظ على التنوع الثقافي الذي له قيمة للمجتمع بأسره”
في المقابل، تعتبر السوابق القضائية الأميركية بشأن هذه المسألة ثريًة وجديرًة بالاهتمام. اعترفت محكمة البلدان الأميركية لحقوق الإنسان (IACtHR) بشكلٍ واضح أنه “[…] يجب الاعتراف بالرابطة الوثيقة بين السكان الأصليين وأرضهم والتعامل مع هذه الرابطة بوصفها العامل الأساسي لثقافاتهم وحياتهم الروحية وكمالهم وسلامتهم وكذلك لبقائهم الاقتصادي”. العلاقة مع الأرض بالنسبة إلى المجتمعات الأصلية ليست مجرد مسألة حيازة وإنتاج، بل هي عنصر مادي وروحي يجب التمتع به للحفاظ على الإرث الثقافي ونقله إلى الأجيال القادمة. لقد وحدت المحكمة موقفها وعززته خلال السنوات، لتقر بـ “أنها أكثر من مجرد مصدر رزق [السكان الأصليين]؛ إنها مصدر ضروري لاستمرار حياتهم وهويتهم الثقافية”.
في الآونة الأخيرة، قدمت المحكمة شيئًا إضافيًا مثيرًا للاهتمام بشأن الصلة بين البعدين الثقافي والطبيعي: تؤكد المحكمة أن الإدارة التقليدية لأراضي الأجداد غالبًا ما تكفل الحفاظ على البيئة بجودةٍ أعلى. في إحدى حالات عام 2012، توصلت محكمة البلدان الأميركية لحقوق الإنسان إلى استنتاج مفاده أن “حماية أراضي الشعوب الأصلية والقبلية تنبع أيضًا من الحاجة إلى ضمان أمن واستمرارية سيطرتهم على الموارد الطبيعية واستخدامها، الأمر الذي يمكنهم من صون مواردهم الطبيعية. ويسمح لهم بالحفاظ على طريقة عيشهم”. تتفق الأدبيات المعاصرة على هذه النقطة: يبدو أن الممارسات التقليدية التي اعتمدتها الشعوب الأصلية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا (أو بدقة: معتمدة على) النظام البيئي المحيط؛ في الوقت نفسه، غالبًا ما يتم الحفاظ على خصوصية إقليم معين من قبل الشعوب الأصلية نفسها التي تعيش في الإقليم المعني وتتعامل معه وفقًا لثقافتها التقليدية. يبدو أن مفتاح هذا الارتباط هو المعارف التقليدية التي يتوارثها المجتمع من جيل إلى آخر: فهي تحافظ على التفاعل الحي مع البيئة، ومن ثمّ، يقودنا هذا الأمر إلى القول إن “التنوع الثقافي جوهري بقدر التنوع البيولوجي» .

ج- القانون الدولي المعاصر في مواجهة الهوية الثقافية: حتمية العنصر الإقليمي؟
وفقًا للتفسير (والتطبيق) الحاليين للمواثيق الدولية القائمة، يبدو أن المفهوم الموحد للهوية الثقافية مرتبطٌ بالضرورة ببعٍد إقليمي عميق محلي وتقليدي ومتوارث لا مفر منه. ومن ثمّ، فإن الهوية الثقافية تتطور لتصبح مجتمعًا محددًا جيدًا، يتقاسم أفراده تاريخًا مشتركًا وتقاليدَ مشتركة، ولهم العادات نفسها، والتقاليد عينها، وطقوس موحدة ولغة متماثلة. بحيث تصبح لغة المجتمع رمزه وجوهر هويته، والأداة التي بفضلها تنتقل المعرفة والتقاليد من جيل إلى آخر.
من ثمّ، في المقاربة “التقليدية”، لا يمكن تمييز الهوية الثقافية عن السياق الذي تظهر وتتبلور فيه. والسياق الوحيد الذي يبدو أن القانون الدولي يفهمه هو السياق المادي (الإقليمي): الذي يتشارك فيه المجتمع تقاليده المشتركة، والذي يسمح بتطوير هذه التقاليد المشتركة، السياق الذي يدار (ولا يزال قائمًا) بفضل هذه التقاليد المشتركة. تُظهر السوابق القضائية الدولية مدى عمق المفهوم “الإقليمي” للهوية الثقافية المتأصل في الشعور العام. ويوضح الصلة التي لا تنفصم بين البعد الثقافي والبعد المكاني، الملموس، الفيزيائي والبيولوجي الذي يحيط به، بل كيف يعتمد وجود أحدهما على وجود الآخر. إنه يعطي دلالًة “مؤسسية” للطابع الإقليمي للهوية الثقافية بشكل يشي أنه من غير الممكن تجاوزه.
كدليٍل إضافي على هذا الارتباط، أصبح من المقبول (والواضح) بالإجماع الآن أن التنوع الثقافي والبيولوجي يعكس تنوعًا آخر. ومن ثمّ، فإن الحفاظ على التنوع الثقافي لا يقتصر على التمتع الكامل بالحقوق الثقافية الفردية والجماعية، بل “يشكل تراثًا مشتركًا للإنسانية يجب الاعتزاز به والحفاظ عليه لصالح الجميع”.

  1. جهات فاعلة جديدة وسياقات جديدة: مواجهة الهوية الثقافية الإقليمية للرقمنة
    تتميز السنوات الأخيرة بانفتاح تدريجي للأسواق وتطور متزايد في الاستثمارات والتبادلات بين البلدان. يعزز فتح الحدود التجارية حركة السلع والخدمات، بينما يؤدي التطور التكنولوجي إلى زيادة النشاط الاقتصادي – وقبل كل شيء الأنشطة المالية – ليس فقط بين المستثمرين البعيدين ماديًا عن بعضهم الآخر، بل أيضًا بين المستثمرين بغض النظر عن أماكنهم. هذا الانفتاح التدريجي تجاوز القطاعات الاقتصادية ليشمل قطاعات أخرى وبشكلٍ متزايد، حيث أصبح ظاهرة متعددة التخصصات جديرة بالاهتمام المعمق. في الواقع، إنّها تتضمن بعدًا ثقافيًا بسبب تداول القيم والأيديولوجيات المشتركة والتي يتم نقلها ونشرها بفضل أنظمة الاتصال الجديدة. وعلاوًة على ذلك، فإنها تقدم بعدًا اجتماعيًا نشأ نتيجة لتفاعل الأشخاص والعادات والتقاليد التي تؤدي إلى انتشار (وتجانس؟) عادات وطرق الحياة.
    أخيرًا وليس آخرًا، يبدو أنها تقدم بعدًا قانونيًا: فقد دفعت القانون الدولي نحو توسيع حدوده، وفتح الباب أمام ضوابط معيارية جديدة، مثل تنظيم السوق، والقانون الاقتصادي الدولي، وحماية البيئة، والاتصالات السلكية واللاسلكية، وبكل تأكيد حقوق الإنسان، هذه الظاهرة تشكل بعمق السياق العالمي الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الجديد. في هذا السياق، تكتسب الجهات الفاعلة الجديدة – مثل المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية والشركات متعددة الجنسيات – اعتبارًا جديدًا في العلاقات الدولية. الأبعاد التي يلعبون فيها الدور الأكثر نفوذًا هي قانون الاقتصاد الدولي. حيث يُسمح لهم بإبرام اتفاقات مع مؤسسات دولية مثل منظمة التجارة العالمية أو العمل كرديفٍ للمحكمة في إجراءات تسوية المنازعات -وقانون حقوق الإنسان- إنهم يعملون على توجيه القرارات المتعلقة بالمواضيع الدولية، على سبيل المثال، استخدام مؤسسات دولية من الداخل (كمراقب) لتحقيق أهدافهم. حتى عندما لا يتم الاعتراف رسميًا بهم كمطبقين للقانون الدولي، إلا أن هذه الجهات الفاعلة الجديدة قادرة على توجيه ديناميات العلاقات فوق الوطنية وكذلك المساهمة، بطريقة فاعلة غير مباشرة، لإنتاج وتدويل المعايير الدولية.
    تهدف الفقرات الآتية إلى تحليل عواقب مثل هذا الإطار الجديد على البعد الثقافي، مع التركيز بشكٍل خاص على الهوية الثقافية في العالم الرقمي.

أ- البعد الإقليمي من منظور الجهات الفاعلة الجديدة: فقدان العنصر الإقليمي؟
كنتيجٍة للأهمية المتنامية للجهات الفاعلة الدولية الجديدة، يتم تكريس التراجع (الجزئي) للسلطة الاقتصادية والسياسية للجهات الفاعلة الحكومية. والواقع أن الدول الآن تتشاطر قدرتها على رعاية المصالح العامة مع جهات فاعلة غير حكومية للوصول إلى أهدافٍ مشتركة وفي الوقت نفسه، يتأكّل وزنها الاقتصادي تدريجيًا من قبل الشركات متعددة الجنسيات. إضافة إلى ذلك، تشارك الدول الآن سلطتها (الدولية) في سن القوانين مع تلك الجهات الفاعلة. كنتيجة للتنازل الطوعي عن جزء من أهليتهم الحصرية للمنظمات الدولية (IOs) من جهة، وبسبب المساهمة غير المباشرة للجهات الفاعلة الخاصة،من جهة أخرى، فإن إطار العمل الجديد (العابر للحدود) يجعله أكثر قدرة على التأثير في الأنظمة القانونية الوطنية بشكٍل متزايد، والتي تكون في نفس الوقت قابلة للإنفاذ عن طريق المدخلات عبر الوطنية.
وفقًا لبعض العلماء، فإن ظهور هؤلاء الفاعلين الجدد يضع الإطار الكامل للمصادر الدولية موضع شك، يُعتقد أن مصادر القانون الدولي هي من صنع الدول حصرًا. لكن مشاركة جهات فاعلة جديدة يدعو بشكلٍ راهن إلى التساؤل عما إذا كان هذا التمثيل لا يزال يعكس إطار القانون العام الدولي.
توضح المعطيات التي ذكرناها بأن الدولة مجبرة على التعامل مع التدفقات التي تعبر الحدود الوطنية ومجبرة أيضًا على التواصل مع الجهات الفاعلة غير الحكومية، حتى لو كانت قادرة حتى الآن على الحفاظ على دورها الأساس في ضمان الأمن القانوني ونظام السوق والتوازن المحلي. تؤثر نفوذية الأنظمة القانونية الوطنية، وزيادة السياقات عبر الوطنية وعدم تجانس الجهات الفاعلة المشاركة في الحكم المعاصر على سيادة الدولة. في الواقع، نحن نساعد في الانتقال من البعد الإقليمي البحت لصالح مجال يتسم بالمفاوضات المتعددة والشاملة الضرورية، والتي “[…] تتجاوز قدرة الدولة الحديثة على السيطرة”. فقد أوضح بعض المؤلفين أن الدول الحديثة -وإن كانت بعيدة عن أن تحل محلها جهات دولية فاعلة- لا يمكن وصفها وفهمها، من دون النظر في السياق العالمي الذي يتم تعريفها به: لا تزال الدول هي المحاور المفضل، لكنها تحدد نفسها ببعد لا يعدو كونه إقليميًا.

ب- التكنولوجيا الجديدة وتدفق الأنماط الثقافية
إن التراجع التدريجي للبعد الإقليمي والأهمية المتنامية للدور الذي تلعبه الجهات الفاعلة الجديدة يؤدي إلى تغيير المنظور لصالح نهج أكثر شمولًا. يجد هذا المنظور الجديد مبرراته عبر وعي التفاعلات متعددة المستويات بين أبعاد الجغرافية-السياسية، والجغرافية-الاقتصادية، والجغرافية- الثقافية. في الواقع، يعد تدفق الأنماط الثقافية ضروريًا الآن لفهم العلاقات الدولية المعاصرة. إنه ينتج تأثيرًا متبادلًا على الأبعاد الأخرى للإطار الجديد “العابر للحدود”، مما يؤثر (ويتأثر) بحركات السوق وتدفق الأنماط الاجتماعية والاتجاهات السياسية والاستجابة المعيارية على تلك الظروف وفق تقنية “تأثير الدومينو”.
يتم تدفق الأنماط الاجتماعية والثقافية عادةً بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT)، التي يلعب الإنترنت فيها دورًا رائدًا. على الرغم من أن 60 في المئة من السكان ليس لديهم خط هاتف و40 في المئة يفتقرون إلى الكهرباء، فإن سهولة الوصول السمة الأهم التي يتسم بها الإنترنت تجعله عاملًا مثاليًا لتيسير الاتصالات، إضافة إلى توفيره مساحة مميزة للقاء الأنماط المتنوعة.
تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تجعل الاتصالات أسرع وأكثر عشوائية: أي شخص يمتلك الوسيلة اللازمة، يكون قادرًا على الاتصال بأي مستخدم آخر للوسيلة، ومن ثمّ، نشر الأنماط الثقافية ومشاركتها بغض النظر عن القرب المادي. وبذلك تصبح الاتصالات أداة متعددة المهمات لتبادل الخبرات: فهي تحصل على المعلومات وتجمعها، ولكنها في الوقت نفسه قادرة على تحويل تلك المعلومات إلى معرفة ونشرها. لتصبح، إذًا، أداةً مفيدة لتعزيز التعليم.
وبوصف هذه التكنولوجيا وسيلة تتيح للمرء أن يعبر عن فكره بنفسه وينتشر عبرها. إذًا، يجب ضمان الوصول إلى هذا المورد القوي وذلك وفقًا لحرية التعبير وكنتيجٍة طبيعيٍة للحق في التعليم وتبادل المعلومات والمعرفة.
وهكذا، يصبح الويب مجال تبادل مستمر للأنماط الثقافية التي تتجاهل الحدود الجغرافية والزمنية. لذلك، نرى في الوقت المعاصر كيف تتحرر العلاقات الاجتماعية والثقافية من البعد المادي والإقليمي، وتعيد تشكيل مجالات التفاعل، ومن ثمّ، تطلب إعادة النظر في دور (وسلطة) الفاعلين (وليس فقط “الموضوعات”) المعنية.
بالفعل، فإن آليات تكنولوجيا المعلومات الملائمة تسمح لأي شخص بالوصول إلى المساحة الهائلة للساحة الرقمية، حيث يمكن مشاركة أي نوع من المعلومات والكشف عنها واستيعابها. الإنترنت هو أكثر من مجرد أداة لنشر المعلومات: فهي تنشر أيضًا الأيديولوجيات والعقائد وطرق الحياة والرموز والتوجهات السياسية والنماذج الاقتصادية وما إلى ذلك من السفر إلى الجانب الآخر من العالم.
من وجهة النظر هذه، يبدو الإنترنت مثل “الأرض الموعودة” للتنوع الثقافي: حيث يبدو أن كل شخص يتمتع بحرية التعبير عن هويته، وكذلك حرية إنشاء هوية جديدة، معرّفًا عن نفسه بنموذج معين وجده بفضل الويب. تنبثق هوية ثقافية جديدة من هذا السيناريو، وتبدو “جديدة” إذا ما قورنت مع “الكلاسيكية”. بعد ذلك، ينسب بعض المؤلفين هذه الهوية “الرقمية” إلى “الثقافة المفرطة نتيجة العولمة”.
والواقع أن “الهوية الرقمية” المكتسبة على الإنترنت لا ترتبط بماضٍ مشترك أو تقاليدٍ مشتركٍة أو عاداتٍ محليٍة تسمح لمجموعة معينة من الأفراد أن تعتبر نفسها عضوًا في وحدة اجتماعية محددة. وليست مرتبطة أيضًا حتى بمشاعر هوياتية تخص دولة مشتركة أو منطقة جغرافية معينة. بل هي حرة تمامًا من أي معطيات مادية. الهوية الثقافية التي تأتي من الإنترنت ليس لها ماٍض، ولا تقاليد، ولا أخلاق: إنها تستند إلى مشاركة النماذج الرمزية التي يتعرف إليها مستخدمو الإنترنت ويتبنونها.
إن التقليل من أهمية العنصر الإقليمي الذي يميز العلاقات الدولية المعاصرة يصل إلى أقصاه عندما ننظر إلى البعد الثقافي “على الإنترنت”. عند النظر إلى بُعد الإنترنت، يمكننا التعرف إلى السمات نفسها التي تميز هذه العلاقات: من بين أمور أخرى، يكون تفاعل الجهات الفاعلة المختلفة (والجديدة) هو الأكثر وضوحًا.
حتى لو لم يكن هذا هو المكان الملائم للتعمق أكثر في مسألة إدارة الإنترنت، فلا يمكننا تجاهل طبيعة الإنترنت: في الواقع، إنه المثال النموذجي لتفاعل السلطة الخاصة والعامة (أو بشكل أفضل سلطة الدولة). يخضع الإنترنت للمنطق الاقتصادي والسياسي نفسه الذي يوجه أي وسيلة إعلام، ما يجعلها قابلة لسوء الاستخدام بشكلٍ قوي. تدفع “الثقافة المفرطة” الجديدة عقوبة سوء الاستخدام هذا: ليصبح الإنترنت حينئذ “الأرض الموعودة” للتنوع الثقافي، لكن، إضافة إلى المعوقات التي تحول دونها أيضًا. إن خطر التجانس الثقافي ليس مجرد خطر نظري. فمثلًا يمكن أن يصبح -وبسهولة- تداول الأنماط التي لا تُعنى بالاهتمامات الثقافية توحيدًا للمحتوى.
وهنا بالضبط نجد تبرير النداءات التي تستجدي ردة فعل للمجتمع الدولي.

ج- رد الجهات الفاعلة الدولية للتحديات الجغرافية الثقافية
يحاول المجتمع الدولي الموازنة بين آثار البعد الثقافي (الرقمي) الجديد مع اعتماد وتعزيز برامج محددة للحفاظ على التنوع الثقافي، حتى في البعد الرقمي.
ومن الأمثلة على ذلك الجهد، تعدّد الحملات التي تروج لها اليونسكو للحفاظ على التعددية اللغوية على الإنترنت. ففي ختام اتفاقية التراث الثقافي اللامادي لعام 2003، اعتمدت اليونسكو، في تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه، التوصية المتعلقة بتعزيز التعددية اللغوية واستخدامها وتعميم الوصول إلى الفضاء الإلكتروني. تشير هذه الوثيقة صراحةً إلى المواثيق الدولية الرئيسة التي تحمي حقوق الإنسان (HRs)، مع الاعتراف بأن “[…] التنوع اللغوي في شبكات المعلومات العالمية والوصول الشامل إلى المعلومات في الفضاء الإلكتروني هما جوهر المناقشات المعاصرة، ويمكن أن يكونا عاملًا حاسمًا في تنمية مجتمع قائم على المعرفة […]». لهذا الغرض، تعمل اليونسكو على إعداد نظام تدخل منظم على أربعة مستويات مختلفة: تطوير محتوى ونظم متعددة اللغات؛ تسهيل الوصول إلى الشبكات والخدمات؛ تطوير محتوى المجال العام؛ التوازن بين مصالح أصحاب الحقوق الخاصة والمصالح العامة.
تحث التوصية الدول الأعضاء على اتخاذ جميع “[…] الخطوات التشريعية أو غيرها من الخطوات المطلوبة لتفعيل القواعد والمبادئ […] داخل أراضيها وولايتها القضائية” التي تعددها “[…] وتوصيهم بتوجيه الأمر للسلطات والدوائر المسؤولة عن الأعمال العامة والخاصة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات […]». على كل دولة عضو أن تحيل إلى المنظمة نتائجها التي سيتم استئنافها في تقرير موحد.
لم يتم استنفاد جهد اليونسكو بشأن هذا الموضوع في سياق واحد من هذه التوصية: تسعى المنظمة لتعزيز الدراسات والفاعليات وورش العمل بشأن رصد مستوى التعددية اللغوية عبر الإنترنت طوال العقد المقبل. في الواقع، تؤمن اليونسكو بالعلاقة المباشرة بين التعددية اللغوية على الإنترنت وخارجها: فاللغات التي تسجل حضورًا كبيرًا على الويب ستكون عندئذٍ متجذرة بشكلٍ كافٍ في أحد المجتمعات (المادية)، ومن ثمّ، يمكنها تلبية حاجات الهوية.
في محاولة لإغناء هذه القضية، تبحث اليونسكو عن تعاون الجهات الفاعلة والمشاركة في إدارة الإنترنت، وقد وقعت في ديسمبر 2009، اتفاقية تعاون مع ICANN (شركة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة) ثم تبع هذه الاتفاقية في عام 2010 (خطاب نوايا) بغرض تقديم المساعدة لمستخدمي الإنترنت الذين من الدول السيريلية.
أعقب الوثيقة الثانية، سلسلة من التقارير بما في ذلك نتائج ست حالات لغوية حللتها المنظمتان: العربية والصينية والسيريلية والديفاناغارية واليونانية واللاتينية.

  1. الاستنتاجات
    يشير التحليل الذي عرضناه إلى ظهور شرخٍ كبير بين البعد المادي الملموس والبعد الرقمي. يبدو أن الهوية الثقافية كما يصفها القانون الدولي لا تريد أن تفعل شيئًا مع الهوية شديدة الثقافة أو مع المعولمة منها ولا مع العولمة. هذه الأخيرة عرضة للانتشار الأسرع، وتصل إلى سياقات لم تكن تنتمي إليها أبدًا، فهي تضع أفرادًا على اتصال مع أفراد ليس لديهم تقارب اجتماعي أو أخلاقي أو تاريخي أو إقليمي، وعلى الرغم من ذلك، فإنهم جميعًا يرون أنفسهم ينعكسون في النموذج الهوياتي نفسه. ومن ثمّ، يبدو من الصواب التساؤل عن طبيعة هذه الهوية، وقبل كل شيء، عن علاقتها بالهوية “التقليدية” التي يربطها القضاة الدوليون – مؤخرًا – بالتقاليد والعادات والماضي واللغة والأقاليم المشتركة. لقد أدرك المجتمع الدولي على الفور إمكانات وخطورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. لقد حاول، إذًا، الحفاظ على الهوية الثقافية نفسها التي تربطها بالقيم التي تم تعدادها والتي تمثل الهوية الوحيدة التي يعترف بها، حتى عبر الإنترنت. ومع ذلك، لا يمكننا إنكار التطور المستمر لهذا الواقع الجديد “المفتوح” و”اللامحدود”، الذي يتميز بكونه – مزيجًا من المجالات المختلفة؛ تداخل التخصصات التي يبدو أنها ليست ذات صلة والتي على العكس من ذلك، تنتج آثارًا متبادلة في هذا السياق العالمي؛ إن مشاركة الجهات الفاعلة التي (حتى الآن) لا تتمتع بالاعتراف الدولي الكامل – ستستمر في التأثير في البعد الثقافي مهما كان جهد المجتمع الدولي للحفاظ على الخصائص التي اعتمدها القانون الدولي من دون تغيير.