موسم الهجرة إلى الشمال . هجرة نحو الذات

تحكي بلسان الماضي قصص الحاضر، تصوّر أزمة وصراعًا وتيهًا لا رجعة منه، رواية الهجرة إلى الشمال لكاتبها السوداني عبقري الرواية العربية كما يسميه النقاد: الطيب صالح، الرواية التي اختيرت كواحدة من أفضل مئة رواية في القرن العشرين، وترجمت إلى عشرين لغة.

في عام 1966، أي بعد استقلال السودان عن الاحتلال البريطاني بحوالى عشر سنوات، ألّف صالح هذه الراواية لتكون واحدة من دعائم الكتابة الروائية في مرحلة ما بعد الاستعمار، يحكي صالح بها قصة إرث الاحتلال الثقيل الذي خلفه المحتل الغربي في دول الشرق، والذي تعدّى الأثر المادي إلى النفسي والحضاري على نحو مستمر حتى اليوم، ولا سيّما مع التردي الكبير الذي يشهده واقعنا العربي وهجرة الآلاف أو نزوحهم إلى ما كانت في الماضي القريب دولَ الاحتلال، وتدخل اليوم كطرف مباشر أو غير مباشر فيما آلت إليه أوضاع دولنا في المشرق العربي.

صراع الهوية وأزمة الانتماء وتشوّه البوصلة في الفكر والمعاملة وأسلوب الحياة أهم ما تعالجه هذه الرواية بأسلوبها سهل العبارة، غني المعاني، بعيد المدلول.

البداية

إحدى قرى النيل في بيئة تشكل فيها الطبيعة والزراعة عصب الحياة، ويعيش الناس في جو من الألفة والبساطة والانكفاء على أنفسهم، وكأنهم عالَمٌ وحدهم، يبيعون ويشترون، ويزرعون ويحصدون، وتجمعهم المناسبات السعيدة والحزينة، فما يحدث في أحد الدور تعلم به القرية كلها.

تدور الرواية حول “مصطفى سعيد” الطفل اليتيم الذي يسبق سنّه بقدرته على الفهم والتعلم، والذي لا شيء يربطه بقريته ولا حتى أمه، يتنبأ له معلموه بالنبوغ، ويساعده المدير في التوجه إلى القاهرة ليتابع تعليمه الثانوي ليكون هناك برعاية مستر روبنسون المستشرق البريطاني مع زوجته، فيبدو (مصطفى سعيد) مستلبًا لهما، يقبل على كل ما يعرفانه بنهَم، فيتعلم منهما الأدب والشعر، ويصبح ذواقًا للموسيقا، ثم يتجه إلى لندن وهو في الخامسة عشرة من العمر.

النجم الشرقي في سماء الغرب

يصل مصطفى سعيد إلى لندن وصول الشرقي المثقل بعقدة المهزوم أمام حضارة المحتل القوي، فيقبل على هذا المجتمع غير مكتفٍ بأن يكون جزءًا أصيلًا فيه، بل ساعيًا لأن يكون محط أنظار الجميع، وهو مقتنع تمامًا أنه هو الذي (يغزوهم في عقر دارهم) بحسب تعبيره، فيبرز في المجتمع البريطاني كعربي يتكلم الإنكليزية بطلاقة، ويدرس الاقتصاد ويتفوق فيه، ويتحدث في الدين والفلسفة، وينقد الرسم، ويقول الشعر، ويعرض روحانيات الشرق كملحمة سريالية تجذب كل من يسمعه، يؤلف الكتب في الاقتصاد، ويبدع في الأبحاث والحورات والنقاشات، ليصبح محاضرًا في أكسفورد.

انهزام الذات في سجن الحضارة

 مع كل هذا التفوق الذي حققه مصطفى سعيد يبقى القصور الحضاري والانهزام النفسي أمام المجتمع الغربي وعقدة النقص مسيطرة عليه، إذ لا يجد سبيلًا للتعبير عنها إلا بشرهه الجنسي وتعبيره القاصر عن مفهوم الرجولة من خلال إخضاع النساء البريطانيات له من كل الأشكال والطبقات والصفات، يجمع في علاقاته أكثر من خمس نساءٍ في آن واحد، ينتحل أسماء عديدة، ويبيع الحب ليقبض الجنس، يبهر النساء بأسلوبه ومعسول كلامه، وقدرته الفائقة على اقتحام حواجز الأنثى وتحريك البركان الخامد في داخلها على حد تعبيره،  وتميّز أيضًا في اختلاق القصص المشوِّقة حول الشرق والنيل والجِمال والصحراء والشمس، حتى إنه يؤلف عن طفولته قصصًا مكذوبة تستدعي التعاطف والرثاء ليستميل قلوب الحسناوات، ويقودهنّ إلى غرفة نومه التي جهزها بأحسن الأثاث والسجاد والستائر والمرايا والعطور، لتكون مسرحًا لعلاقاته التي يقول عنها: (غرفة نومي صارت ساحة حرب، فراشي كان قطعة من الجحيم)، (أقضي الليل ساهرًا أخوض المعركة بالقوس والرمح والسيف والنشاب)، وهكذا لتبرز هذه الحرب تعبيرًا عن ثقافة الشرقي المهزوم أمام الغربي المحتل، ويمضي كشهريار الذي اشترى عشرات النسخ من شهرزاد فيبسط أمامهن مائدة نرجسيته التي انتحرت على أعتابها ثلاث فتيات بعد أن تركت إحداهنّ رسالة كتبت فيها: (مستر سعيد لعنة الله عليك)، ثم تتجلى هزيمته النكراء أمام سطوة (جين مورس) البريطانية المتمردة التي تمثل لمصطفى سعيد سطوة المجتمع الغربي المنتصر، ليس بجمالها فحسب، بل باحتقارها له، وهذا ما عبرت عنه عندما رأته أول مرة فقالت له: (أنت بشع، لم أرَ في حياتي وجهًا بشعًا كوجهك)، فظل يلاحقها ثلاث سنوات، وحتى عندما رضخت له وقبلت الزواج به لم تمكِّنه من نفسها، وفي كل محاولة كانت تذلُّه، وتأخذ منه شيئًا قيّمًا فتحطمه كمزهريته الثمينة، أو تمزقه كمخطوطاته التي يسهر على كتابتها الليالي الطوال، أو تحرقه كسجادة الصلاة، في رمزية لإهانة كل ما يمثل ظاهره المزيف (المزهرية)، وجهده وتعبه (مخطوطاته)، ومبادئه ومعتقداته (سجادة الصلاة)، وهكذا كان يخسر مع كل ما تحطمه شيئًا من ذاته، دون أن يتمكّن منها، وليس هذا فقط بل تجاوزت (جن مورس) قدرتها على التكبر والتعالي عليه إلى استعباده حتى صار يجد في غرفته آثارًا تدل على خيانتها دون أن يستطيع فعل شيء أمام إجاباتها المتمردة المتحدية، إلى أن حسم أمره وقرر قتلها في محاولة منه لقتل كل ما استعبده من ثقافة الغرب وسطوتهم، وقَتْلِ كل ما عاشه من هزيمة ونقص وعار، ثم يأتي مشهد قتلها في جو مضمّخٍ بلون الدم، صاخبٍ بصوت الشهوة، يترافق فيه نصل السكين الذي يخترق جسدها مع نيل وطره منها، ويقف مصطفى سعيد أمام المحكمة، ويعلو صوته الداخلي مطالبًا القاضي أن يحكم عليه بالإعدام شنقًا معترفًا أنه في هذا المجتمع ليس حقيقة، إنه مجرد أكذوبة، (بحسب تعبيره)، ولكن القاضي يلتمس له الأسباب المخففة التي تتلخص بالصدمة الحضارية التي عاشها في المجتمع الجديد، والتي جعلته غير متوازن نفسيًا، فيحكم عليه بالسجن سبع سنوات.

راوٍ بلا اسم

هذه الأحداث ليست الرواية كلها، ولا يعرفها القارئ متسلسلة ولا متوالية، بل نعرفها من خلال شخص آخر يحدثنا، ويكون هو الراوي طوال فصول الرواية دون أن نعرف اسمه، فبينما تحضر أسماء الجميع يبقى اسمه غائبًا، ليكون هو الوجه الثاني أو الظل الخفي لمصطفى سعيد، وليجد كل منا نفسه في هذا الراوي، أو شيئًا من نفسه، في صراعاته وتخبطاته وخصوصًا جيل الشباب، فالراوي شاب سوداني قرويّ درس في بريطانيا فهو بذلك يشبه مصطفى سعيد كثيرًا مع فارق السن بينهما، إذ يبدو الراوي شابًا في آخر العشرينيات، بينما مصطفى سعيد في أواخر الأربعينيات، ويمثل الراوي الجيل الذي لم يشهد من الاحتلال البريطاني للسودان إلا ما عاينه في طفولته أو سمعه من أهله، لذا يبدو منتميًا لأرضه وبيئته، فعندما أنهى دراسته في بريطانيا رجع إلى قريته، وفي أول يوم يصلها يقف ليتأمل كل تفاصيلها بشوق ولهفة ويقول: (أحس أني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصول، له جذور، له هدف)، وفي هذه القرية المجاورة لنهر النيل يلتقي الراوي بمصطفى سعيد، ويرى مصطفى فيه مستودعًا آمنًا لسره، فيحكي له قصته كلها، ونعرف أنه بعد خروجه من السجن، وبعد أن جال أوروبا ولم يترك فيها ناديًا ولا محفلًا ولا مسرحًا ولا مؤتمرًا إلا كان فيها فاعلًا، اتخذ قراره الحاسم بأن يرجع إلى وطنه، فكانت قرية الراوي خياره ليستقر فيها، ولتكون محطته الأخيرة.

 قرية على ضفاف النيل لا يعرفه فيها أحد، يصل إليها، فيشتري أرضًا، ويتزوج من إحدى فتيات القرية (حسنة بنت محمود)، ويعيش بين الفلاحين يفيدهم من علمه، فيؤسِّس المكتب التعاوني، ويعطيهم أفكارًا اقتصادية لبيع محاصيلهم، وينجب ولدين.

 وهكذا تبدو حياته طبيعية كرجل عاد من المجتمع الغربي رافعًا الراية البيضاء يزرع ويحصد وكأنه لم يرطن بالإنكليزية، ولم يلقِ القصائد الشعرية، ولم يحاضر في جامعات أوروبية، ولم يكن قريبًا من لورد أو خواجة، ولم تكن له علاقات حميمة. 

رحلة البحث عن الحقيقة

ونجد في التقارب الحاصل بين مصطفى سعيد والراوي نموًا دراميًا في شخصية الراوي، ويجسد هذا النمو أزمة فمع أنه عاش في بريطانيا سبع سنوات وعاد إلى قريته في السودان وعمل موظفًا حكوميًا في وزارة المعارف في الخرطوم إلا أن مصطفى سعيد استطاع أن يقدم له صورة لجانب مهم من شخصيته لم يستطع مواجهتها وهو يعيش في بريطانيا، فصار الراوي يرى فيه نفسه، ثم يختفي مصطفى سعيد فجأة بعد فيضان النيل دون أن يُعثر على جثته، في مصير مفتوح لا ندري هل مات غرقًا أو انتحر أو قرر أن يعيش في مكان آخر أو يرجع إلى بريطانيا؟ ويترك للراوي رسالة مختومة بالشمع الأحمر ويوصيه بعائلته، كما يترك له مفتاح غرفته السرية، وربما يستغرب القارئ إن عرف أن وفاة مصطفى سعيد جاءت بعد ثلث الرواية الأول فقط،لنكمل مسيرة حياته وكل ما عاشه من أحداث بطرق شتى مختلفة، إذ نجده يقتحم ذاكرة الراوي فنسمع صوته عما كان يحدثه، أو نعرف هذه المعلومات من أشخاص عرفوه، وصار الراوي يقابلهم في كل مكان، ومع أن روايات الناس اختلفت حول مصطفى سعيد بين أنه كان سودانيًا أصيلًا محبًا لوطنه مخلصًا له وقد عاد إليه مستغنيًا عن كل المجد والمراتب التي حققها في بريطانيا، كان آخرون يقولون عنه إنه عميل للمحتل وله دور في مؤتمرات بريطانيا في السودان، ويعمل في سفاراتها في عدة دول، وقد جمع الملايين.

حاول الراوي الوصول إلى حقيقة مصطفى سعيد بعد وفاته، ومع انجذابه لأرملته لم يستطع حمايتها إذ تفرض عادات القرية عليها أن تتزوج من أول رجل يطلبها، ويتقدم لخطبها رجل مسن يكبرها بأربعين عامًا، فتهدِّد أنها إن أُجبرت على ذلك فستقتله وتقتل نفسها، وهذا ما حصل، وهنا يدخل الرواي في دوامة جلد الذات، إذ لم يستطع إنقاذها، كما لم يفهم كيف تكون حياة كل من ترتبط بمصطفى سعيد الانتحار أو القتل؟ حتى (حسنة) الفتاة القروية البسيطة التي عبرت للراوي أكثر من مرة عن أثر مصطفى الساحر عليها ومدى حبها له وتعلقها به تقتل نفسها.

ولادة وانعتاق

 وتتوالى وتيرة الصراع في نفس الراوي حتى يدخل غرفة مصطفى السرية وينفتح أمامه بركان متدفق من ذكريات الغرب التي بقي مصطفى سعيد محتفظًا بها في هذه المساحة من القرية السودانية على ضفاف النيل، فيرى الراوي لوحات، وصورًا فوتوغرافية، ويقرأ ملاحظات وسطورًا قدّم من خلالها مصطفى مفاتيح لأسرار نفسه وأزماته، كما يجد دفتر مذكراته وفيه إهداء يلخِّص مصطفى سعيد من خلاله كل الأزمة التي عاشها ويعيشها أمثاله إذ يقول: (إلى الذين يرون بعين واحدة ، ويتكلمون بلسان واحد، ويرون الأشياء إما سوداء أو بيضاء، إما شرقية أو غربية) إنه العجز عن الاندماج، العجز عن التمسك بالثوابت والإفادة من الأحسن، إنه الجمود المتمثل في النظر للغرب الأبيض بعين المهزوم المستلَب، وللشرق الأسود بعين الضعيف المتبرئ، أو المتعنت والمتشبث، إنه عدم القدرة على النظر بعينين ودمج اللونين، على نحو يحقق التوازن، وبعد هذا الإهداء لا يكون عجيبًا ألَّا يجد الراوي في الصفحات التالية أية كلمة، إنها صفحات فارغة وكأن مصطفى سعيد قدم مذكراته كلها بعبارة الإهداء لتكون هي فقط كل مذكراته…

وبين الشرق والغرب وبين صراع الانتماء والهوية وبين التمسك بالوطن وعقدة النقص، يخرج الراوي من غرفة مصطفى سعيد السرية بعد أن يشعل فيها النار، محرقًا كل ما فيها وكل ما تمثله، ثم يقفز إلى النيل الذي عنده تتحدد نقطة الانطلاق، ويتمكن من الانعتاق، فيسلم نفسه للموج الذي يشده للأسفل بقوة، لكنه يقرر ألا يستسلم فيقاوم حتى يحرر صوته فينطلق من صدره مناديًا قومه ليكونوا معه فيصيح: النجدة النجدة… تلك الكلمة الخاتمة في الرواية التي تصور حاجة الإنسان تحت سلطة هذا الصراع إلى أن يعبّر ويطلب يد العون ولا يترك نفسه لموج التغريب أن يشده ولا موج التشبث بالجذور يشده.. إنه في حاجة فعلًا إلى (النجدة).

بين الشرق والغرب

رواية إبداعية لاقت رواجًا واستحسانًا عالميًا لِما استطاع الطيب صالح من عرضه بشكل واقعي وحقيقي من أزمة العلاقة بين الشرق والغرب، ويتجلى ذلك مثلًا في حوار يدور بين منصور الشاب المثقف السوداني وريتشارد البريطاني، إذ يقول منصور: “لقد نقلتم إلينا مرض اقتصادكم الرأسمالي، ماذا أعطيتمونا أكثر من حفنة من الشركات الاستعمارية نزفت دماءنا ولا تزال؟

فيرد عليه ريتشارد: كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا، كنتم تشكون من الاستعمار، ولما خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر، يبدو أن وجودنا بشكل واضح أو مستتر ضروري لكم كالماء والهواء..” ثم يضحك الاثنان دون أي ضغينة لدى أحدهما تجاه الآخر.

أسلوب الرواية

امتلك الكاتب قدرة فريدة تجلّت بنجاحه في اصطحاب القارئ بين الحقول على صفاف النيل، وفي أجواء القرية البسيطة مع سجالات أهلها وأصواتهم وضحكاتهم وسهراتهم، ثم الانتقال مباشرة إلى أروقة شوارع لندن، وجامعة اكسفورد، وحديقة الـ (الهايد بارك) ومجالس الارستقراطيين على ألحان موسيقا باخ، كما تميز الكاتب بأسلوب سردي مبهر ينقل القارئ بين الأزمنة والأحداث، إذ يقفز بين الماضي والحاضر وبين الأماكن وينقل الحوارات من شخص إلى آخر بأسلوب سلس، ولكنه يحتاج إلى تركيز، إذ تعمل الأقواس على حصر الكلام المنقول، وتوضيح أن العبارة لم تعد وصفًا ولا سردًا بل حوارًا. ومن ناحية أخرى نجد الطيب صالح يتخطى خطوطًا حمراء تتعلق بالمشاهد الجنسية التي أسهب في وصفها على نحو مكرر، وكذلك في وصف حديث المسنين من أهل القرية الهزلي في إحدى سهراتهم عن الأمور الجنسية بأسلوب لم يكن مألوفًا لفن الرواية في عصره، وخصوصًا فيما يتعلق بالمسنّة (بنت مجذوب) التي كانت لها شخصية غير مسبوقة، إذ لا يمنعها تقدم سنها من الخوض بكلام جنسي فاضح في مجلس الرجال دون أن يقلل ذلك من مكانتها بينهم، الأمر الذي جعل الطيب صالح عرضة للانتقاد.

وتبقى رواية (الهجرة إلى الشمال) مدرسة فنية قدمت فنًا روائيًا ميلودراميًا، وسلطت الضوء على قضايا شائكة، وأسرجت الطريق للهجرة نحو الذات.

مشاركة: