غسالة “توماتيك” (قصة قصيرة)

لم يكن قد مضى من إجازة سفيان القصيرة سوى بضع ساعات، حينما وعد هذا العسكري والده الحجي مساءً بأن يؤمن غسالة “توماتيك” مستعملة للأسرة النازحة التي أخبرته عنها الحجة والدته، ما إنْ وصل إلى البيت ظهرًا:
“هي أسرة ما حيلتها اللظى، استضافها أبوك من نحو ثلاثة شهور بالملحق تبع دارنا، ليرعاها حسب الأصول ويكسب فيها ثواب. تخيّل يا حرام هذي الأم حتى غسالة ما عندها، وتغسل الغسيل بيديها، ولكنّني أحيانا أفرض عليها أنْ تغسل بغسالتنا!”.
كانت الأسرة مكونة من أمٍّ أربعينيّة منقبة، اشتدّ عودها لهول ما لاقته في الأشهر الماضية. وفتاة في الثامنة عشر، يعتريها الشحوب، وترفض العودة إلى وضع النقاب بدعوى أنّ “ما في شيء يتخبى”، وتعاني من التأتأة في الكلام وكأنها معقودة اللسان، تجعل كل من يراها في حالة تعاطف معها. ومن صبيين توأم في عمر الثالثة عشر، التحقا بالمدرسة بمجرد استقرار الأسرة النسبي. وهي أسرة من الأسر النازحة بكثرة تلك الأيام. ولم تكن تملك أيّ مال، وتنتظر إحسان المحسنين فحسب. ولذلك ارتضت لنفسها أيّ إغاثة تقدم لها. وصار لأفرادها مسكنٌ من غرفة واحدة وحمّام صغير، ولكنّ بمدخل مستقل عن مدخل دار المضيف. أمّا مأكلهم وملبسهم ومتطلباتهم فباتت بسيطة. بعدما كانوا في منزلهم “المُلك” يتمتعون بحالٍ مادي فوق المتوسط.
بالطبع، لم يكن أفراد الأسرة النازحة سعداء بحالهم الجديدة، ومع ذلك شكروا الله وحمدوه أسوة بما تعلموه من صبر أيوب الذي رأى أنّ بعض الرزايا عطاء. وكان لا يشغل بال الأم، بعد أنْ صار عبء المسؤوليّة ملقى على أكتافها، إلّا الظهور بمظهر عزة النفس لكونه تقليدًا عريقًا متأصلًا، واستعادة ابنتها لطلاقة لسانها المعهودة.
فيما مضى على العسكري سفيان عام عصيب، بعد التحاقه بالجيش، كان قد أمضاه في المعارك والاشتباكات والمداهمات. بيد أنّه حصّل إجازة 72 ساعة مؤخرًا “بطلوع الروح” من قائد قطعته بعد أنْ أقنعه باضطراره إلى إخفاء ما غنمه من الحرب. وكان في منتصف العشرينيات من عمره يؤدي واجبه في الخدمة الإلزاميّة. ولأنّه جامعيّ فقد خدم برتبة ملازم. إلّا أنّه برغم أحواله القاهرة وعملًا بقاعدة برّ الوالدين، لم ينس الهدايا لوالديه؛ فأهدى مسدسًا لأبيه و”قلابيّة” حلبيّة لأمّه.
سُرَّ والد سفيان في سرّه أيما سرور، من هدية المسدس والوعد بتأمين غسالة “التوماتيك”! ولكن من دون أنْ يسأل ابنه عن المصدر. وما كان منه -على غير عادته- إلّا أنْ شكرَ ابنه على الملأ من عائلته المجتمعة، لهاتين اللفتتين الكريمتين، وشعر بالفخر يداعب مكامن نفسه. وجال في فكره لحظتها أنّ “الولد سرّ أبيه” فعلًا. وكيف لا؟ وها هو ولي عهده وحامل اسمه شاغلًا نفسه بأشياء جانبيّة تكلفه مالًا وتنغّص عليه فترة استراحته؛ التي ربما كان سيمضيها في الاسترخاء ورؤية أصدقائه؛ أو في الفضفضة عن همومه العسكريّة، مع التباهي بانتصارات الجيش على الإرهابيين، كما كان يروي لأسرته؛ أو في مجرد التعبير عن اشتياقه وحنينه لأهله ومدينته.
وأردف أبو سفيان:
“الله يرضى عيك يا ابني. يللا تسّرح من الجيش بسلامة؛ لأسعى لك بزواج من شي بنت حلال بترفع الراس”.
وما إنْ ذكر الأب سيرة زواج حتى لاحت في باله العروس. وضم ولده إلى صدره وأضمر حينها أنّها ستكون تلك الفتاة الجميلة ابنة الأسرة النازحة التي راهن على شفائها من التأتأة قريبًا.
فردّ الشاب على أبيه بخجلٍ بادٍ بعد أنْ قبّل يده:
“لا شكر على واجب يا أبي. شو شغلتنا غير ندعم مواقفك. انشالله كون على طول عند حسن ظنك. والله يديم عزك فوق راسنا”.
كان الوالد وجيهًا من وجهاء حمص. وقد تعاطف مع تلك الأسرة النازحة، لِما لاقته في حلب. واستقرت بها الحال هائمة على وجهها في جامع الحارة؛ فاستضافها بعد أنْ أرشده إليها إمام الجامع. بينما كان بعض المتظاهرين الحماصنة يسخرون من حلب في تلك الأيام وهم يرددون هتافًا مكتوبًا على لافتة ساخرة ومحرضة:
(لا تعلّوا صوتكم… حلب نايمة).
وقد حدثته ربّة الأسرة النازحة عن وحشيّة الجيش وانحطاطه. وكيف قاموا باعتقال زوجها و”تعفيش” أثاثها وإجبارها على النزوح. وكيف أنّها كانت فاقدة لأيّ أملٍ بعودة زوجها وفق ما تناهى إلى مسامعها عن تصفيته تحت التعذيب.
والأهم من هذا كلّه بالنسبة إليها هو أنّها (بقّت البحصة) بعد الذي لاقته من حسن الاستقبال والثقة. وكان ذلك عندما سألها الحجي عن تلعثم ابنتها بالكلام. فباحت بالسر الذي يؤرقها وهو “تعفيش” شرف العائلة. وأضافت قائلة، “ومن يومها البنت خرست مثل ما حضرتك شايف”.
استغلت انشغال الحضور لحظتها، وتمتمت في أذن الحجي كيف اغتصب المداهمون ابنتها الوحيدة، التي قاربت ميلادها الثامن عشرة على مرأى من عينيها. وكيف كانت تنوح وتعرض نفسها محل ابنتها. قالت لأكثر العساكر شراسة وقتها:
“الله يخليك خذني محلها. وبوعدك أعمل اللي بدك ياه وشو ما بدك بس على شرط تترك بنتي وما تلوث لها شرفها وكرامتها”.
ولكنّه ردّ عليها بوقاحة وهو يركلها:
“جاييك الدور يا قحبة على أساس بدنا نوفرك”.
حفرت حكاية النازحة عميقًا في نفس وجيهنا الحمصي، لدرجةٍ راح منظوره للأحداث ينزاح قليلًا عمّا استقر عليه سابقًا. وأخذ يلعن الشيطان ويخزيه. وسارع إلى احتضان ملمّات هذه الأسرة وخصص جزءًا من مدخراته لتلبية حاجاتها من أكل وشرب ولباس وفواتير. ولمّا انتهى من صلاته في الجامع ذاك اليوم عاد إلى البيت برفقة إمام الجامع. دردشا قليلًا عن الأوضاع وما يحصل في البلد من تداعيات سياسيّة. وقال الوجيه في سياق الحديث من دون أنْ يفضح سرّ الأسرة النازحة مثيرًا دهشة الإمام بطرحه:
“يجب معاملة النساء المغتصبات على أنهن شهيدات!”.
كانت المرأة المنقّبة تشعر بالامتنان الكبير لنبل ذلك الوجيه الحمصي. إلى حدِّ أنّها كانت مكبلة بأفضاله عليها. فلا تستطيع أنْ ترفض له طلبًا. ولطالما كررت على مسامع ابنتها:
“إنّ أخي ما تصرف معي بهذا السخاء!”.
وفي اليوم التالي وضع الوجيه المسدس على جنبه مزهوًّا بنفسه. وقام بالطلب من شابين في الحارة أنْ يساعدانه في حمل غسالة “التوماتيك” ليقدمها لتلك الأسرة. وقد قال له ابنه سفيان إنّه اشتراها اليوم من “سوق السنّة”. هنا غض الوالد النظر عن مصدر الغسالة. ولكن أمّه احتجّت عليه وقالت:
“مو حرام لك ابني تشتري من مسروقات جماعتنا؟”.
وكانت الحجة قد سمعت من جاراتها عن الاستهتار بممتلكات الناس وبيعها بسعر التراب، وكيف أنّ أحدهم اشترى غسالة فأعطوه فوقها “لابتوب” هديّة؛ ظنًا من البائع أنّه سخان سندويشات! غير أنّ تعليق ابنها أسكت الجميع إذ قال:
“والله والله يا أمي إذا ما أخذتها راح يأخذها غيري”.
نادى المضيف على ضيفته من المدخل وقال عندما لاحت له النازحة:
“تفضلي وهي غسالة منشان تريحك. اشتراها لك هالقبضاي ابني بس عرف بنزوحكم إلينا برغم ضيق وقته”.
وشكر الشابين على مساعدتهما لينصرفا بعدها إلى شؤونهما.
“أهلين حجي. ربي يخليلك إياه ويرده لكم بالسلامة. ما في داعي تغلبّوا حالكم الله يسلم هالأيدين”.
ولمّا رأت النازحة الغسالة وهي تتفحصها عن قرب، تعرفت عليها من توها. فقالت للوجيه الحمصي:
“يكثر خيركن وانشالله بتجوزوه لهالمنظوم. والله ولله شو ما عملنا ما منكافيكن. بس دخلك حجّي من وين اشترى هالغسالة؟”. فقال، “من سوق المستعمل”. فقالت وقد جالت في بالها قدرة الله؛ “سبحان لله! رجعت لصاحبها فهذه الغسالة لنا. والدليل أنّني خبأت فيها مصاغي بين الحوض والمحرك”.
ارتبك الحجّي غير مصدق ما تقوله وكأنه معجزة! وأخذ (يضرب أخماسه بأسداسه) محتارًا بين صدق المرأة واستحالته. ومن فوره طلب من أحد التوأمين أنْ يفك الغسالة ليقطع الشك باليقين. وبينما جلب الفتى المفك، تلاعبت الظنون في رأسه؛ فهو لم يلاحظ خروج ابنه هذا اليوم من البيت. فكيف اشترى الغسالة إذًا؟
ويا للمفاجأة! وخيبة ظن الوجيه بابنه! فقد وجد الولد “ذهبات” أمّه في المكان الذي أشارت إليه. ذُهل الحجّي عندما أدرك أنّ ابنه لم يشترِ الغسالة! وسرعان ما تذّكر ما كان قد نزل بهذه الأسرة فزاد ارتباكه المشوب بالخجل. ولاح له العار الذي سيلحق اسمه “لولد الولد”، من وراء تلك الجريمة البشعة.
فما كان من الوجيه إلّا أنْ أسرع إلى ابنه متوعدًا ولاعنًا الساعة التي “جابه” فيها على الدنيا. وبغضب اقتاد ابنه من يده إلى ساحة الحارة، وكان يكيل له الضربات ويصيح به
(وطيت راسي يا كلب! كله تعفيش يا كلب…). وعندما تجمع أهل الحارة وحاولوا تخليص الشاب من والده، كانت المرأة المهجّرة في ذهول تام من ردة فعل مضيفها والمحسن إليها. وراحت تتمتم، “يا ربي مو حرزانة الشغلة كلّ هذا الغضب! أمعقول لأنّه اشترى غسالة مسروقة؟”.
ولكن غضب الوالد تصاعد كثيرًا حالما رأى الفتاة في الثامن عشرة تلوذ بأمها مرعوبة، وكأنها رأت عزرائيل! وتأكد ساعتها من ظنونه عندما رأى الانكسار في عينيها. فأصابته دوامة من الاضطرابات والخواطر. وراح يلوم نفسه عندما أدرك هول الفاجعة. فقد كان هو من سمح لابنه أنْ يلتحق بالجيش. وهو من قبلَ غسالة من سوقهم؛ “سوق السنّة”. وهو من كان ساذجًا أمام “شلفات” ابنه الكاذبة عن أفعاله العظيمة، وواثقًا به لدرجةٍ أعمته عن رؤية الكارثة. شعر بخذلان فلذة كبده واستغرب كيف يكون ابنه هو بالذات من فعل ما فعل من دون أيّ احترام أو تأنيب للضمير كان من المفترض أنّه تربى عليهما.
فقد أعصابه، وقبل أنْ ينجح أهل الحارة بفك الولد من بين يديه، سرعان ما أطلق على ابنه النار، من المسدس نفسه الذي أهداه له، فقتله من دون رفة جفن وهو يكرِّر تكرارًا متخامدًا، (وطيت راسي يا كلب، وطيت راسي…)! وعندها كبّرت الفتاة بصوت مترابط وانحلتْ عقدة لسانها، “الله أكبر الله أكبر…” وابتعدت عن أمها. وهنا لم يكتفِ الأب بقتل ابنه فحسب، لأنّ الأعجب من القتل نفسه بالنسبة للحضور كان أنّه أمر بدفنه “من دون صلاة على روحه التي لا تستحق أنْ يُذكر عليها اسم الله” كما قال. ودار عائدًا إلى البيت والشرر يقدح من عينيه.
ثار خلاف بين أكابرية الحارة حول فعل القتل والدفن من دون صلاة. وقال ساعتها إمام الجامع بصوت رخيم مراعيًا أحكام التجويد في تلفظه وكأنّه يخطب بالمصلين في الجامع:
“هل يجوز قتل النفس المسلمة بغير حقٍّ بيّن؟ أنحن كفّار أم دواب لندفن شابًا مسلمًا من دون صلاة؟”.
وانقضى وقت في العويل والصراخ والتعوذ بالله واللغط وتغطية جثة سفيان التي احتضنتها أمه بحنوٍ مولولة وبقع دمه تغطي القلابية الحلبية… رجتهم السيدة النازحة وهي تضم أم سفيان أنْ يصلّوا على القتيل وأنْ يرأفوا بحالة أبيه وأمه. فكان لها ذلك. ولمّا سألها الإمام مستنكرًا سخف السبب الذي أدى إلى هذا الحدث الجلل:
“ونعم الرأي رأيك! أأنتِ السبب أم غسالة التوماتيك؟”. قالت ببراءة، “أنا مسامحته دنيا وآخرة كرمال كرم الحجّي وموقفه الشهم”.
غير أنّه لمّا اقتربت المرأة النازحة من الجثة لتتفحصها عن قرب، عرفت على الفور ذاك الوجه الأكثر شراسة وافتراسًا فأغمي عليها. ولم يخطر في بالها حتى اللحظة أنّ هذا الشاب هو نفسه من قايضته واستجدته أنْ يرأف بشرف ابنتها.
انتهت

مشاركة: