الربيع العربي والدستور

رفع الربيع العربي في معظم البلدان شعارات بمطالب عديدة، كانت أغلبيتها مطالب دستورية، أكانت مطالب تتعلق بالحقوق، أو الحريات، أو العدالة، أو المساواة، أو القضاء على الفساد، أو رفض التهميش. كلها في الحقيقة مطالب تتعلق بشكل الحكم، ولا يمكن ضمانها من دون دستور يصونها، وإن كانت الضمانات الدستورية شرطًا لازمًا وغير كاف لتحققها، لكن على الأقل لا يمكن تحقيقها من دون تغيير الدستور.
لكن مع ذلك، نرى أن تعاطي البلدان التي مرت بالربيع العربي مع الدستور كان تعاطيًا مختلفًا بشكل كبير، أكان ذلك التعاطي من جهة الشارع، أم من جهة النخب الثقافية، أم من جهة الحكومات واستجاباتها لمطالب التغيير عن طريق استخدام الدستور، أي إن ردة الفعل الدستورية للربيع العربي كانت مختلفة بشكل متفاوت، وسأحاول استعراض النماذج المختلفة لطرق التعاطي هذه. بالتأكيد، إن موضوع الدستور موضوع شائك وضخم جدًا، لا يمكن الدخول في كل تفاصيله دفعة واحدة، لذلك سأحاول التركيز تحديدًا على التاريخ الدستوري لكل بلد، وشكل الحكم فيها، وعلى ردة الفعل الدستورية فيها، وأثر الوعي الدستوري، والمشاركة العامة في الخطاب أو النقاش، في صوغ الدستور، أو المطالبة بالتعديلات الدستورية في كل بلد.
لكن قبل أن أخوض في هذا الأمر، أريد أن أطرح سؤالًا أسمعه كثيرًا عندما أتكلم عن الدستور: هل يهم الدستور؟ من قال إن الدستور مهم؟ نسمع هذا تحديدًا في السياق السوري، فالجميع يقول إن النظام فوق الدستور، وإنه يخالف الدستور كل يوم، كما أن بعض الدساتير العربية تبدو متقدمة جدًا من حيث النصوص التي تضمن الحقوق والحريات، ولكن على أرض الواقع لا نجد إلا الانتهاك للحقوق والحريات يوميًا.
وبشكل عام، حتى خارج السياق العربي، فإن الاعتقاد بعدم أهمية الدستور في الدول التي تحكمها ديكتاتوريات، هو أمر شائع جدًا في الأدبيات الأكاديمية التي تبحث في الدستور والدستورانية، فهناك اعتقاد سائد أن الدستورانية التي تعني أن سلطة الحكومة يجب أن تكون مقيدة قانونيًا عبر الدستور، وأن شرعية هذه الحكومة تعتمد على مدى مراعاتها لتلك القيود، مفهوم يقتصر على الدول الديمقراطية أو شبه الديمقراطية.
هناك افتراض سائد بأن الدساتير في الأنظمة الاستبدادية ليست مهمة، لذلك نجد أن معظم الأدبيات الدستورية الأكاديمية تكون معنية بالدول الديمقراطية، أو الدول التي بدأت عجلتها تسير على مسار التحول الديمقراطي، لكن مؤخرًا، وتقريبًا في السنوات العشر الأخيرة، بدأت تظهر أدبيات أكاديمية جديدة، ودراسات تؤكد أهمية الدساتير حتى في الأنظمة الاستبدادية، وتؤدي وظائف مهمة جدًا، بما في ذلك إطالة العمر المتوسط للنظام، أي إن الدستور يؤدي دورًا في إطالة عمر الديكتاتوريات.
فالمستبد واعٍ تمامًا لأهمية الدستور على الرغم من كل ما يقال، وهو في النهاية يرسم دستورًا يشبهه، خاصة إذا كان هو من يتحكم بطريقة كتابة الدستور، ومحتواه، فيوزع السلطات ويقسمها على هواه، بل إنه قد يضمّن الدستور بعض البنود التي تكفل الحريات وتضمن المساواة، ولكنه في الدستور نفسه يقوم بانتهاك هذه الحريات، فما يهم من أجل ضمان الحقوق ليس أن تكون مذكورة أو مضمنة في بند الحريات في الدستور فحسب، وإنما بنية الدستور وهندسة الدستور بشكل عام، وتركيب وتوزيع السلطات فيه، هو الأهم.
فإذا أخذنا النموذج السوري مثلًا، فإن ما نجده من انتهاك للحقوق والحريات والكرامات، ونهب موارد البلاد، ما هو إلا تطبيق عملي للدستور السوري الحالي، فهو دستور يتكلم عن ضمان الحريات للمواطن، لكن بنيته تقوض أي فرصة لضمان هذه الحقوق، وتمكن المشرع الذي هو في أغلب الأحيان الرئيس، من الخروج بقوانين تتعارض تمامًا مع كل ما يضمنه بند الحريات في الدستور. فهو واحد من أكثر الدساتير في العالم تركيزًا لجميع السلطات بيد السلطة التنفيذية المتمثلة بالرئيس، فهو يسيطر على السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهذا ينطبق على دستوري 1971 و2012. هذه الدساتير كُتِبَت من لجان يعينها رأس السلطة نفسه، ومن الطبيعي أن تخرج بهذا الشكل.
فكيف يمكن ضمان الحريات في القانون، إذا كان الرئيس يمتلك صلاحية التشريع؟ كيف يمكن تغيير هذه القوانين عبر السبل الرسمية، إذا كانت الآليات التي تضمن تناسق القوانين مع الدستور، وهي المحكمة الدستورية، مغلقة تمامًا أمام المواطن والمجتمع المدني وأي جهة أخرى، بل إن هذه المحكمة متحكم فيها من الرئيس نفسه.
وكيف يمكن ضمان تطبيق القوانين التي تضمن الحريات، إذا كان الرئيس نفسه هو المسيطر وفقًا للدستور على القضاء؟
إذًا، إن مخطط البناء الاستبدادي مرسوم بعناية في الدستور، ومن الصعب تخيل حصول أي تغيير حقيقي ما لم يتغير هذا المخطط.
لكن ما أود مناقشته في سياق العالم العربي والربيع العربي، ضرورة إعادة الدستور والدستورانية إلى المركز، من أجل فهم وتحديد مسارات الخروج من الاستبداد والصراعات العنفية، ويجب أن يتم ذلك ليس من خلال النظر إلى الدساتير المعاصرة فحسب، بل من خلال تتبع التاريخ الدستوري لكل بلد، ووجهات نظر مواطنيها حول مختلف القضايا الدستورية أيضًا.
فإن ما تحتاج إليه الدول العربية لتحقيق المطالب الأساس للربيع العربي، وإنهاء الصراعات المسلحة العديدة في المنطقة العربية، صوغ مسار دستوري، تشاركي، تضميني، لا يقصي أحدًا، مبني على حوار وطني، ضمن بيئة موائمة للحوار، يتم عبرها بناء توافقات بين أبناء البلد الواحد للوصول إلى نصوص توافقية تتحول إلى دستور مقبول للجميع، وهذه التوافقية والمسارات، هي الضامن الحقيقي الأهم لتطبيق الدستور، أي أن يكون مبنيًا على التوافق، لا القسر، وعندها يلتزم المواطن بشكل طوعي لا قسري.
إذا نظرنا إلى تجارب بلدان الربيع العربي، يمكن أن أصنفها وفق استجاباتها الدستورية للربيع العربي إلى:
أولًا، التجارب الناجحة؛ للأسف توجد تجربة واحدة ناجحة من حيث التغيير الدستوري والمشاركة الشعبية، هي تجربة تونس.
ثانيًا، تجارب الملكيات الدستورية؛ وهي نسبيًا ناجحة، أي أنجح من غيرها، فالإصلاح الدستوري في الملكيات الدستورية جاء على أنه حركة استباقية لتجنب المزيد من الاحتجاجات، لكن من دون مشاركة شعبية، وأهم الأمثلة: الأردن والمغرب وإلى حد ما البحرين.
ثالثًا، تجربة كتابة الدستور في لحظة استقطاب سياسي حاد جدًا؛ مثل مصر.
رابعًا، تجربة احتجاجات شعبية؛ نتيجة فشل عملية دستورية سابقة، وهي كتابة دستور دائم فورًا بعد الخروج من الحرب، وفي سياق انقسامات كبيرة، وبعد عملية تطييف كبيرة للمجتمع، وازدياد دور الهويات الطائفية والقبلية، وسط تدخل خارجي كبير في عملية الكتابة، كما هو الحال في العراق
خامسًا، تجربة التمنع الإصلاحي؛ والتجاهل التام للمطالب الشعبية، ولكن مع ارتفاع في الوعي الشعبي لأهمية تغيير الدستور والقوانين، مثل تجربة لبنان.
سادسًا، تجربة التقهقر الدستوري؛ وهي التجربة السورية، التي تعد نموذجًا مثاليًا لتغييب كامل لأكثر من قرن للمشاركة الشعبية في صوغ الدستور والقوانين، وهي مثال على كيفية استخدام التغيير الدستوري نفسه بعد الثورة، كحركة ظاهرها الاستجابة للمطالب الشعبية، وجوهرها تركيز المزيد من السلطات في يد الرئيس.

سأدخل في تفاصيل بعض هذه التجارب العربية، وسأبدأ بالتجربة الأنجح، التي هي التجربة التونسية.
إذا نظرنا إلى مؤشر فريدوم هاوس للحريات بشكل نسبي على أنه مؤشر مبدئي، مع كل التحفظات على هذا المؤشر، فإن تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي تنال تقييم “دولة حرة”، حيث نالت علامة 73 من أصل 100 على مستوى الديمقراطية والحريات، كما تتصدر قائمة المؤشر الذي يطلقه المركز العربي من ناحية الديمقراطية، ومن أكثر ما يثير الاهتمام في تتبع التاريخ الدستوري في تونس، أنها موطن أول تجربة دستورية على الإطلاق، وهذا ما لا يمكن في رأيي، فصله عن النجاح النسبي للتجربة التونسية عند مقارنتها ببقية دول الربيع العربي.
على الرغم من وجود إشكالات كبيرة في تونس، وعدم استقرار الوضع بشكل مثالي، إلا أنها تجربة تمشي في مسار أفضل كثيرًا من مسارات بقية دول الربيع العربي.
هذه التجربة التاريخية، بدأت عام 1857 مع إطلاق وثيقة عهد الأمان الذي أعلنه محمد باي، وهو أول نص يمنح السكان التونسيين حقوقهم الأساسية في الأمن على أرواحهم وأملاكهم وأعراضهم عبر إحدى عشرة مادة أقرت مساواة التونسيين في الحقوق والواجبات مهما كانت ديانتهم أو جنسياتهم، وضمنت أيضًا حرية المعتقد، والأمان في المال والأجساد، لكل سكان تونس، بل ضمنت حتى حقوق الوافدين إلى تونس من خارجها.
هذا العهد أصبح بعد سنوات قليلة أساسًا لأول دستور تونسي، بل أول دستور عربي، صدر عام 1861، أصدره محمد الصادق باي، وأهم إنجازات هذا الدستور الحد من سلطات الباي نفسه الذي أصدره. فقبل صدوره كانت سلطات الباي مطلقة غير مقيدة، فأتى الدستور ليقيدها، وهذه هي الدستورانية، أن يقوم الدستور بتقييد سلطات الجهة الحاكمة، وإخضاعها لمبدأ المشروعية المقتبس حينها بشكل كبير من الفكر الليبرالي الغربي، وعلى هذا الأساس نص الدستور على إمكانية إقرار مسؤولية الباي أمام المجلس الأكبر في حال خالف القوانين.
ضمن الدستور هناك أيضًا الفصل بين السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلى الرغم من أنه أتى في سياق موجة إصلاحات، بدأت بعدما زار الباي فرنسا وتأثر وانبهر بمظاهر التمدن والحضارة، وقرر استعارة بعض ملامح هذه التجربة إلى تونس، لكن على الرغم من ذلك لا نستطيع أن نقول إنه دستور جاء به الحاكم فقط، لأننا إذا نظرنا في تاريخ صياغته، نجد أن بعض المثقفين والمتنورين ساهموا في صياغته أيضًا، منهم أحمد بن أبي ضياف، وهو كاتب، ومؤرخ، نظر إلى الإصلاح السياسي في تونس، وكان من أهم من ساهم في كتابة وثيقة عهد الأمان.
للأسف، توقف العمل بهذا الدستور لفترة قصيرة في بداية فترة اضطرابات استمرت بضعة أعوام، ثم عاد العمل به، إلى عام 1881 حتى أعلنت الحماية الفرنسية على تونس.
ومع انتهاء الحكم الفرنسي عام 1956، وإعلان استقلال تونس، تم البدء بالعمل على دستور الاستقلال، الذي أقر عام 1959، والذي أتى عبر مجلس تأسيسي انتُخِب بعد الاستقلال، واستغرقت عملية كتابة هذا الدستور نحو سنتين أو سنتين ونصف تقريبًا، وظل هذا الدستور تقريبًا حتى بداية الثورة التونسية هو دستور تونس، وإن كان قد خضع لتعديلات في مراحل متعددة.
بعد أن قامت الثورة في تونس، فإن أول شيء تم عمله بعد رحيل الرئيس، هو تعليق العمل بالدستور في آذار/ مارس 2011، وتعويضه بقانون تنظيم مؤقت، أي دستور مؤقت للجمهورية، ثم تم انتخاب مجلس تأسيسي في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، أوكلت إليه مهمة صوغ الدستور.
يستند هذا المجلس التأسيسي إلى تاريخ عريق في الدستورانية والمشاركة في صوغ الدستور، واستغرقت عملية صوغ الدستور نحو سنتين ونصف تقريبًا من العمل الذي رافقه كثير من النقاشات العامة، في الصحافة، والمجتمع المدني، وندوات، وحوارات، كانت تغذي عمل المجلس التأسيسي، حتى أنهى عمله بعد سنتين ونصف، وتمت الموافقة على دستور 2014.
خلال هذه المراحل كلها، كان دور المجتمع المدني في تونس بارزًا وملحوظًا جدًا، ليس في الدستور فحسب، وإنما في صوغ بعض أهم القوانين التي رافقته، مثل مسودة قانون الانتخابات في تونس التي قام بصوغها المجتمع المدني التونسي، وبالتالي كانت المشاركة دائمًا ظاهرة ولها دور كبير، وكانت جزءًا أساسًا من نجاح التجربة الدستورية التونسية.
ننتقل إلى تجارب الملكيات الدستورية العربية التي تمثل نموذجًا لكيفية إجراء تعديل دستوري كحركة استباقية، ومنها الأردن التي ننسى أحيانًا أنها كانت جزءًا من الربيع العربي، لأن كل شيء فيها بدأ بسرعة وانتهى بسرعة، إذ بدأت الاحتجاجات في كانون الثاني/ يناير 2011، واستجاب النظام الملكي بعد شهر تقريبًا، فأصدر الملك عبد الله الثاني توجيهات بأن تشكل الحكومة الأردنية لجنة حوار وطني من خمسين شخصًا، حاولوا ضم أطياف المجتمع الأردني كما تخيلها من ألّف هذه اللجنة. إذًا هي لجنة مؤلفة وليست منتخبة، كان هدفها إدارة الحوار الوطني، من أجل صوغ إصلاحات سياسية. وبعد عمل هذه اللجنة، ووضع توصيات، صدرت في نيسان/ أبريل أوامر ملكية بتأليف لجنة لمراجعة نصوص الدستور الأردني، والنظر في إجراء تعديلات عليه، فقدمت مسودة، وتم بالفعل إقرار تعديلات من مجلس الأمة الأردني، ووافقت الملكية الأردنية على هذه التعديلات، كما جرت بعد ذلك تعديلات أخرى في 2014 و2016.
التعديلات بشكل عام كانت باتجاه التحول الديمقراطي، إذ أكدت على استقلال القضاء، وأهمية تحقيق المساواة، وأسست لمؤسسات جديدة لم تكن موجودة من قبل في النظام السياسي الأردني، مثل المحكمة الدستورية، وهيئة مستقلة للانتخابات، ومجلس قضائي. على الرغم من الطريقة التي تمت هذه التعديلات من خلالها، إلا أنها كانت بشكل عام خطوة في الاتجاه الصحيح، وإن كان ما زال جزء من المعارضة يرفض هذه التعديلات، ويعدّها شكلية، ولا تمس جوهر سلطة الحكم الملكي في الأردن.
في المغرب، كانت التجربة مشابهة تقريبًا، إذ بدأت الحركة الاحتجاجية في شهر شباط/ فبراير، حركة 20 فبراير كما يسمونها، واستجاب الملك بعد شهر تقريبًا، وما يميز التجربة المغربية ظهور الوعي بأهمية الإصلاح الدستوري الذي نادى به بعضهم فيما ذهب فريق آخر إلى ضرورة نزع الشرعية عن هذا الإصلاح الدستوري. وعلى الرغم من التباين الكبير بين هذين الفريقين في المواقف، ولكن اللافت للنظر هو التركيز على الدستور.
بعد خطاب الملك في آذار/ مارس، تألّفت لجنة بحسب رؤية الملك وفريقه، لا عبر الانتخاب، وتم الترويج لشعار أن الشعب أراد والملك استجاب، بعد أن طلب إجراء تعديل دستوري شامل للدستور المغربي، وبالفعل أتى دستور مغربي جديد يقر المغرب مملكة دستورية برلمانية ديمقراطية واجتماعية تنتهج المبدأ التشاركي، لإضفاء طابع من التواصل بين الملك وشعبه.
ضمن هذه التعديلات تم تقليص صلاحيات الملك، وإعطاء صلاحيات أكثر لرئيس الوزراء ورئيس السلطة التنفيذية، وتم تنظيم وضع المعارضة في البرلمان، كما تمت دسترة الأمازيغية بوصفها لغة رسمية للمملكة، ودسترة حقوق الإنسان كافة كما هو متعارف عليها عالميًا، وعرض للاستفتاء في تموز/ يوليو وتم إقراره.
لا يزال هناك كثير من المنتقدين لهذه التعديلات الدستورية، ويعتقد البعض أنها خطوة إلى الوراء، وإعادة إنتاج لهيمنة النظام الملكي على النظام الدستوري، لكن بشكل عام، إذا نظرنا إلى معظم وجهات النظر، فهي كانت خطوة إلى الأمام، وقد تكون جنبت المغرب الانزلاق نحو مسارات أخرى.
بالانتقال إلى تجربة مصر التي تنام على تاريخ دستوري عريق، هناك سلسلة من اللوائح الأساسية في عصر محمد علي والخديوي إسماعيل، لكن أشهر دستور في تاريخ مصر الذي يمكن أن نقول عنه إنه الدستور المؤسِّس، كان سنة 1923، والذي كان نقلة حقيقية في تاريخ مصر، وضعته لجنة مكونة من 30 عضوًا مثلت جميع الأحزاب السياسية والزعامات الشعبية الموجودة في مصر في ذلك الحين.
ظل العمل بهذا الدستور، مع وجود فترة انقطاع لثماني سنوات تقريبًا، إلى أن قامت ثورة الجيش عام 1952، حيث تم تعليق العمل بهذا الدستور، وصدر إعلان دستوري مؤقت، وبعد ذلك أُعلِنت الجمهورية العربية المتحدة، ومرة أخرى تم وضع دستور من جهات عليا من دون أي عملية تشاركية. وبعد الانفصال أتت معظم الدساتير مثل دستور عام 1962 و1964 لتكون دساتير مؤقتة يضعها الحاكم، إلى أن دعا السادات مجلس الشعب المنتخب عام 1971 إلى إعداد دستور جديد لمصر، وبالفعل تمت كتابة الدستور من لجنة مؤلفة من ثمانين عضوًا من ضمن مجلس الشعب، وعرضته على الاستفتاء، وظل هذا الدستور هو الدستور المعمول به حتى عام 2011 عندما قامت الثورة، وإن كان قد خضع لكثير من التعديلات.
إذًا، هذا الدستور إن قارناه بدستور عام 1971 في سورية، الذي كان موضوعًا من السلطة، سنجد أن دستور عام 1971 في مصر قد صاغته لجنة منتخبة.
وفي عام 2011، وعندما قامت الثورة، وتنحى الرئيس، عطّل العمل به المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في كانون الثاني/ يناير 2011، ثم مرر المجلس الأعلى إعلانات دستورية جديدة، وتم التعامل مع الإعلان الدستوري على أنه مسودة يتم التعامل معها في فترة ما بعد الثورة حتى صوغ دستور جديد.
تولى محمد مرسي الرئاسة، وأصدر قانون انتخابات جديد لانتخاب أعضاء جمعية تأسيسية تقوم بكتابة الدستور، وفعلًا تم انتخاب هذه اللجنة، ووضعت مسودة دستور، وأقرته، ولكن هذه العملية تمت في وقت قياسي، في أشهر قليلة وسط انقسام شديد جدًا من الانقسامات السياسية، ما حال دون الوصول إلى توافقات سياسية ملموسة، تكون أساسًا لحماية هذا الدستور.
كان الإخوان المسلمون مؤيدين بشكل شديد، بينما أطراف أخرى مثل جبهة الإنقاذ الوطني كانت تعترض بشكل كبير على هذا الدستور، وقد ظهرت لاحقًا نتائج هذه الانقسامات الحادة، وكتابة الدستور في مرحلة انقسامات، من خلال ما جرى في مصر من انقلاب، وإعلان دستوري بعد ذلك، في يوليو 2013، ثم قيام الرئيس الجديد بتأليف لجنة – وليس انتخاب لجنة كالمرة السابقة – من خمسين شخصًا برئاسة عمرو موسى، هي لجنة الخمسين التي وضعت مسودة دستور تم إقراره عام 2013، ثم عُرِض للاستفتاء في كانون الثاني/ يناير 2014، وتمت الموافقة عليه، وهو الدستور المعمول به حاليًا، غير أنه خضع لبعض التعديلات في سنتي 2014 و 2016، طالت تحديدًا مدة الرئاسة، وأدت إلى السماح بتكرار الولاية الرئاسية لأكثر من مدتين شرط عدم تتابعهما، وضمن للرئيس عبد الفتاح السيسي ليس ستّ سنوات فحسب، وإنما السماح بانتخابه لمدة ثالثة.
في الخلاصة، إن وضع الدستور في مرحلة انقسامات حادة، وكتابته خلال فترة قصيرة جدًا، كما في التجربة المصرية، أدى إلى نكوص وتراجع في مسألة الديمقراطية، والآن بعد التعديلات الأخيرة نجد تقهقرًا كبيرًا في ما يخص مؤشرات الديمقراطية.
سأنتقل أخيرًا إلى التجربة السورية. سورية لديها تاريخ دستوري عريق أيضًا، لكن للأسف لدينا انقطاع كبير عن هذا التاريخ الدستوري، وهناك حائط يفصل بيننا وبين التاريخ الدستوري والمدونات الدستورية التي جرت في تاريخ سورية.
بدأ تاريخ سورية الدستوري عام 1919 مع تأسيس أول قانون انتخاب للمؤتمر السوري العام، الذي دعا إليه الملك فيصل، فالملك فيصل أتى بفكرة بعد أن بدأت المحادثات في أوروبا حول مصير سورية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وانهيار الدولة العثمانية، وتقسيم سورية بين الدول الخارجية، وطُرَح موضوع مستقبل سورية على الطاولة، وبعد زيارته إلى أوروبا، وبعد أن استشف وضع الانقسامات الموجودة حول سورية، وغياب الرؤية حول ما يريد السوريون بالتحديد، وضرورة وجود دستور لسورية لتتأسس الدولة السورية قبل أن يتم تقرير مصيرها على موائد فيرساي، دعا بعد عودته إلى سورية من فرنسا إلى تشكيل ما سُمّي بالمؤتمر السوري العام الذي هو بمنزلة لجنة تأسيسية لوضع أول دستور للبلاد، وكانت أمام هذا المؤتمر مهمتان رئيستان: أولًا، تقديم تقرير للجنة كراين-كينغ وهي لجنة أميركية مهمتها أن تأتي إلى سورية لتستشف ماذا يريد السوريون فعلًا من الدول التي تنوي تقاسم السلطة في منطقتهم، ثانيًا، وضع القانون الأساس للبلاد، أي الدستور.
وتم فعلًا انتخاب المؤتمر السوري العام من جميع أنحاء سورية، وحينها كانت سورية أكبر كثيرًا من حدودها الحالية، فتم انتخاب أعضاء من فلسطين، من القدس، من غزة، من نابلس، من جميع أنحاء لبنان، ومن الأردن، ومن جميع أنحاء سورية الحالية، أي تم اختيار أعضاء من جميع المناطق، باستخدام القانون الموجود حينها، وهو القانون العثماني، إلا في بعض المناطق الساحلية، حيث عرقل وجود الفرنسيين عملية الانتخابات، وبشكل مقصود، فاضطروا إلى الوصول بشكل توافقي إلى تسمية ممثلين للمؤتمر السوري العام.
الجميل في تجربة المؤتمر السوري العام، أنها موثقة بشكل كبير نسبيًا، ونستطيع العودة إلى ما جرى في كثير من جلسات هذا المؤتمر. وبالنتيجة وصل المؤتمر إلى مسودة دستور سوري، كان أول دستور في عام 1920، غير أنه لم يحكم البلد في الحقيقة، وإذا نظرنا في طريقة المداولات والحوار الجميل الذي جرى بين التيارات المختلفة بمن فيهم الإسلاميون والليبراليون والمحافظون، نرى عملية حوار حقيقي بهدف الوصول إلى توافق، والوصول إلى نصوص توافقية مبنية على هذه الحوارات. ونتيجة هذه الحوارات خرج ما يمكن أن نقول عنه إنه كان أكثر دستور ديمقراطي وليبرالي في تاريخ سورية، خصوصًا إذا أخذنا معطيات المرحلة التاريخية في الحسبان.
لكن للأسف، أتى بعد ذلك إنذار غورو، ورفض فرنسا لكل هذه التجربة، ودخول الجيش الفرنسي إلى دمشق، ومعركة ميسلون، ورميت كل هذه التجربة في سلة المهملات.
بعد تقويض هذه التجربة، ظلت الرغبة في كتابة دستور لسورية أحد أهم الأمور التي نادى بها مناضلون سوريون ضد الاحتلال الفرنسي، بل إن الثورة السورية الكبرى عام 1925، كان أول مطالبها وضع قانون أساس للبلاد، بمعنى الدستور، وإذا قارنا ذلك بالثورة السورية اليوم، نجد أن هذا الموضوع كان شبه غائب عنها.
كان هناك دائمًا نضال سياسي كبير في تلك الفترة لإجبار فرنسا على أن تسمح ببدء عملية كتابة دستور في سورية، وهذا النضال غائب كثيرًا عن حديثنا، ولا نعلم عنه الكثير، حتى المثقفين والعارفين بالشأن العام، عندما نعود إلى تلك المرحلة، نتذكر تاريخ معارك ميسلون وغيرها، ولا نعرف كثيرًا عن النضال ضد الفرنسي لإجباره على الرضوخ والقبول بعملية دستورية.
ونتيجة هذا النضال، بما في ذلك الثورة السورية الكبرى، رضخت فرنسا، وقبلت أن تجري انتخابات لتأليف مجلس تأسيسي جديد عام 1928، لكتابة دستور جديد لسورية، ومرة أخرى تم انتخاب هذا المجلس، كان بعض أعضائه من أعضاء المؤتمر السوري العام، وأجرى اجتماعاته بشكل دوري على مدى سبعة أشهر تقريبًا ليصل إلى مسودة دستور توافقي.
لدينا محاضر كل هذه الاجتماعات، وما هي التوافقات التي تم الوصول إليها، خاصةً النقاشات بين الليبراليين والمحافظين، ونقاشات حول اللامركزية، كل هذه الأمور موثقة بشكل جيد جدًا، لكنها غائبة عن ذاكرتنا، وغائبة عن معرفتنا للأسف.
هذه النقاشات كلها أنتجت دستورًا جيدًا جدًا أيضًا، لكن في الجلسة الأخيرة للتصويت على بنود هذا الدستور، حضر ضابط فرنسي بوصفه ممثل السلطة الفرنسية، وقال إن هذا الدستور جميل جدًا في الحقيقة، لكن توجد ستة بنود لدينا اعتراض عليها، وعليكم أن تحذفوها من الدستور، وهي بنود تتعلق بالسيادة السورية. مثلًا من يقرر موضوع العلاقات الخارجية، ومن يوقع المعاهدات الخارجية، ومن يرأس الجيش، وغير ذلك، بينما كانت فرنسا تريد أن يؤكد الدستور أن فرنسا هي السلطة، وهي السيادة، وأن السوريين وإرادتهم يأتون تحت هذه السيادة.
في الجلسة نفسها، تم التصويت على قبول أو رفض المقترح الفرنسي، فتم رفضه بشكل شبه مطلق، حيث وافق سبعة أعضاء فقط على المقترحات الفرنسية. باختصار، عندما رفض المجلس المنتخب التعديلات المطلوبة من فرنسا، قامت فرنسا بإجهاض هذا المسار كله، وقالت لهم انسَوا هذا الدستور، وانسَوا التجربة كلها، وقامت بحل المجلس.
بعد سنتين من هذه التجربة، قامت فرنسا بإعادة إنتاج مسودة عام 1928، لكن مع فرض التعديلات التي أرادتها، وكان دستور عام 1930.
بعد ذلك كان هناك النضال السوري ضد الاحتلال الفرنسي، الذي توج بالاستقلال، وأتت بعد ذلك تجربة كتابة الدستور بعد الاستقلال، وهو الدستور الذي نفتخر به بشدة، عام 1950، وتمت كتابته من جمعية تأسيسية انتُخِبت عام 1949.
مرة أخرى، جميع محاضر هذه الجمعية وجلساتها موجودة لدينا، وهي أكثر من ألف صفحة، فيها نقاشات غنية جدًا، وتشكل جزءًا كبيرًا ومهمًا من تاريخ سورية الحديث، وهي غائبة تمامًا عن حاضرنا السوري.
توصلت اللجنة النهائية بعد عملية طويلة إلى دستور تم إقراره، وكان أول دستور في سورية يُكتَب بطريقة شرعية، أي بمعنى أنه مكتوب عبر هيئة منتخبة، ويتم إقراره، لكن للأسف لم يُكتَب لهذا الدستور أن يحكم أكثر من ثلاث سنوات، حيث جاءت بعد ذلك مرحلة الانقلابات لتقوض هذه التجربة، ثم جاء الاتحاد مع مصر الذي أدى دورًا في تغيب دستور 1950، على الرغم من أنه عاد بعد الانقلاب لفترة قصيرة جدًا، إلا أن سلسلة أخرى من الانقلابات ألغته، وأنتجت دساتير تم فرضها من جهات عليا متجاهلة بشكل كامل أي مشاركة شعبية وأي إرادة شعبية.
الدستور الدائم الذي كنا نعيش وفقه قبل الثورة، هو دستور عام 1973، أتى به حافظ الأسد، وتمت كتابته من لجنة معينة من الرئيس نفسه، وفعلًا قامت اللجنة بتفصيل دستور على قياس الرئيس.
بعد بدء الثورة في سورية، والمطالبة برفع قانون الطوارئ، وإنهاء المادة الثامنة، وغيرها من مطالب الثورة السورية، قام الرئيس بحركة ظاهرها الاستجابة لبعض المطالب التي هي وضع دستور 2012، ولكن تم وضعه من لجنة معينة من الرئيس نفسه، لا أحد يعلم على أي أساس تم تعيينها، ولم تكن تمثيلية بأي طريقة كانت، ولا يوجد لها حتى محاضر، كنا قد حاولنا الوصول إليها.
فلذلك، خرجت اللجنة بدستور على مزاج الرئيس، يلغي المادة الثامنة، لكن عمليًا يركز كل السلطات بيد الرئيس أكثر من ذي قبل، إضافة إلى تراجعات كثيرة أخرى تمت ضمن هذا الدستور.
قبل أن أنهي، لدي بعض الملاحظات على التجربة السورية.معظم القضايا الأساسية التي لا تزال تحرك الشعب السوري، وتحرك الفضاء العام السوري، هي ذاتها تقريبًا القضايا التي كانت تُناقَش في ذلك الوقت، وكأننا أمام المشكلات نفسها منذ مئة عام، مثل دور الدين في الدولة، وقضية الإثنيات، واللامركزية… القضايا نفسها ما زالت تناقش، بالطريقة ذاتها، أي لم تتحول هذه النقاشات والتوافقات المبنية عليها إلى نصوص توافقية تحدد نظام الحكم إلا لفترة محدودة، وفي رأيي، لن نصل إلى بلد ديمقراطي مستقر إلا بعد أن تمر البلاد بمرحلة تخرج فيها كل القضايا التي ننام عليها، بما في ذلك موضوع الهوية، والتنوع العرقي، ودور الدين، واللامركزية، يجب أن تخرج إلى العلن، وتخضع لنقاشات وحوارات، يتم تحويلها إلى توافقات، تتحول بدورها إلى نصوص دستورية.
من الملاحظ في التجربة السورية أيضًا، إصرار كثيرين ولا سيّما المثقفون على أن الدستور لا يهم، وفي رأيي هذه ثقافة أسس لها المستبد نفسه الذي من مصلحته تكريس فكرة أن الدستور لا يهم، على الرغم من أن أول أمر يقوم به المستبد هو أن يغير الدستور، وهذا نجده في كل الانقلابات، فكل مستبد يأتي بدستوره، فإذا كان الدستور لا يهم، لماذا لا يتم الإبقاء على الدستور السابق ثم يتجاوزه؟
وعندما أتى الرئيس بشار الأسد، فإن أول شيء قام به تعديل الدستور، لم يتجاوزوه إنما عدلوه، والتعديل على الرغم من كل انتقاداتنا له تم وفق مقتضيات دستور 1973، لأن الدستور كان مُجهِّزًا نفسه لمثل هذه الحالات.
للأسف، كرس المستبد هذه الثقافة بشكل ممنهج، حتى من خلال المسرحيات، عندما ظهرت مقولة “الدستور أكله الحمار”، لا، الدستور لم يأكله الحمار، بل هو مهم جدًا، ويجب أن يعود إلى نقاشاتنا وإلى وعينا، ويجب أن نطالب بتغيير دستوري، وبتعديلات دستورية، ويجب أن يظل حاضرًا في نقاشاتنا في الميدان السياسي، فمن دونه لن يكون هناك تغيير.
إذا أردنا أن نأخذ بعض الدروس، فإن ما تعلمناه من التجربة التونسية هو عدم الاستعجال، مقابل التسرع الذي حصل في التجربتين العراقية والمصرية في كتابة الدستور، إضافة إلى تجنب كتابة الدستور في فترة انقسامات حادة وعميقة كما حصل في مصر، وضرورة الاعتماد على دساتير مؤقتة في الفترات التي يتم العمل فيها على دستور دائم.
ما تعلمناه أيضًا من تجارب الدول العربية، ضرورة إشراك المجتمع المدني في عملية كتابة الدستور، والنقاش العام حول الدستور، وإثارة الوعي حول الدستور.
بالتأكيد، لا تبدو اللجنة الدستورية الحالية حلًا، لا من حيث طريقة تعيينها، ولا من حيث طريقة اختيار أعضائها، ولا من حيث أنها أتت بقرار دولي، ولكنها المسار الوحيد، أو أحد المسارات القليلة المتاحة الآن، حتى لو كنا لا نؤيدها، فإنها قد تخرج علينا بدستور، يُفرَض على البلاد، ويرسم مسارها، لذلك ينبغي لنا في رأيي عدم تجاهلها، بل يجب محاولة التأثير فيها بكل الطرق، والتأثير في مخرجاتها، ويجب أن نناضل جميعًا ليكون أي مخرج دستوري من هذه اللجنة، أو غيرها، هو مخرج مؤقت، مهمته أن يأخذ هذه البلاد إلى مرحلة تستطيع عبرها الدخول في حوار ينتج توافقات تؤسِّس لدستور جديد تستحقه سورية.

مشاركة: