قراءة راجعة في إشكالات الربيع العربي المبكرة

ملخص
تحاول هذه الدراسة العودة إلى مسارات الثورات العربية في بواكيرها، لتستخرج منها الإشكالات التي وقعت فيها الثورات أو تنبأت بوقوعها، وتضعها أمام القارئ ليرى إن كانت هذه الإشكالات ما زالت قائمة أم إن الثورات تجاوزتها. عمومًا وجدت هذه الدراسة في مطالعاتها الأولى أن التحليلات كانت تتدرج من المتفائلة إلى المتشائمة، بحسب موضوعية وانخراط أو انغماس المفكرين والمحللين ومن تصدى لهذه المسائل السياسية في العمل الثوري؛ وإن قلنا إنها مسائل فذلك لأن خلفيات الثورات أخذت خصوصية كل بلد قامت فيه، فعلى الرغم من أن هذه الثورات كَوَّنت الربيع العربي إلا أنها في الحصيلة قامت فرادى. وتورد الدراسة مسألة إمكان عدّ الحراكات السياسية والاجتماعية التي جرت في الأقطار العربية ثورات أو إصلاحات بحسب المجريات والأحداث التي خاضها كل قطر منفردًا؛ فالحراكات التي كانت تطالب بتغييرات جذرية للأنظمة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا صنفت على أنها ثورات، أما التي كانت تطالب بتغييرات في السياسات والقوانين والممارسات صنفت على أنها إصلاحات.
وبناء على ما سبق، ترى الدراسة أن الثورات حدثت في ستة أقطار، هي تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن والسودان، وقد اختلفت مساراتها الثورية عما طمحت إليه؛ وعلى الرغم من اقتراب بعضها من هدفها، إلا أن بعضها الآخر لا يزال بعيدًا، بل ربما ازداد بعدًا عنه! ويعود هذا الاختلاف كما بينته الدراسة إلى وجود عوامل داخلية وخارجية تعدّ من الإشكالات التي وقعت فيها الثورات، وشكلت عقبات في طريقها، والتي تخص كل بلد بشكل منفصل. وتقسم الإشكالات الداخلية إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول يتعلق بالمعارضات، والقسم الثاني يتعلق بالأنظمة وتياراتها الاجتماعية، والقسم الثالث له علاقة بتفاعل الشعب مع طرفي الحراك. ومن أهم مشكلات المعارضة غياب المفاهيم النظرية التي تشكل أساس الحراك الفعلي، خاصة الهوية التي تقرِّر كل ما سيليها من قوانين وتشريعات وبرامج وخطابات تشمل الجميع، وتحدد العلاقات ضمن المجتمع؛ أما الإشكالات الخارجية فتقسم إلى قسمين، القسم الأول يتعلق بالتدخلات الإقليمية، والقسم الثاني يتعلق بالتدخلات الدولية؛ وقد تكون هذه التدخلات على شكل دول أو تحالفات أو هيئات دولية، وقد تكون داعمة للمعارضات أو داعمة للأنظمة أو للشعب. هذه كلها كانت لاعبًا مهمًا في مسارات الثورات العربية؛ وكان لها دور في التحليلات التي تنبأت بمسارات الثورات.

كلمات مفتاحية: الثورات العربية . الربيع العربي . الهوية الوطنية . التدخل الخارجي . المعارضة

أولًا: المشكلة والتساؤلات
نجد من خلال قراءات تطور الربيع العربي، أن هناك إشكالات بلغ عمرها عمر الربيع نفسه، شكلت عقبات أمام مسارات هذه الثورات، وهي لا تزال قائمة إلى اليوم بفعل عوامل عديدة؛ منها ما تعود جذوره إلى حقبٍ سابقة على الربيع، ومنها ما نشأت معه، ومنها ما تركبت عليه؛ وقد تكون الدراسات الأولى التي تناولت هذه الإشكالات واضحة في توصيفها، واقترحت حلولًا عملية، بل ربما تنبأت بمسار الثورات العربية. وهو ما ستعود إليه الدراسة لتقرأه مرة ثانية. حيث تحاول هذه الدراسة الإجابة عن الأسئلة الآتية:

  • ما خلفية الأسباب التي أفضت إلى الثورات العربية؟
  • ما أسباب ظهور الثورات العربية؟
  • ما الإشكالات التي وقعت هذه الثورات فيها باكرًا وكان لها الأثر الاستراتيجي الذي لا نزال نعيشه إلى اليوم؟
    وللإجابة عن تساؤلات الدراسة حول السياق الذي أفضى إلى ظهور الأسباب المفجرة للثورات، نعود إلى مرحلة ظهور الأقطار العربية واستقلالها، ونتتبع مساراتها التي بلورت أسباب الثورات ذاتها.

ثانيًا: استقلال الأقطار العربية وصراعات الهوية
لم يكن انسحاب الإمبراطورية العثمانية من الأقاليم العربية في التوقيت نفسه، فقد كان انسحابها من الأقاليم المغربية ودخول الاستعمار الأوروبي أبكر كثيرًا من انسحابها من وادي النيل والجزيرة والهلال الخصيب، وكان لذلك أثر واضح في كثير من مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلاد المغرب العربي؛ وتبع ذلك انسحاب العثمانيين من باقي الأقاليم، ودخول الاستعمار الفرنسي والإنكليزي إليها في الربع الأول من القرن الماضي؛ وهو أيضًا ما كان له انعكاسه الواضح على الأقطار كلها، خاصة في مسألة الهوية؛ حيث شاهد العالم العربي نفسه فجأة في مواجهة مع سؤال حول هويته.
إن حكم العثمانيين تحت غطاء الإسلام والخلافة الإسلامية أجّل نوعًا ما هذه الإشكالية، على الرغم من أن إرهاصاتها كانت واضحة طوال المرحلة العثمانية، حيث كانت الإجابة عن سؤال الهوية مريحة وسهلة، وهي أن الهوية دينية إسلامية. بينما في أوروبا انتشر الوعي القومي، وبدأ استقلال الدول قوميًا، وقامت الحروب على هذا الأساس؛ في المقابل عاش الإسلام تناقضًا بين أن يكون محصورًا بقوم معينين ليشكل هويتهم التي توازي القومية من جهة، وكونه دينًا أُنزِل للناس جميعًا، أي ليس لقوم بعينهم! ما أفرز عددًا من المفكرين والأحزاب والجمعيات التركية التي نَظَّرَتْ للقومية التركية، مثل عالمي الاجتماع والمفكرين التركيين ضياء غوك ألب، والأمير صباح الدين، ما ظهر تأثيره في العرب بشكل مباشر، من خلال طبقة المثقفين العرب والقوميين، الذين يمكن ملاحظة أنهم كانوا يشبهون الأتراك في كل شيء تقريبًا، من اللباس والأفكار وطريقة الحديث والاجتماع وتصميم الأحزاب بناء على هوية تقوم على كتلة من التناقضات، حتى إن الجمعية التركية الفتاة التي تشكلت في اسطنبول تشكل على غرارها في اسطنبول أيضًا جمعية عربية، واسمها الجمعية العربية الفتاة ؛ وعاشت فكرة العروبة نفسها مأزقًا آخر، حيث اختلف المنظرون في خارطة الوطن والأمة العربية! فهناك من حصرها في شبه الجزيرة، ومنهم من مدها لتشمل الهلال الخصيب، وبعضهم وصلها إلى وادي النيل، وآخرون ضموها إلى المغرب العربي، وبعضهم ضم كل شمال الخليج العربي، وبعضهم الآخر اقتصر على الأحواز أو دونه، وبقيت هذه الخارطة موضع جدل إلى اليوم.
بعد أن استكملت الأقطار العربية استقلالها عن العثمانيين، ومن ثم الأوروبيين، وجدت نفسها في مواجهة مع سؤال حول هويتها لأجل اللحاق بالبعد الجغرافي القومي لها، على الرغم مما تركه الاحتلال من أثر واضح في ما يحدث اليوم بسبب الإرث الاجتماعي والسياسي، الذي انعكس على شكل تكريس التجزئة وخلق الاختلافات المقصودة والاحترازات في النواحي اللازمة من أجل ضرب أي وحدة مستقبلية ؛ وهنا ظهرت أفكار عديدة تنادي بالهوية على شكل حلقات، بدأت بالحلقة الصغرى وهي الحلقة السياسية ضمن القطر السياسي، ومن ثم الإقليم الجغرافي، وبعدها البعد العروبي، والبعد الأممي، وأخيرًا حلقة البعد الديني الإسلامي؛ تخللها كثير من الجدل والدعوات الفرعية القبلية والعرقية والطائفية والمذهبية…إلخ، إضافة إلى وجود مشكلة في الهوية الاقتصادية أيضًا، خاصة مع انتشار تيارين متعارضين، الشيوعية والرأسمالية وما انبثق منهما ودار في فلكهما من تجارب أو أفكار مطورة أو متعلقة. وعلى الرغم من ذلك كله، فقد كانت هذه الدول صباح استقلالها تنادي على صعيد الشعوب والحكومات عمومًا بالوحدة العربية؛ لكن لم يكن هناك كثير من التفاصيل حول آلية حصولها، خاصة أن بعض الدول ملكية وبعضها الآخر جمهوري، ولن يتنازل الملوك بطبيعة الحال عن عرشوهم. وعلى العكس فقد حارب دعاة القومية العربية الدعوات الإقليمية والأممية؛ وعلى الرغم من وجود الصراع السياسي والصدامات الشرسة، إلا أن الجو العام كان سياسيًا عمومًا في الدول التي انتشر فيها العمل السياسي، لكن عدم حسم مسائل الهوية والبعد القومي والجغرافي والاقتصادي، أفضى إلى وصول العسكر والمستبدين إلى الحكم، الذين فرضوا رؤية قمعية أحادية الجانب على هذه المسائل، وعطلوا الحياة السياسية.

ثالثًا: وصول العسكر والاستبداد السياسي إلى الحكم
خرجت الحكومات العربية عمومًا بعد الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي وهي تحمل نوعًا من الوعي السياسي والإداري الوطني، مكنها من بلورة حكومات وأنظمة دستورية وبرلمانية؛ فيها ما يشبه الفصل بين السلطات الثلاث، إلا الدول الملكية والوراثية التي كانت تحصر هذه السلطات في شخص الملك أو السلطان، وتعيد بلورة كل هياكل الدولة على هذا الأساس، بشكل يقترب أو يبتعد عن المركزية. لكن مع استمرار الصراع السياسي والفكري والإداري والاقتصادي والعسكري، ومع وجود تيارات وتدخلات عالمية فكرية وعسكرية واقتصادية، أدى ذلك إلى وصول ضباط من الجيش إلى حكم عدد من هذه الدول، حتى إن هناك انقلابات عسكرية أطاحت الملكية في بعضها، والملاحظ غالبًا أن هؤلاء الضباط كانوا يدورون في فلك الاتحاد السوفياتي، وأن أنظمتهم اتجهت نحو اليسار والنظام الاقتصادي الاشتراكي، وتم تحييد الحياة السياسية والفكرية عن الساحة، واستبدل العسكر السلطة الشرعية، بسلطة القوة المفرطة، وصولًا إلى الاستبداد بالحكم، ما انعكس على الوعي الوطني والقومي، وأعاد الدول العربية إلى مرحلة ما قبل القومية، كالعشائرية والطائفية، وضربت المفاهيم المدنية كالمواطنة والمجتمع المدني والهوية الجامعة. وأثر ذلك في ما يتعلق بوضع المرأة وتمكينها سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، حتى إن بعض المنظمات التابعة للحكومات العربية التي تعنى بالشأن النسوي، كانت تساهم في تنميط وتأطير المرأة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا بناء على الدور المرتبط بالجنس على الرغم من أنها نسوية! وزاد الطين بلة تمكن الإسلام السياسي، والدعوات السلفية التي ألزمت المرأة بدور مجحف بحقها أخذ شكل الأمر الإلهي. وكان من السهل على هذه الحكومات استيراد الأفكار المعلبة التي تلائم طبيعة حكمهم وأفكارهم وشيطنة كل ما هو غريب عنهم؛ حتى إن تحسين الوضع الداخلي اتسم بشيء من الإهمال بذريعة الاستعداد للمعركة، وظهرت هذه الدول وكأنها تسلح جيشًا لضرب إسرائيل. نادى الجميع بالوحدة العربية، لكن التجارب الوحدوية كانت فاشلة، أو لم تتخذ خطوات حقيقة لذلك. ومن بين الأمور التي تنسب إلى العسكر وأنظمتهم الاشتراكية الاستبدادية، إضعاف البرجوازية الوطنية؛ على الرغم من أن البرجوازية الوطنية كان لها اليد العليا في إنشاء الدول القومية، والنهوض بالصناعة والتجارة والتعليم والاقتصاد والمؤسسات والدستور والقانون والفن والتطوير الحضري والعلمي في دول كأوروبا؛ إلا أنها كانت محاربة في دول الاستبداد، ونابت الدولة عنها في التصدي لهذه الأمور على الرغم من قصورها، ما انعكس سلبًا على تلك المجالات؛ حيث كان حريًا بالدول أن تقوم بممارسة نوع من المراقبة والقوننة لهذه الطبقة، لا إخراجها من ساحة البناء الوطني. وأصبحت الحرية والديمقراطية والإصلاحات والتنمية أمورًا شكلية صورية مفرغة من مضمونها .

رابعًا: أسباب الربيع العربي
قبل الخوض في أسباب الربيع العربي علينا أن نميز مفهوم الثورة؛ فالمفاهيم الاجتماعية، يأخذ مضمونها عادة طابعًا خاصًّا، من حيث البعد الزماني أو الأيديولوجي. فما كان يعد قبل ألف عام “ثورة”، قد لا يعني اليوم أكثر من مجرد إصلاح عادي، وما تعده فئة اجتماعية أو سياسية ما “إصلاحًا”، يمكن أن تعده فئة أخرى معارضة لها “ثورة”. ويعني مفهوم “الإصلاح” تعديلًا غير جذري في شكل الحكم، أو العلاقات الاجتماعية. أما مفهوم “الثورة” فيعني التغيير الشامل والكامل، المتمثل في رفض جذري وتام للأشكال والصور الاجتماعية القائمة، أي إزالتها؛ وهو ما يعني إحداث تبدلات ثورية عميقة وجذرية في حياة المجتمع الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والاجتماعية. مع العلم، أنه لا يجوز اللعب بالثورة وبالانتفاضة المسلحة أو استعجالهما، ذلك أن الثورة مستحيلة من دون أزمة قومية عامة، تلف طبقات الشعب جميعها، وتوقع الارتباك واليأس والهلع في صفوف الطبقة المستغلِة، وتؤذن بدنو ساعة الانفجار. وهذا يعني أن ما جرى في البلدان التي انتفضت لتغيير أنظمتها السياسية بشكل جذري هو ثورة تامة الأركان، وتشمل تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية والسودان، بينما في باقي الأقطار كانت حراكات من أجل الإصلاح.
حملت الفترة التي بدأ بها الربيع العربي، دوافع من أجل حصول التغيير والثورة، كالفساد السياسي، واستبداد الأنظمة الحاكمة واحتكار مقاليد الحكم، والفقر المدقع وأوضاع المعيشة المزرية، وتدهور الاقتصاد وفساده، وسوء توزيع الثروة، وتمحور الأنظمة السياسية حول شخص الرئيس أو الحاكم، وغياب الأنظمة المؤسساتية، ووجود السلطة القمعية الأمنية، وغياب الحريات عمومًا، والحاجات الثقافية والعلمية والشعور بالرضى والأمان والكرامة.
وهناك أسباب أخرى عديدة ناتجة من الحراك نفسه، ككسر الخوف من الأنظمة الذي حفز الناس على التحرك، ورد فعل الأنظمة نفسها الذي استثار الشعوب للدفاع عن نفسها، أو نصرة المظلومين، ودور الإعلام بشقيه الموالي والمعارض في تحفيز الشارع، حيث أدى الإعلام دورًا موضوعيًا أحيانًا من خلال عرض الحقائق، وتحريضيًا أحيانًا أخرى من خلال عزو بعض ممارسات الأنظمة العنيفة والإجرامية والعكس، أو حتى من خلال إثارة النزعات الدينية والعنصرية وهذا يطال أسلوب الإعلام عمومًا، الذي ابتعد عن الوسطية أغلب فترة بداية الحراك السياسي الثوري في العالم العربي، وحرض على أسلمة الثورات.
ومن العوامل التي ساهمت أيضًا في الحراك أن الجيل الجديد من الشباب كان أكثر مرونة وانفتاحًا من الجيل القديم على أفكار ثورية خارج أُطر السياسة الكلاسيكية العربية وأحزابها وتوجهاتها، واستخدامهم التكنولوجيا، ما سرع في تنظيم الحراكات وأنضجها .

خامسًا: خارطة القوى السياسة والاجتماعية عشية الثورات
في ربطنا تاريخ الشعوب العربية بالربيع العربي، نجد أن المسائل التي لم تحسم في ما مضى أدت دورًا في إظهار إشكالات كانت عاملًا حاسمًا في مسار الثورات العربية، فبالعودة إلى الحلقات التي تمثل الهويةَ مجازًا في المجتمعات العربية، نجد لها انعكاسًا متقاطعًا مع اتجاهات المجتمعات العربية السياسية عمومًا، يضاف إليها البعد الاقتصادي الذي يمثل لدى بعضهم ركيزة لاتجاههم. تَجسد هذا أولًا في القوى والاتجاهات التي رأت أن انتماءها وهمها الوطني ينتهي عند الحدود السياسية لدولتهم، وبالتالي كان سقف هويتهم الوطنية لا يحمل أي أبعاد قومية، وربما حمل بعض الرواسب المناطقية والعشائرية والطائفية والرؤى الاقتصادية الاشتراكية أو الرأسمالية. في الحلقة الثانية، يمكن أن نجد القوى والاتجاهات التي تنادي بالبعد القومي على أساس الإقليم الجغرافي، والتي تقسم إلى أربعة أقاليم كبرى هي؛ إقليم الهلال الخصيب، وإقليم شبه الجزيرة العربية، وإقليم وادي النيل، وإقليم المغرب العربي مع ليبيا؛ وقد نجد من يجتزئ منها أو يضيف إليها، فهناك من ينادي ببلاد الشام مثلًا على أنها سورية الكبرى. في الحلقة الثالثة، نجد الاتجاه العروبي، الذي ينادي بالبعد القومي العربي، والوطن العربي، ومنها الأحزاب الاشتراكية عامة، كالبعثية والناصرية والوحدوية الاشتراكية. بينما يتجه اليساريون والشيوعيون إلى المناداة بالبعد الأممي على أسس اقتصادية في الحلقة الثالثة، ونجد منهم من ينادي أيضًا بالبعد السياسي للدول أو البعد العروبي، لكننا لا نجد منهم من ينادي بالبعد الإقليمي. في الوقت الذي يتجه فيه الإسلاميون إلى المناداة بالقومية والهوية الإسلامية في الحلقة الرابعة، داخل الإطار السياسي للقطر أو في الإطار العروبي أو في العالم الإسلامي كله، وهناك دعوات أخرى تنادي بأن يعم الإسلام الأرض كلها؛ وتتشعب اتجاهاتهم من الدعوية السلمية، إلى السياسية التنظيمية، وصولًا إلى التنظيمات المتطرفة كالسلفية الجهادية.
وتتقاطع بطبيعة الحال الخلفيات الفردية لحاملي هذه الاتجاهات، وقد تأخذ تكتلًا آخر له دوره كما في الحالة الطائفية والعشائرية والمناطقية والعرقية؛ كما تظهر التنظيمات ذات الصيغة السياسية الصرفة من دون البعد السياسي القومي، كالتحالفات السياسية مع القوى الخارجية أو الداخلية؛ يضاف إلى ذلك الثائرون من دون أي خلفية معرفية أو سياسية أو عقيدة ثورية متبلورة، وينسب إلى هؤلاء دور مهم في تنامي باقي القوى التي سارعت إلى استقطابهم لسهولة تجنيدهم. إلى جانب ذلك كله هناك الشعب، الذي وجد أن مطالبه وقراراته واختياراته واتجاهاته وطموحاته هي موضوع خطاب أغلبية هذه الأحزاب والقوى والاتجاهات، والملاحظ عمومًا، أن الخطاب يقول “الشعب يريد كذا” على الرغم من أن الشعب منقسم على نفسه، وقد لا يكون له ما يريده أكثر من لقمة العيش بكرامة أو حتى من دونها.
من جانب آخر، هناك الأنظمة العربية التي تواليها غالبًا قوى طائفية أو عشائرية وأمنية من ضمنها الجيش، كالحالة السورية، أو من دونه، كالحالة التونسية؛ ويمكن أن تواليها أيضًا قوى أخرى حزبية طائفية أو سياسية أو مرتزقة، ولا نستثني القوى الخارجية التي تدعم الجميع عند توافر المصالح متمثلة في دولة أو مجموعة دول؛ والمنظمات وتياراتها المدنية والإنسانية أيضًا.
يمكننا توضيح هذه الخارطة للقوى السياسية والاجتماعية والعسكرية على الأرض السورية بطريقة ثانية، استنادًا إلى مقياس ليكرت الشهير للاتجاهات الذي يتم استخدامه في قياس الاتجاهات النفسية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات، ويتم تطبيقه في الاستمارات البحثية، ويتدرج بحسب اتجاه الفرد أو المجتمع نحو شيء ما، على النحو الآتي:
موافق بشدة – موافق – محايد – غير موافق – غير موافق بشدة.
وهو مشابه للتقسيمات التي يتم استخدامها سياسيًا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ والتي تمتلك دلالاتها السياسية المعروفة، ويقابلها في علم الاجتماع قوى “الستاتيك” أو الاستقرار والثبات، كالقوى الدينية والسلطوية الجامدة، وحتى الفئات الاجتماعية التي تكرس حالة الثبات الاجتماعي على واقع ما ثقافي أو اجتماعي، وقوى “الديناميك” وهي القوى الاجتماعية التغييرية التي تسعى للثورة على الأوضاع وتحسينها دومًا. وهما على طرفي نقيض سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، والصراع بينهما هو ما يولد حركة المجتمع وتطوره أو تدهوره. وبالعودة إلى المقاربة التي تحاول الدراسة أن تطرحها هنا حول تصنيف القوى السياسية بحسب مقياس ليكرت للاتجاهات، أي اتجاهات هذه القوى من أنظمة الحكم العربية؛ يمكن أن نقسم المجتمع وقواه السياسة والعسكرية والاجتماعية على النحو الآتي:
الموافقون بشدة، ويقابلهم الموالون لأنظمة الحكم بشدة، وهي الفئات الموالية للأنظمة، فتحمل السلاح وترتكب الجرائم باسمها وبالنيابة، وهم من التيارات والقوى والأجهزة والفئات المتطرفة كلها.
الموافقون، ويقابلهم الموالون لأنظمة الحكم، وهم من التيارات الفكرية والسياسية التي تنبذ العنف لكنها في صف الأنظمة أيضًا.
المحايدون، ويقابلهم المحايدون اتجاه أنظمة الحكم، وهم غالبًا الشعب الذي يتجنب الصدامات ويطلب العيش فحسب، وهؤلاء هم من وصفهم يومًا ما بشار الأسد بالرماديين، ومن اتهمهم المعارضون بالجبن.
غير الموافقين، ويقابلهم المعارضون لأنظمة الحكم، وهم من السياسيين عمومًا، الذين لا يريدون حمل السلاح، ومن دعاة السلمية من الأطراف المعارضة كلها.
غير الموافقين بشدة، ويقابلهم المعارضون بشدة لأنظمة الحكم، وهم من حملة السلاح ومريدي التغير الجذري والمتطرفين، بمختلف اتجاهاتهم الأيديولوجية والفكرية.
يذكر أن للأنظمة العربية دور في خلق هذه التيارات والتلاعب بها أيضًا. كما أن هناك كثيرًا من الفئات المارقة والمرتزقة والاصطفائية والمتملقة والانتهازية، يمكن أن تأخذ تصنيفًا ضمن هذه الاتجاهات بناء على أهداف ومصالح وغايات وإغراءات معينة.

سادسًا: إشكالات الثورات الباكرة
لعل المشكلة الأكثر شيوعًا التي ظهرت في بداية الحراكات الثورية العربية، كانت مشكلةَ ضبابية المفاهيم الثورية وغيابها في الشارع العربي، كمفهوم الدولة والهوية والمجتمع والسلطة والحرية والوطنية والمواطنة والديمقراطية، وهي من المآخذ التي تصيدها إعلام الأنظمة وتاجر بها في كل أجنداته الإعلامية الموجهة ضد الثورات، حيث ركز على جهل الجموع بهذه المفاهيم، وبالتالي فإن حراكهم غوغاء من دون هدف، واستندوا إلى هذه النقطة في نعت الجماهير الثائرة، فقيل عنهم، جرذان وجراثيم وغيرها. ولعل أغلبية الجموع الغفيرة التي نزلت إلى الشارع لم تكن تحمل الوعي الثوري الحقيقي، لكنها كانت تشعر بدافع قوي من حياتها ومعاناتها، بأن عليها تغيير شيء ما مسؤول عن كل البؤس الذي تعيشه. وما يترتب على هذه المشكلة أن الوعي الذي كان غائبًا في تلك الفترة تقاتلت وتسابقت قوى الثورة والمعارضة والموالاة إلى ملئه، وتجاذبته كثير من تلك القوى لتنمو على حساب الهدف الحقيقي للثورة غير المُمَنهج ولا المُتفق على آليته، وهو ما كان يترتب أساسًا على غياب الوعي بالهوية. هذا الوعي تَشوّه وتَغيّر ونَما وبات مع مرور الزمن يُكَوّن اتجاهات مختلفة، يمكن تصنيفها بحسب تصنيف ليكرت إلى الاتجاهات السابقة الذِّكر. وهي اتجاهات متباينة لم تعد تلتقي بين أبناء الوطن الوحد انطلاقًا من مواقفهم السياسية وأيديولوجياتهم التي كونوها حول ماهية الثورة والنظام، أي هل النظام مجرم؟ أم إن الثورة مؤامرة؟ فمن بنى اتجاهه ووعيه السياسي ومفاهيميه اليوم، بناها على أساس أمور باتت من مسلماته، وهي؛ إما أن الثورة عظيمة وناضجة وبفعل وعي جماهيري مشروع ووطني تم جرها إلى السلاح وتلاعبت بها القوى الشريرة حتى أسلمتها أو حاربتها وأخرجتها عن مسارها…إلخ، أو هي تظاهرات عميلة ومُسيرة بفعل مؤامرة خارجية أنتجت جماعات متطرفة وإرهابية! والنظام هو المخلص. وبناء على ذك صار أي نقاش بين القوى الوطنية المختلفة حول المستقبل والأرضية المشتركة لا يصل إلى نتيجة إن كانت منطلقاتهم مختلفة بعضها عن بعضًا؛ أما داخل الاتجاه المعارض الواحد فإن الوعي بمفهوم الوطنية والمواطنة مثلا يختلف تمامًا وجذريًا بين الشيوعي والإسلامي ممن يمثلون الاتجاه المعارض على سبيل المثال! وكل ما سبق يعود إلى السبب الأساس الذي لم نزل على خلاف حوله وهو مفهوم الهوية.
كما أن القوى التي تناولتها الدراسة في الفقرة السابقة، كانت تشكل سوسيولوجيا، قوى الستاتيك وقوى الديناميك؛ واللتان كانتا تمثلان التيارات المتصارعة على الهوية كلها، القطرية والإقليمية والعروبية والأممية والدينية والعرقية والطائفية والعشائرية والليبرالية والعلمانية واليسارية والتحالفات السياسية، مضافًا إليها الحياديون والأنظمة والحلفاء. هذه القوى كانت تمثل محركات الصراع في الثورات، حيث يمثل النظام وحلفاؤه قوى الستاتيك، أي القوى التي تحاول الحفاظ على بقاء النظام والوضع كما هو، بينما يمثل الثوار والمعارضون قوى الديناميك، أي القوى المنادية بالتغيير والإصلاح. هذا الصراع بين قوى التغير وقوى الثبات في المجتمعات موجود دائمًا ويأخذ أشكالًا عديدة، منها الثورة، وفي الثورات العربية كان الصراع محتدمًا بين هذه القوى في بعض الدول ونجم عن تشعبه واستمراره لمدة طويلة – حتى داخل القوى نفسها أحيانا – استنزاف المجتمعات والدول والقوى كافة، وتمزق المجتمعات وانهيار الاقتصاد وتراجع قوة الجيوش ودمارها في بعض البلاد، ودمار البلاد كلها في بعضها الآخر. حيث إن كثرة الأطراف المعارضة وعدم وحدتها في مقابل وحدة الأنظمة وتماسكها أو استعدادها، قلب الموازين لمصلحة الأنظمة، كما أن الثورات المضادة التي خرجت في وجه الثورات الأولى أوصلت البلاد إلى الاقتتال في بعض الدول؛ والأمر كله يعود إلى الاختلاف في الرؤى والمفاهيم الموحدة والمشتركة التي يمكن أن تساهم في توحيد الصفوف.
كانت النقطة الثانية التي ظهرت بوصفها إشكالية، هي ابتعاد قوى الثورة الشابة عن خط الوحدة القومية، فكانت مسألة الوحدة العربية أو القومية أو مسألة فلسطين غائبة عمومًا عن خطابات تلك التيارات، خاصة الشابة منها، بل إن بعض القوى اليسارية وقسم كبير من الشارع خاصة الجيل الجديد منه، كانت لا تعنيها الهوية القومية أبدًا، حيث تنتهي المسألة القومية لديهم عند الحدود السياسية للدول التي يثورون داخلها، فلا يعني لهم احتلال فلسطين قضية جوهرية قومية، بل هو موضوع سياسي لدولة مجاورة محكوم بالمصالح السياسية، ويمكن حله بطرق عديدة من دون شرط زوال إسرائيل وإعادة فلسطين إلى أبنائها! في المقابل طالبت بعض القوى على الأرض ذات الخلفية العرقية والإثنية أو المذهبية والدينية بالانفصال، كما يجري الآن في الجزيرة السورية، حيث ينادي الأكراد بدولة مستقلة. عمومًا يمكن القول إن الخط القومي كان غائبًا عن الخطاب الثوري.
نجد وفق السياق التاريخي لمراحل تطور الدول العربية، أن بعد الانفصال عن العثمانيين، ونتيجة فقر الوعي القومي لدى الشعوب العربية، سارعت القوى الأوروبية لاقتسام هذه الدول، ومن ثم تركتها ممزقة، بعد أن اطمأنت إلى أن القوى التي تدير البلاد ستكون بعيدة عن الوحدة لفترة ما، ووضعت الخطط اللازمة لذلك، وعلى الرغم من الانقسام الذي عاناه العرب، كان الخطاب الوحدوي لا يزال موجودًا، وتعداه إلى تجارب ومحاولات وحدوية فاشلة، أما أن تقود أجيال جديدة، تصبح معها الدول العربية بعيدة عن الخط القومي، وتنتقل إلى عد الكيانات السياسية التي تعيش فيها كيانات سياسية نهائية، فهي أزمة.
إذًا فإن النقاط الإشكالية حتى الآن هي غياب المفاهيم السياسية والثورية والإدارية، وتعدد التيارات المعارضة وتباينها واختلافاتها، وغياب السياق القومي عن خطابات القوى الشابة؛ يضاف إليها نقطة إشكالية جديدة وكانت تعد إحدى الذرائع التي حاججت بها الأنظمة العربية الثوار أيضًا، وهي غياب المطالب السياسية ومحدداتها وبرامجها، إذ كانت عامة وغير ناضجة، وأخذت وقتًا طويلًا نسبيًا حتى تبلورت، وقد يعود سبب هذا الغياب والتأخير إلى تاريخ الشعوب العربية السياسي، الذي كان غضًا ومهمشًا سياسيًا وثقافيًا بسبب فعل أنظمة الاستبداد والقمع التراكمي لعقود عديدة؛ وأهم مظاهر هذا الغياب لجوء الثوار إلى عسكرة الثورة في بعض المناطق بفعل العوامل الخارجية والذاتية، والتخبط الذي وقعت فيه القيادات السياسية الثورية التي كانت منفصلة نوعًا ما عن الأرض، والتناقض بين أنها تحمل برنامجًا سياسيًا لتعمل عليه من جهة وأن الأرض تشتعل بالمعارك من جهة أخرى.
وكان وضع المرأة ومكانتها في الدولة والمجتمع، من النقاط الغائبة وغير المتفق عليها. فعلى الرغم من أن الشارع والحراك الثوري شاهد إنجازات مهمة ومشاركات فاعلة ومشرفة للمرأة، إلا أن بعض القوى كانت ترى أن المرأة لا يجب أن تخرج عن المنصوص عليه وفقًا لعقيدتها ومناط مكانتها الاجتماعية؛ بل إن هذه القوى قامت بارتكاب انتهاكات بحقها . وتبقى مسألة المرأة إلى اليوم موضع جدل مع القوى اليمينية، بل إن جيلًا جديدًا من النسويات ظهر بمظهر أكثر جرأة وثورية وقدرة على المطالبة بحقوق المرأة، ولو أنه قليل الخبرة في العمل النسوي، أو لا يمتلك المهارات اللازمة للوصول إلى أهدافه، إلا أنهن كسرن حاجز الخوف من المجتمع وسدنة الدين.
ولعل من النقاط التي عانتها الثورات في البداية أيضًا التخبط بين قراري الحرية والتنمية، ففي الوقت الذي كانت الثورات تسعى لتحسن الأوضاع كانت تعيش حالة مخاض لأنها تريد التخلص من مسبب سوء الأوضاع؛ وهذا ما رتب عليها المزيد من التردي! فكان التخبط في اتخاذ قرار المواصلة في الثورة حتى إسقاط النظام ومن ثم إعادة الإعمار والتنمية أو الاكتفاء بهذا القدر من الدمار الحاصل نتيجة الصراع مع قوى الستاتيك لتتمكن من وقف التردي وإعادة الإعمار . ومع الأسف فإن الأوضاع اليوم وصلت إلى الأسوأ وهناك كثير من الدعوات التي تندمت على المآزق التي حصلت نتيجة عسكرة الثورات مثلًا، ولو أنها بقيت سلمية لكان الضرر أقل بكثير. فلم تفلح أهداف الثورات في التنمية إلى الآن في أي من الدول الستة التي قامت فيها الثورات، ولو أنها كانت عبارة عن إصلاحات في بعض الدول العربية الأخرى التي استوعبت الحراك السياسي في الشارع ومطالبه ولم تتطور لتصبح ثورات.
يؤخذ أيضًا على الثورات في بداياتها التدخل الخارجي، عربيًا أكان أم أجنبيًا، أم حتى دينيًا، فدول الخليج كان لها تدخلاتها التي انعكست عمومًا سلبًا في بعض الدول، مثلها مثل الدول الأجنبية، التي تدخلت في مصالح الأنظمة أو المعارضات، وهذه التدخلات أفضت إلى حروب ودمار في بعض البلاد، وكان التدخل أحيانًا باسم الدين كالسنة والشيعة، والذي أفزع الأقليات، وأثار تساؤلات حول حقيقة ما يجري، هل هي أحداث طائفية أم حراك شعبي سياسي؟ بعض التدخلات لم تكن كما يجب لها أن تكون، في مقابل أن بعض التدخلات كانت لحماية المصالح، مثل التدخل الروسي في سورية وفي ليبيا، لحماية مصالحها، خاصة أسواق سلاحها وتكنولوجيتها العسكرية، وأمنها القومي . واللافت للنظر أن الإسلام السياسي صعد وأظهر حجم وجوده وقوته على الأرض، لكنه في الوقت نفسه أظهر حجم تناقضاته وضعف قدرته الإدارية والتنظيمية والاحتوائية، ودخل في صراعات سياسية مع اليساريين والمجتمع المدني والعلمانيين والليبراليين؛ وعلى الرغم من أن اليسار، والشيوعيين تحديدًا كان لهم دور في استنهاض الإسلام السياسي وتحريضه وجره إلى المضي في الثورات، إلا أنهم لم يكونوا على تنسيق حول المسائل الحساسة، حتى إن الإسلام السياسي لم يتفق مع أطرافه واتجاهاته كلها حول هذه المسائل؛ كالعلمانية والشريعة الإسلامية، وحقوق المرأة والمواطنة، ومفهوم النظام الديمقراطي وموقع الدين من الدولة…إلخ . ولا تزال هذه التناقضات والصراعات موجودة حتى اليوم، والسبب الكامن وراءها يعود إلى الجذر الأساس، الهوية.
لعل من النقاط الإشكالية المهمة التي عايشتها الثورات هي حيادية جزء كبير من الشعب وعدم اشتراكه في الثورة؛ على الرغم من أن الشعب هو المتضرر الأساس من سياسات الدول، وتداعيات الثورات، إلا أن أكثر الإحصاءات تفاؤلًا ترى أن نسبة من تحرك من الشعب لم تتجاوز نصفه! وأن أغلبيته بقيت حيادية، وهو أمر مرجح الحدوث لأسباب عديدة منها تركيبة المجتمعات العمرية والجنسية، واهتماماتهم وجرأتهم على المشاركة، إذ إن أكثر من 45 في المئة من المجتمعات العربية ممن هم تحت سنة 18 إضافة إلى النساء وكبار السن، أي ممن لا يشاركون في النشاط السياسي، والفئة الواعية التي يمكن أن تشارك قليلة إجمالًا، وهي موزعة بين الثوار والأنظمة! لذا فإن نسبة من شارك لا تعد ممثلة عن الشعب كله، لكنها يمكن أن تكون تعبيرية، بمعنى أن هذه التظاهرات والثورات قد لا تمثل الشعب كله لكنها قد تنقل مطالبه وتعبر عنها، فالشعب بجزء كبير منه بقي على الحياد وهو أمر يحصل في أغلبية الثورات؛ أما الإشكالية هي أن كل القوى تحدثت باسم الشعب ككل وكأنها تمثله كله، من دون مراعاة أنه مقسوم على نفسه وفق نسبوية غير محسوبة تمامًا لكل اتجاه من اتجاهاته السياسية ومواقفه من الأنظمة. فمن يقول إن الشعب يريد إسقاط النظام يستثني بهذه الجملة قسمًا ليس بقليل نسبيًا من الشعب لا يريد إسقاط النظام! وفي المقابل من قال إن الشعب يحب الرئيس يستثني قسمًا لا يحبه، والاثنان يصادران رأي البقية ويتحدثون بالنيابة عنهم! وعمومًا فإن هذا الخطاب كان يخضع لأجندة سياسية تحاول سحب أكبر عدد ممكن من الجماهير من أجل حسم الحراك وإظهار أن الشارع كله مع هذا الخطاب لكسب الشرعية وإقناع الفاعلين الدوليين والتيارات المناصرة.
إن ما ترتب عن هذه الإشكالات أخذ شكل “أثر الفراشة” التي تقال حول نظرية الفوضى، والتي ترى أن فرقًا طفيفًا في مسار خط ما، لا يُرى بالعين المجردة، يُفرز على المدى البعيد نتائج كارثية، ومغايرة تمامًا للمأمول، فلقد أفرزت هذه الإشكالات في بعض الدول اختلافات بين أبناء الوطن، لدرجة أنه صار من شبه المستحيل أن يعودوا إلى الالتقاء.
في تتبع هذه الإشكالات وأثرها اليوم، نجد أن الوعي العام بالمفاهيم التي كانت مبهمة وضبابية لدى فئات المجتمع عمومًا عند بداية الربيع العربي قد ارتفع، لكن الجدل حتى الآن لا يزال قائمًا حول الهوية والمواطنة والعلمانية والجندر وغيرها، وعلى الرغم من أنها صارت معروفة إلا أن الاتفاق عليها لم يتم بعد؛ كما أن قوى المعارضة ازدادت تباعدًا وتنافرًا بدلًا من أن تتقارب، وبات السياق القومي في الخطاب الشعبي أمر مُفرغ من مضمونه، وهو من المستحيلات التي لا طائل من الحديث حولها؛ وعلى الرغم من أن البرامج السياسة نضجت وتبلورت وغدت واضحة، إلا أنها مختلفة بين قوى المعارضة. كما أن العسكرة موضع جدل أيضًا بين مؤيد لها ومعارض، وقد ساقت البلاد والثورات إلى دمار على الصعد كلها، وأسلمة الثورات أيضًا باتت واقعًا لا بد من التعامل معه، وعلى الرغم من أن الإسلام السياسي ذو وزن سياسي وتمثيل قوي في الشارع، إلا أنه ضعيف من الناحية الإدارية، ويعد من القوى المعطلة في الثورات. كما ازداد التدخل الخارجي، وصار لاعبًا أساسًا. وبقي الشعب هو الحامل الأكبر للخسائر الهائلة ويتلقى تبعات الصراعات كلها.

سابعًا: السيناريوهات التي كانت متوقعة
كانت السيناريوهات المحتملة تقوم على أساس ثلاث نتائج؛ سقوط النظام، الرضوخ لمطالب المتظاهرين، انكسار الثورات وخسارتها. وللوصول إلى ذلك كانت السبل تختلف، بين أن تكون الثورات سلمية فتتم مواجهتها بالعنف وتحافظ الثورات على سلميتها، أو تكون سلمية ولا يتم مواجهتها، وتبقى كذلك، أو تكون سلمية وتواجه بالعنف وترد بالعنف.
في حال حدوث سيناريو سقوط النظام أو رضوخه لمطالب المتظاهرين، فقد يأخذ الإصلاح شكل التنمية المستدامة والشاملة، وهو السيناريو المفضل، أو ستنسحب البلاد إلى حرب أهلية طائفية، أو حرب مع أتباع النظام القديم؛ أو سيتولى الثوار إدارة وحكم بلادهم؛ لكن الاحتمالات كانت هنا تقول إن الأكثرية سوف تحكم الأقلية وفق قوانين وشريعة الأكثرية، ما سيعيد الوضع إلى حالة صدام، حتى يتم تنفيذ سيناريو الوصول إلى دولة المواطنة والانتخابات والأحزاب والديمقراطية والشرعية الدستورية والمؤسساتية.
بالنسبة إلى الأنظمة كان السيناريو الشائع الذي ستلعبه من جهتها في تلك الفترات هو استجرار الشرعية، من خلال المسيرات المؤيدة والإعلام ومؤسسات الدولة، ووقوف الأمن عمومًا كما كان متوقعًا إلى جانبها، أما الجيش فهو السيناريو الذي كان يؤدي دور سقوط النظام أو استمراره، ففي الدول التي وقف فيها الجيش إلى جانب النظام بقي نظامها مستمرًا، والعكس، علمًا أن الجيش بوصفه مؤسسة يجب أن تبقى قائمة، بغض النظر عن ولائها، لأنها الحامية من تفكك النسيج الاجتماعي وتكرار السيناريوهات، كما جرى في لبنان فترة الحرب الأهلية، ويجري اليوم في ليبيا.

خاتمة
لا تزال أغلبية الإشكالات التي تعيشها الثورات موجودة، وازداد الشرخ نتيجتها بين أبناء الوطن الواحد، ولا تزال القوى المتصارعة متعنتة – بفعل عوامل ذاتية وداخلية وخارجية – ومتمترسة وفق اصطفافات بفعل اختيارها الذاتي أو المفروض عليها. لقد كانت أكثر الإشكالات التي مرت بها الثورات العربية أهمية هي اختلاف الخلفيات الفكرية التي حركت الجماهير وثارت على أساسها، لأن السلفي والإسلامي وجد في الحراك فرصة للجهاد وممارسة الدين، وفرصة لتحقيق الدولة الدينية! بينما كان العلماني واليساري والليبرالي يرى فيها دولة مواطنة! وبينما أفزع الأول الأقليات، لم يقدم الثاني تطمينات أكثر مما قدمتها له الأنظمة التي عملت على تعزيز هذه النقطة تحسبًا لمثل هذه المواجهات، فلم تنخرط الأقليات عمومًا في الحراك الثوري. استفز اليسار الحمية اليمينية لينتفض إلى جواره في نضاله، قبل أن يتفق معه على شكل البلاد! وتُرك الأمر للمستقبل! وعلى الرغم من وجود قاعدة شعبية لدى اليمين قلبت الموازين في بعض الأقطار إلا أن خبرتهم السياسية كانت ضعيفة، وأميل إلى الهيمنة التسلطية، ولم يكن خطابهم مطمئنًا، أما اليساريون والعلمانيون والليبراليون لم يتفقوا على صيغة جامعة، والأمر كله بتقدير الدراسة يعود إلى عدم الاتفاق على الهوية التي ستنصف الجميع. وتتسع الهوة الثقافية والمنطقية بين الاتجاهات جميعها، وصار المعيار الذي تبنى على أساسه ردود الأفعال هو رد الفعل نفسه؛ بحيث تناست أو تعامت الأطراف عن الفعل الذي ولّد ردود الأفعال كلها.
قد يكون البعد القومي عاملًا مهمًا من حيث تحديد الهوية اليوم، لكنه لم يعد مطروحًا على الأمد القريب أبدًا، ومع ذلك على الأطراف كلها أن تتجمع إن كان هدفها فعلًا الأوطان والشعوب، وعليهم أن يحسموا برامجهم التي تضع خطة عمل زمنية لوقف القتال والتدخلات الخارجية، ووضع أسس دستورية تكفل للجميع العيش بكرامة ومساواة أمام القانون. وإن كان الإسلام السياسي والأنظمة العربية تتجاهل مثل تلك الدعوات، فعلى التيارات اليسارية والعلمانية والليبرالية والمدنية التكتل لأنها بحالتها المتفرقة هذه لن تكون ذات تأثير. كما يرى بعض الباحثين أن الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي لا تلائم المجتمعات العربية، لأن البناء الاجتماعي لهذه المجتمعات لا يساعد على تقبّل الناس لأفكار الديمقراطية ومبادئها ولا الشروط والقواعد التي تتطلّبها، وهذا يسوقنا إلى باب مراجعة المفاهيم التي نتبناها في خطاباتنا كافة، ونحاول مقاربتها من موائمة وتقبل مجتمعاتنا لها، وتحديدًا المفاهيم التي نعتقد أنها ستكون حلًا لوضعنا التنموي بينما في المقابل ليست قابلة للتطبيق في بلادنا. ولا ننسى أن الجيش في أي دولة هو العمود الفقري لهذه الدولة، حتى لو كان جيشًا يرتكب الفظائع بسبب الأوامر أو الاصطفافية لكنه الضمانة الأخيرة لبقاء البنية والنسيج الاجتماعي بحسب بعض الرؤى، والجيش في وظيفته الأولى حامٍ للدستور، والحدود والشعب، وليس الأنظمة؛ ولا يجب أن يتدخل في الحياة المدنية بأي شكل من الأشكال.

المراجع
آمال قرامي، أدوار النساء في أحداث الربيع العربي، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.
حسن نافعة، ربيع مصر: بين ثورتي 25 يناير و30 يونيو، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.
صلاح الدين الجورشي، ربيع تونس: التأرجح بين الأمل والخوف، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.
عبد الإله بلقيز، لماذا تغلب الطابع الديني على أحداث الربيع العربي، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.
عبد الحميد الأنصاري، الربيع العربي.. تغيير هويات المجتمعات العربية، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.
عبد الفتاح ماضي، العوامل الخارجية والثورات العربية: أربع إشكاليات للبحث، ملف: العامل الخارجي والانتقال الديمقراطي: الحالة العربية، سياسات عربية، العدد 36، قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كانون الثاني 2019.
عبد الملك محمد عيسى، ربيع اليمن: دفع الناس نحو كيانات ما قبل الدولة، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.
فرحات إلياس، الجيوش العربية وأدوارها في دول الربيع العربي، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.
محمد أبو رمان، الإسلام السياسي ومأزقه في حقبة الربيع العربي، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.
محمد الزعبي، التغير الاجتماعي بين علم الاجتماع البرجوازي وعلم الاجتماع الاشتراكي، الطبعة 4، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1991.
محمد روحي الخالدي، أسباب الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014.
مرح البقاعي، وآخرون، العرب بين مآسي الحاضر وأحلام التغيير – أربع سنوات من الربيع العربي، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.
مصطفى عمر التير، ربيع ليبيا: لا شيء تغير سوى الوجوه والأسماء فقط، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.
منذر خدام، ربيع سوريا: الشعب لا مع السطلة ولا مع المعارضة، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافية، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2014.

مشاركة: