الربيع العربي والأحزاب السياسية؛ سوريا مثالًا

مقدمة
كان واضحًا منذ انطلاق الربيع العربي في تونس أواخر عام 2010 أن الطابع العفوي هو السمة العامة للانفجارات الشعبية التي عمت بلدان الربيع العربي في موجتيها الأولى والثانية، وأن الغضب الشعبي على الأنظمة المستبدة الحاكمة وسياساتها، كان نتيجة عقود من القهر والإفقار والفساد، وأن التمرد الحاصل المطالِب بالحرية والكرامة والعدالة، كان في جوهره ينصب على رفض احتكار السلطات الحاكمة للحقل السياسي، ومحاسبة الفاسدين سارقي قوت الشعب.
أفسدت السلطات المستبدة الحاكمة عالم السياسة، وجعلت من الأحزاب القائمة ملحقة بها ومهمشة عن دائرة الفعل، واستخدمتها أدواتٍ في قمعها لشعوبها واحتواء تطلعاتها، ومن يعارضها كان مصيره إلغاء وجوده أو فعله، إذ ألغت واقعيًا مفهوم المعارضة، وعدَّت من يخالفها أعداء وخصومًا تجب إزالتهم من الحياة السياسية بالاعتقال أو النفي.
يختلف هذا الأمر بين بلد عربي وآخر بالدرجة وليس النوع، وكانت الأنظمة الشمولية العسكرية الأمنية هي الأشد شراسة في قمعها لشعوبها وإلغاء أي هامش مستقل لعمل سياسي خارج سيطرتها.
المثال السوري هو الأشد تعقيدًا، إذ شهدت سوريا انفجارًا شعبيًا منذ أواسط آذار/ مارس 2011، واجهته السلطة الحاكمة بعنف شديد منذ البداية، وتحول إلى إعلان الحرب على الشعب (خطاب الأسد في 30 آذار/ مارس 2011)، بل إلى العمل على (إسقاط الشعب) بدلًا من الاستجابة لإرادة الشعب المطالِب بإسقاط نظام الفساد والطغيان.
كان شعار (الأسد أو نحرق البلد) هو الموجِّه لنهج السلطة وحلفائها الإقليميين والدوليين، والذي تسبب بأكبر كارثة إنسانية بعد الحرب العالمية الثانية، أفضت إلى تشريد أكثر من نصف الشعب السوري، وتدمير مدن وبنى تحتية ومستشفيات، واعتقال وقتل مئات الألوف عبر استخدام كل صنوف الأسلحة التقليدية وسلاح الطيران والبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي المحرم دوليًا.
تُطرح أسئلة كثيرة عن دور الأحزاب السياسية قبل انطلاق الثورة السورية وخلالها؛ إلى أي حد كان لبعضها دور في تهيئة الأرضية لها؟ وكيف كان أداؤها خلالها؟ وما الدور المطلوب راهنًا في ظل الاستعصاء الكبير في الوضع السوري؟
قبل أن نتلمس إجابات بهذا الخصوص، من المفيد الإضاءة على بعض النقاط في هذا السياق، ولا غنى عن التذكير بأن دراسة العمل السياسي في بلد مثل سوريا أمر شائك، وهو يتداخل مع عوامل جيوسياسية وتاريخية، خاصة أن سورية شهدت تقلبات كثيرة وحكمًا استبداديًا أقلويًا مديدًا، وتدخلاتٍ خارجية أفضت لاحتلالات متعددة.
سأقسم البحث إلى قسمين: قسم أول سيتناول دور الأحزاب السياسية قبل انطلاق الثورة في التهيئة للثورة، وقسم ثانٍ سيقارب أداءها خلال الثورة، والاستحقاقات المطلوبة منها راهنًا.

كلمات مفتاحية: الأحزاب السياسية . التجمع الوطني . إعلان دمشق . حزب الشعب . الإخوان المسلمون


أولًا: القوى السياسية قبل الثورة

1- لمحة عن التاريخ السياسي السوري
مضى حوالى قرن على الكيان السوري الحديث الذي نشأ في عام 1918، بعد انحسار الإمبراطورية العثمانية عن بلاد الشام، كمملكة هاشمية بزعامة الملك فيصل، وانتهى إلى حدوده الجغرافية عند الاستقلال/الجلاء عام 1946 (185 ألف كيلومترًا مربعًا) بدولة ما تبقى من سوريا الكبرى، بحسب تعبير غسان سلامة، بعد أن خضع للانتداب الفرنسي حوالى ربع قرن (1920-1946)، تعرض خلالها لمحاولات تقسيم إلى كيانات أصغر، وحصل سلخ لواء إسكندرون عام 1939 لمصلحة تركيا. كان أول دستور عرفته البلاد لتنظيم الحياة السياسية في عام 1920 قبل أشهر من الانتداب الفرنسي. تشكلت الجمهورية الأولى في ظل الانتداب عام 1932، وفق دستور وضع أول مرة عام 1928، وعرف بدستور 1930، وكان إعلان الاستقلال عام 1941، وفعليًا تحقق في 17 نيسان/ أبريل 1946.
في عام 1949 حدثت ثلاثة انقلابات عسكرية، انتهت بانقلاب أديب الشيشكلي. لم تستطع الدكتاتورية في حينها إلغاء الحياة السياسية، إذ تمكنت الجمعية التأسيسية من إقرار دستور 1950، واستمر الشيشكلي في الحكم حتى عام 1954، إذ أُطيح بانقلاب عسكري سلّم فيه الحكم إلى المدنيين، واستؤنفت العملية الديمقراطية. تُعدُّ تلك المرحلة العصر الذهبي للحياة السياسية، لكنها مع ذلك لم تخلُ من أزمات، ما دفع قادة الجيش لتسليم الحكم إلى الرئيس جمال عبد الناصر عام 1958 من خلال الوحدة السورية المصرية بموافقة البرلمان السوري ومعظم القوى السياسية، وفي ظل حماسة شعبية واسعة. في عهد الوحدة القصير نسبيًا (حوالى ثلاث سنوات ونصف) على الرغم من مناخ التسييس الواسع، والتحركات الشعبية العريضة المسكونة بالهمّ القومي العربي، إلا أننا شهدنا بداية نمو أجهزة الاستخبارات، واحتكار السلطة للحقل السياسي بعد حلّ الأحزاب السياسية، الذي كان شرطًا من شروط إنجاز الوحدة.
في عهد الانفصال، عادت الحياة السياسية البرلمانية، وانتُخب ناظم القدسي رئيسًا للجمهورية، لكنها لم تستمر أكثر من عام ونصف، وأطاحها انقلاب 8 آذار/ مارس 1963 تحت ذريعة إعادة الوحدة السورية المصرية، وجاء البعث إلى السلطة بقيادة اللجنة العسكرية (محمد عمران، صلاح جديد، حافظ الأسد..) بعد التخلص من التيار الناصري في الجيش والقضاء على حركة الضابط جاسم علوان، ثم أطاح حلف صلاح جديد -حافظ الأسد بأمين الحافظ ومحمد عمران والقيادة التاريخية لحزب البعث. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 استفرد بالسلطة وزير الدفاع حافظ الأسد، بعد خسارة الجولان في هزيمة حزيران/ يونيو 1967، بانقلاب سُمّي بالحركة التصحيحية، ليؤسس للمرحلة الأسدية بنظام شمولي استند إلى استمرار العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية الذي بدأ العمل به قبل ذلك، بدءًا من آذار/ مارس 1963، ثم جاء الدستور الدائم الذي أقر في عام 1973، وشرعن موضوعة الحزب القائد للدولة والمجتمع؛ فالرئيس هو نفسه الأمين العام للحزب ويملك سلطات استثنائية، أي أن الدستور ألغى فعليًا أي مفهوم لفصل السلطات، وأسس النظام الدكتاتوري الشمولي. حكم حافظ الأسد سوريا خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات بالحديد والنار، وأورث الحكم لابنه بشار الذي حاول بداية الإيحاء بالانفتاح، وتلبية مطالب الناس، لكسب التأييد وتمكين حكمه، لكن ربيع دمشق لم يدم طويلًا، وشهدت البلاد من جديد موجات اعتقال ونشطت شبكات الفساد بدم جديد، إلى أن أتى الربيع العربي الذي بدأ في تونس، وانتقل إلى مصر، ثم إلى عدد من الدول العربية، ومنها سوريا.
من خلال الاستعراض المكثف للتاريخ السياسي السوري، نلاحظ أن سوريا شهدت ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى صعود المفاهيم الحديثة بالسياسة من نشأة الكيان السوري إلى عام 1958، ثم مرحلة انتقالية من عام 1958 إلى عام 1970، مرورًا بعام 1963 الذي أسّس فعليًا للمرحلة الثالثة التي تلتها، وامتدت عقودًا في مسار انحداري كانت سمتها الأساس إلغاء السياسة من المجتمع، واحتكار السلطة الحقل السياسي، إلى أن جاءت الثورة في آذار/ مارس 2011.
شهدت المرحلة الأولى بشكل عام نشوء الأحزاب السياسية وفصل السلطات والانتخابات وحرية الصحافة والنمو في مؤسسات المجتمع المدني بما فيها النقابات والتعرف إلى المفاهيم الحديثة مثل الدستور والمواطنة والدولة الأمة والاستقلال والسيادة والديمقراطية والاشتراكية… إلخ. يمكن عدّها مرحلة تفتّح، من دون أن ننسى أن هذه المؤسسات كانت من حيث الشكل محاكاة لما هو قائم في الغرب، لكنها في الواقع كانت أقرب إلى مفهوم الجماعة الملتفة حول زعامة ما، وتلعب العوامل التقليدية دورًا مهمًا في بنيتها. أما الأحزاب الأيديولوجية فكانت أقرب إلى مفهوم الجماعة الدعوية. واقعيًا، حكمت البنية الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية التي تنتمي إلى عالم متخلف مفوت، البنيةَ السياسية إلى حد كبير، على الرغم من الجهد النهضوي والإصلاحي والنقدي والحداثوي الذي حاول أن يخترق الحقل الفكري والثقافي (إصلاحات مدرسة الأفغاني ومحمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، طه حسين، علي عبد الرازق، ولاحقًا: نصر حامد أبو زيد، عبد الله العروي، محمد أركون، محمد عابد الجابري، الياس مرقص، صادق جلال العظم، ياسين الحافظ… إلخ).
في هذه المرحلة نشأت الأحزاب الليبرالية (الكتلة الوطنية وتفرعاتها) التي لعبت دورًا كبيرًا في الحياة السياسية، وفي معركة الاستقلال، وانتهى دورها فعليًا في عام 1963 مع مجيء البعث إلى السلطة.
ونشأت أيضًا الأحزاب العقائدية كالحزب الشيوعي وجماعة الإخوان المسلمين والحزب السوري القومي، وفي مراحل متأخرة حركة الاشتراكيين العرب وحزب البعث وحركة القوميين العرب. أما المرحلة الثانية فشهدت نشوء أحزاب التيار الوحدوي الناصري وفي مقدّمها حزب الاتحاد الاشتراكي. أما المرحلة الثالثة، فشهدت انقسامات في الأحزاب العقائدية، وتشكل حزب العمل الشيوعي وأحزاب جديدة في الساحة الكردية والمنظمة الآثورية والحزب التركماني، على الرغم من أن بعضها ترجع جذور تشكله إلى المرحلة الثانية.

2- مرحلة حافظ الأسد
عندما جاء حافظ الأسد إلى الحكم، استثمر ظاهرة التذمر من سياسات التضييق على الحريات السياسية والاقتصادية التي كانت تمارسها سلطات “الحزب القائد” على الصعيد الداخلي اقتداء بما يمارس في البلدان الاشتراكية. فأظهر انفتاحًا على الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية، وعلى طبقة التجار ورجال الأعمال. وعلى الصعيد الخارجي اتخذ مواقف براغماتية أكثر انسجامًا مع متطلبات المجتمع الدولي، وتخلى عن ممارسة سياسات محكومة بالأيديولوجيا وحدها، بل وظف الأيديولوجيا في سبيل تدعيم حكمه. واستثمر أيضًا في مسألة مواجهة إسرائيل، بهدف تأمين تمويل ومساعدات مستمرة من دول الخليج.
كانت الأحزاب السياسية القومية والاشتراكية لا يزال لها حضور قوي في الشارع، واستبشر معظمها بمجيء حافظ الأسد. والحال كذلك بالنسبة إلى غرف التجارة والصناعة التي كانت تعبر عن مصالح الطبقة المدينية التي كان لها نفوذ سياسي سابق، وأيضًا طبقة رجال الدين، لكنه مارس القمع في حقّ كل من وقف ضد انقلابه.
استخدم حافظ الأسد الأسلوب المزدوج الذي يتبعه الحكام المستبدون، القائم على الترغيب والترهيب، أي سياسة الاحتواء من جهة والقمع والاعتقال من جهة ثانية، بعد أن تخلص من منافسيه المباشرين بالسجن المؤبد (كما حصل مع صلاح جديد) أو الاغتيال (كما فعل مع اللواء محمد عمران).
كانت سياسة الاحتواء مدخلًا لإلغاء السياسة بصورة ممنهجة من المجتمع. فكانت “الجبهة الوطنية التقدمية” وفق شعار التعددية السياسة هي الستار لإلغاء الأحزاب وتحويلها إلى هياكل فارغة، حين ارتضت أن يكون القرار السياسي بيد قيادة حزب البعث، أي بيد حافظ الأسد الأمين العام للحزب، استنادًا إلى ميثاق الجبهة. بل ارتضت هذه الأحزاب أن تحرم من العمل في صفوف الطلاب والجيش، وخسرت عمليًا إمكان التوسع والتأثير في القطاع الشبابي. وأشرك حافظ الأسد هذه القوى ببعض المغانم من خلال عملية التوزير أو التعيينات، وعمل على إضعافها وتشجيع انقساماتها، بعد أن خسرت الكثير من قاعدتها الشعبية، لتتحول الجبهة إلى وسيلة للاستثمار السياسي وإفراغ التعددية السياسية من أي مضمون حقيقي.
في وقت مبكر، غادر حزب الاتحاد الاشتراكي بزعامة جمال الأتاسي، وكان نائبًا لرئيس “الجبهة الوطنية التقدمية”، وسلك نهجًا معارضًا بعد إقرار الدستور الدائم عام 1973 الذي تضمن المادة الثامنة التي تكرس حزب البعث قائدًا للدولة والمجتمع. كما عارض قسم من التيار السياسي الإسلامي الدستور، وجرت احتجاجات، جرى على إثرها اعتماد المادة التي تنص على أن دين رئيس الدولة الإسلام. كذلك، كان التعاون مع نظام الحكم أحد خلفيات الانقسام الذي حصل في الحزب الشيوعي السوري عام 1972، وانتهى إلى مغادرة الجبهة تدريجيًا باسم الحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي بزعامة رياض الترك وعمر قشاش وفايز الفواز. وتبلور خطه المعارض منذ عام 1976، إذ عارض دخول الجيش السوري إلى لبنان، وتعرض بعض كوادره الطلابية للاعتقال لعدة سنوات في إثر مشاركتهم في تظاهرة يوم الأرض.
وعلى صعيد التيارات الإسلامية الموجودة في الساحة السورية، اعتمد الأسد سياسة الترغيب والترهيب نفسها، إذ احتوى القسم الأعظم المؤثر من طبقة رجال الدين المرتبطين بطبقة التجار، وجعل بعضهم في وزارة الأوقاف، وسهّل لهم الحصول على بعض الامتيازات والمغانم، وكذلك دعم مؤسسة المفتي الشيخ كفتارو، مؤسسة أبو النور، ومدارس الأسد لتحفيظ القرآن، ولاحقًا الترخيص للقبيسيات (تنظيم نسائي بالآلاف). كما حدثت اعتقالات في صفوف التيار الإسلامي، ولوحقت كوادر من الإخوان المسلمين، والكوادر التي لها علاقة بمؤسس “الطليعة المقاتلة” الشيخ مروان حديد الذي اعتقل في دمشق أواسط السبعينيات، وجرت تصفيته في المعتقل، إذ لوحق أتباعه الذين بدؤوا بسلسلة من الاغتيالات تُوِّجت بمجزرة المدفعية. لا شك أن نهج النظام الاستبدادي والشمولي، إلى جانب قراراته التي ارتكزت على أسس طائفية على صعيد المؤسسة العسكرية، قد سهلت حدوث جريمة المدفعية البشعة، وأفسحت الطريق لأعمال العنف المضاد ذي الصبغة الطائفية، وقد أُدينت المجزرة من جميع القوى والشخصيات الوطنية.

3- القوى السياسية المعارضة في عهد الأسد الأب
ابتداءً من عام 1976، بدأت الحوارات بين أقسام الأحزاب التي خرجت من الجبهة التقدمية، بشكل رئيس بين حزب الاتحاد الاشتراكي والحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي، ثم انضم إليهما حزب العمال الثوري العربي (بزعامة ياسين الحافظ) الذي لم يشارك أصلًا في “الجبهة الوطنية التقدمية” ثم “حركة الاشتراكيين العرب” بزعامة عبد الغني عياش، بالتنسيق مع أكرم الحوراني الزعيم التاريخي للحركة، وكذلك حزب البعث الديمقراطي بزعامة إبراهيم ماخوس، بعد إجرائه مراجعات نقدية مهمة، وجرت أيضًا حوارات مع حزب البعث-القيادة القومية، لكنها لم تفضِ إلى اتفاق مشترك.
في نهاية عام 1979 وقعت خمسة أحزاب ميثاق تحالف أُطلق عليه “التجمع الوطني الديمقراطي”، وانتخب جمال الأتاسي رئيسًا له، وتبنى الميثاق النضال في سبيل التغيير الوطني الديمقراطي وإقامة دولة المواطنة وإلغاء جميع أشكال التمييز.
جاء تشكيل التجمع الوطني الديمقراطي في ظل أزمة عامة كانت تشهدها البلاد سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وفي ظل حراك شعبي كان على رأسه حراك النقابات المهنية والعلمية، وكان من تباشيره بيان نقابة محامي دمشق في عام 1978 الذي طالب بوقف العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية واستقلال النقابات وإطلاق الحريات.
كما شهدت سوريا آنذاك حوادث وأعمال عنف واغتيالات، كان أبرزها مجزرة المدفعية التي أشرنا إليها، والتي كان يقف خلفها تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين. وقبل هذه المجزرة كانت السلطة تتهم حزب البعث/القيادة القومية الموالي لقيادة البعث العراقي، بالقيام بمثل هذه الأعمال.
أعلن التجمع الوطني الديمقراطي عن نفسه، وكان آنذاك يمثل خطًا ثالثًا، في بيانه الشهير أواسط آذار/ مارس 1980 الذي وُزِّع على نطاق واسع بعشرات الألوف في جميع مناطق سوريا خلال انتفاضة عام 1980 ، والإضراب العام الذي شمل معظم المدن السورية باستثناء دمشق، إذ حيّا البيان الحراك الشعبي، وطالب بسحب الجيش من المدن المحاصرة، وإلغاء الأحكام العرفية، ووقف حالة الطوارئ المزمنة، وطرح مخرجًا للأزمة العامة التي تعصف بالبلاد من خلال جمعية تأسيسية تتولى صياغة دستور جديد ديمقراطي، وإجراء انتخابات حرة على طريق الانتقال إلى نظام وطني ديمقراطي يعبر عن إرادة الشعب. واستعاد البيان الشعار الذي رفع خلال مرحلة الاستقلال (الدين لله والوطن للجميع).
نجح النظام في إخماد الحراك الشعبي بعد وقوف غرفة تجارة دمشق إلى جانبه، وكذلك موقف قيادة الإخوان المسلمين في إثر مفاوضات جرت من خلال وسطاء في حلب (سُرِّب أن أحدهم كان فتحي يكن رئيس الجماعة الإسلامية في لبنان) وأصدرت الطليعة المقاتلة بيانها الشهير في مواجهة قوى التجمع الوطني الديمقراطي “عودوا إلى جحوركم”. كسب النظام الوقت، وانقضّ في 7 نيسان/ أبريل 1980 على مدن الوسط والشمال، وقمع ملايين الناس بعد محاصرته للمدن معلنًا بدء الحل الأمني، فاختزل الأزمة بمنطق المؤامرة، وحلَّ النقابات المهنية التي تحركت في مواجهته، وتوجه إلى قمع الناس العاديين، لأنه يدرك أن عدوه الأساسي هو الشعب، الحاضنة الأساسية لأي معارضة ضده.
تعرضت قوى التجمع الوطني للتضييق والاعتقال، وتركز القمع على كوادر الحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي، بعد اعتماد النظام المواجهة الأمنية والعسكرية في نيسان/ أبريل 1980، وخلال عمليات سحق الحراك الشعبي جاء حلّ النقابات المهنية، وتوجهت أجهزة النظام لتصفية الحساب مع من شارك في الحراك، وكذلك تجاه تنظيم الإخوان المسلمين، فوجهت حملة واسعة على أعضاء التنظيم بعد صدور القرار 49 الذي يقضي بتجريم المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، وفي السياق ارتكب النظام مجزرة سجن تدمر في إثر المحاولة الفاشلة لاغتيال حافظ الأسد في حزيران/ يونيو 1980.
خلال رحلة حافظ الأسد إلى موسكو لتوقيع معاهدة الصداقة السورية السوفياتية في 8 تشرين أول/ أكتوبر، أمر بتوجيه ضربة شديدة للحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي كهدية للسوفيات؛ التخلص من خصومهم لمصلحة معتمدهم في سوريا، أي حزب خالد بكداش الرسمي (الحزب الشيوعي السوري) المنضوي في جبهة النظام. استهدفت الحملة الجهاز العصبي للحزب الشيوعي المعارض، القيادات المركزية والمناطقية والفرعية، ونجحت في اعتقال نحو 250 كادرًا لسنوات طويلة. أفلت بعض القياديين من الاعتقال، وانتقلوا إلى حياة التخفي، وقادوا الحزب طوال عقدين بصورة سرية. وكذلك كان الحال بخصوص كوادر حزب العمال وحزب الاتحاد الاشتراكي، إضافة إلى كوادر من البعث الديمقراطي، وكوادر أخرى لها علاقة بحزب البعث-القيادة القومية.
أما حزب العمل الشيوعي الذي نشأ في عام 1981، بعد تحوله من رابطة العمل الشيوعي، فقد تعرض لحملات اعتقال في أواخر السبعينات، لكن حملات التصفية الكبيرة التي شنتها أجهزة السلطة حدثت بين عامي 1982 و1987. اعتقلت المئات من كوادره لسنوات طويلة، واستُشهد بعضهم تحت التعذيب (محمد عبود، مضر الجندي). كما طالت الاعتقالات كوادر فلسطينية سورية من فتح وتنظيمات فلسطينية يسارية.
بعد مجزرة حماة في عام 1982 التي راح ضحيتها نحو 25 ألف قتيل من أهالي المدينة، واختطاف وتغييب الآلاف خلال شهر واحد (شباط/ فبراير)، ظهرت تحالفات جديدة في الخارج، كان أبرزها جبهة تحرير سوريا برئاسة أكرم الحوراني، ضمت آنذاك: حزب البعث-القيادة القومية المدعوم من البعث الحاكم العراقي، وحركة الإخوان المسلمين، وتيار من حركة الاشتراكيين العرب، وشخصيات سياسية سورية عديدة مقيمة في الخارج. وطرحت الجبهة برنامجًا لإسقاط النظام وتحرير سوريا من السلطة الأسدية، لكن مفاجأة النظام كانت بعقد صفقة مصالحة مع الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين بزعامة عدنان عقلة، على الرغم من أنه حمّلها مسؤولية العنف وارتكاب مجزرة المدفعية في حلب مع الضابط ابراهيم اليوسف الذي قتل بعد أشهر من حصولها. تمت الصفقة بإشراف ضابط المخابرات اللواء علي دوبا بعد الإمساك بعدنان عقلة، القائد الميداني للطليعة المقاتلة، أو تسليمه نفسه. وصدرت في عام 1985 قرارات عفو بحق قيادات ومقاتلي الطليعة بعد تسليمهم مخازن أسلحة كانت في حوزتهم.
جرت أكثر من محاولة خلال الثمانينيات في الخارج لتشكيل جبهات بأسماء مختلفة، معظمها كان مدعومًا من خصم النظام اللدود، أي النظام العراقي، لكن مثل هذه التشكيلات لم تستمر، أما التجمع الوطني الديمقراطي فقد استمر في ممارسة نشاط أقرب إلى العمل السري.
في بداية التسعينيات، حدث تقارب بين حزب العمل الشيوعي الذي كان يصدر جريدته السرية “الراية الحمراء”، والتجمع الوطني الديمقراطي، وظلَّ الحوار قائمًا ومستمرًا، وكان يجري التنسيق على صعيد بعض المواقف، وأخذ حزب العمل على عاتقه توزيع نشرة “الموقف الديمقراطي” مثل أي حزب من أحزاب التجمع، وكان يأخذ حصته بشكل دوري إلى أن حدثت الضربة الأمنية القاسية باعتقال مجموعة كوادر قيادية ملاحَقة، كان من بينهم عبد العزيز الخير.
انتقل التجمع الوطني بعد عام 1990 تدريجًا إلى استراتيجية جديدة، تستند إلى المبادرة والدفع إلى نشاط علني، بعد تشخيصه لواقع الحال بأن هناك ظاهرتين تسيطران على الوضع الداخلي السوري؛ الأولى، تتلخص بالبنية المتكلسة للنظام غير القابلة لأي إصلاح أو تغيير داخلي، والثانية، حالة عجز المجتمع عن القيام بفعل ما من أجل التغيير بسبب القمع الشديد والسحق الذي تعرض له، خاصة خلال عقد الثمانينيات بما في ذلك قوى المعارضة السياسية التي استُنفدت في الاعتقال والملاحقة وكم الأفواه، ولا سبيل إلى كسر هذه الحلقة وتجاوز الاستعصاء إلا بتشجيع كل المبادرات بما فيها تشكيل هيئات ولجان حقوق إنسان، وتقرَّر أن يُصدر التجمع نشرة تمثل الخط السياسي المشترك لأحزابه. صدر العدد الأول للنشرة المشتركة، وسميت (الموقف الديمقراطي)، واستمرت نحو عشرين عامًا، وتوقفت في عام 2011.
أصدر التجمع الوطني في شباط/ فبراير 2011 بيانًا حيّا فيه الربيع العربي في تونس ومصر، ودعا فيه الجماهير السورية إلى التحرك، وأشار إلى أن الربيع السوري قادم لا محالة بسبب تراكم الأزمات، وأن التغير الوطني الديمقراطي هو المخرج الوحيد، وقد جاء البيان متناغمًا مع البيان الذي أصدرته الأمانة العامة لإعلان دمشق في حينه.
وفي 13 نيسان/ أبريل 2011، أصدر التجمع الوطني آخر بيان له، لأنه بدءًا من تاريخ 30 حزيران/ يونيو 2011 ستصبح معظم أطرافه جزءًا من هيئة التنسيق الوطنية. في هذا البيان الأخير، أعلن التجمع عن تأييده للحراك الشعبي السلمي الذي يطالب بالحرية والكرامة، وأوضح رؤيته إلى المخرج من الوضع المتأزِّم، وإلى الحوار بين السلطة والمعارضة الذي كان مثار نقاش عام.
حاول التجمع الوطني، خلال الثمانينيات والتسعينيات، تعزيز فاعليته بإنشاء مؤسسات مركزية وفرعية ولجانًا تخصصية، شارك فيها عدد من المثقفين المستقلين. لعب هذا النشاط، إضافة إلى تغييرات إقليمية ودولية (انتقال رياح التغيير الديمقراطي إلى بلدان عديدة، خاصة في أوربا الشرقية، وسقوط نظام تشاوشيسكو حليف نظام الأسد) دورًا مهمًا في العودة التدريجية للسياسة. فخلال حرب الخليج الأولى والعدوان الأميركي على العراق، صدر بيانات عن الكتاب والمثقفين، وكذللك المحامين، كما تشكلت لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، اعتقل معظم مؤسسيها، ومع ذلك لم تستطع الاعتقالات والضغوط وقف هذا النوع من النشاط.
تعرض عدد من أعضاء الحزب الشيوعي/المكتب السياسي للاعتقال في مدينة يبرود شمال دمشق في إثر كتابات على جدران المدارس تدعو إلى إسقاط تشاوشيسكو سوريا. تعرضوا لتعذيب شديد، استشهد في إثره الشاب المهندس منير فرنسيس، ونجا آخرون (سمير حداد ويوسف غيث) بأعجوبة. وقد عنونت جريدة نضال الشعب للحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي افتتاحيتها في حينه (دولة اللادولة واللاقانون) واصفة النظام الحاكم بالهمجية الخارجة على أي قانون، ومن دون أن يقف في وجهها أي رادع.
مع بداية مرحلة التسعينيات، وجدت القوى السياسية المعارضة نفسها ضعيفة مستنزفة ومنهكة بسبب الاعتقال والقمع والملاحقات المديدة، إذ اضطرت إلى التقوقع النسبي، دفاعًا عن استمرارية وجودها، ما أدى إلى حسر تأثيرها ونفوذها السياسي في المجتمع، وأدركت أن الضربات المتتالية التي قامت بها أجهزة السلطة، في إطار عملها الممنهج لإلغاء السياسة من المجتمع، قد أدّت إلى خلل أكبر في ميزان القوى لمصلحة النظام، ومن ثم حاولت أن تعيد النظر في جانب من استراتيجيتها وتكتيكاتها بالتوجه إلى فرض نوع من النشاط العلني، من خلال دور مباشر أو غير مباشر، وخلق مناخ لمزاولة الشأن العام، ونجحت إلى حد ما باستعادة مواقع قد خسرتها، خاصة أن القبضة الأمنية للسلطة تراخت نسبيًا، وجرى الإفراج عن أعداد كبيرة من المعتقلين، وباتوا شخصيات علنية لها مكانتها الاجتماعية وحاضنتها الشعبية، ويقصدها كل من لديه ميول معارضة، ويبحث عن دور. وعادت بعض الجمعيات المتوقفة والمجمدة إلى النشاط، مثل ندوة الثلاثاء الاقتصادية. وتم الإفراج في منتصف عام 1998 عن المعارض الكبير رياض الترك، الأمين الأول للحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي.

ثانيًا: عهد الأسد الابن وقيام الثورة
1- موت حافظ الأسد ومجيء بشار
بعد طرح شعار “الأسد إلى الأبد”، كان حافظ الأسد يحضر لمن يخلفه من أسرته على طريقة كوريا الشمالية التي كان يشكل نظام حكمها الشمولي والوراثي بالنسبة إليه نموذجًا يحتذى.
بعد مجزرة حماة التي نفذتها السلطة، باتت حماة مثالًا قابلًا للتنفيذ في كل المدن السورية لسحق المجتمع والمعارضة، وانتقل الأسد إلى إضعاف مراكز القوى التي نمت داخل بنية النظام العسكرية والأمنية في معركته ضد الشعب بما فيها مركز قوة أخيه رفعت الأسد الذي أبعده إلى خارج سوريا. وتدريجًا، تم تحضير ابنه البكر باسل الذي مات في ظروف غامضة عام 1994، ما اضطره إلى أن يستدعي ابنه بشار من مكان إقامته في بريطانيا بغرض الدراسة، وبدأ بإعداده بشكل مكثف عسكريًا وسياسيًا، وبإدخاله إلى ملفات سياسية عديدة.
في 10حزيران/ يونيو 2000، أُعلن عن موت حافظ الأسد. كان لافتًا حضور شخصيات رفيعة المستوى ممثلة للأطراف الدولية والإقليمية في جنازته، وكان واضحًا أن هذه الأطراف قد اتخذت قرارها بدعم بشار خلفًا لأبيه.
وكان لافتًا أيضًا تفاصيل مهزلة تسليم السلطة إلى بشار الأسد، بدءًا من قرارات خدام نائب رئيس الجمهورية بترفيع بشار الأسد لأعلى رتبة عسكرية، إلى مجلس شعب الذي عُقد بسرعة ليغير إحدى مواد الدستور خلال دقائق (تخفيض شرط العمر للترشح لمنصب رئاسة الجمهورية ليتوافق مع عمر بشار الأسد آنذاك 34 عامًا).

2- ربيع دمشق والعقد الأول من عهد الأسد الابن
بعد أن سُمِّي بشار الأسد رئيسًا عبر عملية استفتاء شكلي، على طريقة والده، لا تتوافر فيها أيٌّ من مقومات العملية الديمقراطية، ألقى خطاب القسم في 17 تموز/ يوليو 2000، الذي أظهر فيه انفتاحًا وقبولًا بالرأي الآخر، مثلما فعل حافظ الأسد في بداية “حركته التصحيحية” حين أطلق الوعود وزرع الأوهام. بعد ذلك، أزاح الأسد الابن بعض المديرين والمسؤولين الفاسدين، ورفع شعار “التحديث والتطوير”، وأعلن أن نهجًا إصلاحيًا قد بدأ، لكن سرعان ما عاد مضمون الخطاب القديم إلى الواجهة، إذ لم تتحمل السلطات الهامش الصغير لحرية التعبير والرأي الآخر، بعد أن عمّت النقاشات الواسعة معظم مناطق سوريا في المنتديات التي تشكلت سريعًا. فعادت لغة التهديد على لسان نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام، وتقرر حظر المنتديات في 17 شباط 2001، أي بعد سبعة أشهر من خطاب القسم، وأُغلق حوالى 70 منتدىً، ثم رفعت العصا عاليًا في أيلول/ سبتمبر 2001، وتم وأد هذا الربيع، واعتقال مجموعة من الناشطين والسياسيين، منهم المحامي الراحل حبيب عيسى، الناطق الإعلامي باسم منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي، والمحامي رياض الترك، الأمين الأول للحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي.
إضافة إلى المنتديات، شهد ربيع دمشق حراكًا واسعًا، كان من أبرزه البيان الموقع من 99 مثقفًا سوريًا في تشرين الأول/ أكتوبر 2000، ثم بيان الألف، وتشكلت لجان إحياء المجتمع المدني التي ضمت عددًا كبيرًا من الشخصيات الثقافية؛ ميشيل كيلو، نبيل المالح، عارف دليلة، حسين العودات، علي العبد الله، عبد الرزاق عيد، ياسين حاج صالح، حازم نهار… إلخ، ثم بيان المحامين والحقوقيين السوريين الذين طالبوا بإطلاق الحريات العامة، وبإلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية وبمراجعة دستورية شاملة. كما تشكل عدد من منظمات وجمعيات ومراكز حقوق الإنسان مثل: الجمعية السورية لحقوق الإنسان، سواسية، المنظمة العربية لحقوق الإنسان… إلخ.
كما حصل نشاط شبه علني لأحزاب التجمع الوطني الديمقراطي؛ مهرجانات خطابية حضرها الآلاف في أحد ملاعب دوما، في ذكرى تأسيس حزب الاتحاد الاشتراكي وثورة 23 تموز/ يوليو، شاركت فيها أحزاب التجمع وجمهور المعارضة الديمقراطية، وألقيت كلمات باسم التجمع الوطني في الأعوام 2003 و2004 و2005. والإعلان في مؤتمر صحفي في مكتب المحامي خليل معتوق، في صيف 2005، عن عقد المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي الذي غير اسمه إلى حزب الشعب الديمقراطي السوري، وانتخب عبد الله هوشه كأمين أول. صدور وثيقة الشرف عن الإخوان المسلمين في 2001، والتي لاقت ترحيبًا من بقية القوى السياسية، واعتبرت اقترابًا من الخطاب الوطني الديمقراطي.
في بداية عام 2002 أصدر التجمع الوطني الديمقراطي بيانًا طالب فيه أعضاءه الملاحقين والمتخفين بالظهور إلى العلن، وعددهم تسعة، وبعضهم أمضى ما يزيد على العشرين عامًا في حالة التخفي، في مبادرة تتضمن شكلًا من التحدي والتأكيد على حق القوى السياسية بالعمل والنشاط العام وكسر القيود المفروضة على العمل السياسي (بسام يونس، عبد الكريم شيخ الشباب، فهمي يوسف، عمر حنيش، يونس زريقة، سمير رحال، مازن عدي، رجاء الناصر، وائل معروف).
كان ربيع دمشق مؤشرًا إلى عودة السياسة إلى المجتمع، ولم تتمكن إجراءات الضغط والتهديد والاعتقال من لجم أو ضبط تفاعل القوى السياسية والحقوقية والمدنية من متابعة النشاط والحوار، وصمد منتدى جمال الأتاسي للحوار الوطني حتى أيار/ مايو 2005 حيث أغلق بالقوة وحُوصر ومُنع رواده من الدخول.

3- إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي
في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2005، وقعت مجموعة قوى وأحزاب وشخصيات بيانًا باسم ائتلاف “إعلان دمشق”، ضمّ طيفًا واسعًا من ممثلين عن التجمع الوطني الديمقراطي ولجان إحياء المجتمع المدني، وتنظيمات سياسية كردية وشخصيات مستقلة، وأيده الإخوان المسلمون، ثم انضموا إليه، ثم تخلوا عنه بعد عام، بعد أن شاركوا في “جبهة الخلاص الوطني” مع عبد الحليم خدام الذي انشق على النظام بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في شباط/ فبراير 2005، وهو الاغتيال الذي شكَّل مفترق في التوازنات الإقليمية في المنطقة، وفرض على النظام السوري الانسحاب العسكري من لبنان.
وتركت حادثة الاغتيال آثارها في الأوضاع الداخلية، وفي العلاقات السورية اللبنانية، وفي هذا السياق جاء “إعلان دمشق-بيروت” الذي وقعه حوالى 150 مثقفًا وسياسيًا من سوريا، ومثلهم في لبنان، ويدعو إلى علاقات متكافئة بين البلدية بعيدًا عن الوصاية، ونجم عنه اعتقالات وملاحقات في الساحة السورية لمجموعة من السوريين الموقعين، ومنهم: ميشيل كيلو، أنور البني، ومحمود عيسى.
سعى ائتلاف إعلان دمشق للتحول إلى مؤسسة من خلال تشكيل مجلس وطني، وانتخاب أمانة عامة، وقد عُقد في أواخر عام 2007 بشكل سري في أحد ضواحي دمشق، وحضره 132 عضوًا من أصل 164 عضوًا تمت تسميتهم أو انتخبوا من الأطر التي يمثلونها، لكن الائتلاف تعرض لأزمة داخلية بسبب نتائج الانتخابات وآلية الانتخاب، أدت إلى خروج حزب الاتحاد الاشتراكي برئاسة المحامي حسن عبد العظيم، ثم حزب العمل الشيوعي، وقد تركت هذه الأزمة انعكاساتها الكبيرة على وحدة المعارضة قبل وخلال الثورة، كما لم يمض أسبوع حتى بدأت حملة اعتقالات طالت عددًا من أعضاء الأمانة العامة، ومن كوادر في مؤسسة الإعلان، كان من بينهم رياض سيف رئيس الأمانة المنتخب، ورئيسة المجلس الوطني فداء الحوراني، وتركت هذه الاعتقالات أثرًا كبيرًا في بنية الإعلان وتطوره.
استمرّ الإعلان في العمل بأشكال أقرب إلى السرية، وأنشأ مكتبًا للإعلام أشرف على موقع “نداء سوريا” وأصدر افتتاحيات دورية، وانتخب الشخصية الليبرالية الأستاذ سمير النشار رئيسًا لمكتب الأمانة العامة، وأحدث فروعًا في المحافظات، كما نشط مجلس الإعلان في الخارج، وانتخب أنس العبدة عضو حركة العدالة والبناء الإسلامية رئيسًا له.
شهد العقد الأول من عهد الأسد الابن نشاطًا ومبادرات لقوى شبابية، لكنها تعرضت للقمع. كما نشطت تيارات إسلامية خارج عباءة الإخوان المسلمين تتبنى الديمقراطية، وتطرح طروحات لاعنفية تنويرية، ومن بينها تيار الشيخ جودت سعيد.
إذ على الرغم من الاعتراض الذي أعلن عنه التجمع الوطني الديمقراطي على عملية التوريث وطعن بشرعيتها إلا أنه ترك الباب مواربًا في حال أقدمت السلطة على عملية إصلاح جدية تتيح لقوى المجتمع المدنية والسياسية أن تنمو وتتحمل مسؤوليتها تجاه التغيير الديمقراطي المنشود، لكن هذا كان وهمًا، فالنظام السوري بطبيعته الشمولية وبنيته المغلقة كان عائقًا حقيقيًا أمام أي تقدم نحو الأمام على المستويات كافة، ولذلك أعلن التجمع الوطني، في أحدى افتتاحيات نشرته “الموقف الديمقراطي”، بعد سنتين على تسلم الابن السلطة، رأيه في اختصار: النظام السوري لا يَصلُح ولا يُصلِح ولا يُصلَح.

هل من دور للقوى السياسية في التهيئة للثورة؟
لا شك أن للقوى السياسية الوطنية الديمقراطية دورًا في التهيئة لثورة آذار/ مارس 2011، لأن انفجار الثورة ارتكز على أربعة عوامل رئيسة، كان أحدها التراث النضالي السوري في كليته.
الأول، مستوى الاحتقان الذي بلغته الأزمة العامة في البلاد من قمع وإفقار وفساد وسياسات تمييز، كبقية بلدان الربيع العربي.
الثاني، تأثير ثورة الاتصالات والمعلوماتية في وعي جيل الشباب، وانفتاحهم على عالم المعرفة غير المحدود، والتشرب بقيم الحرية وعالم الأنسنة في ظل معاناة الكبت والقهر وضيق فرص العمل.
الثالث، تأثيرات الربيع العربي في حينه من خلال المثالين التونسي والمصري، وما نقلته وسائل الإعلام عبر شاشات التلفزة، ما أعطى أملًا وثقة للشباب بالمبادرة والتحرك.
الرابع، الموروث النضالي في بعديه الكفاحي السياسي والثقافي الذي ترك أثرًا في أوساط النخب الشبابية والمسيسة.
هذا الموروث الذي يتضمن ما قدمته قوى المعارضة السياسية من تضحيات جمة خلال عقود، فضلًا عن مساهمات قوى الثقافة والفن في نقد الواقع وتغذية الوعي العام، مخترقة كل القيود وكبت الحريات التي مارسها النظام.
لم تخطِّط القوى السياسية لقيام ثورة بل كانت تطمح في انتفاضة عام 1980، من خلال الإضرابات العامة والعصيان المدني، إلى إحداث تغيير جذري نحو نظام وطني ديمقراطي عبر عنه في حينه بيان التجمع الوطني في أواسط آذار/ مارس 1980، ومن أجل ذلك، حاولت ممارسة الضغط على السلطة للقبول بانتخابات جمعية تأسيسية تكون منطلق العملية الديمقراطية، لكنها دفعت أثمانًا باهظة لقاء مواقفها وأدوارها، تجسّدت في اعتقال المئات من ناشطيها وكوادرها، واستشهاد عديدٍ منهم تحت التعذيب في السجون، أو من آثارها في ما بعد (منهم كوادر في الحزب الشيوعي السوري/المكتب السياسي: عبد الله الأقرع، هيثم خوجة، أميل نصور، يحيى الجوني، عبد الرزاق أبا زيد، رضا حداد).
لم تتوقف نضالات القوى السياسية السورية في أي لحظة طوال العقود الثلاثة السابقة للثورة السورية، على الجبهات المختلفة، الثقافية والسياسية والمدنية، خاصة خلال العقد الأول من الألفية الثالثة (2000-2010)، فقد كانت البيانات المعارضة في محطات مختلفة، والتحالفات السياسية الجديدة مثل “إعلان دمشق”، والحوارات في المنتديات، وتشكيل الجمعيات الحقوقية، ولجان إحياء المجتمع المدني، والتنظيمات الشبابية والنسائية، في منزلة الإرهاصات التي هيأت مناخات جديدة نسبيًا تتجاوز مناخ الخوف والتقييدات المفروضة على المجتمع السوري، فضلًا عن المفردات والمفاهيم التي غذت بها الثقافة العامة للشباب السوري الذي أطلق الثورة بشعارات ترتكز على الوطنية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.

4- مقاربة أولية لدور القوى السياسية خلال الثورة والاستحقاقات المطلوبة
في 16 آذار/ مارس 2011، قبل تظاهرات درعا الأولى بيومين، ساهم فرع “إعلان دمشق” وفرع “التجمع الوطني” بدمشق في دعم اعتصام أسر المعتقلين في وسط دمشق، في ساحة المرجة أمام مبنى وزارة الداخلية. تعرض الاعتصام، قبل أن يكتمل الحشد، لقمع شديد بحضور وإشراف قادة أمنيين كبار، واعتُقل العشرات من المعتصمين. وشارك فرع دمشق للتجمع الوطني الديمقراطي في إطلاق التظاهرات الأولى في برزة والمعضمية وتل منين ودوما وحرستا.
كان تفاعل كوادر السياسية المعارضة قويًا إلى جانب الثورة، خاصة الفئة الشبابية، وتحول عدد منهم إلى قيادات ميدانية في الحراك الشبابي، مثل رزان زيتونة وناظم حمادي وسهير الأتاسي الذين بادروا إلى تشكيل لجان التنسيق المحلية، والهيئة العامة للثورة السورية في ما بعد. لكن على الرغم من انضمام الكوادر السياسية والحقوقية والثقافية المعارضة إلى الحراك الشعبي في المحافظات السورية كافة، إلا أن الأحزاب والكتل السياسية عجزت أن تشكل مركزًا تنظيميًا موجِّهًا لكوادرها وللحراك الشعبي، ولذلك تركت الأمور للمبادرات المحلية في كل منطقة.
تأخر الإخوان المسلمون في اتخاذ موقف مؤيد للثورة السورية، وكان وضعهم في الداخل صعبًا وضعيفًا بسبب التصفية المستمرة من الأجهزة الأمنية، ووجود القانون 49 لعام 1980 الذي يدين ويجرِّم كل من ينتمي إلى جماعة الاخوان المسلمين. لكن بعد الأشهر الثلاثة الأولى للثورة، بدأ نشاطهم يظهر إلى السطح في الخارج بدعم من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي تربطه علاقات قوية مع دول عربية وإقليمية.
وحصل أيضًا تململ واضح في قواعد أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، بما فيها حزب البعث الحاكم نفسه، وطالت الاعتقالات أعدادًا كبيرة منهم لاشتراكهم في التظاهر ضد النظام، فزادت حالات الانشقاق والانقسام في صفوفها.
وفي الساحة السياسية الفلسطينية السورية كان انحياز جماعة أحمد جِبْرِيل (الجبهة الشعبية-القيادة العامة) واضحًا منذ البداية إلى جانب السلطة، واستُخدمت أداة قمع في مواجهة الفلسطينيين السوريين الثائرين. بينما واجهت حركة حماس ارتباكًا في موقفها واضطرت إلى التخلي عن وجودها بدمشق، وتجميد مكاتبها فيها، أما الكوادر الوسطى لتنظيمات منظمة التحرير، فقد انخرطت في الحراك السلمي الذي عمّ سوريا، فقد كان للوجود الفلسطيني وزن قوي في العاصمة السورية ومحيطها (في مخيمي يرموك وفلسطين، وفي الحجر الأسود… إلخ)، وكان لهم مع نازحي الجولان المحتل مشاركة قوية وواسعة، وكانوا من اهم حواضن الثورة في الضواحي الجنوبية في دمشق، وتعرضوا لقمع شديد، ولم يتمكن النظام من سحق هذه المناطق، وإجلاء سكانها إلا من خلال إفساح المجال لدخول تنظيم “داعش” إليها، واستخدامه ذريعة لتدمير المخيمات، وتهجير ما يزيد على نصف مليون إنسان.
كانت هناك محاولات عديدة لتوحيد الطيف المعارض داخل سورية الذي كان منقسمًا على نفسه قبل الثورة، خصوصًا بسبب انتخابات المجلس الوطني لإعلان دمشق الذي عُقد في أواخر 2007، وغادر الإعلان في إثرها حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الشيوعي، فضلًا عن اعتقال بعض كوادر الإعلان آنذاك. كانت أهم محاولة خلال الأشهر الأولى من الثورة هي المبادرة التي دعت إليها شخصيات مستقلة بالتنسيق مع أعضاء في قيادة التجمع الوطني الديمقراطي، وهم: ميشيل كيلو، برهان غليون، حبيب عيسى، حسين العودات، حازم نهار، عبد العزيز الخير، عارف دليلة، فايز سارة. تواصلت هذه المجموعة بتنسيق فيما بين أعضائها مع كامل الطيف السياسي المعارض في سوريا للاتفاق والتوقيع على وثيقة “عهد وطني”، وبعدها عملت المجموعة نفسها على لمّ شمل المعارضة، وقدمت وثيقة سياسية متكاملة تتضمن رؤية سياسية لسوريا المستقبل، وعُرضت المسودة على الطيف السياسي المعارض (إعلان دمشق، التجمع الوطني الديمقراطي، التجمع الماركسي “تيم”، الأحزاب الكردية، شخصيات مستقلة)، وحدث تجاوب كبير باستثناء قوى وشخصيات من إعلان دمشق. وانتهت الوثيقة لتكون الوثيقة المعتمدة التي شُكِّلت هيئة التنسيق الوطنية في ضوئها، وأُعلن عنها في 30 حزيران/ يونيو 2011، وضمت في حينها 15 حزبًا سياسيًا بينها عدد من الأحزاب الكردية، إضافة إلى شخصيات ثقافية مستقلة.
في اختصار، فشلت القوى السياسية المعارضة في داخل سورية في أن تتوحد ضمن إطار تنظيمي واحد، وعلى أساس برنامج عمل وأهداف مشتركة، وضيعت فرصة تاريخية ليكون للثورة رأس سياسي فاعل في الشارع، ويعبّر عن أهداف الثورة وإرادة الشعب السوري بصورة مستقلة، قبل أن يكون متاحًا للنظام وحلفائه الإيغال في العنف، وقبل تدخل أطراف دولية وإقليمية أكان يُتوقع أن تلعب بالثورة وتأخذها إلى مسارات بعيدة عن أهدافها.
إن فشل القوى السياسية في التوحد والمساهمة مع القيادات الميدانية الشابة في الحراك، أعاق تشكيل رأس حقيقي للثورة، يملك استراتيجية واضحة لبلوغ أهدافه، الأمر الذي يطرح سؤالًا كبيرًا لا يزال راهنًا حتى هذه اللحظة، سؤال يؤدي بالضرورة إلى سلسلة من الأسئلة الأخرى؛ إلى أي حدّ لعبت الأمراض التي تحملها المدارس القديمة التي تطغى عليها الأيديولوجيا في هذا الفشل؟ هل يعود الأمر إلى ضيق الأفق، وعدم القدرة على تجاوز الحساسيات الشخصية أم إلى نقص الإحساس بالمستوى المطلوب من المسؤولية الوطنية في لحظات تاريخية؟ أم أن الأسباب تكمن في الأوهام التي استبدّت ببعض الفاعلين السياسيين، فبنوا حساباتهم وتصوراتهم وتكتيكاتهم وممارساتهم بصورة خاطئة وغير واقعية؟ أم أن هناك خللًا أساسيًا يتمثل بقصور الوعي وضلال مناهج التفكير؟ تحتاج هذه المرحلة حقًا إلى الكثير من النقد والدراسة والتمعن لتحديد المسؤولية والأخطاء واستيعابها وتجاوزها لمواجهة الاستحقاقات الراهنة.

5- إضاءة سريعة على أزمات الأحزاب السياسية خلال الثورة
بعد عقود من القمع وتجفيف العمل السياسي، كانت أحزاب المعارضة الديمقراطية مستنزفة ومنهكة حين فاجأتها الثورة، ولم يغير كثيرًا العقد الأخير قبل الثورة من واقعها البائس ومن ضعف بناها وقصورها، ولذلك لم تكن مهيئة فعلًا كي تؤدي دورًا رياديًا مؤسّساتيًا.
تعرض حزب الاتحاد الاشتراكي لهزة كبيرة خلال السنوات الأولى من الثورة بسبب اعتراض قاعدته الشعبية المندمجة بالحراك الثوري على قيادته السياسية التي كانت في نظرها مهادنة للنظام، ما أدى إلى شرخ كبير وحالة شبه انقسامية، فحصل تمرد على قيادة الحزب، كان على رأسه أحد أعضاء اللجنة التنفيذية في مدينة دوما (محمد سعيد فليطاني)، وهو الذي سبق أن تعرض للاعتقال في بداية الثورة، وبعد سنوات اغتيل في وضح النهار، خلال فترة سيطرة جيش الإسلام في دوما. قدم حزب الاتحاد الاشتراكي تضحيات كبيرة، واعتُقل عدد كبير من أعضائه، واستشهد عدد آخر منهم (عدنان وهبة، بسام بصلة… إلخ)، ولا يزال حتى اليوم أحد قادته، رجاء الناصر، مجهول المصير بعد اختطافه من الأجهزة الأمنية.
أما حزب الشعب الديمقراطي السوري الذي كان له دور كبير في إعلان دمشق، فقد اعتُقل عدد كبير من كوادره، واستشهد بعضهم تحت التعذيب أو في التظاهرات، ولا يزال مصير القيادي فائق المير الذي اعتُقل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2013 مجهولًا.
تعرض حزب الشعب لانتقادات واسعة على سوء الأداء، وعلى تأخير عقد مؤتمره الذي يضمن المراجعة وتجديد الطاقات. لم تعمل قيادته كي يكون فاعلًا كمؤسسة، وتُرك أعضاؤه لمبادراتهم الفردية خلال الثورة، في الوقت الذي لعبت بعض التصريحات السياسية لأحد مسؤوليه غطاء للإسلاميين المتشددين مثل جبهة النصرة. يُضاف إلى ذلك عدم الرضى عن أداء الحزب في المجلس الوطني والائتلاف الوطني الذي جُيِّر لمصلحة جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم من التيارات الإسلامية. تفاقمت أزمة الحزب تنظيميًا، إذ صدرت قرارات فصل داخلية لمجموعة من الكوادر كانت تسعى لإنشاء منبر ديمقراطي داخلي بحسب النظام الداخلي، إلا أن القيادة رأت أنه تكتل بغرض الانقسام. احتكم المعترضون إلى هيئة التحكيم الوطنية داخل الحزب برئاسة عمر قشاش التي أنصفتهم، لكن القيادة المركزية لم تحترم قرارات هيئة التحكيم، وأعلنت حالة الطوارئ، ولجأت إلى قرارات الفصل التي طالت أعضاء في المركزية وكوادر أساسية. كذلك، لم تحدث استجابة لدعوة ثلث أعضاء المؤتمر السادس إلى عقد مؤتمر سابع، ولا يزال الأمر معلقًا حتى اللحظة الراهنة. انتهى الحزب واقعيًا إلى جسمين تنظيمين يحملان الاسم نفسه مع تميز الطرف الجديد بإضافة عبارة الهيئة القيادية إلى الاسم.
أما حزب العمل الشيوعي، فقد خسر أحد قادته البارزين عبد العزيز الخير، وهو قيادي أيضًا في هيئة التنسيق الوطنية. واجه الحزب أزمة على أكتر من مستوى، فقد فُصل قائده السابق فاتح جاموس قبل الثورة لأسباب تتعلق بموقفه الضعيف تجاه النظام السوري، وخلال الثورة أيضًا غادرت الحزب كوادر مهمة لأنها لم تعد مقتنعة بجدوى العمل في إطار الحزب، وقد شكل بعض أعضائه السابقين حركات أو مجموعات جديدة (مثل: حركة مواطنة، حركة معًا، نواة من أجل سورية المستقبل)، في إطار الانحياز للثورة.
أما حزب العمال الثوري العربي، فقد واجه أيضًا حالة عطالة بعد أن غادر سوريا عدد كبير من كادراته، ساهم بعضهم في تشكيل حزب الجمهورية كحزب قيد التأسيس في 17 نيسان/ أبريل 2014. وظلت حركة الاشتراكيين العرب منضوية في إطار هيئة التنسيق الوطنية، واعتقل مسؤول الحركة إياس عبد الغني عياش، ولا يزال مصيره مجهولًا.
أدى الإخوان المسلمون فعليًا الدور الأكبر في مؤسسات الثورة التي تشكلت في الخارج برعاية إقليمية ودولية (المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني) من خلال بناء كيانات عديدة بأسماء مختلفة. وقد شكلوا الغطاء الأكبر للمتشددين وسلطات الأمر الواقع في مناطق سورية مختلفة، خاصة في الشمال السوري، وباتوا غير قادرين على الخروج من الفلك التركي.
خلال السنوات العشر الماضية من عمر الثورة، نشأ خارج سوريا عشرات المجموعات والتجمعات والكتل السياسة، إضافة إلى العشرات من منظمات المجتمع المدني والمراكز القانونية والحقوقية، وتحوّلت مجموعات سياسية عديدة في الخارج إلى أحزاب سياسية مثل حزب اليسار الديمقراطي وحزب أحرار، وكلها تطمح إلى أداء دور في الساحة السياسية السورية، وجرى أيضًا تأليف هيئات ولجان تحضيرية في الخارج والداخل تنشد الوصول إلى مؤتمر وطني سوري، لكنها تواجه صعوبات وعقبات عديدة في ظل أزمة الثقة السائدة، والتعثر في تحييد الخلافات الأيديولوجية أو الإخفاق في إدارة التباينات وتحييد أصحاب الأجندات المرتبطة بالخارج.

خاتمة
بعد سيطرة العسكرة على المشهد السوري، وارتسام حدود مناطق النفوذ بفعل المعارك العسكرية والتدخلات الخارجية، بات الشعب السوري موزعًا على سلطات ذات طابع ميليشياوي بما فيها سلطة النظام، وفي ظل تقزيم وتهميش دور المؤسسات الممثلة للثورة (ائتلاف، مجلس وطني، هيئة تفاوض)، والمتاهات التي دخلتها في مفاوضات جنيف، وقبولها مبدأ السلال الأربعة واللجنة السورية، انفض عنها تدريجًا كثير من الشخصيات والمجموعات السياسية من الكتلة الديمقراطية وإعلان دمشق، وانفض عنها أيضًا الجمهور الأوسع المؤيد للثورة. ومن ثم وجد الشعب السوري نفسه بلا تمثيل موحد يعبر عن مطالبه وتطلعاته، على الرغم من سعي عشرات الكيانات السياسة لتوحيد المعارضة أو للتواصل مع السوريين في الداخل الذين يعانون أزمات اقتصادية ومعاشية خانقة.
تواجه القوى السياسية تحديات كبيرة تتطلب مراجعات جذرية في وعيها ومناهجها وممارساتها لتحديد المسؤولية التي تتحملها بعد الهزيمة والمآل الذي وصل إليه الوضع السوري، وهنا تبرز أهمية نقدها لتجربة السنوات العشر الماضية، وعملها الجاد لتجاوز الحالة الراهنة من التشظي بأشكال من العمل التوحيدي المستقل عن الأجندات الإقليمية أو الدولية لاستعادة ما أمكن من دور في قرار مستقبل الوضع السوري بالاستناد إلى المصلحة الوطنية العليا بإقامة دولة المواطنة بعيدًا عن أي لون أيديولوجي، وبناء نظام ديمقراطي يعبِّر عن إرادة الشعب، ويستند إلى عقد اجتماعي جديد، واستثمار الطاقات الكبيرة لدى الشعب السوري داخل سوريا وفي مناطق الشتات، وبناء استراتيجيات عمل سياسي تصلح لاستثمار القرارات الدولية الخاصة بموضوع الانتقال السياسي في سوريا، واستخدام الملف القانوني للدفع باتجاه تحقيق العدالة والعدالة الانتقالية.
إن إعادة الاعتبار للسياسة بمعناها الحقيقي يشكل المدخل لبناء استراتيجية إنقاذ للشعب السوري من الوضع الكارثي الذي وصل إليه، ولتحقيق تطلعاته في الحرية والكرامة والعدالة.

مشاركة: