هل يمكن للشهود أن يمتلكوا تجربة ما؟

بدايةً لن أخفيكم ما انتابني من إرباك وأنا أقرأ هذه الدعوة لأكتب عن “تجربتي” لما يكمن خلف فكرة “التجربة” من ألغام أسئلة كثيرة ومتشعّبة تخصّ المرحلة الأقسى والأكثر تعقيدًا، ولأن هذه الفترة عشتها مثل كثير من السوريين الذين تحولوا أو فرض عليهم الظرف العام بأن يكونوا “شهودًا” على الموت، فهل يمكن للشهود أن يمتلكوا تجربة ما؟ هذا السؤال سأستخدمه “للهرب” من الإجابة عن تجربتي وهل امتلكت ما يسمى “تجربة” صنعتها الثورة؟ كونها الطريقة الوحيدة التي تُمكنني من البوح عما عشته خلال السنوات الماضية وكيف مرّت أحداثها المختلطة بين العام والشخصي لتعيد صياغة أولوياتي في القراءة والكتابة والبحث، وطريقة تفكيري وترتيب حياتي في محطات مختلفة.
وطن مقسوم بالقضبان
ولأن التجربة التي دفعتني لاستخلاص معنى عام لحياتي بدأت قبل الثورة، لتضعني على طريق قد يكون أكثر قسوة أو اختلاف في تقييم ما مرّ معي من مواقف، لن يكون الحديث عن العام 2011 وما تلاه. فالقصة بالنسبة لي أبعد من ذلك بكثير، قد تعود إلى العام 1986 والاعتقالات لأعضاء حزب العمل، ثم العام 1987، وتحولي لزائرة على شُباكين، أحدهما صيدنايا والثاني فرع فلسطين، وشاهدة على معنى أن نعيش بلا أبسط الحقوق، وحين أغادر الشُباك أصير شاهدة على سجن الكلام “بالصمت” وعلى الذل وعلى الفساد، على الانتهاك المتكرر لوجودنا كبشر لهم حقوق، وكلا المكانين يزيدان من رغبتي في الصراخ والانتفاض لأحطم جدران سجن تحول إلى وطن. ولأني طالما كنت وحدي توجّب عليّ أن أنتمي لعالم الكتب، بحثًا عن وجود آخر خارج وطن مقسوم بالشِباك والقضبان ويختصر حياتنا بضروة الصمت للبقاء.
الصحافة والفن صرخة واحدة
في مسيرتي العادية بمعنى الدراسة، الصداقات، الحياة بالعموم، لا أعرف إن كنت اخترت شيئًا أم هناك ما وضعني على الطريق، فالفن مجرد هواية، أو كما قال لي أحد الاصدقاء يومًا إنه مهنة “المترفين” لم أكن منهم لم أتابعه إلا في فترات القلق وانعدام القدرة على البوح، لقد تحول مع الزمن إلى جزء آخر من الصراخ حين أعجز عن الكلام، خصوصًا بعد أن اخترت الكتابة في الصحافة، لممارسة حقّ “الكلام” إنه الحق الطبيعي لبني البشر وإرادة التعبير التي حُرمنا منها.
لم يكن خيار الصحافة، في وطن اللاصحافة واللاتعبير خيارًا عاديًا بل كان مضافًا إلى خيارات أخرى خضتها في حياتي، بالتمرّد على القانون الطائفي ” الشرعي” وعلى البرمجة التي تخضع لها النساء في اختياراتهنّ، فلم يكن ضمن الأمور الطبيعية بالنسبة لي أن أكون رهينة لشيء لا أريده، أن يحكمني التلف المتأصّل حول رؤيتنا لحياتنا ولقراراتنا، فقد اتخذت قرار الزواج من خارج “الملّة” ومن خارج القانون، وبغض النظر عن ضريبة الابتعاد عن إخوتي لفترة، والضرائب الأخرى التي تحمّلها ابني نتيجة الخروج عن القانون باعتبار أننا لا نكون شرعيين إلا من خلال الدين والطائفة، كنت أُفضّل “اللاشرعية” على اكتساب شرعيتي بالولاء لظل قانون شرعي – طائفي أو نظام قادر على إلغائنا، لترسيخ شرعيته الزائفة بحكمنا، هذه كانت قناعتي بالعموم، قناعة لم تجعلني أتردّد في خياراتي، في تغيير كل شيء، حتى ذواتنا الخاضعة.
بشر بلا حماية ولا خصوصية
فما أكتبه كان جزءًا مني يدافع عن حقي كامرأة، والجزء الآخر يدافع عن حقي الإنساني، لم أنتبه إلى هذا الانقسام الذي عشته قسرًا وفي غفلة مني إلا حين فقدت قدرتي على الصمود بالكتابة، اضطررت إلى الابتعاد نسبيًا عن الكتابة أو الإقلال من النشر مدة خمس سنوات منذ العام 2008 إلى 2013، ليس لخشيتي الزيارات المتكررة لفروع الأمن أو الاعتقال، لكن لشعوري بأني مجرّدة من أي حقّ يحميني، مجرّدة من قدرتي على مواجهة التهديد في أحد فروع الأمن، وذلك الرجل الذي يطرق حبات مِسبحته بقوة ويستفزني طوال الوقت لقد أنهى التحقيق بكلمته: “لن نسجنك، ونعملك بطلة، ما بتكلفينا غير 75 ليرة هذا ثمنك، غسيل سيارة بأفخم مغسل، وعندك أخ راسو كبير كان في السجن ورح نرجعو عليه “لقتل الشرف” أو بتضبي لسانك الطويل”. لقد كانت كلماته التعبير الأوضح على أننا أُناس بلا حماية، بلا خصوصية، يسهل إخفاؤنا وتهديدنا بالقتل، ما دمنا خاضعين للعنة التحالف بين سُلطتي الدين والسياسة. كل ما نقاومه يتحول بلحظة ما لقسرنا.
الصمت مسار آخر
لقد جرّدني ذلك التهديد من كل دفاعاتي ومن كل إصراري، لتتحول صرختي التي كنت أعلنها كتابة، إلى فائض بالصمت، حاولت جاهدة أن أجعله أولوية وأعيد ترتيب حياتي خارج الصحافة، وهو ما حصل في العام 2011 كنت في دائرة الصمت والمراقبة، وبعيدة عن مكان الانتفاضات، ومع طوفان الأخبار الذي امتلأت به صفحات المواقع الإخبارية ومواقع السوشيال، كنت أتابع الأحداث كشاهدة وأجد نفسي في كل صرخة تُصرخ في التظاهرات، وكأني أعرت حنجرتي لهم. ما أحاول قوله، أنه ليس مطلوبًا أن يصرخ الشعب كلّه، أو يُشارك بالتظاهرات، ليمتلك أحقية الثورة ضد الظلم، ويُعبّر عن الرفض لنظام مُستبدّ، فنحن الشهود على كل الأحداث كانت لنا صرختنا المكبوتة.
شعب على حافة السكين
أعادني غضبي مما حدث في البداية مع موجات التخوين والتكفير إلى الكتابة “المُقلّة”، لأبدأ في العام 2013 من جديد كتابة المقالات والأبحاث بشكل منتظم، فالتحديات المفروضة كانت تتطلب فعلًا أكثر جدوى من “بوستات” على مواقع التواصل الاجتماعي، كنت أشعر بأن لدي الكثير مما يجب أن يُقال، خصوصًا مع التحولات التي طالت الثورة، ورغم أني كنتُ أردد بيني وبين نفسي مواسية، أن كل شيء سينتهي قريبًا، فهناك شعور دائم رافقني أن أيّ خطأ هو انتصار للنظام، فنحن شعب نعيش على حافة سكين موجهة إلى أعناقنا لعقود طويلة، جاهزة لذبحنا في حال توفّرت الفرصة، وقد توفّرت، لدرجة أننا انتقلنا من الثورة إلى الحرب، من الحلم إلى الكابوس، من شعور “الانتفاضة” لأجل حقوقنا إلى شعور الخيبة والقهر.
ما يحدث لم يكتمل بعد
اختلف كل شيء حتى طريقة تفكيري ومقالاتي، فهناك عمق مختلف، على الرغم من أنني بقيت محافظة على النهج العام بكتابتي حول المجتمع المدني، وقضايا النساء، حقوق الإنسان، وغيرها، إلا أن الأحداث دفعتني لأتخلى عن جزء كبير من عواطفي في قراءة كل شيء، وفي التعبير العام عن المطالب، نشرت الكثير من المقالات السياسية-الاجتماعية، والمقالات السياسية “العابرة”، التي تفرضها الأحداث، وما أكثرها بالنسبة إلينا نحن السوريين، من توصيف حدث سياسي إلى قسوة حرب أو قدرة هذا الفصيل أو ذاك على القتل، إلى غرق هناك وتشرّد هنا وهناك. لكن فعليًا لا أستطيع أن أجد نفسي فيها، انطلاقًا من كونها تتكرر، بمعنى يتداولها غالبية العاملين بالصحافة مع اختلاف النهج وطريقة التفكير والأسلوب، ومن شعوري أن كل ما يُنشر لا يُقدم الحقيقة، فعندما تبلغ الوحشية أقصى حدودها تصير حدود اللغة أقل بلاغة في نقل الألم.
صرت أكثر ميلًا إلى كتابة الأبحاث وأخذ مساحة كبيرة في تشريح الحدث، وتناوله من جهات مختلفة لترسيخ الأفكار. فما يحدث حتى الآن لم يكتمل بعد، فهو طرف من كل خيط لم نصل نهايته، وفي مثل هذه المراحل من أي حدث كبير، تكون الكتابة عنه انطباعية، مبنية على الأسئلة التي لم نعثر لها على إجابات بعد، وهذا ما كان يشغلني أو يقلقني.
الخيبة واللامعنى شعور عادي
منذ بدأت الأمور تتجه نحو الحرب، حرب مختلطة وقاسية، كنت ككل الشهود، غالبًا ما يتملكني شعور بالقهر والخيبة ومعايشة “اللامعنى”، مع عنف الأحداث التي لم أعد أحتملها، ومع غياب الفعل حيث لا سياسة “لجهة المعارضة” ولا مشاريع فاعلة على الأرض السورية، لم يعد هناك شيء في أيدي السوريين. هناك تشتت في كل شيء، يدفع إلى حالة إحباط عام، وهذا الإحباط نالني جزء منه، فإصراري على البقاء في سورية بدأ يتلاشى، لم يعد ممكنًا البقاء ولا المراوغة بقدرتي على التحدّي، فالموضوع صار مختلطًا بين القانون “الشرعي” الذي تحديته سابقًا وأبعدته عن الطريق لأصل إلى نهايته المغلقة، حيث لا يمكن كسره دون تعريض إبني للخطر، والعودة القوية للنظام أو لشبيحته، لقد تحولت الحياة إلى مقامرة كنت من الخاسرين فيها، وتحولت الكتابة حتى على صفحات الفيسبوك إلى مجازفة، تعرضني في حدودها الدنيا للشتيمة، أو لترسيخ الرفض لي في منطقة تُعتبر “موالية”، لقد ضاقت احتمالات البقاء، وكذلك ضاقت قدرتي على التحمّل، لم يعد هناك نهاية واضحة في ذهني لأي شيء، لم أعد أتوقع أي نهاية للحرب “القتلى وحدهم من يرون نهاية الحرب” كما قال أفلاطون وكان علي بدل انتظار النهاية أن أجد بداية أخرى لأجل ابني.
محاولة للتنفس
أنهيت وجودي داخل سورية في نهاية العام (2019)، خرجت منها، ولكني لم أُخرجها مني بعد، هناك الكثير من الأمور المُعلّقة والأسئلة التي تعود لتؤرقني، لم أعش تجربة لجوء بعد أو الحياة في بلد آخر. وما زلت أحاول التنفس حين أتحدث مع أحد في سورية المكان القاتل، ولا أعرف هل حديثي لتخفيف ألمه أم ألمي. حين أفكر في تلك المحاولات لكتابة روايتين على الورق، لم أطبع شيئًا منهما على اللابتوب، في لوحاتي المعلقة على جدران بيتنا بمواجهة الغبار، أحاول التنفس للخروج من كمّ العواطف التي تجرفني غصبًا عني شوقًا أو قلقًا باتجاه مستقبل بلد انتميت له ولم ينتمِ لنا نحن أبناؤه، فأنا لن أستطيع يومًا إعلان الطلاق معه كما أوصتني إحدى صديقاتي وهي تضع مفتاح بيتها المهدم في حمص، وتقول هذا هو الوطن، الذي سأترحم على أيام عشتها فيه، نحن ولدنا بلا وطن، كان وطننا بيت قابل للانتهاك بكل لحظة. ولكنه لن يبقى كذلك هذا ما أؤمن به، فبعد كل التعثر سنجد الطريق.
في السنوات الماضية لم أستطع التشاؤم ولم أستطع التفاؤل، كنت على الحافة بينهما، ولكني صرت أكثر حسمًا وأكثر رفضًا للمزاودات وللمزادات السياسية خصوصًا، صرت أجد كل الاحتمالات التي تُفصّل لسورية ضيقة، ولكن كلما ضاقت الاحتمالات أجد نفسي مدفوعة للبحث بعمق أكبر داخل الكتب و داخل الواقع السوري عن كيفية مواجهتها، صرت أكثر ميلًا للعمل الجماعي، وإلى أن سورية لن تصير وطنًا لمواطنين إلا باجتماع الإرادات، فهناك الكثير من الأمور العالقة التي تحتاج إلى طرق مغايرة في التفكير والتوجّه، لعلَّ الأمور تسير باتجاه البلد الذي نحلم به.

مشاركة: