العدد الخامس عشر من (رواق ميسلون) دراسات الضحية والتظلّم في السياق العربي

يُنسَب إلى ونستون تشرتشل أنه قال “التاريخ يكتبه المنتصرون”، فرُدَّ على هذا القول بالقول “ماذا عن ضحاياه؟ أليس الأحق لضحايا التاريخ أن يكونوا هم مَن يكتبون تاريخه؟” كان التحوّل من القول الأول إلى الثاني تحقيقًا لشكل من أشكال العدالة في القرن العشرين، القرن الذي اتّسم باللاعدالة، قرن الحروب والاستعمار والمجازر والمجاعات. فبعد حربين عالميتين، وكساد كبير، وصعود ديكتاتوريات وانهيارها، وبعد نهوضٍ وثوراتٍ في العالم العربي ثم إخفاقات أشدّها صدمة 1967 وآخرها خيبة ثورات الربيع العربي، أصبح مستحيلًا للشعوب المقهورة أن تسمح للأبطال أو المنتصرين أن يكتبوا التاريخ مرة أخرى.

سقط التاريخ من عرشه بعد مجازر ارُتكبت باسمه، سقطت صدقيته وصدقية من استخدموه ذريعة لتحقيق غايات لا علاقة لها بالعدالة والحق، فحلّت الذاكرة محلّ التاريخ. وبعد أن كان التاريخ يتقدّم إلى الأمام باسم العقل والموضوعية والحقيقة الواحدة، جاءت الذاكرة لتحلّ محلّ التاريخ، الذاكرة بوصفها ذاتية، تعدّدية، تتحرّك باتجاهات مختلفة، وتنطق بحقائق كثيرة وزوايا رؤية متعدّدة، بدلًا من الحقيقة المطلقة والرؤية الواحدة. وبعد أن كان التاريخ يحرّكه البطل والزعيم والقائد ولم “يستطع التابع فيه أن يتكلم”، أصبح التاريخ متمحورًا حول الضحية وذاكرة الضحية الناجية، ولا ينطق فيه إلا “التابع”، ولا سيما بعد ظهور الصوابية السياسية التي شرّعت صوت التابع وأحقّيته في النطق. ظهرت أصوات جديدة لم يُسمَح لها أن تنطق سابقًا، أصوات نسوية، أصوات مُضطَهَدة باسم العرق والدين والجندر والطبقة، فظهرت الحركة النسوية والنظرية العِرقية النقدية وأفكار مناهضة المركزية الغربية، وغيرها من الأفكار وحركات التحرّر المقاومة ووصلت إلى منطقتنا العربية. وكان أهم هذه الحركات المقاوِمة بالنسبة إلى شعوب المنطقة هي حركات مقاومة الاستعمار بأشكاله المختلفة بصورة عامة، وبشكله الأشدّ والأقسى والأشنع وهو الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي الذي ابُتليت فيه فلسطين ومناطق مجاورة أخرى.

وعليه، كان تأسيس مجال دراسات ما بعد الاستعمار، ودراسات الجندر، ودراسات العنصرية محقًّا وضروريًا للكشف عن كثيرٍ من الممارسات الاستعمارية والذكورية والعنصرية وتحليل تاريخ القوى الاستعمارية وثقافتها وأدبها ووضع حدٍّ لها. وكان انتشار أفكار هذه المجالات حيويًا في المنطقة العربية، إذ تغلغت الرؤية ما بعد الاستعمارية في معظم الدراسات التي تُحلِّل واقع المنطقة العربية وتاريخها من الناحية الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. في هذا السياق، يأتي العدد الخامس عشر من مجلة (رواق ميسلون) ليتناول ملف (دراسات الضحية والتظلّم في السياق العربي).

كتبت نور حريري، مدير التحرير، افتتاحية العدد، وهي بعنوان “الضحية بين الفكرة والواقع”، طرحت فيها عددًا من التساؤلات المحورية المرتبطة بالموضوع:هل يصلح إسقاط نظريات الضحية هذه على ضحايا المنطقة؟ هل تنطبق أوصاف الضحية الغربية، خطابها، آلامها، قضاياها، صراعاتها على ضحايا المنطقة العربية؟ لا شكّ أنَّ لهذه النظريات طابع عالمي يتجاوز ما هو غربيّ، وهي تساعد في فهم أي واقع معيش ونقده. لكن بقدر عدم إمكان رفض هذه الأفكار والنظريات وعزلها عمّا يحدث في المنطقة العربية، لا يمكن إسقاطها على المنطقة إسقاطًا مباشرًا”. وأضافت “كيف تتحول الضحية من شيء مجرد إلى خطاب عقلاني متداوَل، إلى حراك شعبي منظم، إلى فكرة تكتسب واقعًا ووجودًا ماديًا في عالم السياسة والثقافة، لا في النفس والذاكرة والكلام العام وحسب، وتمكّنها من البقاء والصراع وربما الانتصار؟”.

وتضمّن ملف العدد خمس دراسات محكّمة. كتب الأولى الباحث راتب شعبو، عضو هيئة تحرير المجلة، وهي بعنوان “نزوع الضحية إلى السيطرة”، رأى فيها أنَّظاهرة الضحية الساعية إلى السيطرة والسيادة، تزدهر في مجتمعاتنا“، وأنَّنجاح كل مسعى من هذا النوع ينتج ضحايا آخرين. وتفسير ذلك أنه توجد تغذية متبادلة بين مجموعة من العناصر التي أنتجها واقعنا السياسي المأزوم، وراح يتغذى عليها في حلقة توالد خبيثة”. وأشار أيضًا إلى سؤال مهم في السياق السوري: “ألا يمكن إعادة الاعتبار للفئات المهمشة في المجتمع السوري، ومنهم العلويون، من دون تغذية مشاعر السيطرة الفئوية؟”، وأجاب عنه بقوله “إن كسر حلقة الضحية والسيد تتطلب مجهودًا وطنيًا كبيرًا تقوده نخبة غير تسلطية التوجه”.

وكتب فادي أبو ديب، من سوريا، بحثًا بعنوان “العرب وخطاب الضحيّة: هل حان وقت التحرّر من التماهي مع الأطراف والهامش؟”، عمل فيه على “تفكيك مفهوم هوية الضحية ومناقشة مسألة التماهي غير المبرّر بين مجموعات بشرية وتاريخية مختلفة تحت هذا المسمّى”، وقدّم تصوّرًا “عن علاقة هذه الضحية (العربية) بمفهوم التاريخ”. وقد بيّن البحث أنّ “المجتمعات العربية عمومًا لا تنطبق عليها صورة الضحية الثقافية-التاريخية في علاقتها مع قوة تسعى لإعادة كتابة تاريخها، فعلى النقيض من بعض المناطق الأخرى في العالم التي عانت من العبودية و/أو لم تملك تاريخًا مكتوبًا قبل الغزو الغربي لها تتميز المجتمعات العربية بحضور كثيف وفائق جدًا لتاريخها الذاتي لا بل، على العكس تمامًا، تعاني عدم القدرة على (طمس) ما كان ينبغي له أن يذهب في غياهب الماضي”.

وكتبت نادية بلكريش، من المغرب، دراسة بعنوان “جدلية المظلومية والكراهية في سياقات الخطاب العربي”، أشارت فيها إلى أن خطاب المظلومية ليس رائجًا بين عامة الناس في مختلف المجتمعات وحسب، فالحقيقة تتجاوز ذلك “لتشمل الجزء الرئيس من تفكير عديدٍ من المثقفين والمفكرين، والمحللين، وحتى بعض صنّاع القرار السياسي. يبرز ذلك جليًّا من خلال ما تتداوله وسائل الإعلام العربية، وغيرها من مقالات ومقابلات ومواد إعلامية، تكشف عن المدى الواسع الذي يسيطر فيه خطاب المظلومية على الطريقة التي يفكر بها الإنسان اليوم، ومختلف الأدوات التي يستخدمها في هذا التفكير. حيث يغذي خطاب المظلومية جانب الكراهية لدى الإنسان تجاه الآخر، كيفما كان هذا الآخر”.

وكتبت الدراسة الرابعة إكرام البدوي، من مصر، بعنوان “تحليل النوع الاجتماعي في إطار قانون الأحوال الشخصية المصري؛ نحو فهم لتجارب الضحايا”، أثارت فيها عدة تساؤلات: “هل يمكن أنْ تتغير حالة الضحية من الحقيقي إلى المزيف بناءً على التحولات في السياقات الاجتماعية والثقافية؟ وما هو دور السلطة والهياكل الاجتماعية في تشكيل مفهوم الضحية في بنية العقل العربي؟ فهل من المعقول أن الذكر هو الجاني دائمًا، أم أنَّه يتم تجاهله عندما يكون ضحية؟”، وفي هذا السياق، رأت أنَّ “فهم وتفسير مفهوم الضحية في سياق الدراسات النسوية يعدُّ أمرًا معقدًا. ويمكن دراسة التمييز في قوانين الأسرة لتحقيق التظلم والضحية. على سبيل المثال، من خلال تحليل القوانين المتعلقة بالزواج والطلاق وحضانة الأطفال في مصر، لتسليط الضوء على هذه القضايا ومعالجتها”.

أما الدراسة الخامسة، فكانت بعنوان “حالة الاستثناء في سورية الأسد”، كتبها لحسن أوزين، من المغرب، حاول من خلالها إجراء تحليل نقدي للواقع السياسي العربي، من خلال الأدوات والمفهومات التي أنتجتها الخلفيات الفلسفية والسياسية للمفكر والفيلسوف جورجيو أغامبين. وهي “مفهومات ساهم في سيرورة تشكلها كثيرٌ من المرجعيات الفلسفية والمعرفية والإبستمولوجية، والسياسية، والأيديولوجية”. ورأى أنَّ “دراسة حالة الاستثناء الأبدي التي تعرفها البلدان العربية تترابط جدليًا مع مفهومات ومصطلحات: الإنسان المستباح، حالة الطوارئ، الحياة العارية، السلطة السيادية، السلطة الحيوية، الدكتاتورية، والبيوسياسة، والتناتوسياسة، سياسة القتل، الحصار والمعتقل والتهجير، والعنف السياسي والقانوني…”. وهي “مفهومات علمية قادرة تحليليًا ونقديًا على إنتاج معرفة بواقع حالة الاستثناء السائدة في المنطقة العربية”. ودرس في هذا السياق حالة الاستثناء السورية التي تحضر فيها وتتكشف جميع حالات الاستثناء العالمية والإقليمية والمحلية.

وفي باب مقالات الرأي كتب رونيار إبراهيم، من سوريا، مقالة بعنوان “الضحية: بعض التأملات الأساسية”، ختمها بملاحظة ذاتية وهي أنه يتفق “مع نقد ثقافة (عقلية الضحية) في نقطة ألا تتحول معاناة ومأساة الضحية إلى حفل مقدس في حد ذاته ويصبح لها قيمة أساسية في سوق السياسة، ففي هذه الحالة تصبح الثقافة العامة ميالة إلى أن تكون ضحية أكثر من كونها فاعلة”. وكتبت أمل فارس، من سوريا، مقالة بعنوان “مفهوم الضحية، من المعاناة إلى البطولة”، أكدت فيها أنّ “الخطوة الأولى في خلق مجتمعٍ أفضل ليست التّذمر، بل اختيار فعل الشيء الإيجابي عن سبق الإصرار. ولعل أفضل إرث يمكننا أن نتركه هو هذا التحول، بالانتقال من العمل كضحية إلى تبني ضمير البطل وشجاعته المسؤولة”. وكتب علاء حسين الجدامي، من مصر، مقالةً بعنوان “الصوابية السياسية: من الطبيعة الفضفاضة للمفهوم إلى تناقض خطاب الضحية الإسرائيلي”، أشار فيها إلى أنَّ دور الصوابية السياسية، على المستوى السياسي، يتجلى في “تبرير الخطاب الضحياتي الإسرائيلي، الذي يرتدي ثوب المظلومية بوصفه أقلية مضطهدة من العالم بأسره، فأصبح كل من يعادي الكيان الصهيوني من منطلق الصوابية السياسية متهمًا بمعاداة السامية واضطهادها”.

وفي باب الحوارات، أجرى حسام الدين درويش حوارًا مهمًّا حول مسألة “إخاء الأديان” مع الدكتور محمد حبش، وهو مفكر وأكاديمي إسلامي سوري تبنى مسألة التجديد الديني، وأسَّس رابطة كتاب التنوير، وانتخب مرتين رئيسًا لجمعية علماء الشريعة في سوريا، وصدر له 52 كتابًا مطبوعًا في قضايا التنوير الإسلامي.

وفي باب دراسات ثقافية نُشرت في هذا العدد دراستان. كتب الأولى إلياس البراج، من لبنان، بعنوان “دوامة الأسياد والرعايا تُضيِّق الخناق على الخلاص العربي”، أشار فيها إلى أنهحيث ‏تحكم ثنائية طرفي النقيض: الجلاد والضحايا، السيد والعبيد، المستبد والمظلومين، يمكن افتراض أن الواحد شرط لوجود الثاني من هذه الثنائية القاهرة، وأن الفكاك منها يبدو صعب المنال إلا إن حدثت تحولات عميقة في الأفكار وتهذيبٌ متقدمٌ للغرائز، إضافةً إلى توفر لقاح حضاري لتخفيف الغباء البشري السائد بدرجات متفاوتة في المجتمعات منذ القدم…لكنه مستمر في عالمنا العربي على نطاق واسع”. وكتب الأكاديمي المصري محمود أحمد عبدالله الدراسة الثانية بعنوان “سردية المؤامرة في الخطاب الديني التقليدي”، قدَّم لها بقوله “إن سردية المؤامرة هي محاولة للتفسير، وليست فحسب آلية للتعبير عن مواقف الذات تجاه العالم. كما أنها سردية شعبوية، وعلموية. فهي من ناحية تجتذب العواطف والمشاعر العامة لجلب الاهتمام، بالتصوير المنحاز للذات وتشويه صورة الآخر. ومن ناحية أخرى تعتمد على بعض الحجج التي تبدو منطقية، حتى يمكنها المنافسة مع بقية السرديات التي تحاول إقناع المتلقين بأحقيتها في الوجود. ولذلك لا عجب أن يشبّه بعض الباحثين سردية المؤامرة بالدين، بسبب طابعها الميتافيزيقي، ورهانها على العاطفة والمشاعر، من دون التأكيد على الحجج الدامغة، وحرصها على الاستفادة من كاريزما المنشئين لها”.

وفي باب ترجمات، ترجم عبد الإله فرح، من المغرب، دراسة بعنوان “علم الاجتماع وما بعده: الفاعل، والوقوع كضحية، وأخلاقيات الكتابة” لـ غودرون دال. وتبحث هذه الدراسة، من خلال إشكالية أخلاقيات الكتابة العلمية، “في مختلف الخطابات التي يُستخدم فيها مفهوم الضحية، ناظرة إلى الادعاءات وتبريرات البراءة من صفة “ضحية” بوصفها تعبيرات عن الفاعلية في سياق التنافس على المساءلة، والمسؤولية، والاعتراف، والتعويض المحتمل أو اللوم”.

وأخيرًا، في باب عروض كتب، نشرنا فصلًا من كتاب (الإسلام والمسلمون في الغرب؛ قضايا وسجالات كبرى) لـ أديس دوديريجا، وحليم ران، ترجمته دعاء خليفة، وراجعه حاتم الأنصاري، من السودان، ويتناول هذا الفصل ظاهرة “التعددية الثقافية” والمعارضة التي أصبحت تنمو ضدها في الغرب، فقد “ظلت التعددية الثقافية ميزة تعريفية لكثير من المجتمعات الغربية منذ الثلث الأخير من القرن العشرين على أقل تقدير، غير أنها قد واجهت معارضة معتبرة خلال العقدين الأخيرين. كان معظم هذه المعارضة قد نشأ في سياق الإرهاب المرتكب باسم الإسلام، في ظل تصورات نظرت إلى المجتمعات الأقلوية المسلمة على أنها مقاومةٌ للاندماج، وإلى الإسلام على أنه دينٌ غير متوافق مع المجتمع الغربي”. لكن الدراسة تشير في نهايتها إلى أنَّه “لم يزل هناك دعمٌ واسعٌ النطاق للتعددية الثقافية واعترافٌ بمنافع التنوع الثقافي في الغرب”. فقوة هذا الدعم والاعتراف من مصلحة المجتمعات الغربية ومجتمعاتها الأقلوية المسلمة إلى الحد الذي سيدفع المسلمين وغير المسلمين إلى التمييز بين الإسلام والإسلاموية.

مشاركة: