تأملات في كتاب قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1976-1992 (راتب شعبو)

تأملات في كتاب قصة حزب العمل الشيوعي في سورية 1976- 1992؛
فصل من تاريخ اليسار السوري
للكاتب راتب شعبو

مراجعة: نصار يحيى

اسم الكتاب: كتاب قصة حزب العمل الشيوعي في سورية 1976- 1992؛ فصل من تاريخ اليسار السوري
المؤلف: راتب شعبو
الناشر: دار المرايا، مصر
تاريخ النشر: شباط/ فبراير 2020
الطبعة: الأولى
الأبعاد: 24/17 سم
عدد الصفحات: 296
الرقم الدولي (ISBN): 978-977-6648-62-3

مقدمة
كتب الصديق راتب شعبو على صفحته الشخصية، مباشرة بعد صدور كتابه (قصة حزب العمل الشيوعي في سورية) في 7 شباط/ فبراير 2020: “أخيرًا صدر كتابي، الكتاب الذي استهلك كثيرًا من الجهد والوقت، عن التجربة التي لم تأخذ نصيبها من الدراسة”. وسوف نجد في مستهل الكتاب: “الكتابة عن تجربة سياسية مهزومة بالقمع، وتوثيق هذه التجربة هي مساهمة في حمايتها من الضياع.. فيما تذهب إلى العدم رواية المغلوبين ونسختهم من التاريخ، من الإنصاف للتاريخ والأجيال القادمة أن يتولى المغلوبون روايتهم أيضًا”.
الانحياز لرواية المغلوبين وصوتهم الغائب، كان الدافع لإنجاز هذا الكتاب عن تجربة رابطة/حزب العمل الشيوعي، التجربة التي تعرضت بعد أشهر وجيزة من إعلانها لحملة اعتقال شرسة (حملة آذار/ مارس 1977)، التجربة التي تحكي عن فصل من تاريخ القمع والديكتاتورية لنظام لم يستثنِ أحدا من معارضيه. 
يقف الكتاب في مقدمته التاريخية، عند هزيمة حزيران 1967، هزيمة النظامين الشعبويين الناصري والبعثي، ومشروعهما الانقلابي الثوري، “بوصفها الصدمة الكبرى، التي خلفت ارتدادات سياسية في سورية، من بينها نشوء ظاهرة الحلقات الماركسية”.  
علينا أن نعترف في البداية، أنه من الصعوبة بمكان التأريخ لتجربة سياسية سرية معارضة، مثل تجربة الرابطة والحزب، بسبب القمع المعمم الذي يفقدها كثيرًا من الوثائق المكتوبة، وبحالة الحزب هناك نقص في التدوين أيضًا مثل غياب محاضر الجلسات خاصة للمؤتمر التأسيسي الأول (أب/ أغسطس 1981). إلا أن الكاتب استطاع أن يحصل على أرشيف جيد للتجربة (كراسات الخط الاستراتيجي، أعداد الجريدة السياسية “الراية الحمراء” كاملة، إضافة إلى البرنامج السياسي الانتقالي والاستراتيجي المقدم للمؤتمر التأسيسي، إضافة إلى وثائق الاجتماعات الموسعة)، ما جعل الكتاب يحمل كثيرًا من المصداقية التوثيقية.
اعتمد راتب شعبو على كثير من “شهادات” الأشخاص الفاعلين، والكادر القيادي الذين كان لحضوره دورا رياديا في تجربة الرابطة والحزب؛ وعلى الرغم من أن “شهادات” المشاركين لا تخلوا من الانفعال هنا وهناك، وقد يتخللها نرجسية تُضعف – إلى هذا الحد أو ذاك- موضوعيتها، إلا أن القارئ لن يجد سردية تعتمد المظلومية، ولن يجد إحالة أحادية، فهناك كثير من الجهد البحثي في الكتاب للتقصي ومقاربة الموضوع مع الحفاظ على مسافة.
يهدي الكاتب كتابه “إلى المعنى النضالي لهذه التجربة الجسورة”. ولقد استوقفني الإهداء. فقد اعتدنا أن نرى في كلمات الإهداء الطابع الشخصي. ولم نعتد أن يُهدى الكتاب إلى تجربة كاملة. تجربة امتدت منذ لحظة انطلاقة الرابطة بشهر آب/ أغسطس 1976، حتى المسار الأخير قبل نعشها المسجى في شتاء 1992؛ وما شهدته خلال هذا الزمن من آلام طالت الأعضاء وأصدقاءهم، عداك عن عائلاتهم (حيث تراوحت مدد الاعتقال ما بين الخمس سنين بحد أدنى إلى ثماني عشرة سنة لبعضهم، خاصةً بعد عام 1980، كذلك استشهاد عديد منهم أيضًا، ومنهم من قضى تحت التعذيب).
وبعد اتضاح هذا المعنى يصبح الإهداء مفهومًا للقارئ، وتحديدًا حين يعلم أنّ الكاتب، راتب شعبو، من الأشخاص الذين دفعوا الثمن غاليًا في التجربة نفسها (ستة عشر عامًا في السجن، وذلك لانتمائه لحزب العمل الشيوعي). ودفعًا لأي التباس يقول الكاتب: “إذا كان كاتب هذه السطور، غير حيادي عاطفيًا تجاه تجربة الرابطة والحزب ، لأنه كان أحد عناصرها، دفع ثمنًا باهظًا من جراء انتمائه هذا ، فإنه سعى إلى أن يكون حياديًا من ناحية العقل والتحليل”.
وبدوري، لا أفكر في موضوع الكتاب من “الخارج”، فلقد كنت من التجربة، وكثير من مفردات الكتاب لازمتني قرابة العقد ونيف، بين انتماء وتخفٍ واعتقال ونقد التجربة والنص من داخل السور (السجن). وهكذا نتشابه كلانا مع “أوليس” ورحلته التي استنزفت عقدين من العمر بين الجحيم والأمل، كانت “إيثاكا” مدينته، طريق العودة (كافافي الشاعر اليوناني). فيعيدني “الكتاب” إلى مكان وزمان التجربة، بينما تمضي بين شظايا العمر، كما يعيدنا الحنين إلى “البيت الأمومي” حيث ولدنا، “وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا الأرضي”. وبهذه الروحية شرعت في تدوين تأملاتي في كتاب “قصة حزب العمل الشيوعي في سورية 1976- 1992” دون خطة مسبقة، ودون أن أتقصد أن تكون قراءة في كتاب، أو نقدًا فكريًا سياسيًا منهجيًا؛ فقد أردتها مشاركة في حديث افتتاحي لدخول الرابطة/الحزب في التاريخ بعد طول إقصاء.

تأصيل الأصول واستلهام “السلف الصالح”
ينوه الكاتب من بداية التعريف بتجربة الرابطة/الحزب، أنها جمعت بين ميلين: 1- الميل إلى تأصيل الفهم الماركسي للواقع والعودة إلى الأصول “ماركس – لينين”، كما يظهر في كراسات الخط الاستراتيجي . 2- الميل إلى الفعل وفرض الذات. وهذا الميل جعل الرابطة هدفا لحملات قمع متواصلة، واجهتها التجربة بفروسية وبروح متحدية، كانت أكبر من قدرة الجسد على التحمل.
وهو تأصيل سائد في المرجعيات الإيمانية “الدينية خاصةٍ”، حيث يتم استلهام “السلف الصالح”. بالإضافة إلى أنه كان سمة عامة في اليسار التقليدي، أي الحركة الشيوعية الرسمية بمفرداتها المتعددة، إن كانت تلك التي بقيت متقيدة بـ “الكهنة وحراس المعبد”، من “الخبراء السوفيات” وتلامذتهم العرب، أو تلك التي نحت منحى بدا أقل انقيادًا للسوفيات كما فعلت ظاهرة “الشيوعية الاوربية” وبعض تداعياتها في المنطقة العربية، حيث لم يكن أمام هذا اليسار إلا الإيغال أكثر في النص، بنشوة انتصاراته الأولى (النموذج البلشفي اللينيني).

أهمية السجن بوصفه مكانًا للتأمل والمراجعة
يهتم الكاتب بمحنة الاعتقال للرابطة/الحزب، خاصة أنّ هذه التجربة لم تسترحْ إلا قليلًا خارج جدران السجن، فيقول: “ليس مفاجئًا أنّ الخلافات الداخلية بين رفاق الحزب الواحد، وجدتْ بنيتها المناسبة للظهور في السجون، فالسجون على الرغم من قسوتها أعطت للمعتقلين فرصة التأمل والمراجعة. لكن لا بد من إضافة أنّ السجن ليس مكانًا طبيعيًا لتبلور الخيارات السياسية الحرة”، ثم يضيف إن لأوضاع السجن دور قسري في تحديد الموقف والرأي السياسي للأشخاص.. “.
تمرّ في الذاكرة آلاف التفاصيل السريعة لأمثلة تصدق هذا الرأي، في بيئة كان من السهل فيها رشق الناقد (الرفيق السجين) بالحجارة تحت العنوان المألوف وهو الرخاوة النضالية، مضافا إليها السؤال الزاجر المعروف: “لماذا الآن؟”
لكن للزمن حيله التي تمكنه من تجاوز عوائق الفكر كهذه، فالاعتقال المديد، الذي قد يبدأ بحد أدنى خمس سنوات ولا ينتهي بخمس عشرة أو ثماني عشرة سنة سجن، يتيح للمعتقل، وربما يجبره، على التأمل الشخصي للدرجة التي يصبح السجن المكان الأكثر نضجا لمجمل الآراء، بما فيها تناول قدسية “الأصول”. السجن هو المكان الذي يتيح لك ممكنات التفكير إن أردت وعملتَ على ذلك، خاصة بتوفر الكتاب خارج “البرنامج التثقيفي الحزبي”.

وضمن التسلسل الزمني لتاريخ الظاهرة (الرابطة/الحزب)، تنطلق المحطات تباعًا:

الحلقات الماركسية
يقول راتب: “نشأت الحلقات الماركسية تحت ضغط الهم الوطني، أكثر مما تحت ضغط الهم الاجتماعي. خاصةً بعد هزيمة المشروع الحاكم “التقدمي”، هزيمة حزيران 1967..” ص13.
يلفت الانتباه إلى غياب السؤال عن إن كان “الهم الديمقراطي” من بين أسباب النشوء، على الرغم من أنّه سيرد في الكتاب لاحقًا اقتباس عن لا ديمقراطية تلك الأنظمة (أنظمة البرجوازية الصغيرة بمفردات الحلقات آنذاك)، حيث يقول: “كانت الهزيمة بسبب جبن البرجوازية الصغيرة ولا ديمقراطيتها”. يخطر بالبال ديمقراطية أخرى غابت عن النص، تلك كانت تطرح في اليسار آنذاك تحت عنوان “الديمقراطيات الشعبية” أو “الديمقراطيات الثورية”، حيث كان الاعتقاد كما هو السلف “الماركسي اللينيني”، أن البروليتاريا وأحزابها هي وحدها المؤهلة تاريخيًا لهذه الديمقراطية.
وإذ تغيب الديمقراطية يحضر ضدها، وهكذا تحضر “الضرورة التاريخية” في نشأة الحلقات الماركسية على الضد من الديمقراطية، فنقرأ في الكتاب: “وإذا كان الواقع المهزوم ذا لون قومي.. فسوف يتخذ رفض هذا الواقع منحى إسلاميا إلى اليمنين، أو منحى ماركسيا إلى اليسار، ذلك أنّ الخانة الماركسية كانت البيئة الوحيدة الملائمة لمن ضاقت بهم تلاوين الفكر القومي المهزوم” ص14.
وضمن هذا المسار نظرت الحلقات الماركسية إلى نفسها على أنها “ظاهرة موضوعية”، بمعنى أنها استجابة لضرورة تاريخية، وهكذا حاولت التعبير عن نفسها. والسبب هو، بحسب المألوف في الخطاب الماركسي – اللينيني آنذاك، غياب الحزب الثوري، وما تمثله الحركة الشيوعية المحلية بفرعيها /بكداش، رياض الترك، ليس إلا تناوب بين الانتهازية اليمينية (بكداش) والإصلاحية (المكتب السياسي رياض الترك).
يعودني، وأنا أقرأ في هذا الموضع، كيف كان الرفاق مخمورين بحلم وصولهم إلى “المدينة الفاضلة” عابرين المأثور التقليدي اليساري، متجاوزين اجترارًا ألفته الأحزاب السائدة آنذاك، مستفيدين من أوضاع اعتقدوها مواتية، فيشير الكاتب إلى أن من “بين الأسباب التي ساعدت في نشوء ظاهرة الحلقات، انتشار الفكر الماركسي في سورية، بسبب الانفتاح الذي أبدته السلطات البعثية (حكومة 23 شباط)، على الفكر اليساري العالمي…”.
وبهذا الموضع لا ينسى الكاتب ذكر الحلقات وأماكن وجودها، ثم الأعضاء المشاركين، والانتقال من الحالة المناطقية إلى الحالة المركزية، مع التوضيح لسلسلة الاجتماعات الموسعة الثلاثة، بحسب تسمية الحلقات، في الأعوام 1974، 1975، 1976. فتزدحم الوجوه والأمكنة في مخيلتي…

رابطة العمل الشيوعي
بدأ خريف 1976 بعد صيف دمويٍ ملتهبٍ (انطلاقة الرابطة، مغادرة الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي جبهة النظام ومجلس “شعبه”، إعادة لملمة تنظيم 23 شباط بعد اعتقالات آذار من العام نفسه) في سورية. أما الوضع الفلسطيني وتداعياته، فقد بدأ يتسارع بالتشظي، خاصةً بعد حطام تل الزعتر، تزامنا مع الوضع القلق للحركة الوطنية اللبنانية وحليفتها الفلسطينية.
كان الصدى يتردد في أعماق الذات الجمعية، إنه النزيف الفلسطيني، استبطانا للنزوح النرجسي للذات النضالية العربية، كما الأنا عند المحلل النفسي الفرنسي (جاك لاكان)، في سعيها الدائب لتشكيل (أنا) مثالية.
تظهر الرابطة مع شهر آب/ أغسطس بجريدة سياسية (الراية الحمراء) الناطق السياسي للمنظمة الوليدة. سوف تغدو هذه الجريدة علامة فارقة في اليوميات السياسية المتعارف عليها، على صعيد المواجهة مع السلطة السياسية، أو العلاقة مع الطيف السياسي الموالي والمعارض.

في العلاقات التنظيمية الداخلية (الهامش الديمقراطي النسبي)
من الأهمية بمكان وتأكيدًا لما جاء في الكتاب الذي نتناوله، قدمت الرابطة مثالًا فريدًا في الساحة السورية، من حيث العلاقات التنظيمية والنظام الداخلي، الذي تميز بالقيادة الجماعية فعلًا لا قولًا، ثم، وهذا هو الأهم، مجلة (البروليتاري) التي كانت منبرًا داخليًا، شكلت حالة ما من الندوة البرلمانية الديمقراطية، تعكس الآراء السياسية المعارضة التي لها تحفظات هنا أو هناك. مثلًا بين عامي 1980-1981، وهي المرحلة التي شهدت تقرير آب/ أغسطس (سوف يتم التطرق إليه بالفقرة التالية) أو مشروعات المؤتمر التأسيسي الأول أيضًا المزمع عقده في شهر آب/ أغسطس 1981، استطاعت (البروليتاري) أن تكوّن المنبر الحر الحقيقي لكلتا وجهتي النظر.
حاولت تجربة الرابطة – الحزب تأسيس عاداتها بالتمايز عن كل المأثور السياسي عالميًا ومحليًا، ولا سيّما في غياب منصب الأمين العام (مشروع الزعيم الطاغية الذي يَسألْ ولا يُسألْ). لا شك أنّ هذا النمط الجديد لاقى صعوبات لجهة تحقيقه بالشكل الأمثل، حيث حملات الاعتقال المتتالية بما تعنيه من استنزاف الكادر الرئيس، فكان من الطبيعي أن ينبري للقيادة الأكثر حضورًا وأوفر حظًا في النجاة من قبضة الأمن.

رفع ثم تجميد شعار إسقاط السلطة
يستطرد الكتاب، بروح نقدية صحيحة، في توضيح مدى التهافت النظري، والسذاجة المفهومية العامة، لطرح شعار “إسقاط السلطة”، قبل تقرير آب 1980. ويوضح عدم التمييز بالطرح بين الشعار التكتيكي القابل للتنفيذ الفوري، وفق موازين قوى تفرض نفسها على الأرض، وبين أن يكون شعارًا للتعبئة الاستراتيجية (مهمة دعاوية برنامجية تعبر عن الثورة الاجتماعية المنشودة)، وكيف أنه أحيانًا أخرى استبدل بشعار إسقاط الدكتاتورية البعثية، وشعار إسقاط سلطة الطبقة السائدة لبناء جبهة شعبية متحدة.
هذا القلق في الشعار سوف يتوقف مع تقرير آب/ أغسطس، حيث نجد استفاضة بالمسوغات والأوضاع التي أدت إلى شعار إسقاط السلطة.

تقرير آب/ أغسطس: الاضطراب
“التقرير عبارة عن 24 صفحة، تقدمت به لجنة العمل (بمنزلة المكتب السياسي عند التنظيمات الاخرى)، أقرته الهيئة المركزية (اللجنة المركزية) بالأغلبية، وهو التقرير الوحيد الذي جرى توقيعه بأغلبية الهيئة المركزية، للدلالة على وجود رأي مغاير ضمن الهيئة نفسها، قبل أن ينشر ويعمم …” ص88.
ولقد استفاض التقرير بالعوامل والأوضاع الموضوعية التي حملته على رفع شعار إسقاط السلطة:
“إننا لم نأخذ في حينه، إمكانات الرجعية المحلية التقليدية، إمكانات تصعيد طرق ووسائل حلها لصراعها مع النظام، وكانت الحركة الوطنية السورية أقل تمزقًا وتشرذمًا، ما كان يسمح لنا بالأمل والعمل لأن نكون قطبًا ثالثًا … فلا نرى الآن أنه يجب علينا أن نساهم في إسقاط هذه السلطة لحساب البرجوازية التقليدية”.
وسوف تبرز كلمة مفتاحية في جملة واحدة: “الجذر الثوري والمد الرجعي في كامل المنطقة العربية”. تم تجميد الشعار، واستعيض عنه: بدحر الحلف الرجعي الأسود، ودحر الدكتاتورية والظفر بالحريات السياسية”.
قدم الكاتب بعض الانتقادات، وهي محقة، وأضاف إن هذا التقرير لم يجلب إلا سوء الفهم، وقد عده كثيرون إشارة واضحة إلى أن الرابطة بدأت خطواتها الأولى في الاقتراب من “جوقة” النظام وجبهته.
لم تأت الانتقادات من أطراف صديقة (التجمع الشيوعي الثوري في لبنان) فقط إنما من داخل التنظيم أيضًا، حيث هددت منظمتا دير الزور والسلمية بمغادرة التنظيم، وقد حصل ذلك مع بعض الحالات.
كان موقف التجمع الوطني الديمقراطي الذي بدأ بالحضور، خاصةً بعد بيانه اليتيم في آذار/ مارس 1980، تحريضيًا للأعضاء في صفوفه وصفوف الآخرين. علمًا أنّ ذلك الموقف أخذ طابع “الثرثرة، والسير في الأزقة الضيقة”، أقصد كما هي العادة، غياب أي كلام أو موقف مكتوب ذي أهمية.
لجأ تقرير آب/ أغسطس 1980 إلى التراث البلشفي كي يقنع “الرفاق” قبل الآخرين حول أهمية مقاربته “التاريخية” بين الأسوأ (السلطة الأسدية) والأشد سوءًا أو الأكثر خطرًا على المجتمع والوطن (الحلف الرجعي الأسود).
ثورة شباط/ فبراير الروسية 1917 التي أطاحت القيصر، وتشكّل في إثرها حكومة كيرنسكي ممثلًا عن الديمقراطيين الثوريين. تعرضت لمحاولة انقلابية من الجنرال كورنيلوف في شهر آب/ أغسطس من العام نفسه (عودة للقيصرية)، حينها وقف لينين وقال كلمته الشهيرة، إننا سنقف مع كيرنسكي ضد الجنرال كورنيلوف.
وبهذا المثال توضح ما يحاول التقرير “استلهامه”: حافظ الأسد يمثل كيرنسكي، بينما يمثل عصام العطار (كان حينها رمز حركة الإخوان المسلمين) الجنرال كورنيلوف. لذلك من الطبيعي أننا سنقف مع الرئيس ممثلًا عن البرجوازية البيروقراطية والديكتاتورية التي تقف حجر عثرة أمام المشروع التسووي الإمبريالي الرجعي (الحلف الرجعي الأسود وضمنا عصام العطار)، بما يعني ذلك إعادة السلطة إلى البرجوازية التقليدية وهكذا دواليك، حيث الصعود المحتمل للفاشية الدينية.

تجري الرياح بما لا تشتهي “الرؤى والتراث”
على الأرض لم يتجسد فعلًا “كورنيلوف” سوري (العطار)، لذلك شهدت تلك المرحلة حالة من الفصام بين التقرير والخطاب السياسي للرابطة بالعموم (الراية الحمراء، مجلة الشيوعي، وأخيرًا البيانات السياسية) حيث سنسمع، ونقرأ، اللغة السياسية التي كانت قبل التقرير. من حيث التركيز على الطبيعة اللاوطنية والدكتاتورية للسلطة، مع عدم النسيان أنّ هناك سمات طائفية. وكان ذلك يعني بداهة الاستمرار بفتح المواجهة والتصعيد مع السلطة (النظام الأسدي)، يعني ذلك أيضًا استمرار حملات الاعتقال.
إذا حاولنا الآن قراءة تلك المرحلة ضمن سياقها وبعدة معرفية مختلفة، سنجد أنّ التقرير وتداعياته غرقَ في النص، على العكس مما تقوله الرابطة تكرارًا: التحليل الملموس للواقع الملموس. فقد ركن لحالة طبقوية متخيلة تفترض وجود شريحتين تنتميان إلى الطبقة البرجوازية الكبيرة (البيروقراطية، التقليدية):
1- برجوازية البيروقراطية تألفت تاريخيًا مع صعود البرجوازية الصغيرة إلى السلطة (انقلاب آذار 1963)، من خلال القطاع العام الذي تحول إلى قطاع دولة، كبقرة حلوب لهذه الشريحة.
2- وأخرى تقليدية هُزمتْ تاريخيًا، بعد الانفتاح الاقتصادي وتدفق أموال النفط بعد حرب تشرين 1973، بدأت البرجوازية التقليدية تستعيد بعض مواقعها، ممثلة بكبار التجار وبعض الكومبرادور (أصحاب الوكالات الأجنبية). عند لحظة الاصطدام العنفي لحركة الإخوان المسلمين والنظام، بين عامي 1979-1982، حاولت هذه الشريحة ركوب الموجة (وفق ما يرى التقرير) بمعنى حلم العودة لاستلام السلطة السياسية (ترتيب البيت الداخلي)، لكن ليس بتمثيل سياسي مباشر، إنما بالوساطة عبر التحالف مع الإخوان المسلمين وامتداداتها الرجعية العربية (الحلف الرجعي الأسود).
وفي هذا الخطاب نجد “القولبة الذهنية”، أو (سرير بروكست)، كمسطرة قياس انطلقتْ من صورة ذهنية مجردة حاولت الاستنباط من المأثور الماركسي (وفق صيرورة الصراع الطبقي)، وعلى قاعدة فقهية إسلامية “قياس الغائب على الشاهد”.

الحوار المستعصي بين الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) والرابطة – حزب العمل الشيوعي، أو “العلاقة المريضة” بتعبير المؤلف
يروي الكاتب بعض الشهادات على لسان فاتح جاموس، العضو القيادي في الرابطة – الحزب، تضمنت أن الرابطة سعت بعد تأليفها إلى إقامة حوار مباشر مع قيادة الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، لكن دون جدوى. وأن الامتناع والصد كان دائما يأتي من قيادة الحزب (المقصود هنا رياض الترك شخصيًا). ومما ورد فيها: “ناقشنا جديًا داخل قيادة الرابطة فكرة الانضمام إلى الحزب (المكتب السياسي)، ولم يكن ذلك بدافع الخوف من التوقف عن النشاط السياسي، وإنما يرتكز على رؤى سياسية محددة، تجلى ذلك بقبولنا شروط الحد الأدنى (الاكتفاء بإصدار نشرة داخلية، نستطيع من خلالها الحوار حول قضايا الخلاف) .

يبدو الكلام وكأنه قطعة من السجال السياسي الذي كان سائدًا في زمن الحدث، بينما اعتقد أنه بات من الواجب على الباحث، بل القارئ، العمل على إنتاج مقاربة تعتمد شهادة الطرفين، بالإضافة إلى دراسة منظومة التأسيس والتفكير التي كانت تنبني عليها المواقف، وثقافة الحوار عند كل منهما.
يخطر بالبال تشابه منظومة اليقين و”الفرقة الناجية” عند كل الأيديولوجيين، وهي إحدى أركان الإيمان غير المفكر بها عند معظم أصحاب الرسالات الأرضية. فعلى الرغم من أنّ (المكتب السياسي) يزعم خروجه على النص الأصلي بدلالة انشقاقه عن المركز (السوفيات ومندوبها الدائم خالد بكداش)، ومحاولة اقترابه من النسخة الشيوعية الأوروبية مع تعريبها عند بعض المفكرين الماركسيين العرب (إلياس مرقص، ياسين الحافظ)، إلا أنه ظل يعد نفسه الوريث الشرعي والثوري لحزب تأسس عام 1924، هذا يعني بداهة أن على الآخرين، حلقات أو مجموعات، أن تنتسب إليه دون شروط، وبشكل إفرادي ولسان حاله يقول: من هم هؤلاء الذين يحاولون إعطائي الدروس؟
بدورها الحلقات الماركسية، ولاحقًا عندما أصبحت “الرابطة”، بخاصة بعد تحولها إلى حزب سياسي (حزب العمل الشيوعي)، كانت ترى أن أهم مبررات وجودها غياب هذا الحزب الثوري على الساحة السورية. ومن اللحظات الأولى، رغم الرهان عليه، كانت تعد (المكتب السياسي) حزبًا إصلاحيًا ينحو منحى شعبويًا خاصة بعد مؤتمره الخامس (كانون الأول 1978)، ثم يبتعد شيئًا فشيئًا عن الماركسية- اللينينية، بأدوات تحليلها الملوسة والدقيقة.
إلا أن الحلقات/ الرابطة/ الحزب، في سياق تكونها كانت تتيح إمكانية طرح الأسئلة، مستلهمة أعلام ماركسية جديدة منها جورج لوكاتش، أنطوني غرامشي، ومدرسة فرانكفورت، إضافة إلى بنيويين ماركسيين مثل نيكوس بولانتزاس، التوسير، بل تجرأت على التعامل مع أفكار الاتجاه الأكثر تكفيرًا من الستالينيين وأقصد ليون تروتسكي وأمميته الرابعة.
إلا أنه سيتراجع منسوب القراءة مع الانخراط أكثر في المواجهة السياسية ومع حملات الاعتقال، لمصلحة الروح الكفاحية، الشرط اللازم للعمل السري.
أما القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال، كانت الموقف الضبابي بداية “للحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي” بين النظام الأسدي وحركة الإخوان المسلمين، خاصة بعد مجزرة المدفعية التي كانت بمنزلة ساعة الصفر للجناح الأكثر تشددًا (الطليعة المقاتلة) في حزيران 1979. ففي حين أن المكتب السياسي أعلن موقفه عبر رسالة داخلية خاصة بالأعضاء: إنّ من قام بالعمل ضابط بعثي (إبراهيم يوسف) وهو ضابط أمن الكتيبة المدفعية حيث وقعت المجزرة. عدت الرابطة هذا الموقف تمييعًا للحدث وعدم تسمية المجرم الحقيقي “الطليعة المقاتلة”، لغايةٍ في نفس يعقوب.
ذلك يعني أنه مع الصيف الدامي (1979)، وما تلاه، خاصة بعد تقرير آب/ أغسطس من الرابطة، ظهرت استحالة التفكير في الحوار بين الطرفين، بل أن محاولة الحوار تحولت إلى عداء صريح. الحال الذي سيزداد توترًا بعد وثيقة التجمع الوطني الديمقراطي، فالحزب الشيوعي السوري -المكتب السياسي سيظهر أنه الفاعل الرئيس في الصياغة الأخيرة (الكتاب قام بتفصيل هذا الجانب: ص 111).

اليقين عند الرابطة و”الفرقة الناجية”
يمكننا القول وتعقيبًا على الخلاف المستعصي بين الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي والرابطة/الحزب، أو بلغة الكاتب “العلاقة المريضة”، إنه خرج عن “الإخوة في المنهج” لمصلحة الإقصاء المتبادل.
ربما يقال هنا، كان على قيادة “المكتب السياسي” أن تغادر “المدرسة البكداشية” في تناول أي جديد أو اجتهاد خارج السرب، خاصة أنها تعرضت لكثير من الاتهامات عند أول مبادرة بالتفكير “خارج الصندوق” وذلك بين عامي 1969-1972. بينما على العكس من ذلك استمرت قيادة المكتب في رشق الاتهامات هنا وهناك دون الحجة والدليل، وأحيانًا كثيرة الإنكار الدائم حتى لوجود الظاهرة (الحنين للتفكير الاستبدادي – البيروقراطي يعتمد الفرمانات من الأمين العام).
لا يعني ذلك عدم ذكر أهم سمات التيار الجديد (الحلقات، الرابطة، الحزب)، الذي مارس السجال السياسي بامتياز (على النمط اللينيني)، وادعى أنه مصدر الحق والحقيقة. ولعله بدوره قد مزج اللينينية ببعد إيماني يستمد جذوره من لا شعور ديني -سياسي “الفرقة الناجية”، ما جعله يعتقد بأنه الوحيد القابض على الجمر. ممارسة تشبه بالعموم الأستاذ الملقن: إعطاء الدروس والنصائح وفق مبدأ ينبغي ويجب أن يكون.

المؤتمر التأسيسي الأول للرابطة وولادة حزب العمل الشيوعي
هو المؤتمر الوحيد للرابطة – الحزب، قبله كانت اجتماعات موسعة (ذكرت سابقًا)، وكان من المفترض أن يعقد مؤتمر ثان بعد أربع سنوات بحسب النظام الداخلي، لكن التنظيم تعرض لحملات اعتقال متتالية، وكانت الضربة شبه القاضية في 1987، فبقي هذا المؤتمر هو الوحيد.
استفاض راتب شعبو في كتابه، بالحديث عن التيارات السياسية التي تألفت في أثناء نقاش الموضوعات، ويقول بناءً على شهادة من كامل عباس (أحد أعضاء المؤتمر وعضو لجنة مركزية): ” كان يمكن تمييز ثلاثة تيارات في المؤتمر:
الأول: تيار تروتسكي متماسك وموحد قدّم نقدًا لأطروحات الحزب من منظور الأممية الرابعة (15 عضو رفضوا الترشح للمركزية والمشاركة في الانتخابات بنهاية المؤتمر).
الثاني: تيار عقلاني إذا صحت التسمية مفكك وضعيف، يزيد أو ينقص تبعًا لهذه النقطة أو تلك، ينسجم مع تقرير آب، ويضبط إيقاعه السياسي على إيقاع الحركة الشيوعية العالمية.
الثالث: تيار اليسار الجديد/ الأصولية اللينينية، والإسقاطات الميكانيكية التاريخية. قدم برنامجًا سياسيًا (انتقاليًا واستراتيجيًا) مفعمًا بالجمل الثورية.
سوف أختلف مع هذه الرواية، خاصةً تسمية وتوصيف التيار الثاني والثالث. واقع الحال من داخل المؤتمر يقول، إنّ الصيغة العامة هي صيغة تميل إلى النصوص، وحين الخلاف أو الاختلاف كان يتم الاحتكام دائمًا للنص بمفرداته “السلف الصالح”، وقلة قليلة من استطاعت العبور من النص إلى العيان.
أما أن تكون هذه التقسيمات بهذا الوضوح والجلاء، فهذا يحتاج إلى كثير من التدقيق.
نعم كان هناك بعض “العقلانيين”، لكن صوتهم كان يذهب أدراج الإجماع الآخر، حيث ترى التكاتف والتضامن حتى بين ما سيعرف بالأقلية.
قدم مشروع تغيير الاسم من رابطة إلى حزب، علمًا أنه كان مشروعًا شخصيًا من فاتح جاموس (مروان في المؤتمر)، اعترض عليه فقط بضعة أعضاء ولم يكن الاصطفاف سياسيًا أو “تياراتيًا” بين الأقلية والأكثرية.
ينطبق هذا على المشروع الآخر أيضًا (وكان مشروعًا شخصيًا) حول إمكانية قيام بعض العمليات ذات الطابع المسلح في الجولان المحتل، أو في الجنوب اللبناني الذي كان محتلًا أيضًا، على أنها أعمال وطنية تحررية، ولا خشية من النظام من أن يصنفها في خانة “الإرهاب”.
الأصوات العقلانية المتناثرة، ستعترض على هذا المشروع الانتحاري (لم يطوَ المشروع، إنما أخذ صيغة التوصية، على أن يتم ذلك فقط في الجنوب اللبناني).
بالعودة إلى التيارات، نعم، التيار الأول الذي عُرف لاحقًا بالأقلية، والذي سمي بالتيار التروتسكي (الكاتب يسميه التيار اليساري وهو محق بالتسمية) كان الأكثر تماسكًا ربما لخصوصية تشكله، أو لأنه بات ينتمي لآليات دفاعية، مثله مثل أي شعور أقلوي، يحتمي بهذا “التشكيل الجديد”.
 كانت الكلمة المفتاح لدى الأكثر فاعلية ضمن التيار (منيف ملحم)، أنّ الموقف والتحليل السياسي للرابطة – بعد تقرير آب/ أغسطس – بات في حالة غزل وتملق مع السوفيات من غير مبرر (إنها عودة الابن الضال كي ينال الثقة والاعتراف من الأب).
اجتمعت معظم نقاط التيار اليساري (الأقلية) على نقد المشروع الانتقالي الذي كان بمنزلة مرحلة وسيطية (حكومة مؤقتة ذات توازن قلق)، تمهيدًا للبرنامج الاستراتيجي (الثورة الاشتراكية). إنهم يصرون على طرح الصيغة الاستراتيجية بما هي ثورة اشتراكية عبر جبهة شعبية متحدة. يكررون هنا ما قامت به الرابطة في شهر نيسان 1978، وعلى غفلة من الجميع، بتغيير مفهوم طبيعة الثورة القادمة في سورية، بعد أن كان الاجماع على أنها ثورة وطنية ديمقراطية، إلى ثورة اشتراكية.
سوف يزعم هذا التيار (اليساري، التروتسكي بأعضائه الـ15)، أنه الوحيد الذي يمثل الخط الثوري، وأن “الأغلبية” تتراوح بين الإصلاحية والرقص على حبال المدرسة الستالينية. وسوف يصنفون الأغلبية (40 عضوًا ضمن المؤتمر) إلى تيارين: 
تيار وسطي: يشكل الأكثرية ضمن الأغلبية، كان بمنزلة بيضة القبان بين الانجرار يسارًا أو يمينًا، (يمثل هذا التيار أصلان عبد الكريم).
تيار يميني: يريد جر الرابطة إلى مواقف أكثر يمينية، تناغمًا مع المشروع السوفياتي بالمنطقة، ولم تكن هناك إشارات أنّهم سوف يذهبون إلى تجاوز الخطوط الحمراء (الحوار أو التحالف مع النظام)، (يمثل هذا التيار فاتح جاموس).
بعض النهفات، استراحة مع الكاتب في الصفحة 116:
عن انسحاب التيار (اليساري-التروتسكي)، من الترشح للجنة المركزية، يرد في الكتاب أنّ أصلان عبد الكريم (وهو أحد أهم الفاعلين قبل المؤتمر وفي أثنائه وبعده) عبر عن حزنه بالقول إنّ المركزية الجديدة المنتخبة قد خسرت بعدم مشاركة الأقلية.
من خلال مشاهدتي الشخصية أقول، نعم حصل ذلك. بينما كنا نحضر أنفسنا بوصفنا أعضاء جددًا للجنة المركزية لحضور اجتماع انتخاب المكتب السياسي، توجه إلي أصلان، وكان حزينًا جدًا، وقال بصوت متهدِّج وكأننا في قاعة “مدرسة”:
هذه مركزية يا “وليم” (اسمي الحركي)، وليست لجنة منطقية (يقصد هنا أنني لازمت اللجنة المنطقية لمنظمة دمشق على مدى ثلاث سنوات)، هززتُ رأسي بابتسامةٍ وقلت: “الله بيعين”.

في سياق فقرة الاختبار الأول بعد المؤتمر التأسيسي
سوف أقف هنا عند ما حصل في ذلك الاستفتاء الشهير الذي جرى على أنه حالة طارئة إثر اجتماع للمركزية، نتيجة انكشاف المؤتمر عند الجهات الأمنية، بعد الاعتقالات التي حصلت. أرسل الأمن مع (نزيه نحاس) عضو المكتب السياسي آنذاك، رسالة فحواها أمامكم إما الحوار أو الاعتقال.
يقول الكاتب: “تجنب المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب اتخاذ قرار بهذا الشأن، وفضلًا عن العودة إلى القاعدة الحزبية، عبر صيغة استفتاء داخلي، بين مناورتين تنظيمية وأخرى سياسية”.
واقع الحال أنّ اللجنة المركزية اجتمعت بمن حضر، وكان العدد (12) من أصل (15)، ولم يكن بالإمكان إيجاد بيت لهذا الاجتماع الطارئ، لذلك كان الاختيار أن نقوم بنوع من “السيران” بالتعبير الدمشقي، في عين الخضرة أو الفيجة.
جرى نقاش مطول في كيفية الخروج من هذا “المأزق”، حيث طرحت صيغة المناورة بشقيها التنظيمي والسياسي. بعد طول نقاش تم التصويت، وكانت الأصوات متعادلة (6 مقابل 6)، ما اضطرنا لقبول اقتراح الاستفتاء على قواعد الحزب، أي أن ننقل بكل شفافية، رسالة للقواعد تقول إنها “مناورة” فقط، وأن كلا الفريقين متفقان أنه لا حوار مع النظام، منعًا لسوء التعبير، مع عدم تجاهل أن الوضع التنظيمي لا يتحمل الآن أية حملة اعتقال عامة وواسعة. وكانت النتيجة العامة للقاعدة الحزبية، القبول بمناورة تنظيمية دون قبول أي تداعيات سياسية.
بعد هذا “الشواش”، عاد الحزب إلى سابق عهده بشدة النشاط التحريضي، “غزارة في إنتاج البيانات السياسية” تكثيف التحريض على السلطة (لسان حال البعض من المكتب السياسي للحزب، إنّ النظام لن يقوم بأي حملة اعتقال، تحت حجة أنّ الصراع يحتدم بين الإخوان والنظام، والمعركة بينهما هي معركة كسر العظم، بما يعني ذلك أنّ النظام سيوجه كل بنادقه وأجهزته لهذا الخطر القادم من الحلف الرجعي الأسود.

حملة شباط – آذار 1982 على حزب العمل الشيوعي
قبل الحملة بقرابة الشهر جرى اجتماع للجنة المركزية بكامل أعضائها (15)، وكان من أهم البنود، تقويم وتقييم الأشهر الماضية خاصة بعد التهديد الأمني (الاستفتاء)، وكان الميل العام أنه علينا المزيد من النشاط والخروج من هذا الخوف و “القوقعة”
أتتْ مجازر حماه بعد هذا الاجتماع بيومين في 2 شباط/ فبراير، وكسر العظم يزداد توغلًا، وكما هو معروف خرج النظام منتصرًا بجبروته العسكري والأمني.
في نهاية هذا الشهر الدامي، شنتْ الفروع الأمنية (العسكري، أمن الدولة) حملتها تلك، وكانت من أنجح الحملات بالتعبير الأمني (العدد الإجمالي بين فرعي الأمن العسكري وأمن الدولة 45، بينهم 16عضو مؤتمر، 8 أعضاء لجنة مركزية، ورأس القائمة فاتح جاموس عضو المكتب السياسي ثم مطبعة الحزب).

تمرد يسار فتح عام 1983 وموقف حزب العمل الشيوعي
يحاول راتب شعبو في كتابه بيان مكامن الضعف والتهور في قراءات الحزب لواقع الساحة الفلسطينية (انشقاق أبو موسى وخالد العملة عن فتح ياسر عرفات). يرد في العدد 82 من الراية الحمراء: “تمرد يسار فتح خطوة صائبة على الطريق … هذا التمرد فرصة تاريخية لوضع حد للقيادة الفلسطينية اللا وطنية”.
وقد تبين لاحقًا أن قراءة الحزب لم تأخذ بالحسبان هوية وماهية “المنتفضين”، خاصة لجهة علاقتهم بكلا النظامين السوري والليبي. ولا ينسى الكاتب أن يشير إلى أنّ الحزب كان لديه تخوفًا تجاه علاقة الانشقاق مع النظام السوري، ولكن ليس مع النظام الليبي، بوصفه نظامًا وطنيًا بتقييم الحزب آنذاك.
أعتقد أنّ هذا الموقف “الرغائبي” من الحزب، إن دلَّ على شيء إنما يدل على مدى ضحالة تقويم خصوصية وضع منظمة التحرير الفلسطينية وعمادها الرئيس حركة فتح، ومدى الاستغراق بالمسطرة الأيديولوجية، التي لا ترى إلا ممثليها أصحاب الحقيقة (الماركسية -اللينينية)، وأنهم هم من يقود معركة التحرر الوطني. بهذا المعنى ظنّ بعضهم أنّ مجرد إعلان “المنشقين” عن تبني الأيديولوجية الماركسية، يجعلهم من “المصطفين”.

في الفقرة المعنونة: التمرد والبحث عن هوية وانتماء
“يمكن تلمس خيط غير سياسي في تجربة الرابطة – الحزب، خيط تمرد اجتماعي يشكل قاسمًا مشتركًا للشباب الباحثين عن معنى غير تقليدي لحياتهم … وبشكل ما ترجمة للشعار الذي كتبه الطلاب في باريس على جدران جامعاتهم أيار 1968: “اركض يا رفيق، العالم القديم وراءك”.
يلامس الكاتب هنا كثيرًا من الحقيقة، وأعتقد أن هذا ما حمل كثيرًا من الشباب والصبايا على الانخراط في هذا الحزب بعينه، رغم الخطورة المدمرة للشخص وعائلته. إنها تنم عن معنى وجود للذات خارج مألوف القيم والممارسة الجمعية، تحاول تزويد حياتها بمتخيل ما عن “الحرية” ربما تحققت عند بعض التجارب المماثلة، هكذا كانت التصورات والتمثلات اللاشعورية السياسية، عن “يوتوبيا” ما لكل البشرية، حيث لا استلاب ولا مظلوميات ولا اغتراب. عن الإنسان اللاعب الحر والسعيد وفق الحلم الماركسي.

التركيبة الاجتماعية للحزب
“… إنّ نسبة الأقليات المذهبية والدينية كانت لها النسبة الأكبر (نحو الثلثين) في صفوف الحزب، يمكن رد انخفاض السنة إلى حقيقة أنّ الأحزاب الإسلامية بتنوعاتها، تمتص نسبة الشباب السنة الذين لديهم استعداد للعمل السياسي المعارض.. لا تجد أصحاب الميول السياسية من أبناء الأقليات سوى الأحزاب العلمانية…”.
إن الكاتب محقّ في قراءته تلك. إنها إشكالية عامة قد تجدها هنا وهناك بين صفوف شتى من اليسار العربي التقليدي والجديد، هناك بعض الاستثناءات حصلت في فترة الخمسينات من القرن الماضي (الحزب الشيوعي السوري اخترق نسبيًا ذلك الجدار بين حواضر المدن في دمشق وحلب وحمص).
ويمكن اختزال الإشكالية كما ارتأى بعضهم، نتيجة التعالي بين اليساريين وجموع أهل “الدين” خاصةً وأنّ السنة تشكل الأغلبية الساحقة. وبعضهم الآخر ارتأى أنّ هناك ممارسة تاريخية مزمنة في صفوف اليسار، ترى في الدين محض “أفيون الشعوب” كما هو متعارف عليه لدى النص، بمعنى إشهار الإلحاد على مرأى من الجمهور المتدين. سيكتشف الماركسيون العرب متأخرًا أن تلك العبارة الماركسية مجتزأة. العبارة تقول إنما الدين هو تنهيدة الإنسان المضطهَد، قلب العالم الذي لا قلب له شهقة المكلوم، إنه أفيون الشعوب.
أعتقد أنّ تلك الآراء تلامس الصواب بعض الشيء بظاهرها، فهناك عوامل أخرى لا تقل أهمية، عامل الاستبداد المرتكز على أنظمة شمولية، أنظمة زعمت أنها “تقدمية”، عملت على تأسيس منظومة إلغاء وإقصاء لكل المجتمع، زعمت أنها النموذج الذي يحتذى للعلمانية، ما سيعزز لدى “المؤمن” الهروب من “أحزاب” كهذه.
أمام هذه المحنة العامة (نظام الإدارة بالعنف، برهان غليون)، من جراء التغول الاستبدادي، سيجد المؤمن في أماكن العبادة ملاذه الحر، يستمد عناصر توازنه بالولاء والطاعة لرب العالمين فقط، وسينتمي لجماعة جديدة “جماعة الإيمان”.

سأذكر مثالًا بسيطًا عن رجل الدين الدمشقي “محمد عوض” ودرسه الأسبوعي يوم الثلاثاء من كل أسبوع في جامع زيد بن ثابت في دمشق.  قبل اشتداد الصراع الدموي بين الإخوان المسلمين والنظام بين عامي 1978-1979، كان يلفت انتباهنا ونحن المشاة عبر الرصيف، هذا الحشد الشعبي من دمشق وريفها خاصةً دوما وحرستا. تجد الحشد يمتد إلى المدخل الخارجي، لدرجة أنّ شرطة المرور تضطر أن تكون حجابًا أمام هذه الخطب العصماء. لا شك انّ الأجهزة الأمنية كانت تراقب، لكنها لم تكن قد وصلت بعد للعقاب.
نحن الواقفون على خط العمل السري، كنا نختار الشارع للتواصل وترتيب المواعيد التنظيمية، وكنا نتساءل، واعتقد لم يزل بعضنا يتساءل، كيف لهذا “الشيخ الجليل” حشد المئات إن لم نقل الآلاف بساعة صخب واجترار “أحاديث ومرويات العنعنة”؟
نعم كنا ننحت من صخر، وشيخنا يغرف من بحر. هل كان بمقدورنا أن نقرع الأجراس؟

خاتمة 
ختامًا، لا يسعني إلا أن أقول إن الكتاب استوفى المراحل التاريخية لنشوء الظاهرة كاملة (الحلقات، الرابطة، الحزب 1976-1992) باحترافية تكاد تكون الأولى من نوعها في التأريخ السياسي السوري، خاصة أنه حافظ على مسافة من الحدث والمروي والاقتباس، علمًا أنه كما ذكر في مقدمته أنه كان عضوًا في التنظيم، مع ذلك انطلق من الموضوعية وليس من الانحياز كما هو مألوف عند من يتكلم عن تجربة هو جزء منها.
قد يكون الكتاب الأول في سورية، في صياغته ومفرداته، صادر عن تجربة سياسية حزبية ولكاتب انتمى إليها. سنجد لغة سياسية حميمية تجذب القارئ بعيدًا عن جفاف و”غلاظة” الكتابة السياسية، مع غياب المفردات التي توحي بالانتماء إلى هوية مغلقة ترى نفسها “الفرقة الناجية”.
من نافل القول إنني وقفت عند بعض المراحل والمحطات الرئيسة في الكتاب والتجربة، لكنني لم أفِ تفاصيل الكتاب كاملة، خاصةً الوقوف أمام أشرس حملة اعتقال تعرض لها الحزب (1986-1987) حيث شلَّ الحزب تقريبًا، وبقي يحاول النهوض حتى عام 1992، لكن مع غياب الكادر وشدة الحصار الأمني على من تبقى (وهم قلة قليلة)، كانت محاولات النهوض عبثية، وكانت النهاية مع شتاء ذلك العام.
كذلك كان من اللافت في الكتاب ذكره لتلك التظاهرة النسائية (تظاهرة أمهات المعتقلين)، وذلك في شهر آذار 1990، حيث تمكن حزب العمل الشيوعي بعد جهد وترتيبات طويلة، من تنظيم تلك التظاهرة التي ضمت 300 امرأة من أقارب المعتقلين (أمهات، زوجات، أخوات)، تظاهرن أمام قصر المهاجرين في دمشق، وهتفنَ يطالبنَ بالإفراج عن أبنائهن.
يوجد في آخر الكتاب، ملحق مهم يضم أسماء من اعتقلوا (815 معتقلًا) باسم التجربة، من تاريخ أول اعتقال آذار/ مارس 1977، إلى آخر من اعتقل في 1993، ولا شك أن هناك أسماء كثيرة لم توثق، ويحتاج توثيق الأسماء كلها إلى جهد بحثي مستقل.

مشاركة: