مدخل إلى الشعر الغزلي

مدخل
الدهشة هي أول ما يلفت انتباه الباحث فيما كُتب عن الشعر الغزلي الذي في مطلع العصر الأموي [العصر الأموي: (41 – 132 هـ) (662 – 750 م)]. وتُجمع مجمعات اللغة على أن أصل مصطلح الغزل من “الغَزْل” الذي هو مصدر غزل. فقد جاء في لسان العرب، والقاموس المحيط: غزلتِ المرأة الصوف؛ أي أدارتهما بالمغزل. فالغزل استعمال مجازي مأخوذ من هذه المادة اللغويـة- أي الغَزْل- فكما تدير الغازلة مغزلها لتغزل به الصوف، كذلك يدير الشاعر مغزل فنه لاستمالة المرأة واستهوائها. ويعدّ شعر الغزل فنًا من الفنون الشعرية وغرضًا من أغراض الشعر التي مارسها الشعراء منذ القديم وحتى وقتنا الحاضر، ويكون بوصف الجمال والتغني به، والاشتياق للمحبوبة والحزن والبكاء في حالة الفراق، كما يصف المحبوبة وجمالها، ويقوم على التركيز على مواطن التميز فيها، واحتواء مشاعر الشاعر وانفعالاته وأحاسيسه، ويعكس تجربة الشاعر الذاتية والوجدانية الخاصة، وقد انقسم إلى ثلاثة أقسام:
الغزل العذري؛ وفيه تصوير لحرارة حب الشاعر في التعبير، ويتميز هذا النوع من الغزل بأن للشاعر محبوبة واحدة فقط، إضافة إلى ميزة العفة وصدق المشاعر والأحاسيس. ومن روّاد هذا الاتجاه الشاعر قيس بن الملوّح (مجنون ليلى) والشاعر قيس بن ذريح (قيس لبنى)، والشاعر عروة بن حزام العذري (أحب عفراء).
الغزل الصريح؛ هو الشعر الذي عبر الشاعر من خلاله عن حبه لعدة نساء، ووصف بصراحة جمالهن، وتميز برقة الألفاظ ووجود الحوار بين الشاعر والمحبوبة. ومن رواد هذا الاتجاه الشاعر عمر بن أبي ربيعة والشاعر عبد الله بن عمر العرجي والشاعر الحارث بن خالد المخزومي.
الغزل التقليدي؛ وهذا الاتجاه حاكى القدماء في الوقوف على الطلل والنسيب والتشبيب بالمحبوبة. ومن أبرز من عبر عن هذا الاتجاه الشاعر همام بن غالب بن صعصعة الدارمي التميمي (الفرزدق)، والشاعر جرير بن عطية الكلبي اليربوعي التميمي، والشاعر غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة ابن عمرو (الأخطل).
وانقسم المدهوشون بالشعر الغزلي بين ردّات فعل متباينة بينها الإعجاب والإشادة والحفظ والرواية. وأبرز هؤلاء القطب الديني عبد الله بن عباس الذي عرف عنه حفظه لقصيدة عمر بن أبي ربيعة المسماة “الرائية” والذي كان يستزيد من شعره بالسؤال عن جديده. ومنهم أيضًا أبو الفرج الأصفهاني في كتابه “الأغاني” الذي أورد ما قيل عن شعر عمر بن أبي ربيعة ومنه قول الفرزدق: “أنت والله يا أبا الخطاب أغزل الناس. والله لا يحسن الشعراء أن يقولوا هذا النسيب”، وقول حماد الراوية عن شعر ابن أبي ربيعة: “ذلك الفستق الذي لا يُشبع منه”، ووصف الزبير بن بكار رأي من يوقرهم من رجالات قريش بشعر ابن أبي ربيعة بالقول: “أدركت مشيخة من قريش لا يزينون بعمر بن أبي ربيعة أحد من أهل دهره في النسيب، ويستحسنون منه ما يستقبحونه من غيره”. وقول الزبير بن بكار: “ابن أبي ربيعة يبرئ القرح، ويضع الهناء مواضع النًقب”.
بينما أخاف الشعر الغزلي هؤلاء الذين كانوا مشغولين بقصص الرسول ورسالته، وما رسموه من صورة عن المجتمعين المكّي والمديني اللذين حوياهما، والصراع من أجل تثبيت أركان الإسلام كما أرادوه، وتفاعله مع مجتمعات الجزيرة العربية دعوة وحربًا، بكل تفاصيلها الواقعية والمنسوجة من الخيال، والتي تعمي عمّا عداها كأن الحياة توقفت بمساراتها إلا مسار الرسالة والرسول وشؤونهما. فأتتهم أخبار الشعر الغزلي، واللهو المرافق له، صادمة، فأنكروها وكفّروا، أو كادوا، رمزها عمر بن أبي ربيعة، كونه أبرز الشعراء الغزليين (شعرًا، ونسبًا، وجرأةً).
فنجد الفقيه ابن جريج قد قال مهاجمًا: “ما دخل على العواتق في حجالهن أضر عليهن من شعر عمر بن أبي ربيعة”، ونجد هشام بن عروة محذرًا: “لا ترووا فتياتكم شعر عمر، لا يتورطن في الزنا تورطًا”، وأبو المقوم الأنصاري متهمًا بالمعصية: “ما عصي الله بشيء كما عصي بشعر عمر”. بينما منع عبد الله بن مصعب جارية عن إدخال دفتر عليه شعر عمر لنسائه في بيته بقوله لها: “ويحك تدخلين على النساء بشعر عمر بن أبي ربيعة إن لشعره موقعًا من القلوب ومدخلًا لطيفًا لو كان شعرًا يسحر لكان هو فارجعي به”.
والملاحظة الرئيسة التي أخذناها على ما قرأناه عند مهاجمي الشعر الغزلي الصريح في الزمن المحدود الذي أتيح لنا، وهو لا يكفي أبدًا لاعتباره عينة تمثيلية كافية للنقد الأدبي الذي كُتب عن موضوعنا (وهو ما يحرضنا على مزيد من البحث) هو اندفاع العقل المنزعج من نمط حياة لا يطابق ما رسمه لـ”مجتمع الرسالة”، في سعيه لتفسير ظهور شعر الغزل في صدر العصر الأموي في المدينة ومكة، إلى إخراج اللهو والحب والغزل من “مجتمع الرسالة” وجعله طارئًا أصابه، أو أصاب الضعاف فيه، بسبب ثروة أصابته من الفتوحات، وجوارٍ وعبيد استجدوا عليه، وتعرّفه عبرهم على الغناء وألحانه والعيدان والطنابر والمعازف، وهو ما فعله كثر من النقاد المتقدمين وأخذه عنهم نقاد متأخرون. وهو ما عبّر عنه ابن خلدون بقوله:
“وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليها ويمشى بالدف والمزمار فيضطرب ويستخف الحلوم وكانوا يسمون هذا الهزج وهذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم شان البسائط كلها من الصنائع ولم يزل هذا شان العرب في بداوتهم وجاهليتهم فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك شيئًا ما ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ وافترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب بن جابر مولى عبيد الله ابن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم”.
المشكلة في هذه الأطروحات هي في تجاهل الوجود القديم والمستمر (والمحايث للرسالة الإسلامية) للغزل في الشعر خارج الرسم الذي أقروه للقصيدة (وعناصر القصيدة عندهم هي: المقدمة التي تتضمن النسيب والتشبيب، ثم الـرحلــة، ثم الغرض)، وتجاهل ارتباط الشعر العربي بالموسيقى. الارتباط الذي يعرض له شوقي ضيف (في كتابه تاريخ الأدب العربي-العصر الجاهلي) ومن ذلك قوله “فنحن لا نبعد حين نزعم أن الشعر الجاهلي جميعه غنائي” وقوله إن “أبا الفرج الأصفهاني يتحدث عن شاعر جاهلي تغنى ببعض شعره من مثل السُّليك بن السُّلكة وعلقمة بن عبدة الفحل والأعشى، وكان يوقع شعره على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصنج، ولعله من أجل ذلك سمي صناجة العرب”. والأصل عند شوقي ضيف هو أن الشعر عند أوائل العرب غناء، النخبوي منه أو الشعبي أو الديني، فقد غنّوا أشعارهم في عملهم (حفر الآبار، وصيد السمك واللآلئ، والرعي، والحياكة، الخ) وسمرهم وحزنهم ومبارزة الأقران واستصراخ القبائل وفي الدجن وعند ظهور الغيم وفي المآتم وحين تقديم القرابين … وأن الشعر لاحقًا استقل بعض الاستقلال عن الغناء، فظهر شعراء لا يغنونه إنما ينشدونه، والإنشاد منزلة وسطى بين الغناء والقراءة. إلا أن الناظر في الشعر يرى استمرار أثر الغناء وأبرزها القافية والوزن فهي بقية العزف فيه ورمز ما كان يصحبه من قرع الطبول ونقر الدفوف، ومثلها التصريع في أول القصائد، والكلام في هذا يطول. ومعنى ما تقدم أن الشعر في الجاهلية كان يُصَحب بالغناء والموسيقى، فهو شعر غنائي تام، ويظهر أن الغناء لم يكن ساذجًا حينذاك. ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات مختلفة كالمزهر، والدف، وكانا من جلد، وكالصنج، وكالبربط وهو آلة موسيقية وترية.
كما أنه على الرغم من صحة حدوث تغييرات على مجتمعي المدينتين بسبب الفتوحات، بما جلبته من ثروات إضافية وجوارٍ إضافية واحتكاك إضافي للعرب بمحيطهم، إلّا أنها لا تبرر تجاهل أنه كان هناك ثروة في مكة قبل الإسلام والفتوحات، فعمر بن أبي ربيعة، وهو أبرز شعراء الغزل الصريح، من عائلة شديدة الثراء وذات مكانة في الجاهلية وفي الإسلام. فقد كان من سادة بني مخزوم، ومن أكبر بيوتات قريش. وكان أبوه يدعى بجيرا، فأطلق النبي عليه اسم “عبد الله”، واستعمله على ولاية الجند وسوادها في اليمن، فلم يزل عاملًا عليها إلى مقتل عمر بن الخطاب وقيل: بل امتدت ولايته إلى عهد عثمان. وكان قبل ذلك قد اشتهر بين قريش بلقب العِدل، لأنهم كانوا يكسون الكعبة في الجاهلية من أموالهم سنة، ويكسوها هو من ماله سنة، وهكذا يعدل قريشًا كلها في كسوة الكعبة. وكانت جدته لوالده عطارة يأتيها العطر من اليمن، واسمها مخرمة (أو مخربة في رواية أخرى)، وقد تزوجها هشام بن المغيرة، فولدت له أبا الحكم – المعروف بأبي جهل – والحارث. وكان سادة مكة أنداده وأنداد أهله، في الثراء والمكانة.
وقد كان لهؤلاء الأثرياء المكيين جوارٍ، وبعض منهنّ متخصصات بالغناء. ويروي الرواة مثلًا عن قينتين في مكة لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد فارس وكانتا تغنيان الناس، ويروون عن قينتين لرجل يدعى ابن هطل كانتا تغنيان بهجاء للرسول، ويروون أن أبا جهل قال في غزوة بدر: “والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف لنا القيان وتسمع بنا العرب”.
إضافة إلى أنه كان هناك اتصال بين حواضر كثيرة في شبه الجزيرة العربية، ومنهم أهل المدينتين المقدستين، بالشعوب شرقًا وغربًا بداعي التجارة. كما أن العرب لم يكونوا قبل الفتوحات في مكة والمدينة وحدهما، فهناك إضافة إلى البادية الواسعة حواضر منها ممالك اليمن بثرائها وجواريها وغنائها وموسيقاها وتفاعلها الثقافي مع من تتاجر معهم. ولم ينحصر وجود العرب في الجزيرة العربية، فقد بنى المناذرة والغساسنة مملكتين في العراق وبلاد الشام الأولى على غرار ملك الفرس والأخرى على غرار ملك الرومان. ويقص علينا علقمة بن عبدة أنه وفد على بلاط الغساسنة، فاستمع عندهم إلى قيان بيزنطيات يضربن على البرابط. وشبيه بذلك حديث مراجع عن أنهم كانوا كذلك في الحيرة، عاصمة المناذرة، يستمعون إلى القيان وهن يضربن على الآلات الموسيقية الفارسية. ويرد في كتاب الأدب العربي- العصر الجاهلي لشوقي ضيف أن العرب “أدخلوا كثيرًا من هؤلاء القيان إلى جزيرتهم من مثل خليدة وهريرة في اليمامة والأخيرة هي صاحبة الأعشى التي ذكرها في معلقته وأنه يقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، وكالبريط وهو آلة موسيقية وترية شاعت في بلاد الإغريق”.
وفوق كل ذلك هناك حقيقة أن شبه الجزيرة العربية كانت لقرون طويلة الخزان البشري لموجات من الهجرة، كان منها البابليون والأشوريون والكنعانيون وغيرهم (وهي أربع موجات هجرة كبيرة كان المسلمون الهجرة الكبيرة الأخيرة بينها)، وأنه لم يقطع المهاجرون صلاتهم بمن تبقى خلفهم وهما سويًا في هذه البقعة الضيقة من العالم.
بينما وجدنا السائد عند خصوم الشعر الغزلي هو استسهال تضخيم التحولات الناتجة من الفتح وأخذها على احتمال واحد: هو انتشار الدعة والرخاء بعد غنى طارئ. بينما الاعتقاد بالتنوع يدفع أكثر باتجاه الاعتقاد أننا بصدد مجتمع اعتاد التنوع من التدين إلى الإباحة، وكان الشعر مكونًا رئيسًا من حياته اليومية بما فيه الغزل، حيث لا يتردد شخص بمكانة الحسين بن علي من القول في زوجه وابنته:
لعمـركَ أنّنـي لأحـبّ دارًا تـحلّ بهـا سكينـة والرباب
أحبّهما وأبـذل جـلّ مـالي ولـيس لعاتب عندي عتاب
ولا يتردد خالد بن يزيد بن معاوية من القول في زوجته رملة بنت الزبير (كان قد عشقها وهو يطوف بالكعبة):
أليْسَ يَزِيدُ الشَّوق في كلِّ ليْلةٍ . . وفي كلِّ يَومٍ مِن حَبِيبَتِنا قُربَا؟
خليليّ ما من ساعةٍ تذكرانها. . من الدهرِ إلّا فرّجت عنّي الكربا
أحِبُّ بَني العوَّامِ طرًّا لِحُبِّها . . ومِن أجلِهَا أحبَبتُ أخوَالهَا كلبَا
تجولُ خلاخيل النساء ولا أرى.. لرملة خلخالًا يجول ولا قلبا
وكان عمر بن أبي ربيعة كثير التشبيب بالنساء قلما يرى امرأة إلا ويتشبّب بها تشبيب عاشق. وكان يحب زيارتهن، ويكثر مجالستهن، فممن شبّب بهن سكينة بنت الحسين، فقال (وهو الذي قيل إنه تغزل بكل النساء الشريفات في مجتمعه من دون اعتراض سمع عنهن):
قالت سُكَينــةُ والدمـوعُ ذَوَارفُ منها على الخَــــدَّينِ والجلبَـــــــابِ
ليتَ المغيــريَّ الذي لم أجـزه فيما أطال تصيُّـــــدي وطِـــلَابي
كانـت تــردُّ لنا المُـنَـى أيــــامــه أولا تلوم على هـــوى وتصـــابي
أسُكَينُ ما ماءُ الفراتِ وطيبُـــه مِـنــي عــلى ظمـــأ وحب شـراب
بألــــذَّ منـــــكِ وقد نـأيــتِ وقَـلَّمــا تـــــرعَى النســـــاءُ أمـــانـــةَ الغُيــَّــــاب
وشبّب بفاطمة بنت عبد الملك بن مروان، فقال:
افعلي بالأسير إحدى ثلاث وافهميهنّ ثم ردّي جوابي
اقتليه قتلًا سريحًا مريحًا لا تكوني عليه سوط عذابي
أو اقتدي فإنما النفس بالنفس قضاء مفصّلًا في الكتاب
أو صليه وصلًا تقرّ به العين وشر الوصال وصل الكذاب
إلا أن هذا المجتمع سُلّط الضوء عليه بشدة نتيجة تركيز اهتمام مجتمعات الفتوحات بمعرفته كونه المجتمع الذي خرجت منه رسالة الإسلام ووصفه الرسول بأبهى الصفات بما فيها “مكارم الأخلاق”، وهو ما يحتاج لتفسيره فهمًا موضوعيًا للتغيرات التي حصلت حينذاك، أي كما حصلت وليس كما يتناسب مع حاجات خارجة عنه. وهذا يحتاج إلى إدراك أثر انتقال الدين من المجتمع الذي خاطبه الرسول بالقول “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فأنزل عليهم قرآن بلغتهم ثبت أغلب ما في المجتمع من عادات وسلوكيات وأخلاق، وكان سهل عليهم الفهم منه ما الذي يطلب منهم تعديله، إلى مجتمعات جديدة دخلته قهرًا في أغلب الأحيان واحتاجت إلى من يترجم لها المكتوب في القرآن ويفسره، ثم أن يعلمهم ما هي “مكارم الأخلاق” التي ثبتها الله لـ”مجتمع الرسالة” حتى يتبعونها… إن هذه المتطلبات الكبيرة شكلت ضغطًا كبيرًا على “مجتمع الرسالة” على مستويات مختلفة: فمن جانب كانوا يجدون أنفسهم مدعوين لمحاكاة الصورة التقليدية، والمثالية، للمدن المقدسة التي تعرفها المجتمعات التي دخلت حديثًا في الإسلام، أو مدعوة لتفعل؛ ومن جهة أخرى ضغطت الحاجة إلى تشكيل وظيفة الدعاة والفقهاء التي ما كانت في أصل الإسلام، بل كان يرفضها تمامًا بقوله “لا كهنوت في الإسلام” حينما كانت حدود الإسلام هي من يستطيعون فهم كلام الله في القرآن من دون كثير جهد ويستطيعون أن يتواصلوا معه فرادى عبر الصلاة وتلاوة قرآنه بسهولة. وما كان يمكن لأحد أن يقوم بهذه الوظيفة المستحدثة إلا أصحاب الرسول، حيث فُسر أنهم من قال القرآن فيهم (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم). ومن تلامذتهم نتجت طبقة “التابعين” التي حملت وظيفتهم وتوسعت بها.
وعلى الرغم من أن عبد الله بن عباس، وهو أحد أبرز من أسسوا هذه الوظيفة، قد حفظ من شعر عمر بن أبي ربيعة، وأن شيوخًا من قريش بقيت تؤكد قبولها لعمر وشعره كما سبق بيانه، إلا أن الكثير من الطبقة التي نتجت عن وظيفة الفقه (انقسم أفرادها تجاه السلطة الأموية بين معارض وموال ومحايد) ناصبوا عمر العداء، وازدادوا عداء له، وللشعر الغزلي، كلما بعدوا زمنيًا عنه، وكلما ازدادوا في أسطرة “مجتمع الرسالة”، وكلما زاد الرخاء في أوساط من مجتمعهم الذي يعيشون فيه وانتقل الشعر الغزلي وغناؤه والأجواء المرافقة لهما إلى البذخ؛ مرورًا بالعصر العباسي الذي عرف “غزل الغلمان” وما شاكل. وهكذا رُسمت صورة لمجتمع الرسالة تتناسب مع حاجات الدعوة، وما عجزوا عن إخراجه من هذه الصورة التطهرية، إما بالسكوت عنه أو إعادة تأويله، قاموا بترذيله وعَدّه انحطاطًا مؤقتًا في مسيرة مقدسة.
وهكذا نخلص إلى أن الطارئ على مكة والمدينة لم يكن قبول الشعر الغزلي، ولا غناؤه، إنما ثلاثة أسباب لا تعارض حقيقة تزايد ثروتهما واتساع تواصلهما مع الثقافات الأخرى، بل تتكامل معهما: الأول، تغير مكانة المدينتين ونشوء وظيفة جديدة لهما ولمجتمعهما ولنخبهما في الإسلام الامبراطوري الناشئ؛ والثاني، ترك شعراء المدينتين للسياسة وتفرّغهم للغزل نتيجة الصراعات الدموية التي احتدمت في البيت القرشي وأدت إلى كوارث منها نشوء الملك على يد الأمويين وقمعهم لكل من خالفهم أو نازعهم عليه بما فيهم مجتمع المدينتين. والثالث، ما أشار له يعقوب بن أبي إسحاق بقوله: “كانت العرب تقر لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر فإنها كانت لا تقر لها به حتى كان عمر بن أبي ربيعة فأقر لها الشعراء بالشعر أيضًا ولم تنازعها شيئًا”. إن الطارئ هو ولادة شاعر عظيم غير مسبوق فيهما، ولادة الرجل الذي فهم شعره، ونشاركه فهمه، على أنه مديح للنساء، وهو ما يقوله ردًا على الخليفة عبد الملك بن مروان عندما سأله: ما يمنعك من مدحنا، فأجابه: إني لا أمدح الرجال إنما أمدح النساء.

مشاركة: