مفهوم حرية الاعتقاد في الدستور السوري؛ دراسة مقارنة

مخطط الدراسة
ملخص
مقدمة
الجزء الأول: مفهوم حرية الاعتقاد؛ التطور التاريخي والمذاهب الفكرية
1- تعريف الاعتقاد
2- مفهوم حرية الاعتقاد تاريخيًا
أ- في المجتمعات الغربية حتى الحرب العالمية الثانية
ب- في العالمين العربي والإسلامي حتى الحرب العالمية الأولى
ج- النهضة العربية
3- الإطار النظري لمفهوم حرية الاعتقاد
الجزء الثاني: حرية الاعتقاد في الدستور
1- حرية الاعتقاد في الدساتير السورية المتعاقبة
أ– مرحلة التأسيس
ب – عهد الاستقلال
ج – في الوحدة والانفصال
د – تحت سلطة الاستبداد
2- حرية الاعتقاد في الدستور المقارن
أ – الدستور والقضاء المصري
ب – الدستور التونسي ومداولات الجمعية التأسيسية
ج – القانون الدولي
3- العقد الاجتماعي السوري – العوامل المؤثرة
أ- تطور العقد الاجتماعي
ب- تأثير الدين
ج- تأثير الرأي العام
رأي وخاتمة

ملخص
تبحث هذه الدراسة في مسألة حرية الاعتقاد في التشريع السوري والتشريع المقارن في فصلين. في الفصل الأول تقترح الدراسة ألا فرق بين الاعتقاد الديني والاعتقاد غير الديني، مستندة في هذا الفرض إلى عدد من الأدلة التي ستسوقها خلال مناقشة المسألة. وتجنبا للخلط بين أشكال الحريات ولما يحمله هذا المفهوم من تعقيد، وبهدف تبسيط ما نسعى إلى طرحه وتحديده، كان لا بد من إعادة سرد مراحل تطورها التاريخي. واخترت العودة إلى تاريخها العالمي أولًا. ثانيًا، البحث في تاريخها عند العرب والمسلمين. ثم التوقف عند عصر النهضة العربية. في الفصل الثاني تقدم الدراسة النصوص الدستورية التي اهتمت بقضية حرية الاعتقاد في سورية منذ نشوء الدولة سياسيا في عام 1920 وحتى الوقت الراهن. مستعينة في ذلك بدراسة القانون المقارن في بعض الدول العربية والقانون والاتفاقات الدوليين. كما تناقش الرسالة عوامل الدين والسياسية المؤثرة في صوغ مفهوم حرية الاعتقاد في الدستور السوري، والتناقضات القانونية في هذا السياق. تبين الدراسة أثر التفاعلات الداخلية والخارجية في سورية في مبادئ الحقوق والحريات العامة، وستنتهي بعرض ملاحظاتها واقتراحاتها.

مقدمة
يُحسبُ لحق الحرية أنه من بين أقدم الحقوق التي كافحت الإنسانية في سبيلها. وكان أكثرها تكلفة للبشرية من حروب، وصراعات، وقمع، واستبداد، وظلم. عرف هذا المفهوم تطورًا تاريخيًا طويلًا، جنبًا إلى جنب مع تطور الحضارة الإنسانية. وتشعبت وتعدّدت معانيه وأقسامه. وربما كان أكثر المفاهيم، من بين جميع المفاهيم الإنسانية الأخرى، التي شكلت هاجسًا للفلاسفة والمفكرين في بحثهم عن معان الحياة حتى يومنا هذا. ليس مفهوم الحرية وحده ما أثار جدلًا مستعصيًا، بل هناك جدليات أخرى حول الحرية في عمومها، منها ما يتعلق بوجودها من عدمها، وهذا كان مطروحًا في أزمنة سابقة وفي مجالات معينة أو لأشخاص محددين كالعبيد مثلًا. ثم الجدل بإطلاق حرية أو نسبيتها. وفي السياق نفسه، تعرف الحرية اتساعًا أو تضييقًا بين تسلط الحاكم وتمرد المحكوم. وهذه إشكالية لا تزال تفرض نفسها حتى في وقتنا الحالي.
حرية الاعتقاد واحدة من أهم مبادئ الحقوق والحريات العامة. يُعد غيابها أو انتقاصها خرقًا لمبادئ حقوق الإنسان، بل لا يمكننا اليوم مناقشة قضية الحرية، من دون أن يعني ذلك حرية التفكير والنقد والاختيار. ومما لا شك فيه، أن لحرية الاعتقاد خصوصيتها التي تميزها عن غيرها من مواضيع الحرية، بسبب الارتباط الوثيق بين مفهوم الاعتقاد، وضمير الإنسان، ووجدانه، وفكره. إن فكرة الاعتقاد، التي تهمنا هنا في هذه الدراسة، لا تعني الاعتقاد الديني فقط، إنما تنوع أنماط الاعتقاد، بغض النظر عن طبيعتها الدينية أو اللادينية أو العلمية أو غير ذلك من التسميات.

الجزء الأول: مفهوم حرية الاعتقاد؛ التطور التاريخي والمذاهب الفكرية

1- تعريف الاعتقاد
لغةً؛
الاعتقاد في اللغة العربية: وزن افتعالَ، مصدر اعتَقَدَ بمعنى اشتد وصلب، واعتَقدتُ كذا: عَقدتُ عليه القلب والضمير. ومنه العَقيدة: وهي ما يدينُ الإنسان. اعتَقدَ فلانٌ الأمرَ: صدَّقهُ وعَقدَ عليه قلبهُ وضميرهُ. العَقِيدَةُ: الحكمُ الذي لا يُقبلُ الشكُّ فيه لدى معتقِدِه. في اللغة الفرنسية “Croyance” يعرفها معجم لاروس على أنها الإيمان بوجود شخص ما أو شيء ما، بحقيقة عقيدة أو فرضية. الإيمان بالله أو بالأشباح. ما نؤمن به: هو الرأي المعلن في الأمور الدينية والفلسفية والسياسية، ومنها احترم جميع المعتقدات. إذًا الاعتقاد لغة، حسبما يشير التعريف، لا يخص كلمة الاعتقاد بالدين وحده، بل تشمل أيضا عدم الايمان بدين، وهي كذلك تتضمن معنى الرأي الذي نتمسك به تجاه قضية ما أيضًا.
اصطلاحًا؛
الاعتقاد اصطلاحا هو العقيدة الفكرية التي يؤمن بها إنسان ما، بغض النظر عن طبيعة هذه العقيدة دينية أكانت أم غير دينية، فهي مجموع المبادئ الأخلاقية المتحكمة بوجدان الفرد وضميره. يعرف سامي أدهم الاعتقاد “هو اعتقاد بشيء، وهذا الشيء يمكن له أن يكون مادية أو معنوية، فكرة أو شيئًا أو موضوعًا. إذ ليس الاعتقاد وقف على معقول واللامعقول، بل يمكن أن يكون أي شيء مثالي أو واقعي. إن تعريف الاعتقاد هو التمسك القوي والتشبث الراسخ بموضوع الاعتقاد”. 
نستنتج أن الاعتقاد والعقيدة وفقًا للتعريف اللغوي والاصطلاحي، يشيران إلى المعنى ذاته، لذلك ستعتمد هذه الدراسة استخدام كلتا الكلمتين بالمعنى ذاته، دون أدنى اختلاف.

2 – مفهوم حرية الاعتقاد تاريخيًا
أ- في المجتمعات الغربية حتى الحرب العالمية الثانية
كانت حرية الاعتقاد الدافع رئيس لتطور الفكر الإنساني عند الإغريق والرومان، ولا سيما في مجالات الفلسفة والسياسية. إن فلاسفة من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو لم يكونوا ليتمكنوا من مناقشة أفكارهم الجريئة بحرية، لولا ما عرف عن الإغريق من حرية الفكر. ذلك على الرغم من النهاية المأساوية التي واجهها سقراط بسبب عدم تراجعه عن أفكاره. ويسجل للإمبراطورية الرومانية، أيضًا، تسامحها الديني، إذ لم يكن الإلحاد أو الزندقة ذنبًا يعاقب عليه صاحبه. بدأت حرية الاعتقاد بالتراجع مع بداية المواجهة بين المسيحية والإمبراطورية الرومانية. حيث حرم تراجان الديانة المسيحية، دون أن يعني ذلك ملاحقة المسيحين دون شكوى. كانت الغاية من هذا التحريم حماية التنوع الثقافي الذي كان يميز الإمبراطورية. في أواخر القرن الثاني الميلادي أصدر الإمبراطور ديكوليسيان قوانينه للقضاء على المسيحية، فشهد عصره أكثر الأعمال وحشية بحق المسيحين.
بعد فشل هذه القوانين في احتواء انتشار المسيحية، أصدر الامبراطور مراسيم التسامح بين العامين 311 – 313 ميلادية. يلاحظ جورج بيوري في كتابه حرية الاعتقاد عند تقديمه القرون الوسطى، كيف دفعت الكنيسة، التي طالما عانت من الاضطهاد، إلى سن قوانين تعاقب الفرد بأبشع العقوبات الوحشية، إذا ما اشتبه باعتقاده بغير المسيحية. وهو يرى أن انتشار قيم المسيحية شكل انتكاسة لحرية الفكر في العالم القديم، كونها، أي المسيحية، وهو حال الديانات والأيديولوجيات الأخرى أيضًا، ترفض المعتقدات المغايرة لها جميعها، بينما كانت الديانات الوثنية لا تتخذ الموقف ذاته تجاه غيرها من الأديان، بل إنها كانت ديانات متسامحة في مسألة وجود معتقدات أخرى غيرها، ما يؤرخ، بحسب رأيه، انهيار قيم حرية الفكر في أوروبا ودخولها حقبة طويلة من الجهل، بعد سلسلة من القوانين والأنظمة، التي سُنت بتأثير من الكنيسة. كان من أبرز هذه المبادئ، القاعدة العامة القائلة إنه “ليس للأمير الاحتفاظ بسلطته ما لم يجتث الإلحاد من نفوس رعيته”. ثم نظام محاكم التفتيش ولاحقًا مرسوم الإيمان، وأخيرًا قوانين تعذيب الساحرات وقتلهم. على النقيض من ذلك، يقول سيلفان ماتون “من الناحية العلمية، وفي إطار البحث عن المنبع الحقيقي لعقيدة حقوق الانسان، يجب ترك الفكر السياسي والفلسفي اليوناني – الروماني والتوجه نحو المسيحية”. ومن دون أدنى شك، يستند هذا الرد إلى حجج صلبة، ولا سيما أن انتشار المسيحية، بما تحمله من تسامح، شكل ردًا طبيعيًا على ما تعرض له الانسان من ظلم واستعباد في العصور القديمة. في الواقع، يعكس هذا الاختلاف في الموقف بين بانيل وباتون وغيرهم كثير من المفكرين جوهر قضية الحرية. ذلك عندما تصبح الإجابات التي نسوغها لمواجهة قضية تحرر الانسان هي بحد ذاتها قيودًا على حريته.
بدأت القيود الكنسية على حرية الاعتقاد بالانحسار مع بديات انقسامات الكنيسة وضعف مركزيتها المتمثلة بسلطة البابا في روما. ثم بتأثر الفكر الأوربي بنظرية ابن رشد “الحق المزدوج” التي حاول فيها تجنب الصدام مع السلطات الدينية الإسلامية، إذ نادى بالتمييز بين حقيقتين مستقلتين متناقضتين في هذا الوجود. حقيقة دينية وحقيقة فلسفية. وعلى الرغم من تحريم البابا هذه النظرية، إلا أن تأملات ابن رشد وجدت طريقها للانتشار في أوروبا. بدأت أفكار التسامح وحرية العقيدة بالظهور مع بزوغ عصر النهضة في إيطاليا في القرن الثالث عشر. في القرن الخامس عشر، وقعت الأطراف المتنازعة في الحرب الدينية في أوروبا ما عرف بصلحُ وستڤاليا، كما صدر في كل من فرنسا وإنكلترا دساتير تجيز، على نطاق ضيق، اعتناق أيًا من المذاهب المسيحية. 1789 اندلعت الثورة الفرنسية، وعرفت البشرية أول إعلان رسمي مكتوب يكرس حرية الاعتقاد والفكر، هذا الإعلان الذي مهد لتغييرات عميقة في التشريعات الأوربية والمعاهدات الدولية في مجال الحريات والحقوق العامة. مرورًا بالثورة الصناعية والقرن التاسع عشر، ثم نحو الحرب العالمية الأولى ثم اتفاقات جنيف فالحرب الثانية، وصولًا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، الذي يعدّ أول وثيقة دولية غير ملزمة تنص على احترام حرية الاعتقاد والفكر.
ب- في العالمين العربي والإسلامي حتى الحرب العالمية الأولى
عرفت المجتمعات القديمة في شبه الجزيرة العربية، قبل الإسلام، التعددية الثقافية والحريات الدينية. وكذلك كان الحال في حضارات سورية وبلاد ما بين النهرين. لقد كان من الممكن للإنسان أن يعتنق الدين الذي يريد دون الشعور بالتهديد، وهذا يعبر عن حرية الاعتقاد. بينما كانت الكعبة تحوي مئات الآلهة، ضمن سياق من حرية ممارسة الشعائر الدينية. وكانت القبائل في شبه الجزيرة العربية ترتبط بعلاقات تجارية واجتماعية متنوعة، على الرغم من تنوع واختلاف عقائدها الدينية، بما في ذلك العقائد السماوية، كاليهودية والمسيحية. إذ لم يخلق هذا الاختلاف أي شكل يُذكر من الطعن بمبدأ التسامح الديني.
مع انتشار الإسلام في المشرق العربي، اقتصرت حرية الاعتقاد، بشكل مشروط، على الأديان السماوية، بينما حُرمت جميع أشكال الوثنية أو الإلحاد. والواقع أن فكرة المواطنة آن ذاك كانت تستند إلى الإسلام بحد ذاته، فمن كان يؤمن بغير الإسلام لم ينظر إليه على أنه مواطن يتمتع بجميع حقوق المسلمين. فتعاملت الدولة الإسلامية مع غير المسلمين على أنهم رعايا أجانب تحت مسمى (أهل الذمة)، وكان عليهم دفع (الجزية) في مقابل ضمان حرية المعتقد. تعد العهدة العمرية من أبرز الوثائق التي يمكن الإشارة إليها في هذا الصدد. فقد وضعت الأسس القانونية لممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين في مدينة القدس. لقد شهدت الدولة الإسلامية في مختلف عهودها حروبًا ذات طابع ديني أو سياسي أو كليهما معًا، كحروب الردة، والصراع السني الشيعي وحروب الدولة الفاطمية.
مع ذلك لا يمكن إنكار المساهمات الفلسفية الكبيرة للمفكرين المسلمين في تأثير في مفاهيم الدولة والحق والعلاقة مع الدين. لقد أدى توسع الدولة الإسلامية دورًا حاسمًا في تعرف المفكرين العرب على فلسفة أثينا والهند قبل نظرائهم في أوروبا. لكن من المؤسف، أن كان لشدة القبضة السياسية والدينية وتحالفهما في آن، دور عميق في الحد من انتشار الأفكار الفلسفية التي تناولت العقيدة، بل تم اضطهاد معظم دعاتها في تلك العصور. عاش الكندي بين 805 – 873م وترجم أهم الكتب الفلسفية اليونانية إلى العربية. الفارابي بين 872 – 950م صاحب كتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة” الذي يناقشه في نظام الحكم متأثرًا بكتاب الجمهورية لأفلاطون. ابن سينا عاش في القرن الحادي عشر ميلادي، وضع ما عرف بالخلاصات الفلسفية وأبرزها كتاب الشفاء. ابن رشد في القرن الثالث عشر ميلادي وهو الذي يُعد الأب المؤسس للفكر العلماني في أوروبا، أشهر كتبه “فصل المقال”، وتتخلص فلسفته في أن الشريعة الإسلامية حق وأن البراهين العقلية حق أيضًا، والحق لا يُناقض الحق، فلا تضاد بين الفلسفة والشرع، والمرجع الأساس له هو العقل. شكلت فلسفة ابن رشد دعوة سابقة لزمانها في فصل الدين عن الدولة، وقد جُوبهت برفض شديد من المرجعيات الدينية حينها، لما تتضمنه، بالنتيجة، من تقويض لنفوذ تلك المرجعيات. فاتهم بالكفر والإلحاد وأحرقت مؤلفاته وحُكم عليه بالنفي، حيث مات. ابن خلدون بين 1332 – 1406م من أهم مؤلفاته المقدمة، التي ترجمت إلى كثير من اللغات، عرف عنه دعوته إلى العقلانية وفصل بين الدين والعلم، كما “تميّز في رؤيته وتصوّراته بدعوة صريحة نحو عقلانية، تستند إلى ضرورة الفصل بين الديني والمعرفي أو بعبارة أخرى فصل الكتابة التاريخيّة العربيّة، بين علم التاريخ بوصفه علمًا إبستمولوجيًا مُستقلًا عن العلوم الدينية”.
في العام 1516 بدأ توسع السلطنة العثمانية جنوبًا باتجاه سورية والعالم العربي. استمر الوجود العثماني بعدها نحو أربعة قرون، كان لها أثر كبير في مفهوم حرية الفكر في المجتمع السوري وغيره من المجتمعات العربية. اتبع العثمانيون سياسات شديدة الاستبداد في سورية، واستندوا في حكمهم إلى أحكام الشريعة الإسلامية في تبرير شرعيتهم، بوصفهم، أي العثمانيين، ورثة الخلافة الإسلامية. يلاحظ ألبرت حوراني أن الدولة العثمانية كانت قبل كل شيء، دولة إسلامية سنية. وكان جميع المسلمين السنيين، دون غيرهم، ينتمون انتماءً تامًا ومتساويًا إلى جسم الجماعة السياسي، ذلك بصرف النظر عن العرق أو اللغة. بينما كان التعامل مع المسلمين الشيعة باستهانة واستعلاء لأسباب سياسية تتعلق بالصراع بين شاه إيران والسلطان العثماني، إضافة إلى أن شرعهم لم يكن معترفًا بها. يضاف إليهم أقليات أخرى كانت تتمركز في مناطق بعيدة عن مركز السلطة، فتساهلت السلطة العثمانية معهم في ممارسة شعائرهم على نطاق ضيق ومغلق في مقابل دفع الضرائب والولاء للسلطنة. ويبين أن الحال لم يكن كذلك بالنسبة إلى المسيحين واليهود، إذ تمتعت هذه الديانات باعتراف رسمي بارز، دون أن يعني ذلك المساواة مع حقوق المسلمين السنة.
حافظ العثمانيون على المركز القانوني لغير المسلمين في السلطنة، بوصفهم رعايا غير مواطنين، وملزمون بدفع الجزية لقاء كفالة خصوصيتهم في العبادة وقضايا الأحوال المدنية. مع ولادة الحركة النهضوية الثقافية التركية، بفعل التعرف على ما وصلت إليه أوروبا من خلال البعثات الدراسية، وبسبب ضعف السلطنة السياسي الدولي، مع تعاظم الدور السياسي الأوربي، وقدرته على التأثير في السياسات الداخلية للعثمانيين، انطلقت مرحلة الإصلاح التشريعي في محاولة للحاق بركب الحضارة الغربية. في العام 1839 صدر ما عرف بالتنظيمات العثمانية، التي تضمنت إعادة صوغ نظام الملل. فنصت على “تأكيد المساواة بين جميع قاطني الدولة العثمانية أمام القانون، وبوجه خاص، تحقيق المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، بهدف القضاء على حواجز الملل وتوفير الإخاء بين كل الرعايا العثمانيين”. ثم في العام 1856 صدر تعديل آخر أضاف أحكام أخرى مثل، إلغاء نظام الالتزام، وتطبيق الخدمة العسكرية على المسلمين وغير المسلمين، وعدم تطبيق عقوبة الإعدام على المرتدين عن الإسلام …،”. في العام 1869 صدر قانون الجنسية العثماني الذي نص في مادته الثامنة على أن “يطلق لقب عثماني على كل فرد من التابعية العثمانية بلا استثناء، من أي دين أو مذهب”، وعد في المادة التاسعة منه أن كل مقيم في الدولة عثماني ويُعامل على أنه من رعاية الدولة، ثم المادة العاشرة “حرية الشخص مصونة”. في العام 1876 صدر القانون الأساس العثماني أو المشروطية الأولي (الدستور العثماني)، الذي عُلق تنفيذه حتى العام 1908، وهو ما عُرف بالمشروطية الثانية. “وجدير بالذكر أنه باستقراء جملة نصوص الدستور العثماني (المشروطية العثمانية) 1876 يتضح أنها متأثرة بإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، وكذلك بالدساتير الفرنسية؛ إذ كانت السلطنة مرتبطة إلى حد كبير بأوروبا بوجه عام، وبفرنسا بوجه خاص،”.

ج- النهضة العربية
سيكون من المتعذر الوصول إلى فهم عميق لتطور مفهوم الحرية بشكل عام، وحرية الاعتقاد بشكل خاص، في سياق القانون في سورية، دون التوقف عند تطور المفاهيم ذاتها فكريًا خلال عصر النهضة العربية. والواقع أن أهمية هذه المرحلة، واختلاف سياقها الفكري عن السياق القانوني لهذه الدراسة، دفعاني إلى تقديمها في فقرة منفصلة، لتناول بعض من أهم أعلام النهضة العربية، وأبرز الرؤيا الفكرية من قضية حرية العقيدة.
شكلت حملة نابليون بونابرت على مصر 1802، بالنسبة إلى العالم العربي، أول احتكاك بالفكر الأوربي وبالصناعة الأوربية المتطورة. لقد انتجت هذه الحملة لدى مواطني الدولة العثمانية، آن ذاك، وعيًا بالفارق الحضاري بينهم وبين المجتمع الأوربي. بعد فشل الحملة وخروج فرنسا، تولى محمد علي باشا الحكم في مصر بين عامي 1805 و1846. سعى محمد علي باشا إلى تأسيس دولة متطورة قوية. فشرع بإرسال البعثات التعليمية إلى فرنسا للتعرف على الحضارة الأوربية والتعلم منها. خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر نادى رفاعة الطهطاوي بالإصلاح الديني، وبحرية المجتمع، وبحقوق الفرد، وبمبادئ العدالة، والمساواة. فيما بعد وخلال النصف الثاني من القرن ذاته، تصاعدات دعوات الإصلاح الديني وتحرير العقل وتحكيمه، والابتعاد عن البدع مع الشيخين الأفغاني ومحد عبده، اللذين دعيا إلى مواجهة سلطة الخديوي في مصر والتخلص من الاستعمار. خلال المرحلة التاريخية ذاتها، برز عبد الرحمن الكواكبي في سورية، أحد أهم دعاة التحرر والإصلاح الديني. اتفقت أكثرية مفكري عصر النهضة على أن النهوض بالأمة يجب أن يستند إلى الإصلاح الديني، وأن أهم أسباب الحضارة الغربية الحديثة هي التزامها بالتعليم والمبادئ التي أمر بها الإسلام، فيقول الشيخ محمد عبده بعد زيارته إلى لندن أنه قد رأى “إسلاما بلا مسلمين” في حين أن قومه “مسلمون بلا إسلام”. ينشق عن هذه الرؤيا بطرس البستاني، الذي كان من بين أوائل دعاة حرية العقيدة، إضافة إلى فارس الشدياق. في القرن العشرين قدم طه حسين رؤيته الجريئة بتبني المذهب الديكارتي النقدي، فقد فجر بأفكاره أهم السجلات الفكرية في العالم العربي حتى اليوم. لاقت أفكاره مقاومة شديدة من المؤسسة الدينية في مصر. لم تتوقف الانتقادات عند حدودها الفكرية، بل تجاوزت ذلك لتكون حملات تشهير وتكفير بحقه. يقول الدكتور عدي الزعبي “في معظم كتاباته، يرى العميد أن العقل الإنساني واحد، ليس شرقيًا ولا غربيًا، وأن المنهج النقدي الديكارتي والتنوير العقلاني يصلحان لكل الشعوب، لأن الإنسان هو الإنسان في كل مكان وزمان، وما الاختلافات التي نراها إلا نتيجة الأوضاع المختلفة التي خضعت لها المجتمعات.”
لا يتيح موضوع هذه الدراسة الإشارة إلى مفكري عصر النهضة جميعهم، ولا تناول مراحلها التاريخية كلها. وإذ تناولت بعضًا من المفكرين، فإن الهدف هو تبيان أبرز التيارات الفكرية بخصوص قضية حرية العقيدة. ركز معظم مفكري مصر على فكرة الإصلاح الديني، والاستفادة من التجربة الأوروبية، بما يتناسب مع مبادئ الشريعة الإسلامية. فلم تتناول طروحاتهم حول الحرية ما يتقبل حرية اختيار الدين أو الاعتقاد أو تبديله. كان طرحهم لقضية الحرية ينطلق من مفهومها السياسي، بما يسمح بممارسة العمل السياسي والإعلامي في بيئة ديمقراطية. على المقلب الآخر، لدى بعض مفكري سورية ولبنان، ومعهم طه حسين في مصر، نجد أنهم تناولوا مفهوم الحرية بمنظوره الإنساني. بمعنى يتجاوز في حدوده قضايا السياسة والحرية الإعلامية، بل يذهب بعيدًا، في طرح حرية الفرد في اختيار أسلوب حياته وتوجهاته الفكرية، التي قد تتعارض مع الثقافة الغالبة في المجتمع. لقد أدت الأوضاع السياسية والاجتماعية دورًا مهماً في هذا الاختلاف في الموقف من حرية الاعتقاد. إذ شكلت حملة نابليون نقطة الانعطاف التاريخية بالنسبة إلى مصريين للتحرر من التبيعة للسلطنة العثمانية، ثم ما لبثت أن وقعت تحت الانتداب البريطاني. بينما استمرت السلطة العثمانية محتفظة بتأثير حاسم في الحياة السياسية في كل من سورية ولبنان حتى الحرب العالمية الأولى. وبينما يتميز المجتمع في كل من سورية ولبنان بالتنوع الديني والطائفي الشديد، ليست الحال كذلك بالنسبة لمصر. والواقع أن ما تعرضت له الأقليات الدينية في سورية ولبنان من اضطهاد وتهميش، كان الدافع الأبرز للتفكير بقضية حرية الاعتقاد وطرح الانتماء القومي العربي بديلًا للانتماء الديني الذي كان يستند إليه العثمانيون في تبرير شرعية سلطتهم.

3 – الإطار النظري لمفهوم حرية الاعتقاد
كما وضحت هذه الرسالة في مستهلها، تطور مفهوم الحرية جنبًا إلى جنب مع تطور الحضارة الإنساني. فقد امتد البحث في مفهوم الحرية عبر آلاف السنوات حتى يومنا الحالي، متناولًا مجالاتها جميعها من الحرية الفردية إلى السياسية والاقتصادية، ونواحيها جميعها من حرية العقيدة، والتعلم، والعمل، وغيرها. ولا نخطئ إذا ما قلنا إن جميع التيارات أو المدارس الفكرية، قد تركت أثرها بالفعل على مفهوم حرية الاعتقاد بشكل خاص. وتنقسم الرؤى الفكرية تجاه حرية الاعتقاد في أربعة مذاهب رئيسة. هي الفكر الإسلامي، المذهب الفردي، المذهب الاشتراكي وأخيرًا المذهب المعاصر أو الاجتماعي.
لا يتفق مفكرون الإسلاميون على مفهوم محدد لحرية الاعتقاد، حالهم كحال مفكري الأديان والتيارات الفكرية الأخرى، لكن عدم الاتفاق لدى المفكرين الإسلاميين شديد جدًا حتى درجة التناقض، ويتراوح بين المفاهيم المتشددة والوسطية والمنفتحة. وقد انتقيت منها الرؤى المنفتحة، لما تعبر عنه من تقارب مع التوجهات الدولية والقانون، وهو ما ينسجم مع هذه الدراسة. يُقصد بحرية الاعتقاد في الإسلام “أن يملك الإنسان ويختار ما يرضاه لنفسه من الإيمان والنظر للكون والخالق والحياة والإنسان، دون إكراه، أو قسر، أو فرض عليه”. أما بحسب الغنوشي، تُبنى حرية الاعتقاد في الإسلام على مبدأ عدم إكراه الناس على الدخول في الإسلام، ولأي فرد الحق في اختيار عقيدته بعيدًا عن أي إكراه، فالله تعالى بنى أمر الإيمان على التمكن والاختيار، وليس على الإجبار والإكراه
ظهرت في العصر الحديث دراسات متخصصة تناولت مضمون الحرية الفردية بشكل أعمق من سابقاتها. على يد مجموعة من المفكرين من أبرزهم جون لوك، جان جاك روسو وأندريه هوريو. يرى أصحاب المذهب الفردي أن الفرد هو محور الوجود، وغاية في ذاته ونقطة البدء، فهناك قانون طبيعي للحقوق والحريات العامة يتضمن مجموعة من المبادئ، يجب على المشرع أن يحترمها وأن يكرسها بالتشريع، لأنها سابقة على وجود المشرع نفسه، إذ إن للأفراد حقوقًا لصيقة بهم ولدت معهم ولا يمكن للدولة أن تمسها أو تسن ما يخالفها.
حرية الاعتقاد في المذهب الفردي تعني حرية الشخص الكاملة غير المنقوصة في ما يتعلق بالعقيدة، وهذه الحرية لها أوجه عديدة، هي: حريته في أن يكون له دين أو عقيدة، وحريته المطلقة في ألا يفرض عليه دين معين أو يجبر على اعتناق ديانة بعينها، حريته في ممارسة شعائر وطقوس ديانته أو عقيدته في الخفاء أو العلانية، دون أن يؤدي ذلك إلى تعرضه للمساءلة أو المضايقة.
تضيق مساحة الحرية الفردية بشكل كبير لدى أصحاب المذهب الاشتراكي. حتى أن مسألة حرية الاعتقاد، موضوع هذه الدراسة، تكاد تكون معدومة. إذ ليس للفرد حقوق وحريات طبيعية ثابتة ولصيقة بصفته إنسانًا، فلا يمكن المساس بها، بل إنه لا يتمتع إلا بتلك الحقوق التي تمنحها وتقررها له الدولة، وهي ليست بديهيات أو مسلمات أو أشياء تولد معه، وتلتصق به وتستمر مرافقة له طول حياته، وإنما هي مجرد امتيازات أو قدرات مؤقتة وعارضة، تمنحها وتنظمها، بل وتسحبها الدولة متى تشاء مراعاة صالح الجماعة وأهدافها التي تسعى إلى تحقيقها.
أمام التناقض الحاد في مفهوم حرية الفرد لدى كلا المذهبين، ظهرت دعوات للتوفيق بينهما، وهذا ما اصطلح على تسميته بالمذهب الاجتماعي أو المعاصر. يرى الفقيه ديجي، وهو واحد من أبرز دعاة هذا المذهب، أن الأفراد يحتاجون داخل المجتمع إلى التضامن الاجتماعي، لتبادل الخدمات والمنافع وإشباع حاجاتهم المتنوعة، باستخدام قدراتهم واستعداداتهم المختلفة، وهو ما يسمى عنده التضامن بالتشابه أي تشابه حاجات الأفراد، وإشباع هذه الحاجات يحتاج إلى تقسيم العمل بينهم، وهذا التضامن يوجد في جميع المجتمعات على مر العصور كلها، وهو الذي يحدد غايات الجماعة وحقوق وحريات الأفراد وعلاقاتهم بالسلطة.
الجزء الثاني: حرية الاعتقاد في الدستور
1– حرية الاعتقاد في الدساتير السورية المتعاقبة
تعبر النصوص الدستورية، المتعلقة بمسألة حرية الاعتقاد، عن الموقف السياسي والاجتماعي تجاه واحدة من أعقد القضايا التي تواجه المشرعين في المجتمعات المتنوعة ثقافيًا. ولاسيما عندما يعبر هذا التنوع عن نسب متفاوتة في الحجم، بين أغلبية ساحقة وأقليات غير مؤثرة، كما هو الحال في سورية. إذ يمثل المواطنون، الذين يعدون أنفسهم مسلمين سنة عربًا، أغلبية سكانية كبيرة أمام أقليات متعددة ومتنوعة طائفيًا وعرقيًا، ستظل في مجموعها أقل حجمًا مقارنة بحجم الأغلبية.
نتيجة الصراعات السياسية، الداخلية والخارجية، التي أُسبغت بلون ديني أو مذهبي، ظل نقاش قضية حرية الاعتقاد يرتكز على المفهوم الجمعي. بحيث يتناول كل مجموعة ثقافية بشكل منفصل وبوصفها كلًّا لا يتجزأ. ولم تتجاوز مداولات هذه القضية حدودها الخاصة بالمجموعة الثقافية كلها. فهي لم تتعامل مع فكرة الاعتقاد على أنها مفهوم شخصي مرتبط بوجدان الفرد مستقلًا عن المجموعة الثقافية التي ينتمي إليها بيولوجيًا.
في الواقع، إن الطبيعة الفكرية للنظام السياسي الحاكم في مجتمع ما، لا تؤدي دورًا حاسمًا في مدى احترام حرية الاعتقاد فحسب، بل إنها تحدد مفهوم هذه الحرية بالنسبة للمجتمع. فالأنظمة السياسية ذات الطابع الديني، أو الأيديولوجي، أو تلك التي يكون لأيديولوجيا ما دور في بيئتها القانونية، تُعرف حرية الاعتقاد بما ينسجم مع الأفكار والمبادئ التي تؤلف رؤيتها السياسية. لذلك كان لا بد من البحث في القضايا التي ينص فيها الدستور على دور للدين. كتحديد دين الدولة أو دين رئيسها.
كذلك الأمر بالنسبة للحريات الأساسية الأخرى، التي يتناولها الدستور. إذ إن هناك ترابط كبير، وتأثير متبادل، بين حرية الاعتقاد، بكونها إحدى الحريات الأساسية، وحريات الفكر والرأي والتعبير. بالتالي كان لا بد من الإشارة إلى هذه الحريات في معرض دراستنا لحرية الاعتقاد.
كما سنلاحظ أن الدستور السوري يميز بين حرية الاعتقاد وحرية الفكر. وهو يذهب إلى قصر معنى المعتقد على العقيدة الدينية، أي الدين، إلا أنه لا ينظر إلى الفكر على أنه عقيدة لها خصوصيتها التي يتوجب كفالتها قانونًا، بل إن المشرع السوري يفسر حرية الفكر على أنها مجرد رأي الفرد أو موقفه تجاه القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
أخيرًا، تنطوي حرية الدين أو المعتقد على آثار بعيدة المدى في التواصل – وهي بالمناسبة، ترتبط، ارتباطًا عضويًا بحرية التعبير. إن حرية التعبير ضرورية لا بد منها للوصول إلى بيئة تسمح بحوارات بناءة في ما يتعلق بمسألة حرية الاعتقاد. لذلك سيكون من الضرورة بمكان الطلاع على موقف الدستور من قضية حرية التعبير أيضًا.
أ– مرحلة التأسيس
في العام 1920 صدر أول دستور لدولة سورية بمفهومها السياسي الحديث. لم يجر العمل به، بسبب دخول القوات الفرنسية وخضوع سورية لسلطة الانتداب. على الرغم من ذلك، فإن البحث فيه، من الأهمية بمكان، تسمح بالتعرف على الموقف الدستوري، وكذلك السياسي، تجاه قضية حرية الاعتقاد في سورية إبان مرحلة تأسيس الدولة.
تناول الدستور مسألة حرية الاعتقاد في مادة يتيمة مقتضبة. إذ تنص المادة الثالث عشرة منه على أن “لا يجوز التعرض لحرية المعتقدات والديانات ولا منع الحفلات الدينية من الطوائف على ألّا تخل بالأمن العام أو تمس بشعائر الأديان الأخرى”. إن الصيغة اللغوية الناهية عن التعرض، إضافة إلى الاختصار البيّن في النص، يوحيان بأن مبدأ التسامح الديني لم يكن راسخًا في ثقافة المجتمع. فهدف المشرع إلى الحد من هذه الظاهرة، لكن دون التوسع في بحثها. يقول الدكتور دراجي في معرض طرحه لقضية علاقة الدين بالدولة في دستور 1920: “وبموجب رسائل رشيد رضا رئيس المؤتمر السوري العام، فإن المداولات التي أدّت إلى التوافق حول هذه المادة تضمّنت مقترحين، الأول يدعو لأن ينص الدستور على أن الدولة لا دينية، والثاني يدعو لأن ينص الدستور على أن الدولة إسلامية وأن التوافق كان بالعدول عن ذكر ما إذا كانت الدولة لا دينية أو إسلامية مقابل أن ينص الدستور على أن دين الملك هو الإسلام”. مما يدل على توجه أعضاء المؤتمر السوري الأول إلى تبني مبدأ التوافق بين مواقف أعضائه في مواجهة القضايا الخلافية. وهذا ما يفسر – برأيي – اقتضاب النص المتعلق بحرية الاعتقاد.
ذهب هذا الدستور إلى اعتماد مدنية الدولة بشكل صريح في مادته الأولى. وفي المادة ذاتها أيضًا، حدد دين الملك بالإسلام. لم يكن لهذا النص، دين الملك، أكثر من طابع رمزي، يهدف إلى إبراز الهوية الثقافية لأغلبية السكان. إذ إن واضعي الدستور أرادوا “ألا يُتْرَك للعوامل الدينية البحتة مجال في السياسة والأحكام العمومية، مع احترام حرية الأديان والمذاهب التي في البلاد بلا تفريق بين طائفة وأخرى”. يشير جمال باروت إلى أن شهر أيار 1919 سجل أول إشارة إلى تداول مفهوم العلمانية في الوسط الثقافي السوري. أي ما يزيد عن السنة قبل تاريخ صدور الدستور الأول في حزيران 1920. ويرى أن عبارة “الحكومة المدنية” هي المفهوم المعادل للعلمانية في المجال التداولي السوري. إن السرد السابق حول العلمانية والدين في الدستور، يحيلنا مباشرة إلى قضية الحريات الشخصية وحرية الاعتقاد بشكل خاص موضوع الدراسة.
لقد شهد المؤتمر السوري الأول نقاشات حول الحرية الشخصية. فطالب بعض المؤتمرين بإطلاق الحريَّات الشَّخصيَّة دون قيد أو شرط، بينما عارضه آخرون، مطالبين بتقييدها بأن تراعي الآداب العامَّة. يقول رشيد رضا عن هذا: “قاوم كثيرون منهم تقييد الحريَّة الشَّخصيَّة بشرط المحافظة على الآداب العامَّة، وكان رأي بعضهم أنَّه شرط لا حاجة إليه؛ لئلَّا يتوسَّل به إلى منع السُّكر في المقاهي والملاهي، واختلاط النِّساء بالرِّجال فيها، ورأى آخرون أنَّه شرط حسن، ولكن لا ينبغي ذكره في القانون الأساسيِّ، وقد رجح هذا الرأي على رأي المخالفين له”. ما يدل على أن مفهوم الحرية الشخصية فُسر حصرًا بحرية المظاهر الحياتية في اللباس والطعام والشراب والاحتفال والاختلاط بين الجنسين. ولم يتضمن ذلك حرية الفكر أو العقيدة.
لقد جرت المداولات التأسيسية بين كتلتين رئيستين في البلاد. الكتلة القومية ذات النزعة العلمانية والكتلة الدينية ذات النزعة العثمانية. وكان ذلك خلال السنة التالية لانسحاب القوات العثمانية من دمشق 1918. وهذا ما تؤكده رسائل رشيد رضا رئيس المؤتمر السوري العام، التي أشرنا إليها سالفًا، والتي يشير فيها إلى وجود رأيين داخل المؤتمر حول قضية دين الدولة. ويضيف “وقد اقترح بعض أعضاء المؤتمر من غير المسلمين في هذه الجلسة أن يُنَص في قرار المؤتمر على أن حكومة سورية المتحدة لا دينية (لاييك) ووافقه بعض المسلمين الجغرافيين، وعارضه آخرون مقترحين أن يُنص فيه على أنها حكومة إسلامية عربية، أو دينها الرسمي الإسلام، واحتدم الجدال، فلم أرَ مخرجًا من هذه الفتنة إلا اقتراح السكوت عن هذه المسألة، ومما قلته: إن إعلان كونها لا دينية يفهم منه المسلمون جميعهم أنها حكومة كفر وتعطيل، لا تتقيد بحلال ولا حرام، ومن لوازم ذلك أنها غير شرعية، فلا تجب طاعتها ولا إقرارها، بل يجب إسقاطها عن الإمكان، فالأَوْلَى السكوت عن ذلك، فوافق الأكثرون على هذا الرأي، والاكتفاء باشتراط أن” يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام فتقرر ذلك”.
بعد مفاوضات طويلة وشاقة، حول مسودة الدستور التي اقترحتها الجمعية التأسيسية عام 1928، أصدر المندوب السامي الفرنسي في سورية الدستور الثاني في تاريخ البلاد في العام 1930. وقد بين الدستور موقفه من قضية حرية الاعتقاد في المادتين 15 و16.
المادة 15: حرية الاعتقاد مطلقة. وتحترم الدولة جميع المذاهب والأديان الموجودة في البلاد وتكفل حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد جميعها على ألّا يخل ذلك بالنظام العام، ولا ينافي الآداب، وتضمن الدولة أيضًا للأهلين على اختلاف طوائفهم احترام مصالحهم الدينية وأحوالهم الشخصية.
المادة 16: حرية الفكر مكفولة. فلكل شخص حق الإعراب عن فكره بالقول والكتابة والخطابة والتصوير ضمن حدود القانون.
كُتبت مسودة هذا الدستور بوحي من أنظمة ديمقراطية أوروبية، وتبنت نظاما جمهوريًا برلمانيًا، فجاء دستور 1930 وثيقة دستورية حديثة تعكس الروح الديمقراطية. وقد غابت عنه الإشارة إلى دين الدولة وكذلك الإشارة إلى دور الدين في التشريع. لكنه نص صراحة على أن الإسلام دين الرئيس. ويمكن القول إنه نصّ رمزي فحسب، لا أثر له على حيادية مؤسسات الدولة تجاه الأديان والمعتقدات. وإنما جاء نتيجة لضغوط الأغلبية البرلمانية، والمطالبات الشعبية بالتأكيد على الهوية الثقافية الإسلامية للبلاد.
يلاحظ على نص هذا الدستور، أنه كان حاسمًا في قضية حرية الاعتقاد، فوردت في مستهل المادة 15 بشكل صريح ومطلق دون تقييد أو تورية، مشترطًا في ممارستها ألا تخل بالنظام العام أو ألا تنافي الآداب العامة. وتوسع في تحميل الدولة مسؤولية ضمان احترام المصالح الدينية والأحوال الشخصية المتعلقة بالأقليات. ثم أكد في المادة 16 مسؤولية الدولة أيضًا عن كفالة حق حرية الفكر. وبين أن لكل إنسان الحق في التعبير عن فكره بالقول والكتابة والخطابة. بالمقارنة مع نصوص دستور 1920، فإن دستور 1930 قد شكل تطورًا نوعيًا في الموقف من حرية الاعتقاد، وهو، من دون أي مبالغة، لا يتخلف عن أي من النصوص الدولية المعمول بها حاليًا بهذا الشأن.
من غير الممكن إخفاء أثر الانتداب الفرنسي على نصوص هذا الدستور. إذ تبدو جلية مبادئ العلمانية الفرنسية في صيغته. “جاء دستور 1930 متوازنًا في الفصل بين السلطات. …. والنظــام السياســي، كمــا حــدده الدســتور، شــبيه إلــى حــد بعيــد بالنظــام الفرنســي فــي عهــد الجمهوريــة الثالثــة”. ويبدو أن محاولات فرنسا، من أجل ترسيخ العلمانية في الدولة السورية، لم تتوقف عند حد النص الدستوري. إذ أصدر المندوب السامي الفرنسي القرار رقم 60 بتاريخ 31 آذار 1936 المعدل بقرار 146 بتاريخ 18 تشرين الثاني 1938 وفيه يحدد الطوائف التي اعترفت بها فرنسا في سورية، وينظم شؤون الأحوال الشخصيّة على أسس وضعية وليس وفق الشرع. وعدَّ المسلمين في سورية طائفة من الطوائف، وتدخل في فرض قوانين تنظم شؤون الأسرة بما يخالف أحكام الدين الإسلامي، من مثل الاعتراف بزواج المسلمة من غير المسلم، أو كما جاء في البند 11 منه مثلًا: “إن كل من بلغ سن الرشد ويتمتع بقوة عقلية كاملة يملك حرية الاعتقاد الديني والمذهبي، وله حرية الانتقال من دين إلى آخر ومن طائفة إلى أخرى”. على الرغم من صراحة النص الدستوري حول مفهوم حرية الاعتقاد، وما تبعه أيضًا حول حرية الفكر، بكونها قضية تتجاوز المفهوم الديني أو الطائفي الخاص بكل مجموعة سكانية، إلى قضية شخصية مرتبطة بوجدان كل فرد، وهذا ما ينسجم مع القرار رقم 60 لكن يبدو أن هذا الفهم ظل حبيس النص، ومن ضمن تطلعات بعض النخب الثقافية في المجتمع السوري لا أكثر. فقد اضطر المفوّض السامي للتراجع عن قراره تحت ضغط الشارع السوري، خاصة الإسلامي منه، فأصدر في 30 آذار 1939 المرسوم رقم 53 الذي يستثني المسلمين السنة من القانون، فاحتج علماء الشيعة على هذا حتى اضطرت فرنسا لإلغائه.
ب– عهد الاستقلال
بعد الاستقلال وخروج فرنسا، شهدت البلاد تطورًا لافتًا في الحياة السياسية. فإلى جانب القوى السياسية التقليدية الوطنية ذات التوجه المعتدل قوميًا ودينيًا، والقوى الإسلامية التقليدية، والنواب القوميين، ظهرت تيارات فكرية حديثة غير تقليدية متأثرة بالأفكار الشيوعية والاشتراكية وأخرى بالليبرالية الغربية. وقد شهدت البلاد سجالات غنية في المجال الحقوقي والسياسي حول الهوية الوطنية وطبيعة الدولة. في هذه الأجواء انعقدت الجمعية الـتأسيسية التي ووضعت دستور 1950. الذي يطرح قضية حرية الاعتقاد في المادة 3 منه:
“دين رئيس الجمهورية الإسلام، الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع، حرية الاعتقاد مصونة، والدولة تحترم جميع الأديان السماوية، وتكفل حرية القيام بشعائرها جميعها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام، الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.”
عمدَ واضعو هذا الدستور إلى دمج عدد من القضايا المختلفة في موضوعها ضمن نص واحد. تحديد دين رئيس الدولة، ومصادر تشريعها الرئيسة، والموقف من الأديان والمعتقدات الأخرى الموجودة في البلاد، وأخيرًا القوانين الدينية الناظمة لقضايا الأحوال الشخصية. وذلك خلافًا للصيغة الدستورية التقليدية، التي تجعل لكل محور قسمًا أو بابًا مستقلًا، فقضية الحريات العامة لا تبحث في باب مصادر التشريع. كما هو الحال في دستوري 1920 و1930، حيث أفرد كل منهما موادًا خاصة بحرية الاعتقاد. وكذلك الأمر بالنسبة لتحديد دين رئيس الدولة. إذ يُفترض أن يجري طرحها في باب رئاسة الجمهورية وشروط الترشح لتولي منصب الرئاسة وليس في المواد الاستهلالية التي تعرف البلاد وطبيعة نظامها السياسي. لكن على ما يبدو أنه تقليد استقر مع وضع دستور 1920 الذي يحدد دين الملك في المادة الأولى. والواقع أنه لا يوجد أي رابط فقهي أو تشريعي يجمع بين القضايا المنصوص عليها المادة 3 من دستور 1950، إلا في أنها قضايا متصلة بالدين اسميًا فقط. أما في الواقع فهي قضايا مختلفة في موضوعها من الناحية القانونية. يوحي النص غير المنسجم في المادة الثالثة إلى أن المشرع أراد إظهار غاية ما.
نصت مقدمة هذا الدستور على أن “… ضمان الحريات العامة الأساسية لكل مواطن، والعمل على أن يتمتع بها فعلًا في ظل القانون والنظام، لأن الحريات العامة هي أسمى ما تتمثل فيه معاني الشخصية والكرامة والإنسانية … ولما كانت أغلبية الشعب تدين بالإسلام فإن الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومثله العليا. وإننا نعلن أيضًا أن شعبنا عازم على توطيد أواصر التعاون بينه وشعوب العالم العربي والإسلامي، وعلى بناء دولته الحديثة على أسس من الأخلاق القويمة التي جاء بها الإسلام والأديان السماوية الأخرى، وعلى مكافحة الإلحاد وانحلال الأخلاق …”.
وإذا ما ربطنا مضمون المادة الثالثة مع ما ورد في المقدمة، سيبدو جليًا الإصرار على التوجه الديني، إضافة إلى التأكيد على الهوية الدينية للدولة على الرغم من عدم النص على ذلك صراحة. يقول الدكتور إبراهيم دراجي “نشب صراع عنيف في الجمعية التأسيسية حول دين الدولة بين تيار يدعو إلى اعتماد عبارة أن “الإسلام دين الدولة” وتيار أخر يعارض تبني هذا النص، ومع أن هذا النقاش لا مبرر له أصلًا لأن الدولة مجرد شخصية اعتبارية، والدين لا يكون إلا لإنسان مدرك وعاقل، فإن الهدف كان سياسيًا بالدرجة الأولى، لكنه أُلبس لبوس الدين”. ويبين، في دراسته المقارنة “المسألة الدينية في الدساتير السورية”، جزء مهم من الحوارات والمواقف التي دارات داخل الجمعية التأسيسية، التي انقسمت بين فريقين حول قضية الدين وعلاقته بالدولة.
كانت الأغلبية التمثيلية في الجمعية التأسيسية من نصيب حزب الشعب والحزب الوطني. وهي أحزاب ذات ميول بورجوازية اجتماعيًا، وليبرالية اقتصاديًا، وعروبية إسلامية معتدلة فكريًا. وكانت، في إطار سعيها لكسب تأييد القاعدة الشعبية، باستثناء بعض شخصيات الحزب الوطني، قد اختارت عدم معارضة الطروحات الدينية المتشددة التي قدمتها، وقادت الحوار حولها، الكتلة الإسلامية والإخوان المسلمون بزعامة الشيخ مصطفى السباعي. لقد تمت الإشارة في هذا الدستور صراحة إلى أن الإسلام هو المصدر الرئيس للتشريع، وكان ذلك خطوة لاختزال الهوية الثقافية السورية بالإسلام. ولضمان الحد من تأثير المفاهيم الحقوقية المعاصرة، ولا سيما الأوروبية، على البيئة القانونية السورية. وذلك على الرغم مما يحمله هذا النص من إجحاف بحقوق السوريين من الديانات والطوائف الأخرى والسوريين من أصحاب الرؤى العلمانية.
استمر العمل بهذا الدستور حتى إعلان الوحدة مع مصر في العام 1958، على الرغم من تعليق العمل به بعد انقلاب أديب الشيشكلي، بين عامي 1951 و1954. أما دستور الشيشكلي 1953، فقد كان نسخة مصورة عن دستور 1950، في ما يتعلق بقضية حرية الاعتقاد.
ج– في الوحدة والانفصال
في عام 1958 أُعلنت الوحدة بين سورية ومصر، وخضعت البلاد بعدها لأحكام دستور مؤقت، كانت الغاية منه قيادة المرحلة الانتقالية من الوحدة. وقد استند هذا الدستور في تحديد مضمون مواده وأسلوب صياغتها إلى الدستور المصري لعام 1956، أي دستور حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر. لم يتناول دستور 1958 مسألة حرية الاعتقاد بنص خاص. وقد بيّنَ في المادة 10 منه موقفه من الحريات العامة بشكل عام: “الحريات العامة مكفولة في حدود القانون”. فلم يعدد هذه الحريات، ولم يبين ماهيتها، ولم يتطرق إلى الحقوق العامة ولا الشخصية. إلا أنه أكد في المادة الثامنة منه، بشكل مفصل، على المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون أي تمييز. فينص على أن: “لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”
على الرغم مما يكرسه هذا الدستور من ديكتاتورية وتركيز للسلطات بيد رئيس الجمهورية، وكذلك ما يتضمنه من إهدار للحريات السياسية، وهي قضايا خارج إطار موضوع هذه الدراسة، إلا أنه فيما يتعلق بقضية حرية الاعتقاد، فقد كان ينص ضمنيًا على حيادية الدولة تجاه الأديان والطوائف والإثنيات والقوميات جميعها والأفراد أيًا كانت معتقداتهم أو لغتهم أو أصولهم. وهو لم يحدد دينًا للدولة، ولا دين رئيسها، ولا مصادر تشريعها، وعدّ الديانات الموجودة في البلاد، وأتباعها، سواء لا تمييز بينهم أمام القانون.
استمرّ العمل بهذا الدستور لمدة ثلاث سنوات تقريبًا في سورية. وانتهى مفعوله بإعلان الانفصال. أما في مصر، فقد تم إقراره في العام 1966 دستورًا دائمًا، بعد إدخال بعض التعديلات الرمزية. وظل معمولًا به هناك حتى العام 1971. في عام 1961 تم الإعلان عن دستور مؤقت أعيد بموجبه العمل بمواد دستور 1950 في ما يتعلق بعمل السلطة التنفيذية وواجباتها ومسؤولياتها فقط. ولم يتناول ذلك قضايا الحقوق والحريات العامة. ثم أعلن دستور 1962، وهو دستور عام 1950 مع بعض التعديلات.
بالنتيجة يمكن القول إن نصوص دستور 1950، استمرت بالتأثير في الحياة السياسية والحقوق والحريات العامة في سورية حتى العام 1963، بما تحمله من تناقضات بين ليبرالية سياسية واقتصادية وبين تشدد ديني في قضايا الفكر والعقيدة.
د– تحت سلطة الاستبداد
في الثامن من آذار/ مارس عام 1963، نجح عدد من ضباط الجيش، الأعضاء في حزب البعث، بتنفيذ انقلاب عسكري، تولوا إثره زمام السلطة في سورية. وستتغير جميع أوجه الحياة العامة في سورية من بعده. بداية تم تعطيل العمل بالدستور، ثم أعلنت حالة الطوارئ والأحكام العرفية، بموجب الأمر العسكري رقم 2 من ذات العام، والتي استمرت حتى العام 2011. ثم أصدرت قيادة البعث مجموعة من التشريعات والقوانين التي ادعت فيها تكريس المفهوم الاشتراكي. عاشت البلاد فترة عصيبة من عدم الاستقرار الدستوري والتشريعي. وتبدل في أفراد السلطة الحاكمة. في الواقع كانت الفترة الممتدة من العام 1963حتى العام 1970 شديدة الاضطرابات على مختلف الصعد السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. كانت أبرز أحداثها:
انقلاب البعث 1963.
أعمال العنف التي شهدتها مدينة حماة والصدام الأول مع الإخوان المسلمين عام 1964.
إطلاق سياسات التأميم الاقتصادي 1965.
بدء الكفاح المسلح الفلسطيني 1964.
محاولة انقلابية فاشلة بقيادة سليم حاطوم 1966.
هزيمة حزيران 1967.
التورط في الأردن عقب مجازر أيلول الأسود 1970.
موت عبد الناصر في 28 أيلول 1970.
احتدام الصراع على السلطة بين صلاح جديد وحافظ الأسد.
دستوريًا، في نيسان 1964 أصدرت قيادة البعث الدستور المؤقت. وقد نص في المادة 16 منه على أن “حرية الاعتقاد مصونة، والدولة تحترم الأديان جميعها وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على ألّا يخل ذلك بالنظام العام”. ثم في أواخر العام 1969 أصدرت، القيادة القطرية لحزب البعث دستورًا مؤقتًا جديدًا. تضمن النص ذاتها حول حرية الاعتقاد. فيما بعد، وإثر ما عرف بالحركة التصحيحية 1970، تم وضع دستور مؤقت آخر في العام 1971. وقد تكرر فيه النص ذاته حول حرية الاعتقاد. تولى بعد ذلك حافظ الأسد في الثاني عشر من آذار من العام ذاته رئاسة الجمهورية بموجب استفتاء شعبي. واستمر العمل بهذا الدستور حتى العام 1973، حيث صدر ما عرف بالدستور الدائم للجمهورية العربية السورية. شهدت البلاد إثره حالة من الاستقرار الدستوري حتى العام 2012.
تحدد المادة 3 من دستور 1973 دين الرئيس بالإسلام وتجعل من الفقه الإسلامي أحد مصادر التشريع. ثم يتحدث الفصل الرابع عن الحريات والحقوق والواجبات العامة. فيقدم الحرية الشخصية في المادة 25. إلا أنه لا يبين ماهية هذه الحرية. فعلى سبيل المثال لا نص عن حرية الفكر. ليعود في المادة 27 لينص على أن المواطنين يمارسون حقوقهم وحريتهم بما لا يخالف القانون. ثم في المادة 35 يلتزم بصون حرية الاعتقاد، إلا أنه يحصر معناها باختيار دين أو بالانتماء إلى دين. حيث ينص حرفيًا على أن: “1- حرية الاعتقاد مصونة وتحترم الدولة الأديان جميعها. 2- تكفل الدولة حرية القيام بالشعائر الدينية جميعها على ألّا يخل ذلك بالنظام العام”.
بعد أقل من عام على انفجار الثورة السورية، وبالتحديد بتاريخ 27 شباط 2012، كان قد بدأ العمل بالدستور السوري الحالي في سورية، الذي صدر بالمرسوم التشريعي رقم 94 من العام ذاته عن بشار الأسد. يتناول هذا الدستور قضية حرية الاعتقاد في المواد 3، 9، 33 و42.
جاءت المادة الثالثة منسوخة عن المادة 3 في دستور 1950، مع تعديل شكلي، بوصف الفقه الإسلامي “مصدرًا رئيسًا للتشريع” بدلا ًمن عده “المصدر الرئيس للتشريع” ثم حذف جملة “حرية الاعتقاد مصونة” إذ تضمنت ما يلي:
“دين رئيس الجمهورية الإسلام. الفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريع. تحترم الدولة الأديان جميعها، وتكفل حرية القيام بشعائرها جميعها على ألّا يخل ذلك بالنظام العام. الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية”.
تطرح هذه المادة قضايا الحرية الدينية، وشروط الأهلية لمنصب رئيس الدولة، والديانة الرسمية، ووضعية القانون الديني، جميعها في نص واحد دون رابط فقهي يتناول محل هذه القضايا، إلا صلتها بمسألة الحساسية الدينية في سورية بين الأغلبية السنية والأقليات الدينية والطائفية الأخرى. يقول الدكتور إبراهيم دراجي بهذا الشأن “… والأمر هنا لا يتعلَّق بالإيمان، إذ تكفي الإشارة إلى الديانة في قيد النفوس، حتى لو كان الرئيس غير مؤمن، أو لا يمارس الشعائر الدينية. كما أنها تميِّز بين الأقلّيات؛ فيكفي أن يكون الرئيس مسلمًا، وحتى لو كان غير عربي …”.
يتحدث الدستور في المادة التاسعة عن حماية التنوع الثقافي في المجتمع السوري. “يكفل الدستور حماية التنوع الثقافي للمجتمع السوري بمكوناته جميعها وتعدد روافده، بوصفه تراثًا وطنيًا يعزز الوحدة الوطنية في إطار وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية”. في الواقع هذا نص جديد لم تألفه الدساتير السابقة. وهو خطوة جريئة، في الاتجاه الصحيح، نحو مواجهة القضايا التي تؤرق المجتمع. إذ يطرح قضية التنوع الثقافي، وهي، دون أدنى شك، قضية مهمة جدًا في مجتمع غزير التنوع كالمجتمع السوري.
في الفقرتين 1 و3 من المادة 33، وفي إطار تقديم مبادئ الحرية الشخصية والمواطنة، ينص الدستور على أن: ” .1الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم. … .3المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. …”. لا يقصد المشرع بالنص على العقيدة في هذه المادة بأنها تعني حرية الفكر، التي هي موضوع هذه الدراسة. إنما يقصد بها الانتماء لطائفة ما. أي عدم التمييز بين المواطنين بسبب الانتماء الطائفي. لكن في الواقع هناك كثير من الشواهد القانونية التي تتناقض مع نص هذه المادة. التي سنذكرها في مراجعة العقد الاجتماعي السوري.
ميز دستور 2012، الذي أصدره بشار الأسد، بين الاعتقاد المبني على الإيمان بدين أو طائفة، والاعتقاد اللاديني، أو الاعتقاد المبني على الفكر الحر من كل قيد أيديولوجي. كذلك فرق بين الحرية الجسدية والحرية الفكرية. فينص في المادة 42 على أن:”.1حرية الاعتقاد مصونة وفقًا للقانون. .2لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول أو الكتابة أو بوسائل التعبير كافة”. إن النص على حرية الاعتقاد بمفهومها غير الديني يعكس تأثير القانون الدولي بهذا الخصوص. وهو، بلا شك، خطوة مهمة في طريق تطوير التشريع السوري بما لا يتعارض مع المفاهيم الحديثة للعلوم القانونية. لكن على ما يبدو، فإن واضع هذا الدستور يفسر حرية الاعتقاد على أنها الاعتقاد اللاديني. ويفسر حرية العقيدة بأنه الاعتقاد الديني. وهذا خطأ خطر. لأن التعريف اللغوي لا يفرق بين العقيدة والاعتقاد. وربما أراد واضع هذا النص أن يتجنب الإشارة إلى حرية الضمير، لما يشمله مضمونها من معان كثيرة متناقضة، من بينها عدم الاعتقاد الديني، أو الإلحاد.

2– حرية الاعتقاد في الدستور المقارن
يشترك المجتمع السوري في جوانب ثقافية وتاريخية عديدة مع المجتمعات الناطقة بالعربية، وتلك ذات الأغلبية السكانية المسلمة. وإلى حد بعيد، تواجه جميع هذه المجتمعات المسائل الجوهرية ذاتها، في قضايا الهوية الوطنية والنظام السياسي والبيئة القانونية. هل للدولة دين؟ وهل يجب تحديد مصادر التشريع فيها؟ ما هو تعريف الاعتقاد؟ وما هي حدود الحرية الشخصية، وإلى أي مدى يجب احترام خصوصيتها؟ من دون شك لن تجيب هذه الدراسة عن الأسئلة السابقة. إنما ما يعنينا هو فهم التطور التاريخي القانوني في مجتمعات متشابهة، إلى حد ما، بالتجربة التاريخية وبالتركيبة السكانية، مع اختلاف كبير وعميق في خصوصية كل منها. وما المآلات، الإيجابية أو السلبية، التي من الممكن الوصول إليها في حال تكرار التجارب ذاتها.
سنطلع في هذا القسم، على عجالة، على كل من التجربة المصرية، لثرائها التاريخي المعروف، ولتأثيرها الكبير في محيطها الإقليمي. وكذلك على التجربة التونسية لما تقدمه من نموذج متقدم عن مثيلاتها من التجارب في شمال أفريقيا والشرق الأوسط. وأخيرًا سنعرض حرية الاعتقاد وفق منظور القانون الدولي.

أ– في الدستور والقضاء المصري
تنص المادة 64 من الدستور المصري على أن: “حرية الاعتقاد مطلقة. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون.” يشير القسم الأول من هذا النص بوضوح إلى عدم تقييد حرية الاعتقاد. فهو يعدها مطلقة. والإطلاق يعني عدم الخضوع لأي شرط. بالتالي، وفقًا لمنطوق النص، فإن للفرد الحق باعتقاد دين سماوي أو غير سماوي، كما له الحق بعدم الاعتقاد. لكن القسم الثاني من النص يناقض هذا الاستنتاج. إذ يقسر حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة على اتباع الديانات السماوية فقط، ووفق ما ينظمه القانون. إذًا، يحصر المشرع المصري تفسير مفهوم حرية الاعتقاد بالديانات السماوية. وحتى هذا التفسير لا يعني إطلاق حرية الاعتقاد بالنسبة لغير المسلمين، بل هو سيظل مقيدًا بما يحدده القانون. أي إنه بالنتيجة سيظل محددًا بما ترى وضعه الأغلبية التشريعية الإسلامية من قيود. ثم يأتي نص المادة 65 ليؤكد هذا التفسير الضيق لمفهوم حرية الاعتقاد. إذ ينص على أن “حرية الفكر والرأي مكفولة”، فهو لا يرى إذًا أن الفكر هو ذاته الاعتقاد وأن كلا الحريتان لا تختلفان، بل يقتصر في مفهوم الفكر ليجعله في مستوى الرأي، الذي هو أمر قابل للخطأ أو الصواب خلافًا للفكر أو الاعتقاد الذي هو حقيقة بالنسبة لصاحبه. إن التناقض الظاهر في نص المادتين 64 و65 من الدستور المصري، سببه السياق العام لهذا الدستور وتوجهه الديني المبالغ فيه. فهو يؤكد في ديباجته على موقفه من عد الإسلام دين الدولة، ومصادر التشريع فيها محكومة بما تحدده الشريعة الإسلامية. ثم يحول هذا الموقف إلى نص دستوري ملزم في المادة الثانية: “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع”. ثم يحدد في المادة الثالثة مصادر التشريع بالنسبة إلى الأحوال الشخصية لغير المسلمين من مسيحيين ويهود، خارقًا بذلك مبادئ المساواة بين المواطنين. ولا يتوقف توجهه الدين عند هذا الحد، بل يورد نصًا خاصًا في المادة السابعة عن مؤسسة الأزهر الدينية. فيجعل منها هيئة علمية مستقلة لا تخضع للدولة، لها وحدها تفسير القواعد الدينية ونشر العلوم الدينية واللغة العربية، وتلتزم الدولة بتمويلها، ويُحصن شيخ الأزهر من العزل. وبموجب هذا النص فإن السلطات الدستورية، من تشريعية وتنفيذية وقضائية، أصبحت جميعها تخضع لرقابة الأزهر في كل ما يتعلق بتفسير القواعد الفقهية الإسلامية. وإذا ما أخذنا بالحسبان أن المادة الثانية قد حددت دين الدولة الإسلام وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، تصبح كلًا من المحكمة الدستورية ومحكمة النقض في مصر خاضعتين لما تقرره مؤسسة الأزهر من تفسيرات. وهذا ما يعني، برأيي، أن النظام السياسي المصري الحالي، بجميع سلطاته، بات يحاكي الأنظمة السياسية الأوربية إبان القرون الوسطى، حينما كانت تخضع تلك الأنظمة للسلطة البابوية الكنسية.
لا يوجد في الدستور أو القانون المصري ما ينص على أن الإلحاد أو تغيير الدين إلى غير الإسلام يعد جريمة. ولكن أمام حالة انعدام النص، وتبعًا لما يحدده الدستور. فإنه من الواجب، بهذا الخصوص، الرجوع إلى ما نصت عليه الشريعة الإسلامية. وقد استقرت محكمة النقض المصرية في رأيها حول الإجهار بالإلحاد، على أنه ارتكاب لجريمة ازدراء الأديان. وفي أحد اجتهاداتها أن “الدولة عقيدتها الإسلام، وهذا ما ينص عليه الدستور في المادة الثانية منه من أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع … وارتداد المسلم عن الاسلام ليس أمرًا فرديًا يمكن أن تتسامح فيه شريعة الإسلام ودولته لأنه حق من حقوق الأفراد … وذلك بأن الدستور يكفل في المادة ٤٧ منه حرية الرأي في حدود القانون، فحرية الرأي تكون وفقًا للضوابط والحدود التي يسمح بها النظام الأساس للدولة … ولو أنه احتفظ باعتقاده في سريرة نفسه … إلا أن الجهر بالسوء من القول طعنًا في عقيدة المجتمع والدعوى إلى ازدرائها يتصادم مع النظام العام وهو ما لا يقره أي تشريع أو نظام.”
يعد الاجتهاد السابق أن الدولة جزء أو تفصيل من كلية شريعة الإسلام، وأن أمر تغيير الدين ليس قضية شخصية، بل هو قضية وطنية. ثم يناقض استنتجه الأخير بالذهاب إلى عد هذا التغيير مجرد رأي شخصي. فبحسب تفسيره، لو أن المدعى عليه احتفظ به دون أن يصرح به، لما شكل ذلك أي خرق للقانون!
وفي تطبيق نصوص الشريعة الإسلامية على المسلمين في مصر، ترى المحكمة الدستورية أن تطبيق تلك القواعد لا يشكل إخلالًا بمبدأ حرية العقيدة. فتقول في ذلك: “وإذا كانت الشريعة الإسلامية لها طابع ديني لا شك فيه، بوصفها جوهر الدين الإسلامي، إلا أنها تستقل عن الطابع العقائدي الديني الأصيل في أنها نظام تشريعي. ولهذا كان من المتصور أن تطبق الشريعة الإسلامية في مجتمع غير إسلامي، أو في المجتمع الإسلامي على غير المسلمين من أفراده، وعلى الأجانب الذين يوجدون على أرضه، بالنظر إلى طابعها الحضاري وسندها المنطقي وقيمها الاجتماعية دون إخلال بمبدأ حرية العقيدة الدينية”.
وعلى الرغم من هذا التوجه في إخضاع الدستور والدولة للدين، لا بد من الإشارة إلى أن المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة المصرية قد اتخذت موقفًا مختلفًا. فهي تحصر إلزامية النص الدستوري بالمشرع، كونه هو من يتولى مهمة سن القانون. دون أن ينال ذلك الإلزام من القضاء. على أن القضاء ملزم بتطبيق القواعد القانونية لا صياغتها. بالتالي فهو ملزم بإعمال القواعد النافذة. “تنص المادة الثانية من الدستور على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، ولا جدال في أن الخطاب في هذا النص موجه إلى السلطة التشريعية …. فإن التشريعات السارية في الوقت الحاضر تظل نافذة، بحيث يتعين على المحاكم تطبيقها توصلًا إلى الفصل في المنازعات التي ترفع إليها، والقول بغير ذلك سيؤدي إلى تضارب الأحكام واضطراب ميزان العدالة مع المساس في الوقت ذاته بأحد بالمبادئ الدستورية الأصلية وهو مبدأ الفصل بين السلطات”. وهذا ما استقر عليه موقف المحكمة الدستورية المصرية أيضًا، حسب الدكتور محمد نور فرحات الذي يقول: “تمكنت المحكمة الدستورية العليا المصرية في قضايا عديدة من إقرار مبادئ حالت بين أن يؤدي كون النص في الدستور يعتمد الشريعة الإسلامية مصدرًا رئيسًا للتشريع وأن تتحول مصر إلى دولة دينية. وأهم هذه المبادئ التي قررتها محكمتنا العليا: أن خطاب هذه المادة موجه إلى المشرع وليس موجهًا إلى القاضي، وبالتالي لا يجوز للقاضي أن يتجاهل القانون الوضعي، وأن يذهب إلى تطبيق الشريعة مباشرة حتى ولو تراءى له أن نص القانون الوضعي مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية”.

ب– الدستور التونسي ومداولات الجمعية التأسيسية
نص الفصل السادس من الدستور التونسي لعام 2014 على أن: “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف بالتصدي لها”. بموجب هذا النص يُسجل للدولة التونسية، بوصفها إحدى الدول المنضمة لجامعة الدول العربية، أنها أنتجت أول وثيقة دستورية تنص صراحة على حرية الضمير، وتميز بين الاعتقاد الديني والاعتقاد اللاديني. وهي، بالنص عليها في باب المبادئ الأساسية، تكون قد ساوت بين حرية الضمير وبين حرية المعتقد من وجهة نظر الدستور. ما يعني من حيث النتيجة مساواة جميع المواطنين أمام القانون، وحيادية الدولة تجاههم، دون الالتفات لما يؤمن به كل منهم. ويوضح النص بشكل حاسم موقفه من علاقة المؤسسة الدينية بالسياسية، بالنص على حيادية دور العبادة عن التوظيف الحزبي. ما يعني فصل الدين عن الدولة وضمان علمانية الدولة. ثم ينص الدستور في الباب الثاني – الحقوق والحريات الفصل 31 على أن: “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات”. على الرغم من المساواة ضمنًا، في النص، بين حرية الفكر من جهة، وحريات الرأي والتعبير والإعلام والنشر من جهة أخرى الذي هو برأيي أمر في غير مكانه، كون حرية الفكر، أولًا، أقرب في مفهومها إلى حرية الاعتقاد وحرية البحث العلمي، وثانيًا في كونها أوسع وأعمق من حريات الرأي والتعبير والإعلام والنشر، وهي بحد ذاتها مصدر لتلك الحريات. إلا أن الفصل بين هذه الحريات جميعًا وحرية الاعتقاد، والنص على كل منها في باب مختلف، هو خطوة متقدمة تنسجم مع موقف القانون الدولي في قضايا حقوق الإنسان ومع المفاهيم المعاصرة لهذه الحقوق. ثم يضمن النص حماية هذه الحقوق وعدم انتزاعها أو خرقها من خلال تحديد عمل آلية الرقابة، بعدم جواز الرقابة المسبقة عليها. وهو يكون بذلك قد تضمن نصًا جديدًا سباقًا لم يرد في أي من النصوص الدستورية العربية. لا يكتفي الدستور بالنص على عدم جواز ممارسة الرقابة المسبقة، بل يذهب في الفصل 49 إلى أبعد من ذلك فينص على أن: “يحدد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلّا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية بهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفّل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك. لا يجوز لأيّ تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور”. وبموجب هذا النص يكون الدستور قد حصن هذه الحقوق من تدخل السلطة التنفيذية وتجاوزها لسلطاتها. وكذلك من احتمال سيطرة أغلبية تشريعية ما وسنها قوانين تتعارض مع جوهر الحقوق والحريات العامة المنصوص عنها. وهو يحصن أيضًا استقلالية السلطة القضائية، عندما يكلفها دون غيرها بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك.
تبين الهيئة التأسيسية في التوطئة، المقدمة، أن مسألة احترام الحريات وحقوق الإنسان هي أحد الدوافع لكتابة هذا الدستور. فتنص على: “… وتأسيسًا لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية … وتضمن فيه الدولة علوية القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات والعدل بين الجهات …”.
في الباب السادس، تحت باب الهيئات الدستورية، ينص الدستور في الفصل 125 على كيفية تشكيل هذه الهيئات ويبين مهماتها وآليات عملها. ثم يقدم في القسم الثالث، الفصل 125 هيئة حقوق الإنسان، وهي بمنزلة مفوضية حقوق الانسان: “تراقب هيئة حقوق الإنسان احترام الحريات وحقوق الإنسان، وتعمل على تعزيزها، وتقترح ما تراه لتطوير منظومة حقوق الإنسان، وتستشار وجوبًا في مشاريع القوانين المتصلة بمجال اختصاصها. تحقق الهيئة في حالات انتهاك حقوق الإنسان لتسويتها أو إحالتها على الجهات المعنية. تكون الهيئة من أعضاء مستقلين محايدين من ذوي الكفاءة والنزاهة، يباشرون مهماتهم لفترة واحدة، مدتها سنوات”.
وافق أعضاء المجلس الوطني التأسيسي على الدستور التونسي الجديد بعد ثلاث سنوات من الإطاحة بنظام بن علي وبعد سنتين من انطلاق عملية صوغ الدستور. أعد المجلس مسودات ثم مشاريع تم نشرها على موقعه الإلكتروني، مما سمح لمنظمات المجتمع المدني والسياسي بتقييمها والتأثير في تعديلها وبعد ذلك على عملية الموافقة على الدستور. بعد ستة أشهر من الانطلاق تم إصدار النسخة الأولى. وظهرت النسخة الثانية خلال أربعة أشهر. واستغرق إصدار النسخة الثالثة المدة نفسها. صدر عن لجنة الصوغ المشروع النهائي في الأول من الشهر السادس من العام 2013. شهدت أعمال المجلس مداولات طويلة ومعقدة وشاقة جدًا بين ممثلي الأحزاب التونسية. وصلت حد التخوين والشتائم. خارج قبة المجلس، شهدت حدة الخلاف السياسي، حول نصوص الدستور، مستويات خطرة. وصلت إلى حد وقوع جرائم اغتيال سياسي. مع صدور كل نسخة عن المجلس الوطني التأسيسي، كان المجتمع المدني يسارع بتنظيم جلسات تقييمية تصحبها قراءة في المشروع. وإثر هذه الملتقيات المفتوحة للسياسيين والإعلام يتم نشر توصيات للعموم بقصد تحسين النسخة المقترحة. وقد وصلت بذلك هذه التوصيات إلى أعضاء المجلس الوطني التأسيسي بطريقة غير مباشرة، ولوحظ أن النسخة الموالية عادة ما تأخذ المقترحات بالحسبان وذلك بدمجها كليًا أو جزئيًا. “والحقّ أنّ هناك عددًا من فصول الدستور – لما كان في طور المشروع – هي التي كَثُر حولها الخلاف بين النوّاب وجمعيّات المجتمع المدني والجماعات الدينية بكلّ ألوانها السياسية واتجاهاتها المذهبيّة المعلنة أو الضمنيّة”.
نصّ الدستور في فصله الأول على أن “تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها”. وهو يؤكد في التوطئة على الهوية الثقافية الإسلامية والعربية للشعب التونسي. وهي في الواقع نصوص رمزية لا تؤثر على التوجه العام الذي يأخذ به هذ الدستور، وهو توجه يستند إلى الثقافة العالمية المعاصرة حول قضية حقوق الإنسان، وموقف القانون الدولي منها. كما يبدو جليًا تأثير الدساتير الغربية في الصيغة الدستورية التي اعتمدها أخيرًا المجلس الوطني. ويشير الباحث التونسي محمد يوسف إدريس إلى نقطتين جوهريتين نص عليهما الدستور. وهما تناقضان التوجه العام في احترام الحريات وحقوق الإنسان. تكمن الأولى في ما تضمنه الفصل 74 من الباب الرابع – السلطة التنفيذية. حيث يشترط لقبول الترشح لرئاسة الجمهورية أن يكون الإسلام دين المرشح. وهذا من دون أدنى شك يطعن بمبادئ المواطنة والمساواة بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية أمام القانون، بل يطعن أيضًا في حيادية الدولة تجاه الأديان والمعتقدات. أما النقطة الثانية، فهي ما نص عليه الفصل السادس من أن الدولة راعية للدين، والذي هو الإسلام بحسب المادة الأولى. بينما يكتفي النص بكفالة حرية المعتقد والضمير. وهذا ما يطرح السؤال، مرة أخرى، عن مبدأ حيادية الدولة تجاه الأديان، وعن موقف الدولة من المقدسات الأخرى غير الإسلامية.
أخيرًا، أيًا كانت نقاط النقد التي تنال من الدستور التونسي لعام 2014، ومهما كانت النصوص بعيدة عن الطموح، إلّا أنه بالنص على حرية الضمير والتمييز بينها وبين المعتقد، شكل خرقًا في محرمات ثقافة المجتمعات الناطقة بالعربية. وهو بكل تأكيد يعبر عن روح عصرية منسجمة مع المبادئ العالمية لحقوق الإنسان وحريته، ولا سيما في بحثه لقضيتي احترام حرية الاعتقاد والضمير، والاعتراف بفردية هذه الحقوق وخصوصيتها بكل إنسان، واستقلالية صفاتها الخاصة عن الصفات العامة للمجموعة الدينية التي ينتمي لها، ونجح في وضع قواعد دستورية واضحة وحادة في سبيل حماية هذه الحقوق وتكريسها. لقد جاء هذا الدستور نتيجة لعملية ديمقراطية طويلة ومعقدة، عبرت عن تطور حضاري مميز للثقافة التونسية. وقد تمكن واضعوا هذا الدستور، إلى حد بعيد، من التعبير عن مكونات هوية الشعب التونسي، ومكنوناتها المتناقضة جميعها، من دون الإخلال بمبادئ احترام الكرامة الإنسانية.

ج– القانون الدولي
تطورت فكرة حرية الاعتقاد عبر كثير من المحطات التاريخية، قبل أن تصل إلى مفهومها الحالي. ويبدو أنه من الأهمية بمكان، تناول هذه القضية، بدايةً، من وجهة نظر التجربة الفرنسية. لما لهذه التجربة من أثر كبير على صوغ المفاهيم الدولية المعاصرة لحقوق الإنسان. دون إنكار ما للتجربة الأميركية أيضًا من دور مهم في المجال ذاته. تنص المادة الثانية من الدستور الفرنسي الحالي الذي صدر في العام 1958 على أن: “فرنسا جمهورية غير قابلة للتجزئة وعلمانية وديمقراطية واجتماعية، وتؤكد مساواة جميع المواطنين أمام القانون من دون أي تمييز في الأصل أو العرق أو الدين، كما أنها تحترم المعتقدات جميعها…”. وتنص مقدمة هذا الدستور على أن: “يعلن الشعب الفرنسي رسميًا عن تمسكه بحقوق الإنسان ومبادئ السيادة الوطنية وفقًا لتعريفها في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في عام 1789، الذي تم تأكيده واستكماله في مقدمة دستور عام 1946 …”. ويشير الإعلان في المادة العاشرة منه إلى أنه: “لا يجب محاسبة أحد بسبب آرائه، حتى الدينية منها، شريطة ألا يخل التعبير عنها بالنظام العام الذي حدده القانون”. ويبين في المادة الحادية عشرة، في ما يتعلق بالعلمانية وتقديس الحرية الفكرية وعلوها على أي مبدأ آخر، أن: “حرية تداول الأفكار والآراء هي أحد أثمن حقوق الإنسان”.
لا يميز الدستور الفرنسي بين حرية الوجدان أو الضمير (Liberté de Conscience) وحرية الاعتقاد الديني (Liberté Religieuse). وهو يعدهما مكفولتين بالقانون دون أدنى تمييز بينهما بدرجة الأهمية أو القداسة، عندما ينص على احترام المعتقدات جميعها دون تحديد دين للدولة، أو لدين رئيسها، أو دون مفاضلة، أو تمييز بين الديانات في البلاد.
دوليًا، فقد تمت الإشارة لأول مرة إلى قضية حرية الاعتقاد، في وثيقة دولية غير ملزمة، في المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948 “لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، …إلخ”. ثم في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966، الذي وقعت عليه سورية، حيث نص في الفقرة الأولى من المادة 18 “… ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، …إلخ”.
في العام 1981 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها غير الملزم المتضمن إعلانًا بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، والذي أكد في مادته الأولى على ما ورد في العهد الدولي الخاص السابق الذكر. تحفظت سورية على هذا القرار بحجة تعارض تنفيذه مع قوانينها الداخلية، وأثنت – أي سورية – مع إيران على التحفظ الجماعي الذي تقدم به العراق نيابة عن منظمة المؤتمر الإسلامي بخصوص تطبيق أي بند أو نص في الإعلان من شأنه أن يخالف الشريعة الإسلامية أو أي تشريعات أو لوائح أساسها الشريعة الإسلامية، وذلك وفقا للمعلومات المنشورة على موقع مكتبة حقوق الإنسان في جامعة مينيسوتا. يُذكر أيضا أن دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي سابقا كانوا قد تحفظوا على القرار بسبب أنه “لم يأخذ بالحسبان الاعتقادات الملحدة بالدرجة المطلوبة”. في العام 1993، أشارت لجنة الإشراف على تنفيذ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمشكلة من 18 خبيرًا يتم انتخابهم من قبل الدول الأطراف في العهد، إلى أن المقصود بالدين أو المعتقد هو “معتقدات في وجود إله، أو في عدم وجوده أو معتقدات ملحدة، بجانب الحق في عدم ممارسة أي دين أو معتقد”.
ترى لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أنه لا بدّ من أن تُفسر حرية الدين أو العقيدة على نطاق واسع، حيث إن الهدف منها هو حماية الأفراد الذين يعتنقون ديانات مختلفة ويمارسون الديانات التقليدية، وغير التقليدية، والديانات الحديثة، والإلحاد. وهي أيضًا تحمي الحق في عدم اعتناق عقيدة أساسًا. فيقصد بحق حرية الدين أو المعتقد في إطار منظومة حقوق الإنسان حرية الفرد في اعتناق ما يشاء من أفكار دينية أو غير دينية.

3– العقد الاجتماعي السوري – العوامل المؤثرة
أ- تطور العقد الاجتماعي
مرحلة التأسيس: يلاحظ المراقب عدم الإشارة إلى الدين الإسلامي بوصفه دينًا للدولة أو مصدرًا من مصادر التشريع في دستور 1920، حيث اكتفى النص بالإشارة إلى الإسلام دينًا للملك أو الرئيس. لا شك أن الرعيل الأول من مؤسسي الدولة السورية لم يجدوا ضرورة ل إقحام الفقه الإسلامي في نصوص الدستور، فهذه النخبة كانت قد استلهمت الجزء الأوسع من أفكارها عن شكل الدولة السورية متأثرة إلى حد بعيد بالإرث العثماني وبطبيعته الدينية الإسلامية، وكانت تدرك في سريرتها ألّا معنى لهذه الإشارة، طالما أن القوانين في الأصل مستوحاة من الفقه الإسلامي.
لا يمكن الادعاء بأن هذا الدستور يعبر عن علمانية الدولة السورية الوليدة. إذ على الرغم من تأكيده على مدنية الحكومة، إلا أنه لم يتمكن من تجاوز قضية دين الملك، على الرغم من رمزيتها. كما فضل واضعوه صوغ نص مختصر لتناول مسألة حرية الاعتقاد في بلد متعدد الطوائف والمذاهب. ثم تبنى مفهومًا ضيقًا لمسألة الحرية الشخصية بوصفها حرية اختيار المظهر والعادات دون أن يتناول حرية الفكر. وترك أمر النظر بقضايا الأحوال الشخصية للمحاكم الشرعية والروحية والمذهبية. وإذا ما عدنا لمحاضر المؤتمر السوري الأول، فإنها تشير بوضوح إلى أن أعضاء هذا المؤتمر قد خضعوا في نهاية مداولاتهم لرغبة رؤساء المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية في البلاد.
لا شك أن عددًا كبيرًا من المثقفين السوريين، خلال مرحلة تأسيس الدولة، قد تأثروا بالفكر الأوروبي، والفرنسي على وجه التحديد. وقد تركوا بصمتهم في صوغ دستور 1920. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن المزاج الشعبي العام، والزعامات الدينية والمحلية، قد نال منهما تأثير الفكر الأوروبي أيضًا. فالسمة الحداثية، نسبيًا، التي ميزت هذا الدستور، لم تكن وليدة توازن القوى السياسية في مجلس النواب. إنما وليدة الأوضاع السياسية التي كانت تعصف بسورية في تلك المرحلة.
جرت مناقشة هذا الدستور في جو من الحرية السياسية، بعد الخلاص من الاستبداد العثماني. وتحت إدارة حكومة سياسية معادية للعثمانيين، بزعامة الملك فيصل، وقد جاءت نتيجة للثورة العربية الكبرى. ما أدى، بطبيعة الحال، إلى الحد من قدرة الكتلة الدينية على المناورة السياسية والتشبث بمواقفها. يضاف إلى ذلك أيضًا، الدور الرئيس للتهديدات الفرنسية، بالتدخل العسكري وفرض نظام الانتداب، ما دفع أعضاء المؤتمر إلى التوصل إلى نقاط توافقية، تسمح بإنتاج الوثيقة الدستورية خلال أقصر وقت ممكن. وذلك بهدف أن تمثل هذه الوثيقة رسالة إلى المجتمع الدولي، تعبر عن قدرة السوريين على إدارة بلادهم بأنفسهم دون الحاجة للوجود الأجنبي.
لقد اكتفى الدستور الأول للدولة بمنع التعرض للمعتقدات والديانات، دون أن يبين موقفه من حرية الاعتقاد بحد ذاتها، لا بمفهومها الواسع الذي يشمل حرية الضمير والوجدان الخاصة بكل فرد، ولا بمفهومه الضيق الذي يعني التسامح الديني بين المجموعات السكانية والانتماء إلى دين آخر أو طائفة مختلفة. فقد عالج قضية حرية الاعتقاد بكونها مسألة أغلبية وأقليات دينية. ولم يتجاوز ذلك إلى عدها مسألة شخصية تعبر عن ضمير كل إنسان وعن فهمه الخاص للمعتقد، بشكل مستقل عن مرجعيته الدينية. بكلام آخر، كان يعني الاعتقاد، بالنسبة إلى آباء الدستور، أنه مجرد الانتماء إلى دين معين أو طائفة ما. هذا الواقع كان لم ينل منه كثير من التغيير إبان وضع دستور 1930، إلا لناحية تكريس مبدأ التسامح الديني باحترام المعتقدات الدينية المختلفة المنتشرة بين أفراد الشعب السوري. ما يؤكد أيضًا أن النزعة العلمانية التي ميزت هذا الدستور، قد جاءت نتيجة التدخل الأجنبي، وليس بسبب تطور الحالة الثقافية أو نضج الفكر الحقوقي في المجتمع. وهذا ما يؤكد الاستنتاج الذي ذهبت إليه هذه الدراسة، حول عدم تأثر المزاج الشعبي العام، والزعامات الدينية والمحلية بالنزعة الحداثية لواضعي دستور 1920 السابق. وأن مبادئ حرية الاعتقاد قد جاءت من خارج المجتمع وهي لم تكن قد تجذرت فيه بعد. هذا ما سيتأكد مرة أخرى في دراسة دستور 1950 الذي تمت صياغته بعد خروج الانتداب الفرنسي.

مرحلة الليبرالية: مع تطور الحياة السياسية وظهور تيارات فكرية حديثة غير تقليدية متأثرة بالأفكار الشيوعية والاشتراكية وأخرى بالليبرالية الغربية، عرفت البلاد بدايات السجال الفكري والسياسي حول الهوية الوطنية وطبيعة الدولة. بعد سيطرة التيارات الوطنية ذات الطبيعة الإسلامية المعتدلة على مجلس النواب، وبتأثير من قوى الإسلام السياسي، ولا سيما حركة الإخوان المسلمين، تمت الإشارة في دستور 1950 صراحة إلى أن الإسلام هو المصدر الرئيس للتشريع، لتكون خطوة استباقية لمحاصرة أي محاولة للتأثير على الهوية الدينية الإسلامية لسورية. وذلك على الرغم مما يحمله هذا النص من إجحاف بحقوق السوريين من الديانات والطوائف الأخرى والسوريين من أصحاب الرؤى العلمانية. إضافة إلى ما يعنيه ذلك من حرمان المجتمع من الاستفادة من المفاهيم القانونية المعاصرة، التي بدأت تطبع التشريعات الوطنية حول العالم. على الرغم من النضج الفقهي الذي يميز هذا الدستور، مقارنة بعمر الدولة، إلا أنه من غير الممكن عده دستورًا ليبراليًا، فهو يستند في جوهره إلى فكر أيديولوجي. فقد شكل دستور 1950 تراجعًا خطرًا في الموقف من قضية حرية الاعتقاد. وهو في ذلك بعيد جدًا عن رؤية دستور 1930. بل يمكن القول إن واضعي هذا الدستور، عملوا على إفراغ هذا المفهوم من مضمونه. فجعلوا منه قضية ثانوية تتبع قضايا السياسة ومسائل الحكم. وجرى عرضها في فقرة مختصرة، ضمن المادة الثالثة التي تحدد دين رئيس الدولة، ومصادر تشريع هذه الدولة. وإذا ما أضفنا ما جرى من استبدال لعبارة “حرية الفكر” بعبارة “حرية الرأي” في المادة 14. سيكون دستور 1950 بذلك قد أجهز على الغنى الثقافي الذي يميز المجتمع السوري، وسيكون قد عزز من العزلة بين مجموعاته الثقافية المتنوعة، بحيث جعل كل منها تعيش بشكل منفصل، ضمن جدران فكرية مغلقة؛ ما يعني تعزيز مشاعر انعدام الثقة، والخوف، والشعور بالمظلومية بين مكونات الثقافية السورية.
هنا لا بدّ من الإشارة، إلى أن نقاشات الجمعية التأسيسية في العام 1950، تعدّ النقاشات الأكثر حرية في التاريخ السياسي السوري. وخلافًا لما سبقها، كانت سورية، خلال فترة إعداد هذا الدستور، تتمتع باستقلالها الكامل ولم تكن واقعة تحت أي تهديد خارجي مباشر أو أوضاع سياسية داخلية تؤثر في إرادة واضعي الدستور، بالتالي، فإن هذ الدستور، كان يعبر إلى حد بعيد عن حالة المجتمع وتناقضاته. وهذا، برأيي، ما يفسر التناقضات الواردة في نصوصه بين الانفتاح الليبرالي الاقتصادي والاجتماعي والتشدد الفكري الديني.
لقد انطلق واضعو هذ الدستور، في موقفهم من التعامل مع قضية حرية الاعتقاد، بكونها مجرد مسألة سياسية فرعية تتعلق بالموقف القانوني من حرية الأقليات دينية، المختلفة في هويتها الثقافية عن هوية الدولة، في ممارسة شعائرها وطقوسها. وهو لا يعني بأي حال من الأحوال، بالنسبة إليهم أنها مسألة شخصية تتعلق بوجدان كل فرد من أفراد المجتمع.
إن نصوص دستور 1950 كانت تؤسس لبناء نظام سياسي ديني يتلاءم في بنيته القانونية مع طموحات تيارات الإسلام السياسي المتشدد. وهذا ما يبرر سبب الاتجاه المتشدد في إسباغ الصفة الدينية على الدولة. لقد ذهبت الأغلبية السياسية بعيدًا في هذ الاتجاه، حتى أنها جعلت من محاربة الإلحاد واحدًا من أهداف “الأمة السورية”، بحيث تصبح مؤسسات الدولة هي المؤسسات الدينية نفسها.

مرحلة الوحدة: يرد البعض بأن هذا الدستور كان مؤقتًا، بالتالي لا يمكن الأخذ بمواقف القوى السياسية السورية، آنذاك، بموافقتها على مضمون نصوصه التي قبلتها تلك القوى. هنا تجب الإشارة إلى أمرين، الأول أن القوى السياسية ونسبة تمثيلها في أعمال إعداد دستور 1950، كانت ذاتها تقريبًا مع اختلاف بسيط في نسب التمثيل داخل مجلس النواب. وهو المجلس الذي أقرّ اتفاق الوحدة مع مصر. ثانيًا، لم تكن المشاعر القومية لدى القيادات السياسية السورية، الدافع وراء قرار قبول الوحدة مع مصر فحسب، بل وجود عوامل داخلية وخارجية أخرى أدت دورًا حاسمًا بالدفع باتجاه إعلان قيام الوحدة الكاملة مع مصر. أبرز تلك الدوافع كانت داخليًا، الصراع السياسي على السلطة، وانقسام الجيش، وخطر المواجهة المسلحة بين قواته، وتدخله – أي الجيش – المتكرر بالسلطة. أما خارجيًا فكانت تهديدات حلف بغداد بين تركيا والعراق، والتهديدات الإسرائيلية، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956. تلك الأسباب، التي شكلت المخاطر الحقيقية على وجود الدولة بحد ذاتها، هي التي ألفت الأسباب الكافية لعدم اكتراث النخب السياسية في البلاد بالتمسك بالنص على دين الدولة، أو على دين رئيسها، ولا على مصادر تشريعها، أو في البحث بالموقف من حرية الأقليات في ممارسة شعائرها واحتفالاتها، لا في الموقف من مفهوم حرية الاعتقاد، ولا بتفسيره، ولا في محاربة الإلحاد.

مرحلة الاستبداد: بعد الانفصال عام 1961، دخلت البلاد في حالة من عدم الاستقرار السياسي والدستوري. حتى العام 1964 مع بداية الدساتير البعثية. المفارقة، في أن النصوص الدستورية التي صيغت في عهد حزب البعث، والمتعلقة بحرية الاعتقاد وعلاقة الدين بالدولة، كانت جميعها تكررًا لما نص عليه دستور 1950، الذي تمت عملية صياغته بما يخدم أهداف قوى الإسلام السياسي في سورية، على رأسها حركة الإخوان المسلمين التي كانت تتحكم بمناقشات مشروع الدستور داخل الجمعية التأسيسية. المفارقة الثانية، في أن جميع دساتير البعث لم تتبنى مبدأ حيادية الدولة تجاه الدين، التي أخذ بها ضمنًا دستور 1958 الذي هو دستور يتقاطع مع رؤى حزب البعث الاشتراكية والقومية العربية. بكلام آخر، فإن قيادات البعث لم تأخذ بالتوجهات الناصرية بعدم التمييز بين المواطنين، والتي نص عليها صراحة في المادة العاشرة. كما أنها، أيضًا، لم تأخذ بمبدأ حيادية الدولة تجاه الأديان التي عبر عنها ضمنًا، بالسكوت عن موقف الدولة تجاه حرية العقيدة. وهذا ما يدحض ما يروج له نظام البعث عن نفسه دوليًا، بكونه واحدًا من الأنظمة السياسية الأكثر علمانية في المنطقة. وهو ما يدحض، أيضًا في الوقت ذاته، اتهامات قوى الإسلام السياسي، التي تعد نظام البعث نظامًا علمانيًا. وهو ما تتخذ منه ذريعة لتكفير العلمانية، على أنها مبدأ حكم، واتهامها بمعاداة الأديان.
بالمحصلة، فإن الوثائق الدستورية البعثية المتعاقبة، ما بين العام 1964 والعام 1973، كانت غايتها تنحصر في تكريس السياسات قمعية، ولا تعنيها قضايا حرية الفكر أو الضمير. ففسرت حرية الاعتقاد بمعناها الضيق، الذي يرى فيها حرية المجموعات الدينية والطائفية المختلفة بممارسة عقائدها فقط. ولم تتضمن نصوصًا تحمي أو تؤسس للحرية الفكرية خارج إطار المفهوم الديني. ولم تأخذ بمفهوم حرية العقيدة على أنها قضية حرية شخصية خاصة بوجدان كل فرد في المجتمع.
إن تكرار نص المادة الثالثة من دستور 1950، مع بعض التعديلات، في دستور 2012 يدلل على أن سياسة صوغ الدستور، ما زالت تحددها الدوافع والأهداف ذاتها منذ الاستقلال. ودون أن تتمكن الأنظمة السياسية المتعاقبة من معالجة مخاوف المجتمع، ودون أن تمتلك هذه الأنظمة أي آفاق أو رؤى مستقبلية في مواجهة هذه القضية. ويبدو من التأكيد على تكرار هذا النص في الدساتير السورية المتعاقبة جميعها منذ العام 1950، أنه تحول إلى نص رمزي، يفتقر للمبررات الفقهية الدستورية. وتنحصر الغاية منه في طمأنة الأغلبية السنية وكسب تأييدها، وتهدئة مخاوف الأقليات من أبناء الطوائف الأخرى.
وفي إطار تقديمه لقضية التنوع الثقافي في سورية في المادة التاسعة، فإنه بمجرد تحليل النص سيتبين أنه نص عام فضفاض، لا يقوم إلا على الزخرفة اللغوية فحسب، فلا ينص على مسائل محددة، ولا يوضح ماهية التنوع الثقافي الذي يكفله ومدى اتساعه. فهل المقصود هو التنوع الإثني؟ أم التنوع الديني؟ أم إنه يشملهما إضافة إلى الفكر غير الديني أو العقائد التي لا تتفق مع الأديان السماوية؟ أم يقتصر في دلالته على فكرة العادات والتقاليد، والتراث الشعبي بشكل عام؟ ثم أخيرًا ما مدى هذه الحماية أو ما حدودها؟
في قضايا الحرية الشخصية والمساواة وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو الأصل، المنصوص عنها في المادة 33. فالواقع يشي بأن هناك كثير من الحالات التي تؤكد عدم احترام هذا النص، في الدستور بحد ذاته، وفي مواقع عديدة من القانون. على سبيل المثال لا الحصر، المادة الثالثة تميز بين المواطنين تبعًا لاختلاف أديانهم فيما يتعلق بالترشح لمنصب رئاسة الجمهورية. فلا يُقبل الترشح إلا من مسلم. فيما يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية، المواطنون لا يخضعون لقانون واحد، يتساوون جميعهم أمامه. بحيث تتمتع كثير من الطوائف باستقلالية شبه تامة في قضايا الأسرة، ولديها محاكمها الخاصة بهذا الشأن. ويمكن إضافة إلى ما سبق من أمثلة، أن النظام القضائي السوري لا يعطي للمواطنين الحق بمراجعة القضاء العادي لتوثيق عقود زواجهم. كما هو الحال بالنسبة إلى المواطنين السوريين الذين لا يرغبون بخضوعهم للمحاكم ذات الطبيعة الدينية، بسبب ميولهم الفكرية، أو بسبب زواجهم من أشخاص لا ينتمون لطائفتهم نفسها . أي إن المواطن ملزم باتباع القضاء الديني، في قضايا الأسرة، حتى ولو كان يعد نفسه لا ينتمي إلى دين ما.
أما في قضية حرية الاعتقاد، التي نص عليها في المادة 42. فإننا نميز ملاحظتين. أولًا، إن التفريق بين نوعي الاعتقاد، الديني وغير الديني، في نصين منفصلين، وفي بابين مختلفين، الأول في باب المبادئ الأساسية، المبادئ السياسية. والثاني في باب الحقوق والحريات وسيادة القانون. يشير إلى أن واضع الدستور يميز قيميًا بالأهمية بين شكلي الاعتقاد. وهذا ما يخالف جوهر مبادئ احترام حرية الاعتقاد بحد ذاتها. إذ إن الأصل هو احترام الاعتقاد الذي يختاره كل إنسان بغض النظر عن مضمون أو طبيعية أو تبعية هذا الاعتقاد، طالما أنه لا يشكل تهديدًا جسديًا أو معنويًا على أفراد المجتمع، وطالما أن ليس فيه ما يخرق حرية الآخرين. وهذا ما تنبه إليه دستور 1930، عندما نص في مستهل المادة، وبشكل مباشر وصريح، على أن “حرية الاعتقاد مطلقة”، وتابع في المادة ذاتها بالنص على المساواة بين جميع المذاهب والطوائف في المجتمع السوري. الملاحظة الثانية، وهي ما يشير إليها الدكتور دراجي، من افتقاد هذا الدستور لمداولات هيئته التأسيسية، كما هو حال معظم الدساتير السورية، ما يجعل من التوصل إلى قصد المشرع وهدفه من وراء النص بهذا الشكل، أمرًا صعب المنال. ولا سيّما ما أشرنا إليه سابقًا، حول الخطأ اللغوي بالتفريق بين حرية الاعتقاد وحرية العقيدة. إذ من غير الممكن معرفة فيما إذا كان ذلك خطأ لغويًا، أو أن هناك تفسير آخر يراه واضع الدستور. بالتالي لا يمكننا الجزم بمصداقية هذا النص، لا الجزم بأنه ليس أكثر من دعاية سياسية، غايتها الترويج للانفتاح الفكري للنظام السياسي الحاكم، بما يميزه عن القوى السياسية الأخرى المنخرطة في الصراع في سورية. خصوصًا وأن كتابة هذا الدستور، قد تمت من قبل لجنة معينة بقرار من رئيس الدولة. وخلال أعنف أزمة داخلية تشهدها البلاد منذ نشؤ الدولة في العام 1920.

ب- تأثير الدين
إن دراسة مفهوم حرية الاعتقاد تحتم علينا البحث في واحدة من القضايا الأكثر إثارة للجدل، وهي علاقة الدين بالدستور، خصوصًا في ظل وجود تعددية دينية وثقافية في سورية. وقد لاحظنا خلال استعراض الوثائق الدستورية، وكيفية وضعها، أن الآراء تنقسم حول طبيعة علاقة الدولة بالدين بين ثلاثة آراء. توجه متشدد يدعم سيطرة الدين على الدولة وجعله المصدر الرئيس للتشريع، بحيث يسمو على باقي القوانين. وتوجه معتدل يعمل على التوفيق بين الفكر الديني والفكر المعاصر حول مفهوم العقيدة. وأخيرًا التوجه العلماني الذي ينادي بالفصل بين الدين والدولة.
حددت الدساتير السورية الفقه الإسلامي أحد مصادر التشريع. ما يعني الاقتصار على أحكام الشريعة العملية المتعلقة بالتحديد بأفعال المكلفين بها، أي تلك الأحكام المتعلقة بعلاقة الفرد بربه وعلاقة الفرد بغيره من الأفراد، وكذلك علاقته مع الكون. دون أن يشمل ذلك أحكام العقائد أو الأخلاق. كما أمرت المادة 305 من قانون الأحوال المدنية بالعودة إلى المذهب الحنفي عند غياب النص. لا يوجد في التشريع السوري نصوص قانونية تمنع تغيير الدين أو تجرم الإلحاد. لكن بحسب أن الدستور نص على أن الفقه هو أحد مصادر التشريع، بالتالي فإن القضاء ملزم بما ورد في الأحكام الفقهية الإسلامية بهذا الخصوص.
من حيث المبدأ، يقبل القضاء السوري بمبدأ حرية الاعتقاد، إذ جاء في قرار محكمة النقض رقم 707 الغرفة شرعية – 3205 أساس لعام 1992: “إن محاكم البداية هي صاحبة الولاية عندما يكون أحد الزوجين أجنبيًا … إن حرية الاعتقاد مكفولة لكل شخص فله أن يغير مذهبه ويكون خاضعًا لمذهبه الجديد إن كان زواجه مدنيًا”. إلا أن القضاء السوري يفسر هذا المبدأ انطلاقًا من موقف الشريعة الإسلامية. إذ إن هذه الحرية – بالنسبة للقضاء السوري – مكفولة في نطاق تغيير المذهب ضمن الدين الواحد فقط، أو في نطاق إشهار الإسلام. في حين أنه لا يعترف بهذه الحرية عندما يتعلق الأمر بتغيير دين المسلم أو إلحاده. يقول الدكتور نائل جريس: “تؤدي الشريعة دورًا أساسًا في قضية الردة عن الإسلام التي غالبًا ما يتبعها انتهاكات حقوقية مختلفة تتمثل خاصة بتجريد المرتد من الحقوق السياسية والمدنية. فتقضي غالبًا المحاكم بتفريق المرتد عن شريكه في الزواج وتُسقط عنه حضانة الأطفال، ويتم الحجر على أملاكه، ويفقد شخصيته القانونية التي تمنحه القدرة على إبرام العقود المختلفة. وفي المقابل، نرى أنّ اعتناق الاسلام يجري من دون إشكالات قانونية، وهو ما ينتهك مبدأ المساواة أمام القانون”.
لم تبحث المحكمة الدستورية السورية في قضية حرية الاعتقاد، ولا في مسألة النص على مصادر التشريع. ويبدو أن هذا النوع من المسائل يندرج في قوائم التحريم والمنع من البحث في سورية. وسيكون من المفيد هنا الاطلاع على موقف كل من الدستور والقضاء المصري.
لقد أخذ الدستور المصري بموقف أكثر تشددًا فيما يتعلق بقضية علاقة الدين بالدستور، فنص في المادة الثانية منه على أن: “الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع”. وهو بذلك لا يكتفي بما ورد في الفقه الإسلامي، بل يجعل من مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع. الأمر الذي فسره دستور 2012 في المادة 219 الملغاة: “إن مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتد بها في مذاهب أهل السنة والجماعة”. وهذا ما يحتم عدم الأخذ بأي نص يتعارض مع ما جاء في الشريعة الإسلامية بشأن الموقف من قضية حرية الاعتقاد ومفهوم الاعتقاد بحد ذاته. في حين ترى المحكمة الدستورية العليا في مصر أن مبادئ الشريعة الإسلامية ملزمة للسلطة التشريعية، وأن أي قانون مخالف لها يحكم بعدم دستوريته، وأضافت أن مبادئ الشريعة الإسلامية لا تعد قوة إلزامية للقضاء إلا إذا تدخل المشرع وقننها.

ج– تأثير الرأي العام
يختلف تأثير الرأي العام وفعالية رقابته على السلطات الدستورية الثلاث، تبعًا لشكل النظام السياسي الحاكم في البلاد ومدى الالتزام بمبادئ الديمقراطية. فيتراوح تأثيره من الدور الرقابي الحاسم إلى حد انعدام أي أثر. وتبعًا لخصوصية الحالة السورية فإنه من الممكن التمييز بين مرحلتين؛ الأولى امتدت منذ إعلان الدولة عام 1920، وتميزت بفعالية تأثير الرأي العام وقدرته على الحشد والضغط والتغيير. وهذا ما لاحظناه عندما ألغى المندوب السامي القرار رقم 60 لعام 1936، نتيجة ضغوط الرأي العام. وكذلك ما لاحظناه خلال مداولات الجمعية التأسيسية لدستور 1950، عندما حشدت قوى الإسلام السياسي الرأي العام لفرض رؤيته في الدستور. “استعان الشيخ (السباعي) بالرأي العام السوري، وأصدر بيانًا نشره في الإعلام خاطب به السوريين، وطمأن من خلاله المسيحيين والقوميين، ثم بيَّن أن هناك أربعة أمور تقتضي أن يكون دين الدولة الإسلام … وهو ما جعل السوريين يتفاعلون مع كلام الشيخ (السباعي) مناقشين لِما قدَّمه من حجج وأفكار …”.
انتهت المرحلة الأولى في تاريخ بداية المرحلة الثانية نفسه، المستمرة حتى اليوم منذ 8 آذار 1963 تاريخ انقلاب البعث وتوليه السلطة في سورية. حيث راح تأثير الرأي العام بالتراجع تدريجيًا وصولًا لانعدامه، تقريبًا، مع تولي حافظ الأسد السلطة. لقد تميزت جميع الوثائق الدستورية البعثية بالحد من تأثير الفقه الإسلامي على التشريع. مع التأكيد في الوقت ذاته على إبراز الهوية العربية أولًا ثم الإسلامية للدولة والمجتمع. ومع ذلك لم يكن موقف الرأي العام من حرية الاعتقاد مرهونًا بالمؤسسة الدينية الإسلامية فحسب. بل من المهم الإشارة إلى موقف المؤسسة الدينية المسيحية ورجالاتها، لما تحمله هذه الإشارة من دليل على وحدة الموقف لدى رجالات الدين جميعهم في سورية من قضية حرية الاعتقاد. “يذكر كل من آني شابري ولوران تشابري في كتابهما «سياسة وأقليات في الشرق الأدنى»، أنه حتى عام 1967 امتنع رجال الدين المسيحيين عن التدخل في السياسة الوطنية للبعث، أو عن المشاركة في نقده الذي برز في أوساط دينية واجتماعية سنية محافظة، لكن مع إمعان البعث في فرض سياسات علمانية كان من نتيجتها «انحدار نفوذهم الاجتماعي والسياسي»، تغير موقفهم من البعث. كان لظهور مقال في مجلة «جيش الشعب» في نيسان 1967 يتعرض لفكرة الله والأديان، أن أثار الكثير من الاحتجاجات والمظاهرات، التي كان للمسيحيين حضور فيها، فقد شارك رجال دين أرثوذكس في تظاهرات حماة المعادية للحكومة، وتدخل رؤساء الطائفة الكاثوليكية بدمشق للإفراج عن العلماء المسلمين الذين اعتقلوا آنذاك”.
بدأت قضية التنوع الثقافي والديني للمجتمع السوري تؤخذ بالحسبان انطلاقًا من دستوري 1973 و2012. وتدلل هذه الصياغات الدستورية، غير المنسجمة في الموقف، إلى سعي واضعي دساتير هذه المرحلة إلى كسب تأييد أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، بتبني موقف ديني تجاه قضية حرية الاعتقاد، دون أي حساب لحقوق الإنسان. وذلك من أجل تمرير صلاحيات واختصاصات واسعة لرئيس الجمهورية، تتعارض مع أدنى معايير الرقابة الدستورية، ومبادئ فصل السلطات. إضافة إلى تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعلنة، وفرض رؤيا قومية عربية للهوية السورية تنسجم مع التوجه العقائدي لحزب البعث. “عقب انتفاضة 1979 – 1982 التي قادتها جماعة الإخوان المسلمين السورية، بدأ نظام الأسد الترويج لشكل من أشكال القومية العربية الدينية، لكسب دعم المسلمين المتدينين، بينما استخدم الرئيس السابق حافظ الأسد المراجع والرموز الدينية لتعبئة الأغلبية السنية. خاصة بعد قمعه لثورة الإخوان. منذ العام 2000، عندما تولى بشار الأسد زمام الأمور بعد وفاة والده، سعى النظام إلى تكوين صورة للرئيس السوري على أنه شخص تقي: صور الأسد وهو يصلي، وهو يمسك القرآن ويقبله، انتشرت في وسائل الإعلام وفي كل المساحات اليومية”. وهذا ما يفسر تبني الوثائق الدستورية جميعها في عهد البعث نص المادة الثالثة من دستور 1950، التي تطرح علاقة الدين بالدولة وقضية حرية الاعتقاد. فهو في سعيه لتكريس حالة الاستبداد السياسي وتشريعها دستوريًا، كان لا بد له من إبراز هوية دينية رمزية تلقى قبول الرأي العام لدى الأغلبية السنية في سورية، مع ضمان موافقة المؤسسات الدينية في الطوائف الأخرى.

رأي وخــــــــــــــــاتمة
في ظل نظام سياسي ديمقراطي تمرّ عملية سن القانون بعدة مراحل رقابية، لا تترك مجالًا لسن قوانين تتعارض مع هوية المجتمع والمبادئ التي يقوم عليها. لم يسجل في التاريخ القانوني السوري، سن قوانين تتعارض مع الأديان في ما يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية للمسلمين وغير المسلمين، غير أن العديد من القواعد المنصوص عنها في القانون المدني والجزائي هي ذات مرجعية فقهية إسلامية، كل ذلك دون أن يفوتنا الإشارة إلى أن القانون قد تضمن أيضًا قواعد تتعارض في جوهرها مع ما نص عليه الفقه الإسلامي. ولا سيما في مواد القانون المدني والتجاري، كالنصوص التي تبحث الفائدة على القرض وتحديد نسبتها. وبعض القوانين الخاصة، مثل قانون مكافحة الدعارة، الذي هو في حقيقته قانون لتنظيم الدعارة. ما يقودنا إلى حالة من التناقض التشريعي، بين رؤيا تكرس دور الدين، وقوانيين تنسجم في عناوينها مع مضمون الدين، وبين نصوص تتعارض كليًا في مضمونها مع الدين. ما يجعل من الإشارة إلى الفقه الإسلامي في متن الدستور، برأيي، نوعًا من المزاودة اللغوية غير المبررة. طالما أن واضع الدستور يدرك استحالة احترام هذه الإشارة. بسبب الضرورات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة.
باستثناء الدستور الأخير، والذي نشكك بمصداقيته بسبب أوضاع كتابته، اقتصر فهم الحرية في التاريخ الدستوري السوري على مفهوم الحرية الجسدية، كذلك اقتصر مفهوم الاعتقاد على المعتقد الديني فحسب. وهذا ما تؤكده الحكومة السورية في تقريرها إلى اللجنة الدولية المعنية بحقوق الإنسان في العام 2004: ” ولا يوجد في القانون ما يمنع أي طائفة دينية من ممارسة ثقافتها الخاصة أو المجاهرة بالدين أو استخدام اللغة. وتتجسد حرية ممارسة الشعائر الدينية لكل الطوائف الدينية بحرية الممارسة العلنية لشؤونها الدينية، وتتمتع هذه الطوائف الدينية بتطبيق قانون أحوالهم الشخصية عليهم من جانب مراجعها الدينية وذلك انطلاقًا من الحقيقة الموضوعية التي تتمثل في وجود تعدد الأديان. رغم أن دين رئيس الجمهورية كما حدد في الدستور هو الإسلام، ولكن السوريين أحرار في أن يمارسوا شعائرهم الدينية أو أن لا يمارسوها، إذ لا يوجد سلطة مختصة تفرض عليهم تأدية الشعائر الدينية، وينطبق ذلك على مختلف الطوائف الدينية. فالدولة توفر لهذه الطوائف وفقًا لأحكام الدستور والقانون إظهار دينهم، والحرية في ممارسة شعائره في دور العبادة الخاصة بكل طائفة على حدة. وأقر المشرع السوري حرية الفكر والوجدان والدين عندما وضع قانون أحوال شخصية خاص بالمسلمين، وقانونًا آخر خاصًا بالطوائف المسيحية المتعددة الموجودة في سورية وقانونًا خاصًا بالطائفة الموسوية. وهي قواعد محترمة ومصانة، ولكل من الطوائف المذكورة محاكم خاصة بها تنظر في المنازعات الناشئة عن تطبيق تلك القوانين”.
آخذين بالحسبان كون السلطة السياسية في سورية سلطة ديكتاتورية شمولية، كان هدفها الاستراتيجي دائمًا البقاء في السلطة، دون أن تتوفر لديها الإرادة الصادقة لإحداث أي تغيير أو تطوير نوعي في البنى الفكرية للمجتمع، بالتالي فهي لم تكن معنية بتطوير أي أفكار عن حرية الإنسان وحقوقه، بما فيها حقه بحرية الاعتقاد. فإن قصر مفهوم حرية الاعتقاد على الدين، وتحريم غير ذلك، لا يخدم مصالح النظام السياسي في سورية فقط، بل يخدم أيضًا مصالح أصحاب الفكر الديني والتيارات السياسية الدينية، على اختلافها بين إسلامية ومسيحية وغيرها، في احتفاظها بتأثير كبير وعميق على المجتمع. يقول توماس بيريه Thomas Pierret في كتابه ومقالاته “فإن سعي الدولة وراء المشروعية الداخلية أدى بها إلى تحسين علاقاتها مع بعض القوى الدينية الأكثر شعبية التي استهدفها قمع الدولة في أوائل الثمانينات … غالًبا ما يُوصف النظام السوري وكأنه قوة طاغية تتلاعب بالفواعل الاجتماعية المنصاعة لها وتقمع الفواعل المتململة. على العكس، فإن مقالتنا تُظهر أن القيادة البعثية، في سعيها لتكريس نفسها، تستجر مساعدة شركاء داخليين اختارتهم مكرهة لا راغبة”. كما يشير الدكتور أحمد نظير أتاسي في قراءته لكتاب توماس بيريه إلى علاقة النظام السياسي مع المؤسسة الدينية: “ويرى الكاتب أن البوطي، مفكر وكاتب وأستاذ في كلية الشريعة، أضفى شرعية على الوضع القائم، وأسسًا لتوجه فكري ديني لا يتعامل بالسياسة ويعادي التيارات الحركية وخاصة السلفية. أما العلماء-المشايخ الآخرين الذين اصطفاهم النظام فقد أسسوا معاهد شرعية تطورت خلال التسعينات والعقد الأول من الألفية الثالثة إلى مجمعات تعليمية ضخمة (وشبكات اجتماعية ودينية أيضًا) مثل الفتح وأبو النور في دمشق، والكلتاوية في حلب”.
ويمكن المراقب ملاحظة عدم اعتراض المؤسسات الدينية في الطوائف الأخرى على النصوص الدستورية في عهدي الأسد الأب والابن. على الرغم مما تتضمنه هذه النصوص من إجحاف بحق الأقليات التي تدعي تمثيلها، وما تمثله من طعن بمبدأ المواطنة. بالنسبة إلى الطائفة العلوية، فقد أصدر رجالاتها في العام 1973 بيانًا يؤكدون فيه أن العلويون طائفة مسلمة تتبع المذهب الشيعي، وهم بذلك أعلنوا خضوعهم لنصوص الدستور بشأن حرية الاعتقاد. أما بالنسبة إلى الطائفة الدرزية والطوائف المسيحية، فإن شكلًا من المصالح المتبادلة يجمع بين النظام السياسي الذي فرض الدستور ورجالات هذه الطوائف. وهذا الحال من تبادل المصالح ينطبق على العلاقة بين النظام السياسي في سورية وجميع المؤسسات الدينية، فقد ضمن الدستور لهذه المؤسسات الدينية سيطرتها على الطوائف من خلال تكريس قوانين أحوال مدنية دينية خاصة بكل منها، وإنشاء المحاكم الطائفية والمذهبية. وهو في الوقت ذاته ينسجم مع موقفها من حرية الاعتقاد. يقول الباحث جورج فهمي “بالتأكيد، ثمة قطاع من المسيحيين، من ضمنهم جل قيادات الكنائس السورية، يدعمون نظام الأسد بسبب تشابك مصالحهم السياسية والاقتصادية مع رموزه، كما يدعمه آخرون بكونه الضمانة لأمن المسيحيين في سورية”.
إن علاقة الدين بالدستور وبالدولة في سورية، لم تكن في أي مرحلة من المراحل قضية مبدئية في السياسة السورية، إنما ظلت دائمًا قضية سياسية بامتياز، ليس لها أي علاقة بالدين إلا في الظاهر. ولطالما كانت محلًا للبازار والاستثمار السياسي من قبل بعض قوى الإسلام السياسي بهدف توسيع قواعدها الشعبية، وبالتالي زيادة تمثيلها النيابي من السلطات الحاكمة في البلاد، ولا سيما الانقلابية منها، بهدف التغطية على عدم شرعيتها. من خلال استغلال المشاعر الدينية لدى المواطنين.
دوليًا، يعد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، اتفاقية دولية ملزمة لجميع الأطراف التي وافقت عليه، ومن بينها سورية، وعلى الرغم من توقيع سورية على اتفاقية فينا لقانون المعاهدات لعام 1969 التي تضمنت مبدأ سمو المعاهدات الدولية على الدستور والقانون الوطني. وهذا ما تؤكده الحكومة السورية، أيضًا، في تقريرها إلى لجنة الدولية لحقوق الإنسان في العام 2004: ” وافقت سورية على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في عام 1969 وأصبح منذ ذلك الحين جزءًا من تشريعها الوطني. وقد راعى دستور الجمهورية عند صياغته في عام 1973 مواد هذا العهد، وغيره من الاتفاقات والمعاهدات التي كانت قد انضمت إليها سورية. ومواد هذا العهد لا تتعارض مع مواد الدستور، والجدير بالذكر أنه في حال تعارض أي قانون محلي مع أحكام معاهدة دولية تكون سورية طرفًا فيها فإن الغلبة تكون للمعاهدة الدولية. وقد قضى قرار محكمة التمييز رقم 23 لعام 1931 بأنه “ليس لقانون داخلي أن يضع قواعد مخالفة لأحكام معاهدة دولية سابقة له أو أن يغير ولو بصورة غير مباشرة في أحكام نفاذها”. وقد عزز هذا الفهم في قرار آخر للغرفة المدنية في محكمة النقض الصادر برقم 1905/366، تاريخ 21 كانون الأول/ديسمبر 1980 منشور في مجلة “المحامون” ص 305 لعام 1981، الذي يبين أن المحاكم الوطنية لا تطبق المعاهدات تأسيسًا على أن الدولة قد التزمت دوليًا بتطبيقها، وإنما بكونها أصبحت جزءًا من قوانين الدولة الداخلية. وإذا وجد تعارض بين أحكام المعاهدة وأحكام قانون داخلي، فإن على المحكمة الوطنية أن تطبق أحكام المعاهدة الدولية مرجحة حكمها على القانون الداخلي. كما أن المادة 25 من القانون المدني السوري تنص على عدم سريان أحكام المواد السابقة أو المخالفة لمعاهدة دولية نافذة في سورية، إضافة إلى أن قانون أصول المحاكمات في سورية قد نص في المادة 311 منه على أن: “العمل في القواعد المتقدمة لا يخل بأحكام المعاهدات المعقودة والتي تعقد بين سورية وغيرها من الدول في هذا الشأن”.
إلا أن الدستور السوري، عمليًا، لا يجعل من المعاهدات الدولية ذات مركز أعلى من القانون الداخلي، وذلك وفقًا لما يعرضه الدكتور نائل جرجس في مقالته الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والتشريعات السورية على موقع صور: “لا يعترف الدستور الحالي لعام 2012 بسمو المواثيق الدولية المُصادَق عليها على القوانين الداخلية. وقد جعل المرسوم التشريعي رقم 3، …، هذا العهد بمنزلة التشريع الداخلي، … لكن عد المعاهدة الدولية بمنزلة القانون الداخلي أمر غير كافٍ حيث تسمو في هذه الحالة فقط على القوانين السابقة لإقرارها أمّا القوانين اللاحقة؛ فتلغي بنودها عند التعارض بينهما.”
إذًا نحن إما أمام حالة من التناقض التشريعي والقضائي، أو أمام حالة من التلاعب السياسي القانوني. في الأحوال جميعها، وبغض النظر عن أي تفسير لحالة التعارض بين القانون الداخلي السوري والمعاهدات الدولية، وعدم احترام سورية لتعهداتها الدولية، وعلى الرغم من التزام سورية بإعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام لعام 1990، الذي يتعارض في مضمونه مع العهد الدولي الخاص للحقوق المدنية والسياسية، فلا بد من الإشارة إلى أن ما استقر عليه الفقه والقضاء الدوليين حول مبدأ سمو المعاهدات بين الدول على التشريعات الداخلية بما فيها الدستور، وعلى ضرورة أن تعمل الدولة على تصحيح بيئتها القانونية الداخلية بما لا يتعارض مع ما تلتزم به من معاهدات، يحمل سورية مسؤولية قانونية دولية في التعاطي مع تفسير مفهوم حرية الاعتقاد وفقًا لمفهومها المعتمد من وجهة نظر القانون الدولي. لكن هذه المسؤولية ستظل في حدودها النظرية لافتقار القانون الدولي لآليات تنفيذ تجبر الأطراف الموقعة على الإيفاء بتعهداتها، وذلك في غير حالات النزاع القضائية الدولية المعروضة على القضاء الدولي.
يقول هاينر بيليفيلت المقرر الخاص المعني بحرية الدين أو المعتقد، في تقريره إلى الدورة الخامسة والعشرين لمجلس حقوق الإنسان: “والدولة، بموجب القانون الدولي، هي الضامن الرسمي لحقوق الإنسان، بما فيها الحق في حرية الدين أو المعتقد. ولكي تضطلع الدولة بدور الضامن الأمين لحرية الدين أو المعتقد للجميع، ينبغي لها أن تتيح إطارًا منفتحًا وجامعًا تزدهر فيه التعددية الدينية أو العقائدية ازدهارًا حرًا ودون تمييز. ويتطلب ذلك التغلب على النزعات الإقصائية كافة. ولا بد من التصدي، في المقام الأول، للحالات التي تتماهى فيها الدولة مع دين أو معتقد معيّن فلا تكفل لمعتنقي العقائد الأخرى معاملة متساوية وغير تمييزية. وهذه النزعات الإقصائية لا تقتصر على الدول التي تعتنق علنًا دينًا رسميًا أو دينًا للدولة. ففي كثير من الدول التي تدعي الحياد الديني أو العلمانية، قد تستحضر الحكومات دينًا معيّنًا بوصفه أساس شرعيتها السياسية أو لحشد الأنصار بالعزف على وتر الولاء الديني. وتبيّن تجارب كثيرة أن استخدام الدين في سياق العمل السياسي المنطلق من الهوية القومية ينطوي دائمًا على مخاطر جمة تتمثل في التمييز ضد الأقليات، ولا سيما ضد أفراد الطوائف الدينية المهاجرة أو الحركات الدينية الجديدة، الذين يوصمون على الأغلب بتهديدهم المزعوم للتلاحم الوطني. وكما عُرض أعلاه، يمكن أن يتحول ذلك إلى أرض خصبة تغذي مظاهر الكراهية الدينية الجماعية التي تذكيها الوكالات الحكومية أو جهات فاعلة غير حكومية أو كلتاهما”.
لا شك أن الدين والقومية يؤلفان مساحة واسعة من الهوية الثقافية للمجتمع، إلا أنهما مفهومان عامان يختلفان بحسب الزمان والمكان والتجربة التاريخية. فيختلفان من مجموعة بشرية إلى أخرى. الإسلام السني ليس هو الإسلام الشيعي، والمسيحية الأرثوذكسية ليست هي المسيحية الكاثوليكية. والعروبة بالنسبة إلى المجتمعات الريفية لا تحمل المضامين ذاتها بالنسبة إلى أبناء مجتمعات المدينة. بل إن هذه المفاهيم تختلف من شخص إلى أخر، ولكل إنسان خصوصيته في إدراكه للإيمان والعقيدة والأصول القومية. إذًا من الخطأ اختصار هوية المجتمع بالنص عليها في مادة دستورية، لها صفة الإلزام، بينما ندرك أنه من الاستحالة تحقيق هذا الإلزام.
الواقع أن أي إشارة إلى الدين أو القومية في أي دستور سيشكل خرقًا لمبادئ المواطنة، وبالتالي سيؤدي إلى عدم المساواة بين المواطنين، حتى ولو كان عدد هؤلاء المواطنين لا يتجاوز العشرات. وإذا كان لا بد من إبراز المفاهيم الثقافية التي تؤدي دورًا رئيسًا في تشكيل هوية المجتمع، فإن مكانها في مقدمة الدستور، التي هي جزء لا يتجزأ منه، وليس النص عليها في مواده.
إن المجتمع السوري اليوم، بأمس الحاجة للتحرر من سيطرة المؤسسات الأيديولوجية، بمختلف مشاربها، الدينية أو القومية أو الاجتماعية. ولا يجب أن تستمر المؤسسة الدينية بكونها السبيل القانوني الوحيد أمام المواطنين لمواجهة قضايا الأحوال المدنية. لقد أثبتت التجربة الطويلة فشل سياسة تصنيف المواطنين في قطاعات طائفية، وقد آن الأوان لترك قضية إعلان الدين، والإشارة إليه في الوثائق الشخصية، والخضوع للمحاكم الدينية، أمرًا شخصيًا يقرره صاحب الشأن، لا المجتمع ممثلًا بالدولة. إذ ليس ما يمنع من إفساح المجال، أمام من يرغب، بالخضوع للقانون والقضاء المدني في مسائل الأحوال الشخصية.
كثيرًا ما أُفرغ النص الدستوري في سورية من مضمونه، عندما ترك أمر تنظيم ممارسة الحقوق والحريات العامة للقانون. إن مثل هذا الدور للقانون يجب أن يكون مرسومًا ومحددًا بآليات واضحة تمنع ترك تفسيره لرغبة السلطة التنفيذية، ويحصن تلك الحقوق والحريات ويحميها من أجهزة السلطة أو الموقف الاجتماعي.
إن التجربة السورية المريرة خلال السنوات العشر الماضية، تحتم علينا إعادة النظر بالمبادئ القانونية التي ما زالت سائدة حتى اليوم، والتي تتحمل الجزء الأهم عما آلت إليه حال الدولة السورية. لذلك أجد أن من واجبي الأخلاقي استغلال هذه الدراسة لعرض رؤيتي ومقترحاتي:
النص على هوية المجتمع وثقافاته المتعددة في مقدمة الدستور، وألا يتجاوز ذلك إلى المواد الدستورية.
ألّا يتضمن الدستور أي مواد تميز بين حرية الاعتقاد الديني والاعتقاد غير الديني.
الإشارة بشكل واضح إلى حرية الضمير.
ألّا يتضمن الدستور أي مواد تميز بين المواطنين على أساس ديني أو قومي.
أن يستند النص الدستوري إلى المبادئ القانون الدولي في مجال الحقوق والحريات العامة.
الاعتراف بفردية هذه الحقوق وخصوصيتها بكل إنسان، واستقلالية صفاتها الخاصة عن الصفات العامة للمجموعة الدينية التي ينتمي لها.
وضع قواعد دستورية واضحة، وحادة، وتشتمل على آليات تمنع سن قوانين تتعارض مع جوهر النص الدستوري.
أخيرًا، تتجلى مهمة القانون وأهميته، في تحويل مبادئ الحق والعدالة والمساواة ومستنداتها الفكرية إلى نصوص تحكم المجتمع. بالتالي لا قيمة مجدية لأفكار حقوق الإنسان والحريات العامة طالما ظلت حبيسة الدراسات النظرية. كما لا قيمة لها بمجرد النص، بل ستفقد قيمتها الإنسانية عندما يتم النص عليها انطلاقًا من مبدأ التوفيق بين مفاهيم فكرية متناقضة، أو دون إدراك عميق لهذه المفاهيم. القانون هو من يمنح هذه الأفكار والمبادئ ووجودها المعنوي، وطابعها الإلزامي، أو المشروط، أو الاختياري.

المصادر
نصوص الدستور السوري أعوام 1920، 1930، 1950، 1958، 1964، 1973، 2012.
الدستور المصري 2019.
الدستور التونسي 2014.
قرار محكمة النقض المصرية، الطعن رقم ٤٧٥ لسنة ٦٥ قضائية الصادر بجلسة ١٩٩٦/٠٨/٠٥ مكتب فني (سنة ٤٧ – قاعدة ٢١٢ – صفحة ١١٣٤).
قرار المحكمة دستورية عليا في مصر 19/12/2004 القضية رقم 119 لسنة 21 قضائية “دستورية”، ج 11/1 “دستورية.
تقرير الحكومة الفرنسية إلى مجلس حقوق الإنسان، الاستعراض الدولي الشامل، الدورة الثانية، جنيف 2008، الفقرة 23، A/HRC/WG.6/2/FRA/1 2 May 2008.
قرار محكمة النقض السورية، أساس 1276 قرار 1108 تاريخ 24/5/1982 مجلة القانون 1982.
التقارير المقدمة من الدول الأطراف عملا بالمادة 40 من العهد الدولي لحقوق الإنسان، التقرير الدوري الثالث، الجمهورية العربية السورية 2004 – CCPR/C/SYR/2004/3.
تقرير المقرر الخاص المعني بحرية الدين أو المعتقد، هاينر بيليفيلت – مجلس حقوق الإنسان الدورة الخامسة والعشرون – A/HRC/25/58
26 December 2013.
قاموس المعاني، اللغة العربية.
قاموس لاروس LAROUSSE، اللغة الفرنسية.

المراجع
سامي أدهم، ما بعد الحداثة: انفجار عقل أواخر القرن: النص، الفسحة المضيئة بيروت: دار كتابات، 1994.
جون بانل بيوري، حرية الفكر 1914، ترجمة محمد عبد العزيز إسحاق وإمام عبد الفتاح إمام، العدد 1712 لعام 2010، حقوق الترجمة النشر محفوظة للمركز القومي للترجمة في القاهرة.
سيلفان ماتون، حقوق الانسان من سقراط إلى ماركس 1988، ترجمة محمد الهلالي، رقم الإيداع القانوني 900/1993، الطبعة الثانية 1999.
أشرف الحساني، وجوه ابن خلدون العقلانية الحديثة.. المؤرّخ الذي أهمله العرب وعرفه العثمانيون والمستشرقون، الجزيرة 6/1/2021، تاريخ زيارة الموقع 24/4/2021.
ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939، ترجمة كريم عزقول، دار النهار للنشر بيروت.
فايز محمد حسين محمد، الشريعة والقانون في العصر العثماني والعلاقة بنظام الملل، ورقة عمل مقدمة إلى ندوة تطوير العلوم الفقهية 18/3/2013، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية العُمانية، تاريخ زيارة الموقع 24/4/2021.
عدي الزعبي، طه حسين على مأدبة الشرق والغرب العظيمة، 28/06/2018، الجمهورية نت، تاريخ زيارة الموقع 24/4/2021.
محمد الزحيلي، الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية أبعادها وضوابطها، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، 2011، مجلد 27، العدد الأول.
راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، الطبعة الأولى 1993. لبنان بيروت مركز دراسات الوحد العربية.
كمال الغالي: مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية، منشورات جامعة دمشق – سورية، الطبعة العاشرة 2002.
حسين عثمان: النظم السياسية والقانون الدستوري، دار المطبوعات الجامعية الإسكندرية، مصر،2001.
إبراهيم دراجي، المسألة الدينية في الدساتير السورية – دراسة مقارنة – برنامج الشرعية والمواطنة في العالم العربي، سلسلة أوراق العمل البحثية، 2019.
جمال باروت، مئوية الدستور السوري الأول – مئوية الدستور السوري الأول: إشكالية العلمنة وسياقاتها الاجتماعية – السياسية التاريخية (1918-1920)، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية 2020.
غيداء زيدان، فلسفة القانون والمسألة الدستورية، مركز حبر للدراسات 2020.
فيليب خوري، سورية والانتداب الفرنسي “سياسة القومية العربية”، ترجمة مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الأولى 1997.
المنظمة العربية للقانون الدستوري، الكتاب السنوي 2015 – 2016، 2017.
زيدون الزعبي، الدين والدولة بين التيارات الليبرالية – دراسة تحليلية – مركز عمران للدراسات الاستراتيجية 2020.
نجيب غضبان، المسألة الدستورية في سوريا، مقاربة سياسية، ورقة تحليلية – مركز عمران للدراسات 2019.
جان حبش، قراءة في الدستور السوري، تقرير – مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية.
نوار بدير وعاصم خليل – الإشارة إلى الإسلام والشريعة في الوثائق الدستورية وأثر ذلك على الحرية الدينية – دارسة مقارنة – ورقة مقبولة للنشر في الكتاب السنوي للمنظمة العربية للقانون الدستوري 2020.
محمد نور فرحات، الدين والدستور في مصر، ورقة بحثية في المنتدى الإصلاح الدستوري لمنظمة شركاء التنمية 2007.
الدستور التونسي تحت المجهر، مؤسسة فريدرش إيبرت بتــونس 2014.
بسام الجمل، حرّيّة المعتقد والضمير في الدستور التونسي الجديد: صراع المرجعيّات، مؤمنون بلا حدود 2014.
محمد يوسف إدريس – بحث محكم، حريّة الضمير في الدستور التونسي الجديد بين دواعي الانفتاح على القيم الإنسانيّة وسلطة المرجع الثقافي – مؤسسة مؤمنون بلا حدود 2016.
اللجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية، الدورة الثامنة والأربعون 1993، التعليق العام رقم 22.
دليل دراسي، حرية الدين أو المعتقد، جامعة منيسوتا، مكتبة حقوق الإنسان.
علي محسن سرهيد، التجربة الديمقراطية في سوريا 1954-1958 – مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانية، المجلد٢٦، العدد٧ :٢٠١٨.
نائل جرجس – سورية بين تأثير التشريعات الدينية والوضعية – مركز حرمون للدراسات المعاصرة 2016.
إياد العبد الله وعبد الله أمين الحلاق، بحث بعنوان مسيحيو سوريا، موقع الجمهورية نت 2017.
دينا مطر، التواصل الاستراتيجي للنظام السوري: الممارسات والأيديولوجيا، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، ترجمة أحمد عيشة 2020.
توماس بيريه وكيتيل سيلفيك، حدود “التحديث السلطوي” في سوريا، معهد العالم للدراسات، ترجمة أحمد نظير الأتاسي 2016.
أحمد نظير الأتاسي، قراءة في كتاب توماس بيريه، البعث والإسلام في سوريا، معهد العالم للدراسات 2016.
جورج فهمي، مقال تحليلي المسيحيون والثورة السورية، مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط 2016.

المراجع باللغة الأجنبية

Revue internationale de droit comparé. Vol. 26 N°2, Avril-juin 1974. JEAN RIVERO : libertés publiques, 1 –les droits de l’hommes, 3ed, paris, 1973, p 37.
JACQUES ROBERT : Liberté publiques, Domat, 2eme édition, Montchrestien Paris 1977.

مشاركة: