أدب الربيع العربي ونقده

على الرغم من أن النقد لاحقٌ للأدب في أغلب مراحله، خاصة في الأدب العربي، إلا أنه ليس أداة لغوية تحليلية بحت، وإنما انبثاق من تيارات فكرية فلسفية، يمارس عمله في إطار البعد الإنساني المكتوب شعرًا ونثرًا.
ولأنه كذلك، فقد آن الأوان لتكريس مفاهيم ومصطلحات العمل النقدي لفترة تحول حاسمة في الحياة الأدبية العربية الناتجة من المنعطف التاريخي الذي أُطلق عليه “الربيع العربي”. وهذه المقالة خطوة أولى في مسار نقد أدب الربيع العربي.
مقدمة
لم يكن الأدب يومًا بمعزل عن سياقه التاريخي، مهما حاولت نظريات موت الأيديولوجيا أن تفصله عن واقعه أو عن خلفياته التاريخية والسياسية والاقتصادية، فكل أدب لا بدّ أن يكون مرتبطًا بمرحلة زمنية معينة يعبر عن معطياتها بشكل من الأشكال، وهذا ما يؤكده تيري إيجلتون Terry Egleton بقوله: “إذا كان الأدب هو غاية الأدب نفسه فليس هو المصدر الوحيد لعملية تكوينه”.
كثيرًا ما يشكل العامل التاريخي أهم العناصر المكونة للأدب؛ لأن كل حقبة تاريخية لها مؤثراتها الاقتصادية والاجتماعية في سيرورته، لذلك غالبًا ما يكون عنصر التاريخ مقياسًا لدراسات التصنيف. فنجد الشعر الجاهلي نسبة إلى عصر ما قبل الإسلام، والشعر الإسلامي، الشعر الأموي، العباسي وهكذا… كلٌّ أدب يُنسب إلى عصره. وهذه ليست مجرد تسمية، فاعتماد المصطلح التاريخي ليس من أجل تسمية مجموعة من الأشعار أو الآداب فحسب، وإنما لما في هذه المصطلحات التاريخية من دلالة مكثفة لمجموعة العناصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها الموجودة في عصر ما، والتي أفرزت سمات معينة للأدب.
وعليه، فإن كل حقبة ذات مؤشرات تاريخية معينة تحمل معها جملة من السمات المؤثرة في الأدب، فكيف إذا كانت الحقبة تشكل تحولًا ومنعطفًا جذريًا في التاريخ؟! عندها لا بدّ أنها ستخلق أدبًا جديدًا، ونحن الآن في صدد منعطف تاريخي في المنطقة العربية بشكل عام، وهو منعطف الربيع العربي، فلا بدّ أن هناك أدبًا يعبر عن تاريخنا الجديد. ولكن بداية، ما معنى مصطلح الربيع العربي؟ ولماذا أطلق على هذه المرحلة؟
أولًا: الربيع العربي
كثيرة هي المصطلحات التي سمعناها حتى ما قبل التحولات التي شهدتها البلدان العربية، وكان أبرزها مصطلح الفوضى الخلاقة الذي ظهر في سياق التعامل الأميركي مع منطقة الشرق الأوسط، وكان الهدف منه الدلالة على مرحلة من الفوضى التي كان مخططًا لها لتحقيق تغييرات وتوازنات ومعايير جديدة في المنطقة ودولها والفاعلين السياسيين. والآن أصبحنا، في العقد الأخير، أمام مرحلة جديدة حافلة بالتغيرات استهدفت البلاد العربية كلها. وعلى الرغم من تعدد المصطلحات والتسميات التي أشارت إلى ما يحدث في المنطقة، مثل: الحراك الشعبي، ثورة، حرب، أزمة، وغيرها.. إلا أن اعتماد مصطلح الربيع العربي كان أكثرها دلالة وشمولية كونه يعبر عن التحول التاريخي الذي حدث في البلاد العربية وتداعياته ونتائجه.
وكان القصد من المصطلح أن يمثل مرحلة انتعاش بعد الركود، فالربيع في دلالته هو انتعاش وبعث جديد للحياة بعد شتاء طويل، ولكن الأصوات المعترضة على هذا المصطلح كانت كثيرة، بسبب ما تعانيه البلاد نتيجة هذه التحولات، خاصة في سورية، إذ كيف يمكن للربيع أن يكون بهذه الصورة الوحشية، وبهذه النتائج الدموية؟ في محاولة لتحديد بدايات التسمية لنصل إلى الدلالة نجد أن من مقالة البروفيسور مارك لينش Marc lynch، وهو بروفيسور في العلوم السياسية، هي من المقالات الأولى التي أطلقت هذه التسمية، وكانت بعنوان: (الربيع العربي التابع لأوباما). يقول فيها: “إذا استمرت هذه الاحتجاجات في الانتشار، سواء داخل البلدان أو عبر بلدان عربية أخرى فيمكننا حقًا الحديث عن أن هذا هو الربيع العربي لأوباما…”، وكما يقول عبد الله بن خالد شمس الدين في (دنيا الوطن) إن الأمر العجيب هو أن هذا المصطلح تم إطلاقه على الثورات الأوروبية سابقًا. يعتمد بن خالد على رسائل وإيميلات شخصية لإثبات هذه المعلومة. نلاحظ أن تعيين أول استخدام للمصطلح لا يستند إلى حقيقة مطلقة أو معلومة تاريخية محددة، ولكن من الواضح أنه يؤدي دلالة الانتعاش بعد الشتاء، كما أن هذه التسمية تجعل الناس يتقبلون الوهم بفرح على حد تعبير لورانس ويذهيد أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوكسفورد، فالناس الذين قاموا بالحراك على الرغم مما عانوه من قتل وتدمير إلا أنهم كانوا ينتعشون باسم الربيع الذي كان ينعشهم بأمل الإصلاح.
غير أن إطلاق مسمى واحد بدلالة واحدة على كل ما حدث في البلاد العربية على حد سواء، فيه من الخلط الشيء الكثير، إلا إذا كان الغرض هو إلغاء الفروقات بين بلد وآخر لإنشاء نظام استعماري جديد موحد يفرض سيطرته على البلاد العربية كافة، وإن كان هذا هو الغرض فعلًا، ونحن لسنا بصدد مناقشته، فإن النتائج لم تكن كما كان يجب لها أن تكون، ذلك لأن ما طبق في تونس لم نجده في مصر، وما طبق في مصر لم ينجح في ليبيا، وهكذا… عدا عن أن الوضع مختلف كل الاختلاف في سورية التي خرجت حتى في الإعلام العربي عن مصطلح الربيع العربي، وذلك نتيجة تطور الأحداث بشكل سار نحو الحرب. وبات مصطلح الحرب هو المصطلح المستخدم للتعبير عن الأوضاع الحالية في سورية.
ولكن هذا في حال أردنا توصيف الأحداث، أما من منظور تسمية منعطف تاريخي عربي، فالمصطلح الأشمل هو مصطلح الربيع العربي، فعلى الرغم من اختلاف الأوضاع والحيثيات للمجريات السياسية والعسكرية بين بلد وآخر، وعلى الرغم من تطروها في سورية إلى أن وصل إلى هذا الشكل المستفحل سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، فإن إطلاق هذا المصطلح ما زال ممكننًا ولكن بعيدًا عن دلالاته الربيعية، ويستخدم لدلالة التعيين التاريخي لا أكثر، أي إن اسم (الربيع العربي) لا يدل إلا على حقبة تاريخية بدأت في عام 2010- 2011.
ثانيًا: أدب الربيع العربي
إذًا لا بدّ لهذه الهزة التاريخية العنيفة المسماة “الربيع العربي” أن تكون العامل الأكبر في تغيير الخارطة الأدبية، فالأدب ما قبل هذه الفترة حتمًا لن يكون كالأدب في مرحلة الربيع العربي وما بعدها. وفي هذا السياق وبتصور مبدئي لأدب الربيع العربي، يرى الناقد عبد المنعم تليمة أن السرد الروائي والقصصي الذي يكتب في ظل اللحظة الثورية يصل إلى القيمة الجمالية إذا استطاع أن يعبر آفاق الكتابة عن المرحلة الإنسانية، كما يشير إلى أن تحولات لغة السرد وملامستها للقضايا الاجتماعية لن يأتي إلا بإدراك الكتاب لمغزى التغيير، فالثورة فعل ثقافي في الأساس، لأنها تبني مجتمعًا مغايرًا بمفاهيم جديدة، وهذه المفاهيم في حد ذاتها ثقافية.
هذا الرأي ليس أكثر من نظرة أنطولوجية لأدب الربيع العربي، إذ يحصر المفهوم ضمن إطار الثورة، وكأن أدب الربيع العربي هو أدب أحادي التوجه ناتج من ثقافة ثورية فحسب، وهذا الفهم يدفع المصطلح من دائرة التأطير الزمني إلى نطاق أضيق، وهو النطاق الدلالي الثوري. ثم نجده يرفع سقف تصريحاته الأنطولوجية ليرى أن الثورة هي فعل ثقافي، وبنظرة سريعة إلى بلادنا العربية سنكتشف دون أدنى عناء أن ما حدث فيها لا يمت إلى الثقافة بصلة، إلا إذا كان يقصد الثقافة على مختلف مستوياتها، فنجد أن الثقافة التي سادت الساحات العربية هي ثقافة اللاثقافة أو الثقافة السائلة التي تتميز باللاوعي الجماعي. في هذه الحالة يمكن أن نقول إن الثورة حالة ثقافية مهما كان الشكل الثقافي الذي عبرت عنه أدوات الثورة.
وفي نظرة أوسع إلى المصطلح، نجد الشاعر التونسي نجم الدين حمدوني يقول: “ومن البديهي أيضًا أن تختلف آراء المبدعين والكتاب بين مساند ورافض ومن هنا يولد النص المختلف”، أي إن الثقافة في هذه المرحلة الزمنية ليست أحادية التوجه، وإنما مفارقات هذه المرحلة خلقت توجهات عديدة، فهناك ما يسمى بالتأييد، وهناك المعارضة، وهناك ما هو محايد، ولكل نظام من الأنظمة التي زالت أو التي ما زالت تحكم إلى اليوم هذه الوجهات الثلاث، ولكل من هذه المواقف أداة أدبية تعبيرية تقتحم بواسطتها ساحة الوجود الأدبي على وجه التخصيص، فهناك من يتحدث بأدبه عن وحشية الأنظمة، وهناك من يتحدث عن همجية المعارضة، وهناك من يتحدث عن أمور محايدة كأن يصف بؤس المواطنين أو قد يهرب من واقع الحرب إلى خيالات أخرى كالغزل في الشعر أو الفانتازيا في الرواية مثلًا. وعليه، فإن توصيف أدب هذه المرحلة بالأدب الثوري ليس من الدقة بمكان؛ فالأدب الثوري جزء من أدب هذه المرحلة. وقد نجد الخلط بين فكرة الأدب الثوري وأدب الربيع العربي كثيرًا حتى عند الأدباء أنفسهم، ويعود ذلك إلى غياب الأساس النظري النقدي. والشيء المتفق عليه عند أغلب من تحدثوا عن أدب الربيع العربي هو أنه أدب أقرب إلى الإيضاح منه إلى الترميز، يتسم بحرية أكبر، حيث يقول القاص والروائي العرقي عبد الأمير الجر: “هو في حمولته التغيرية التي استدعت مرجعيات مختلفة تمثلت بالكامن الثقافي المؤجل والمقموع، الذي انطلق بعد سقوط الأنظمة…”، أي أن كل مرجعية كانت ممنوعة باتت تطرح نفسها وبقوة للتعبير في الساحة الثقافية بشكل عام، والأدبية بشكل خاص، إن كان في الأنظمة التي زالت مثل ليبيا ومصر و… أو التي ما تزال موجودة مثل سورية، فالأدب المعارض الذي يشكل جزءًا من أدب الربيع العربي يطرح نفسه من أرض المهجر ليعبر عن وجوده الهووي إن صح التعبير.
ولكن ماذا عن سمات هذا الأدب وخطوطه الأدبية؟
ثالثًا: سمات أدب الربيع العربي
لا نقول إن هناك سمات محددة لكل الأدب الذي أنتج في هذه الفترة، وإنما هي خطوط عريضة تشكل ملامحه، فلا نغفل أن أدب هذه المرحلة لم ينضج بعد، فهو ما زال وليد أحوال غير مستقرة على الصعد كافة، ومن هذه الخطوط العامة:
يجنح بعض أنواع هذا الأدب إلى سمة عدم الالتزام بالقواعد الأدبية الصارمة؛ كأن يجنح الشعر إلى عدم التقيد بالقوافي والأوزان، فانتشرت قصيدة النثر بعد أن كان النقاد على خلاف بشأن تصنيفها الأدبي، أو كأن تجنح الرواية إلى الإيغال في استخدام اللهجات المحلية أكثر من ذي قبل، وذلك لأن الأدب على ما يبدو حاول أن يعبِّر عن مرحلة كسر القيود والجنوح إلى حرية مطلقة مثلتها مرحلة الربيع العربي.
الاغتراب؛ وذلك نتيجة الانزياح المكاني والشعوري الذي مني به الأديب العربي في هذه المرحلة، فالتهجير خارج بلده أو حتى داخلها، إضافة إلى خيبة الأمل في النتائج المتناقضة، كلها أدت إلى شرخ عميق في الهوية انعكس في أدبه غربة شعورية.
الشعاراتية؛ مثّل بعض هذا الأدب أيديولوجيات معينة، غالبًا ما تكون راديكالية، وهذا انعكس على هيئة شعارات ثورية أو وطنية فيه.
الشعبية والبعد عن التعقيدات البلاغية؛ ذلك لأنه يحاول أن يكون ذا وظيفة ثقافية تعبوية تؤثر في ثقافة المجتمع وتكوين رأيه السياسي من خلال اللغة البسيطة الموجهة إلى الشعب.
غير أن هذه النقاط ليست أساسًا بقدر ما هي ملامح أولية لتوجهات هذا الأدب، ذلك أن سمات النص الأدبي في هذه المرحلة في حاجة إلى نقد جديد باستخدام آليات تقبض على معطيات العصر النقدية، لذا هناك حاجة إلى نقد جديد بعنوان “نقد الربيع العربي”.
رابعًا: نقد الربيع العربي
أولًا، لا بدّ من الحديث عن المصطلح، “مصطلح نقد الربيع العربي”: ذكرنا أن التصنيف الأدبي غالبًا ما يكون على أساس زمني، ولكن هذا لا ينطبق على النقد. صحيح أن لكل عصر رجالاته في النقد، ولكل عصر نظرة فلسفية نقدية، ولكن النقد لا يصنف على أساس زمني، وإنما على أساس فكري فلسفي. لكل عصر معطياته الفلسفية التي يقوم عليها النقد، وعليه فإن مرحلة الربيع العربي التي تعد مفصلًا تاريخيًا والتي أحدثت تحولًا في الأدب العربي عامة، لا بدّ أن تفرغ حمولتها الفلسفية في النقد الأدبي الذي يتكفل بتصنيف وتحليل أدب هذه المرحلة، ولكن أين نقاد الربيع العربي؟ وأين هو نقد الربيع العربي؟
في الحقيقة، إن الفعل النقدي هو الذي يطلق المصطلحات، والحركة النقدية هي التي تعطيها استقرارها، ومصطلح نقد الربيع العربي كتيار نقدي لم يتم طرحه على الساحة النقدية حتى هذه اللحظة، لذلك وجدنا عدم استقرار في مصطلح أدب الربيع العربي، فهناك من يقول الأدب الثوري، وهناك من يطلق سمات عامة، ما يشير إلى أن الخطوط العريضة للنظرية ما زالت غائبة، وهذا يعود إلى أسباب عديدة، أهمها:
المرجعيات السياسية؛ أدت إلى عدم الوعي بشمولية المرحلة الأدبية، فغالبًا ما تكون النظرة إلى الأدب مبنية على مرجعية سياسية معينة لا تسمح بنظرة شمولية، وإنما تضيق زاوية الرؤية، فالمعارض يجد الأدب ثوريًا، والمؤيد يجد الأدب وطنيًا، وكل يلغي الصفة الأدبية عن الآخر. وهذا ما يدفع المصطلح بدلالته الزمنية إلى نقطة قلقة غير مستقرة.
إن كلمة الربيع العربي بحد ذاتها مجردة من دلالتها الأدبية والنقدية والزمنية المحايدة تعطي انطباعًا سياسيًا لا تتقبله المؤسسات الحكومية حتى في الدول التي تغير فيها النظام، فالجامعات مثلًا التي من المفروض أن يكون دورها إنتاج ثقافة المرحلة ترفض التعامل مع أبحاث بمصطلحات قد تدل على سياق سياسي معين مثل الربيع العربي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى دور النشر، وذلك بسبب إحكام قبضة الرقابة في معظم الدول، حتى على المراكز المنتجة للثقافة.
ركود الحركة الثقافية إجمالًا، والدخول المباشر في عصر الثقافة السائلة، فإذا كانت القبضة الأمنية قد سيطرت على المراكز المنتجة للثقافة، فهذا يعني، من دون أي مبالغة، أن الثقافة باتت من الممنوعات أصلًا، وهو ما يدخلنا في عصر اللاثقافة.
ولهذا، تحاول هذه المقالة طرح مصطلح (نقد أدب الربيع العربي) للتداول، لعله يتشكل في ضوئه تيار نقدي مهمته البحث في الأدب العربي الذي تم إنتاجه في مرحلة الربيع العربي، أي من عام 2011 إلى يومنا هذا.
خامسًا: سمات نقد الربيع العربي
لا يعني غياب المصطلح والفعل النقدي عن الساحة أنهما غائبان كليًا، بل هما حاضران بسمات معينة، تحتاج إلى التنقيب عنها. لعل أهمها:
دراسة تحولات الهوية على أنها جزء أساس من أدب هذه المرحلة: كان سؤال الهوية من الأسئلة التي طرحت نفسها بقوة في مرحلة الربيع العربي، خصوصًا في الدول التي تحوي كثيرًا من الطوائف والأعراق؛ ففي سورية التي تحكم بشعار القومية العربية، كان سؤال (من أنا) و(من نحن) حاضرًا بقوة، وعلى أساسه حصلت انفجارات قومية طائفية عرقية طرحت نفسها على الساحة الأدبية، فقد تحول هذا السؤال إلى أداة من أدوات الصراع، وأصبح محورًا رئيسًا من محاور الأدب في هذه المرحلة، لذلك لا بد لأي نقد يتوجه بالدراسة إلى هذا الأدب أن يأخذ في الحسبان محورية أسئلة الهوية.
غالبًا ما يتقاطع “نقد الربيع العربي” بمفرداته وآليات دراسته الأيديولوجية، بشكل كبير، مع “نقد ما بعد الاستعمار”، فهناك تشابك في معظم العلامات الاصطلاحية، مثل الأنا والآخر، غير أن أقطابها في نقد ما بعد الاستعمار تتوزع بين الوطني والاستعماري، أما في نقد الربيع العربي تتحول الدلالة بشكل مستمر، وتتناوب بين شعبي وسلطوي، أو مؤيد ومعارض. وتتناوب فيها السمات المنوطة بكل مصطلح، فهي بين وحشية ووطنية، بحيث تصبح الصورة أكثر ضبابية. فالاستعمار الغربي كان واضح المعالم، يتهم شعوب العالم الثالث بالهمجية والبربرية لتسويغ احتلاله لها، وبعد الاحتلال وصفه أدب هذه الشعوب بالوحشية التي دمرت وأسرت واستبدت واستغلت. هذه مفاهيم واضحة بين الأنا والآخر. أما هنا فنجد كلًا من الطرفين يدعي الصفات ذاتها من الوطنية وينسب الوحشية إلى الطرف الآخر.
وعلى صعيد الواقع السياسي، فإن لكل طرف انقسامات كثيرة، فعلى سبيل المثال في سورية هناك المعارضة الخارجية والمعارضة الداخلية والمعارضة المسلحة والمعارضة الإسلامية والمعارضة العلمانية، وكلها مختلفة المعطيات، ولا أحد منها يمثل الآخر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المؤيدين، فتغدو الصورة أكثر تشوشًا، وأكثر ضبابية، وهذا يعود إلى سمات العصر ذاته، فهو عصر التفكيك حيث اللامعنى.
ولأنه عصر التفكيك كان لابد للتفكيكية أن تكون سمة أساسية وآلية رئيسة لدراسة أدب هذه المرحلة، خاصة في ما يتعلق بتفكيك الهوية، لأن سؤال الهوية يشكل محور هذا الأدب القائم على مجموعة من سرديات الأنا والآخر.
خاتمة
هذه المقالة محاولة أولية وخطوة بحثية أكاديمية على طريق بناء نقد جديد لمرحلة أدبية جديدة لها سماتها التي تفرض بالضرورة منهجًا نقديًا معينًا للدراسة، يقوم على رؤية فلسفية وتاريخية تحاول استكشاف سمات هذا العصر.
لم يعد مقبولًا من النقاد أن يدرسوا أدب هذه المرحلة بأدوات نقد قائم على ثقافة وفلسفة غربية، كأن نقتل ما قدمته هذه المرحلة بالدراسة النفسية أو البنيوية التي اعتدنا على تطبيقها في هيئاتنا التعليمية، فتغدو دراساتنا عبثًا هدفه نيل شهادة تعلق على الحائط لا أكثر. لا بدّ أن يبدأ النقاد بالتأصيل لهذا المنهج الثقافي، وخلق الأدوات التي تتوافق مع دراسة النصوص الأدبية الجديدة التي ظهرت خلال العقد الأخير، وهذا طريق طويل وشاق، لكنه ضروري ومهم.

مشاركة: