تفاح في الطيّارة

لو كان لي أن أختار رمزًا لنفسي لاخترت التفاحة، لا بسبب الرواية الدينية الشهيرة حول آدم وحواء، بل لأسباب تتعلق بطفولتي المبكرة.
كنت في الخامسة عندما رافقت أبي إلى الأرض لزراعة غرسات التفاح. نزلتُ في واحدة من الحفر، وطلبتُ من والدي أن يزرعني.

  • “إذا زرعتك لن تستطيع العودة إلى البيت”
  • “إذًا حولني إلى شجرة تفاح متحركة.. أريد أن تقطف أمي تفاحات من شعري”.
    في السابعة عدت في يوم مشمس من المدرسة، كنت آكل وأحك رأسي. أرادت أمي أن تعرف لماذا أهرش رأسي، وصرخت كأن مصيبة قد حلت برأسي: “ما هذا؟”
  • “رأسي!”
  • “لقد تحول من رأس إلى مرعى للقمل”! وبدأت ‘تقطف’ القمل وتلعن أبو المدرسة!

في الخامسة والخمسين ركبت الطائرة أول مرة في حياتي.
في الطائرة كان يجلس بجانبي ابني، الذي قال لي عندما اهتز بيتنا بسبب انفجار هائل تلته أصوات انفجارات متواصلة، وكأن زلزالًا سيدمر البيت فوق رؤوسنا: “هل سنموت يا أبي؟ “. قلت لأطمئنه: “لا”. وكنت وقتها أتسول الطمأنينة وأتلقى تهديدًا واحدًا في اليوم على الأقل. ها أنا على متن رحلة جوية لها رقم وتاريخ، أغادر الخوف من الاعتقال أو الاختطاف أو الموت بطلقة طائشة أو مقصودة.
في طفولتي كانت عيناي تتابعان الطائرات التي تمر فوق قريتنا إلى أن تختفي. عندما قال جدي أن الناس يسافرون في هذه الطائرات ظننته يمزح: “كيف لآلة بحجم الإوزة أن تحمل إنسانًا أكبر منها؟” شرح لي جدي كيف يجعل البعد الأشياء الكبيرة تبدو صغيرة. سألته: “أين تذهب الطائرات؟”

  • “إلى الأماكن البعيدة”.
  • “ماذا يوجد في الأماكن البعيدة؟”
  • “بلاد مختلفة! يمكنك أن تقسم الدنيا إلى بلدنا والبلاد الأخرى”.
    كنت أعتقد أن بلدنا هو ما تراه عيناي وأنا أقف على سطح بيتنا. وفي السابعة ظننت أن البلد هو مدينة اللاذقية لأن أهل قريتنا يقولون أنا ذاهب إلى البلد ويعنون إلى المدينة. وحين كبرتُ أصبحتْ البلاد أكبر من اللاذقية بكثير، ولكن حصتي منها صغرتْ لزمن طويل، وأضحت رقعة ضيقة في سجن، يرمى فيه الحالمون “للتعافي” من أحلامهم.

في الثامنة عندما قلت لأمي: “سأذهب إلى البلاد البعيدة!”
سألتني وهي تلف اليبرق: “كيف ستذهب؟”.

  • “سأطلب من الطائرة أن ترمي لي حبلًا”.
  • “لكن الطائرات لا ترمي حبالًا”!
  • “إذًا كيف يصل الناس إليها”؟
  • “تهبط الطائرات على الأرض فيدخل الناس في جوفها ثم تطير إلى الأماكن البعيدة وتحط من جديد ليخرج ركابها ويدخل ركاب آخرون”.
  • “هي سيارة، ولكنها تطير! سأطلب منها إذًا أن تحط أمام بيتنا”.
  • “لماذا سترحل؟ لم تجبني”.
  • “لأن الأقوياء يضربون الصغار هنا” قلت وشفتي ترتجف.
    تركت أمي ورقة العنب المسلوقة من يدها، ونظرت إلى وجهي باهتمام شديد، وسألت:
  • “ما الذي حدث؟ من ضربك؟” كانت عيناها مفتوحتان تنتظران جوابي.
    قلتُ وقد نفرت دموعي: “طلب مني عمي أن أحضر له علبة كبريت لإشعال سيجارته عندما كان يلعب طرنيب” وبصوت أكثر تهدجًا تابعت: “ضربني لأني نسيت. أنا لست قويًا مثله، لم أستطع الدفاع عن نفسي!”
    حاولت والدتي ألا تظهر دموعها، ونصحتني بأن أتذكر عندما يطلب مني أبي أو أعمامي شيئًا، وأن أهرب إليها عندما يهددني الأقوياء.
  • “ولكن قد يضربونكِ أيضًا!”.
    ضمتني وقبلتني وطلبت ألّا أبكي. فقلت لها: “كفّي أنت عن البكاء أولًا”.

أقرأ على اللوحة أمامي الارتفاع الذي تطير عليه البوينغ، وسرعتها، ومسافة الطيران المتبقية ومدته. ومع أن أبي لم يحولني إلى شجرة تفاح ثابتة أو متحركة، أشعر أنني شجرة مقتلعة، ومرمية على مقعد في طائرة، سأجرب تربة أخرى، وهذا على أي حال أفضل من أن أحترق حيث نبت. أنا لست شجرة، وحيثما ذهبت ستكون السماء قبة عالية! أتذكر لامية العرب للشنفري، وعلى نحو خاص صدر أحد أبياتها: “وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى”.
مرت المضيفة ذات الوجه المنمش، وهي توزع بالعدل على المسافرين ابتسامة مدروسة لتبدو عذوبتها حقيقية. خطر لي أنها رومانية دون أي سبب منطقي! كررت سؤالها المترافق مع ابتسامتها عن المشروب الذي أفضله، فقلت على نحو عفوي: “عصير التفاح من فضلك”.

مشاركة: