ما كانت الثورة خيارًا، بل نتيجة طبيعية مؤجلة

كنت أقف كل صباح في مكان عملي أمام مستشفى ابن النفيس على سفح قاسيون أتأمل الشام تغط في غيمة رمادية، كانت بالكاد تتنفس وسط دخان “صفقة السرافيس” المشبوهة، دمشق مدينة الماضي العريق والحاضر المختنق والمستقبل المجهول.
كان ذلك في منتصف صيف عام 2005 تقريبًا بين الربيع السوري والربيع العربي. لم تكن تلك الغيمة الرمادية التي تخيم على دمشق وسوريا كلها سوى الأرواح اليائسة لأجيال من السوريين المبدعين والحالمين بوطن حقيقي، من السوريين المعتقلين والمعذبين والمهمّشين، غيمة حلت على هذا البلد منذ عقود حتى صار “محكومًا بالانتظار”.
في عام 2010 حين هاجرت إلى كندا كنت قد فقدت الأمل نهائيًا – شأني شأن جميع شباب جيلي- في أي تغيير، أو على الأقل في القدرة على التغيير من الداخل، قلت لأحد الأصدقاء قبل أن أغادر: وطني محتل وسأحاول تحريره من مكاني الجديد. لم أكن أعرف أنني دخلت حربًا سينُزع مني فيها سلاحي الوحيد، أي اللغة، وأبدأ من الصفر، لتقوم الثورة في وقت قصير لم يتسنَّ لي فيه التسلّح أو المحاربة على جبهتين.

مرحلة اكتشاف الصوت
لعل تزامُن بداية وجودي في بلد حرّ مع انطلاقة الثورة السورية هو ما جعلني أشعر بالأحداث كلها وكأنني لم أغادر. كان كل شيء في ذاكرتي لا يزال طازجًا، القمع والقهر وعشق الحرية والأحلام الكبيرة. أول تظاهرة خرجت فيها لم أكن أعرف أحدًا ولأول مرة في حياتي هتفت مع الجموع بمحض إرادتي وبفرنسيتي المبتدئة وبالعربية. كنت أشعر بصوتي بين الثائرين هناك، لكن ذلك لم يكن يلغي المقارنة المؤلمة بين متظاهرين تحيط بهم سيارات الشرطة لتمهيد الطريق لهم ومتظاهرين يغطيهم سيل الرصاص ويحملون دماءهم على كفوفهم.
حين أحرق البوعزيزي نفسه كنت في دورة اللغة الفرنسية، وراح جميع العرب معي من تونس والجزائر وسوريا ولبنان يتحدثون عن فعل خارق، قنبلة أمل انفجرت وأطلقت موجات التغيير، لم يكن الجميع متفقًا في الرؤية، لكن الحماس كان يكشف سوء الأوضاع في جميع أنحاء العالم العربي ويُلمح إلينا أيضًا باختلافاتنا التي سندركها لاحقًا.
كنت قد عدت لأعيش بتوقيت سوريا فأسهر هنا طوال الليل، على الفيسبوك أنشر وأعلّق وأتفاعل. وأحادث الأصدقاء هناك على الخاص وفي مجموعات وصفحات انضممت إليها. كان الحذر السوري حاضرًا، لكن طوفان الخوف الذي غطى جزءًا من الشخصية السورية والذاكرة المشتركة لجيل بأكمله، انحسر دون أن يختفي، كان يعلو ويهبط كالموج. لا يخاف المرء على نفسه، بل على من يحب، لذا كلما زادت شجاعة الثائرين في الداخل، زاد خوفي عليهم هنا. وزاد معه حبي لهم ولـ “سوريا الحرة” التي أنتمي إليها. لم تكن غيمة رمادية إذًا، بل شرنقة ينضج فيها الشعب السوري العظيم ليستعيد الفضاء في لحظة ولادة بدت وكأنها مصادفة (خربشة أطفال على جدار).
كان هذا قبل أن تبدأ نغمة الداخل والخارج التي أرجّح أنها من أفكار النظام وجواسيسه.
بدأت ألتقي بسوريين من جميع المحافظات: بطلاب أتوا للدراسة ومهاجرين ولاجئين سياسيين. وبدأت تتوطد الصداقات بيننا. في السنة التالية أسسنا منظمة غير ربحية أسميناها “فسحة وطن” تجمع السوريين على الثقافة والفكر والهم المشترك. كان أحد أهدافها الحوار السياسي بين السوريين والعرب من مختلف الانتماءات.

هل كانت أسلمة الثورة وتسليحها مصادفةً، مخططًا، أم نتيجةً طبيعية؟
في منتصف عام 2011 وصلتني رسالة على الفيسبوك باللغة الإنكليزية من امرأة محجّبة قالت إنها قرأت ما أكتب وهي جاهزة للتعاون ضد هذا النظام الظالم. وجدت اسمها في ويكيبيديا: كاتبة أمريكية من أصل سوري، والدها من جماعة الإخوان المسلمين، تكتب بالإنكليزية وبعربية ركيكة. حينها خفت وشعرت بخطر ما نقوم به. هذا النظام الذي له تاريخ طويل من العنف والقمع وكثير من الأعداء والأصدقاء لاعتبارات مصلحيّة لا اعتبارات حقوقية سوف يجرّ علينا ويلات الانتقام المحتملة كلها. لم يعد الأمر إذًا مجرد استرداد حريّة ومساواة وحقوق إنسان. بل هناك أيضًا الخطر الذي كثيرًا ما لوّح به النظام كفزاعة: التطرف الإسلامي. لا شك أن هذه المناضلة الإسلامية اتصلت بكثيرين غيري. لم أجب على الرسالة لكني لم أتوقف عن النشر أو الإيمان بحتمية الثورة.
إضافة إلى التظاهرات صرنا نقيم وقفات شموع تضامنية أسبوعيًا، ننشر فيها صور ضحايا النظام ونجمع فيها المعونات من المارة. كنا نجد فيها طريقة للحفاظ على التواصل والنقاش بالمستجدات. وذات مرة تغيبت شابة من الشابات اللواتي كن يقفن معنا، فقال لي شاب إنها غضبت من حوارها الأخير معه لأنه قال لها “إننا كأكثرية يحق لنا أن نحكم سوريا”. كان يقول ذلك ببساطة وبثقة وكأنه أمر بديهي، وقفت للحظة لأفهم ماذا يقصد بـ “نحن” و”هم”. سيبدو ساذجًا أنني لم أسأل يومًا عن ملّة المتظاهرين. عرفت بعدها أن تلك الفتاة علوية والشاب سني، لا بدّ أننا كنا عينة مصغرة من المجموعات الثائرة والمتظاهرة في الداخل، وأن خلافاتنا كانت انعكاسًا لما يحدث هناك. بدأنا ندرك أننا لم نخرج للأسباب نفسها، وأن اتفاقنا على رفض النظام ليس سوى نقطة تقاطع عابرة في مسيرة ثوراتنا التي كنا نظنها ثورة واحدة. هل كان ضعف الوعي الثوري هو ما يفرّقنا؟
بعد مدة قصيرة بدأ شاب آخر يطرح فكرة التسلّح ويدافع عن الجيش الحرّ بشراسة. وبدأت الانقسامات بيننا تزداد، وبالطبع ازداد التخوين والمفاضلة في الوطنية. بدأت أشعر أن الدم السوري الذي أثور وأحزن وأبكي وأتألم من أجله ليس دمي، بل هناك ناطقون باسمه يحسبونني غريبة، ويؤكّدون لي ذلك لأنني من طائفة أخرى.
كنت منذ البداية ضد السلاح، لكنني كنت أعرف أن العين لا تقاوم المخرز وأن نظامًا أباد أبنية بسكانها وعبّد الطرقات فوقها في مجزرة حماه، أن نظامًا وصلت به العنجهية والثقة في رضوخ شعبه إلى رفض أي إجراء وقائي بإلغاء قانون الطوارئ، لن يمنعه شيء من دفن آلاف المتظاهرين السلميين ووأد ثورتهم. الأمر الواضح الوحيد كان بحر الدم الذي تشارف عليه سوريا، وكنا أمام خيارين: دم أو دم أكثر، دم ثائر أو دم بلا هوية، دم سنّي أو دم سوري.
في تظاهرة بأوتاوا، أمسك شاب ليبيّ أو تونسي فجأة مكبّر الصوت وبدأ يصيح الله أكبر ويكررها. كان ذلك أولى صدماتنا، تركنا التظاهرة أنا وزوجي وبعض الأصدقاء لنتجول في المدينة ريثما يحين موعد العودة إلى مونتريال، وقررنا ألا نشارك بعد الآن في تظاهرة لسنا على معرفة مباشرة بمنظميها. حقًا، سوريا ليست تونس أو مصر أو ليبيا. سوريا نسيج ملون، كيف لنا أن ننقذه من دون “اتفاقية طائف” أخرى ومن دون أن نخسر حلم الحرية؟ الدكتاتورية التي ربانا عليها النظام، التخوين السريع والشك في أقرب الأصدقاء، الطائفية المستترة ونقص وعي الأغلبية الثائرة، كل ذلك بدأ يظهر. انقسامات حادة تفرّق الصف الواحد وتضعف كلمة الحرية، ثم جاءت الانتهازيّة والنفاق الثوري والنهب باسم الثورة بالضربة القاصمة.

محاولات يائسة
في عام 2013 أضربنا عن الطعام واعتصمنا أمام مبنى الأمم المتحدة في مونتريال، كنا من عدة مدن وطوائف سورية. خلال النهار الثاني مرّ بنا العديد من الأصدقاء ورفاق التظاهرات، فأسعدنا تضامنهم وخفف عنّا، حتى وإن لم يشاركوا في ما نفعل. في المساء المتأخر، سجلت إحدى الناشطات مشاركتها في الإضراب في صفحتها في الفيسبوك وسط تضامن أصدقائها وقلقهم على صحتها ومرّت بنا مساءً لالتقاط الصور معنا. هذه السيدة أصبحت صاحبة إحدى أهم إذاعات الثورة، لكن لسوء حظنا لم تكن معروفة حينها. طفلتي ذات الستّ سنوات غادرت المكان بحيلة أنني سألحق بها لاحقًا، ونامت على دموعها أول مرة بعيدة عني، كان شعوري بالذنب تجاهها يعادل شعوري بالعجز تجاه كل الأطفال الذين ينامون بلا أمهاتهم هناك بسبب الحرب. تساءلت هل تقتضي العدالة أن تذوق المعاناة لمجرد كونها ولدت لأبوين سوريين!

سوريانا سوريات والشعب السوري ليس واحدًا
في لقاء حول الاندماج كنت قد دعيت إليه، التقيت بثلاث سوريات لاجئات بين مجموعة متنوعة الأصول، كنّ يتكلمن الفرنسية بطلاقة على الرغم من حداثة وصولهنّ، فسألت إحداهنّ أين تعلمتْها، قالت إنها تعلمت الإنكليزية والفرنسية في سوريا، كدت أسألها إن كانت أتت من “سوريا” نفسها التي أتيت منها، فهناك في المدارس العمومية -التي لم أعرف سواها في محافظتي- لا نتعلم إلا اللغة العربية إضافةً إلى لغة ثانية نتعلمها لمدة ساعتين أسبوعيًا ولا نستخدمها. تساءلت عن الشيء الذي يجمعني بهؤلاء السوريين، النصف الآخر الذي رفض الثورة خوفًا من التغيير وحرصًا على مكاسبه الصغيرة في ظل الحاكم القوي، السوريين الذين لا يزعجهم وجود دكتاتور، ولا يخافون إلا من تطرف ديني ومن قتل علني، بينما لا يعنيهم القتل السري لشعب كامل ومبدعيه ومفكريه. هؤلاء الذين لو بقيت هناك لما سمعوا بي في حياتهم، لأنني ببساطة من طبقة اجتماعية مختلفة وحلم مختلف، لأنني أكتب خلف المنبر وضده، وهم يقرؤون ما يُقدَّم لهم، إن قرؤوا أصلًا.
دُعي زوجي، الفنان التشكيلي وعازف العود، إلى إحياء حفلة جمع تبرعات من أجل الشعب السوري في أحد أفخر المطاعم في لافال، وصرّحتْ منسقة الحفل إنها جمعت عشرة آلاف دولار كندي. حين سألتها في وقت لاحق كيف تتمكن من إيصال المبلغ على الرغم من رقابة الحكومة الكندية على تحويل المال إلى سوريا، فأجابت إنها تعطيه لأحد هنا له علاقات مع أهلها هناك، وبينما كنت أنتظرها لتتم إجابتها وتشرح لي أكثر كيفية وصول المال إلى “الشعب السوري”، أجابت بابتسامة واثقة: “الأقربون أولى بالمعروف”. لم يكن الشعب السوري واحدًا كما حرصنا أن نردد دومًا! ولا كانت “سوريا الحبيبة” نسخة واحدة في أذهان السوريين.

مرحلة الاكتئاب واللامبالاة
“من قال إن البعد يحمينا، نحن الهاربون من جحيمين: قمع وقصف؟! كلما دوّت قذيفة هناك، خبأت رأسي كنعامة وشبكت حوله رمل الأصابع، من دون أن أدري حقًا، هل كل هذا الخراب في داخلي نتيجة القصف، أم نتيجة القدرة على تجاهله!”
في 2012، كان من يحكي عن أخطاء الثائرين خائنًا للثورة، ومن يصمت هو لا مبالٍ ورمادي، ومن يكتب عن ألم المقصوفين من دون أن يكون تحت القصف هو كاذب ومنافق، التّهم جاهزة لكل سوري يحاول أن يقدم شيئًا ويعتقد أنه قد يخفف المأساة السورية. لذا دخلت في اكتئاب عميق وتوقفت عن كل شيء سوى الانتظار، لكنني لم أفقد إيماني بمطالب الحرية والعدالة والسلام ولا إيماني بحتمية الثورة، حتى وإن أخفقت بتوقيتها. لأجل المدنيين الذين ما زالوا يدفعون فاتورة الصمت لعقود، لأجل السوريين في الشتات المهددين بعيشهم وبأمانهم وبسوريتهم، لأجل الإنسان الذي سطّحته الحياة وحوّلته لسمكة تتفادى التيار، لكل ذلك وأكثر علينا أن نكتب ونحكي حكايات كثيرة عن شعب أراد أن يتنفس هواء نقيًا فخذلته رئته وخذله الغلاف الجوّي لكوكب لم يتسع لحلمه.

مشاركة: