في الحديث عن خطاب الضحية الذي ينتشر في الأوساط الثقافية والأكاديمية اليوم، يبدو غريبًا أن يبدأ هذا الحديث من مناصرة الضحية أو التصدي لها من دون الاستفسار أولًا عن أسباب انتشار هذا الخطاب، وكيفية انتشاره، والسياق الذي ظهر فيه. في هذه الأوساط تُولَد مصطلحات جديدة باستمرار وتموت أخرى. وقلَّما تكون هذه الولادات والوفيات طبيعية، إذ تشيع خطابات وتنبثق مصطلحات بالغرس أو الاستبدال، وتموت مصطلحات أخرى فجأة بالقتل أو الإزاحة. حدثُ القتل أو الاستبدال اللغوي هذا يُهمَل عادةً. تُحجَب الأسباب، وتبقى مصطلحات منقطعة النسب، وتسود وتنتشر من دون مساءلة.
يحتج قائل بالقول إنَّ الانشغال بالقضايا السياسية الكبرى يحول دون وقوف المثقف على القضايا الصغرى، ويمنعه من مساءلة المصطلحات ويُبرِّر له ضعف التركيز عليها. ويحتج آخر بالقول إنَّ مصطلحات الثقافة تعبِّر عن الواقع في النهاية، فخطاب الضحية الدارج على لسان المثقف جاء ليعبِّر عن ارتفاع الصوت الحقيقي للضحية وتجاوزه الحدود المقبولة بعد أن كان هذا الصوت خافتًا أو مكتومًا. غير أن هذه المقالة الافتتاحية ترفض الاحتجاجين معًا، وتدافع عن أهمية الوقوف على الصغائر قبل الكبائر، وعن مثقفٍ يقف على مسافة مما يحدث، يتخّذ موقعًا مختلفًا في الحديث عن الضحية أو سواها، موقعًا لا يتساوى وموقع السياسي أو موقع العامة، ويرفض أن يحلَّ “الخطاب” محلَّ اللغة، وأن تحلَّ “السياسة” محلَّ الثقافة، وأن يحلَّ “المصطلح” محلَّ التسمية، وأن يحلَّ “الوصم” محلّ الإنتاج. فالثقافة، كما يقول مصطفى الحجازي، تمثِّل خط الدفاع الأخير عن الهوية الوطنية، ولم تقم نهضة في أمة إلَّا وكانت الثقافة في قلب مشروعها. وعليه، تقدِّم هذه المقالة بعض المقدّمات التي ربما تفيد النقاشات المتمحورة حول “الضحية” أو تضيف شيئًا إليها.
نقطة عقدية ودالّ فارغ
على الرغم من ظهورها في منتصف القرن العشرين، لم تشع ثنائية الضحية/الجاني إلَّا في العقود الأخيرة. انتشرت ثنائية “الضحية/الجاني” كالنار في الهشيم، يُردِّدها أكبر فلاسفة الأخلاق، وأكثر السياسيين عنصرية، وأبسط مدرّبي التنمية البشرية في اليوتيوب، ويزعم هؤلاء جميعهم بأنَّهم يقصدون بها الشيء نفسه: عقلية الضحية، خطاب التظلّم، ثقافة إلقاء اللوم على الآخر. وهنا تبدأ ملامح المشكلة في الظهور. فعلى عكس النظرة الشائعة والبسيطة إلى الثقافة التي تطالب المفكّر والمثقّف بأن يبسّط مصطلحاته وأدواته، إن تناقُل المصطلحات بهذه البساطة يدلّ على إخفاق الثقافة في اتخاذ موقع مختلف، وفي صوغ مفهومات مختلفة لإنتاج المعرفة ومقاربة الواقع. وليس غريبًا أن تُشدِّد الدروس الأولى للغة والفلسفة والفكر على عدم قابلية الكلمات للنقل إلى خارج الجماعة العلمية الواحدة، ما يُسمى باستحالة النقل والترجمة. وإن دلَّ هذا التناقل للكلمات بين الجماعات المختلفة على شيء، فإنما يدلّ على أن المدلول ليس واحدًا، وعلى تحوّل المصطلح إلى كتلة صمّاء، فاقدة للمعنى، غير قادرة على إحداث أثر في الواقع.
يبدو غريبًا، ومريبًا أيضًا، أن تشيع هذه الثنائية وتُردَّد من جانب التيارات المتنافسة والمتناقضة، اليمينية واليسارية، الديكتاتورية والديمقراطية، الدينية واللادينية، الأخلاقية وغير الأخلاقية، إذ تدّعي هذه التيارات جميعها بأنها سقطت “ضحية” الآخر، ما يدلّ على أن المصطلح في حدّ ذاته قد تحوّل إلى ما يُسمى بـ “الدالّ الفارغ” الذي لا يمكن أن يخدم أي فكرة أو قضية محقة، وكما يصفه عالم السياسة جايكوب تورفينغ، فيقول “إنه يمثّل دلالة مفرطة في الترميز فهي تعني كلَّ شيءٍ ولا شيء”. هذا الدالّ الفارغ يلغي الاختلافات بين العناصر، ومن دون الاختلافات لا يمكن أن يتشكل أي معنى، ويتحول هذا الدالّ إلى نقطة عقدية.
فمَن تكون الضحية في زمن يزعم جميع الناس فيه بأنه ضحية؟ وما المعيار الذي يمكن الاستناد إليه لإلصاق صفة الضحية بشخص أو مجموعة ما؟ وهل يمكن اختزال جميع ضحايا الحروب والقمع والاستبداد والاستعمار وجرائم الشرف والعنصرية في فئة الضحية؟ تبدو الأسئلة عقيمة، ومن دون القدرة على تحديد الاختلافات بين الهوية والأخرى، الضحية والأخرى، الضحية والجاني، أي حين يمنع دالُّ “الضحية” التدليل على الضحية، يحوَّل الانتباه إلى الجاني لإنتاج المعنى، وينتج عن ذلك حالة من التماهي مع الجاني/المضطهِد المُفعَم بالمعنى، وذي الملامح والهوية الواضحة. يبدو هنا أن ثنائية “الضحية/الجاني”، التي جاءت لتتصدى لخطابات الصوابية السياسية، التي تدّعي التظلم باستمرار وتدافع عن الضحية دفاعًا أعمى، قد وقعت في فخ الصوابية السياسية نفسه وتحوّلت إلى مصطلح يغلق المعنى ويقطع طريق التفكير والتحليل والكلام.
من “العبد/السيد”، فـ “الضحية/الجاني”، إلى ماذا؟
تزامن تغلغل ثنائية الضحية/الجاني في الخطابات الثقافية مع اختفاء ثنائية أخرى أقدم منها، وهي ثنائية “السيد/العبد”، الثنائية التي تشبهها من حيث المبدأ، وتختلف عنها من حيث المضمون والغاية. وعلى الرغم من أن بعض الكتّاب يتناولون الثنائيتين على أن إحداهما ترادف الأخرى، فالثنائيتان مختلفتان اختلافًا جذريًا. ليست ثنائية العبد/السيد ثنائية بالمعنى العادي، بل هي ديناميكية، ديالكتيك، يرتبط فيها العنصر الأول بالثاني، وتكون العلاقة بين العنصرين، بصورة أساسية، تاريخية، متحركة، متغيّرة تبعًا لعوامل مختلفة وعلاقات قوة متبدّلة.
أما ثنائية الضحية/الجلاد، فإنَّها تنظر في علاقات القوة بين عنصريها لكنَّ نظرتها غير تاريخية. شكّلت الثنائيتان (العبد/السيد، الضحية/الجلاد) نوعًا من النقد الموجَّه لخطاب الحقوق، الخطاب الذي يشير إلى حقوق الإنسان والحقوق الأساسية التي يتمتّع بها الأفراد والجماعات، كما يشير إلى الطريقة التي من خلالها تُناقَش الحقوق في المجتمع وتُطبَّق. ولأنَّ الحقوق تُعامَل بوصفها عالمية وكونية، فجاء هذا النقد ليقول إنَّ هناك مشكلة ما في هذه الحقوق، فلا يمكن فرض هذه الحقوق على جميع الناس بالطريقة نفسها من دون أخذ تفاوتات القوة في الحسبان، وإنَّ خطاب الحقوق يغفل عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تجعل بعض الجماعات غير قادرة على الاستفادة من هذه الحقوق. غير أنَّ الثنائية الأولى (السيد/العبد) هي الأقدم وقد انتشرت طويلًا في الكتابات العربية والعالمية التي سعت إلى تحليل الواقع السياسي والاجتماعي لمنطقة معينة وعلاقات القوة التي تربط فردًا بآخر، منطقة بأخرى، أو شعبًا بآخر. استُمدَّت هذه الثنائية من كتاب فينومينولوجيا الروح للفيلسوف الألماني هيغل، وقُرئت هذه الثنائية قراءة حرفية، فرُفضَتْ ونموذج الأخلاق الذي تمثّله. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي وتراجُع الفكر الماركسي، ظهر فكر ما بعد الحداثة ليحلّ محلّ الأول، ونادى بيسارٍ جديدٍ، ورفض الأسماء الحداثية جميعها، الليبرالية منها والماركسية معًا. استبدَلَ الفلاسفة والكتّاب الفرنسيون (ميشيل فوكو، ألبير كامو، إيمانويل ليفيناس، ورينيه جيرارد وغيرهم) ثنائية الضحية/الجاني بثنائية السيد/العبد، فقد مثّلت فرنسا مهدَ الفكر ما بعد الحداثي الذي تبنى ثنائية الضحية/الجاني ورفض الحقيقة الواحدة والأخلاق ونقد حقوق الإنسان والمبادئ الكبرى والمعايير الثابتة التي جاء بها الحداثيون ومنظرو الحقوق الأوائل، وراح يدرس العنف والسلطة والاستبداد في أشكالها الصغرى.
إذًا، تتكئ ثنائية الضحية/الجاني على ما بعد الحداثة، لتنقد خطاب الحقوق الذي جاءت منه في الأساس. وبإزاحته ثنائية العبد/السيد وإحلاله ثنائية الضحية/الجاني محلّها اعتقد تيار ما بعد الحداثة بأنَّه حلّ المشكلة. غير أنَّه ألغى من جهة أولى كونية خطاب الحقوق، وتاريخية عنصري الثنائية (السيد/العبد)، وتعامل مع الضحية والجاني (من دون تثبيت أي حقيقة كونية أو حتى حقيقة تاريخية). فتناولت رؤى ما بعد الحداثة الضحيةَ مثلًا من حيث الهوية والتجربة الذاتية والسردية الشخصية. فأصبح ما يحدِّد هوية الضحية هو تجربتها ومعاناتها وصدمتها ولا يمكن الاستناد إلى قوانين كبرى أو حقيقة موضوعية أو النظر في التاريخ لمحاكمة الضحية. تطورت نظريات ما بعد الاستعمار في الجزء الأكبر منها من هذا التقليد ما بعد الحداثي، فراحت تركِّز على الهويات الثقافية، وترفض التشكيك في موقف الضحية، وتحلِّل العلاقات بين المستعمَر والمستعمِر، وتفكّك كيف تُبنى هذه الثنائيات وكيف تؤثر في الهويات والعلاقات الاجتماعية.
وعلى الرغم من أنَّ هناك اختزالًا كبيرًا في هذا الكلام، فإنَّ النظريات ما بعد الاستعمارية تختلف في ما بينها ولها فضل كبير على قراءة الأدب والتاريخ والثقافة وأدوات النقد، فهذا ما بقي منها وما تردّدت أصداؤه. وعليه، لا تنفصل ثنائية الضحية/الجاني عن سياق ظهورها، فهي متجذّرة في خطاب الحقوق، لكنها تنقده من موقع ما بعد الحداثي، ما يجعل الثنائية تبدو وكأنَّها معلقة في الهواء من دون أي حامل. واليوم، مع تصاعد اليمين، وبروز قضايا الهجرة واللجوء في العالم، والنكوص إلى الأصولية الدينية بأشكالها المختلفة، والرفض الشديد لأفكار ما بعد الحداثة التي حُمِّلَت بجزء كبير مسؤولية ما يحدث من إنتاج هويات صغيرة، دينية وإثنية وجندرية وقومية، ينافس بعضها بعضًا، ويتشبّث بعضها بهوية الضحية غير القادرة على الكلام أو الفعل أو التأثير، بسبب غياب قانون يحكم، أو معيار أخلاقي يُحتَكَم إليه، يبرز السؤال: ما الخطاب الجديد الممكن الذي يجب إنتاجه؟ وإن تُرك الوضع على ما هو عليه، ألن يحلّ خطاب الجاني في النتيجة محلّ خطاب الضحية؟
معضلات الألم والنقد والأخلاق
مع التحوُّل العاطفي emotional turn في تسعينيات القرن الماضي، والذي كانت نتيجته أن عادت العواطف والانفعالات لتصبح موضوعًا رئيسًا في الدراسات الإنسانية والاجتماعية والفلسفية، بعد أن كانت غائبة أو مُغيَّبة طويلًا بسبب تركيز الدراسات، في فترة الحداثة المبكرة منها والمتأخرة، على قضايا العقل والمنطق والسعي لقراءة العالم قراءة موضوعية وعقلانية وعلمية، تعود العاطفة اليوم موضوعًا أساسيًا للدراسة والبحث. ومع هذا التحوّل الجديد، انتشرت الدراسات التي تركز على قضايا الألم والعاطفة والجسد والذاكرة والتجربة. من ناحية أخرى، قُوربت عاطفة الألم مقاربة جديدة، فلم يعد الألم مجرد تجربة حسية ذاتية تدلّ على إحساس جسدي أو نفسي غير سار، بل أصبحت النظرة إلى الألم نفسها تاريخية، ما يدلّ على أن هناك فرقًا بين الألم المجرد والدلالة الثقافية للألم، ويُثبت أن دلالة الألم ليست واحدة وتتغير عبر التاريخ، وأن التاريخ الداخلي للعالم ربما يكون أكثر تعبيرًا عن العالم من تاريخه الخارجي. يقول عالم الاجتماع غيورغ زيمل: “مدهشٌ كيف سكت تاريخ الفلسفة عن الألم الإنساني”. مع أن كثيرًا من الفلاسفة تحدثوا عن الألم، لكن كتاباتهم لم تلق الاهتمام والتركيز الكافيين. وفي سياق الحديث عن الضحية، انصبّ التركيز على الألم.
غير أنَّ الألم لا يؤخَذ دفعة واحدة بهذا الشكل وهو ليس مجردًا أو بريئًا من التاريخ والسياسة. وهنا، ربما يكون مفيدًا المرور سريعًا على استخدامات الألم عبر التاريخ، فنرى المسرحيّ اليونانيّ إسخيليوس يقول “إن الألم يُعلِّم الإنسان”، وفي العصور الوسطى نقرأ عن ارتباط الألم بغايات خلاصية، فسلطة الألم الأخلاقية كانت تُشعر الضحية بالخلاص. يقول خابيير موسكوسو “إن استخدامات الألم لا تتعلق بالحقيقة، وإنما بالدراما، وهي لا تُفسَّر منطقيًا، وإنما تُفسَّر من خلال البناء الجمعي للتجارب نفسها”. اليوم، مع سقوط السلطات الكونية الأخلاقية والتعليمية والمعرفية، تحوّلت سلطة الألم إلى سلطة استهلاكية وتحريرية. فبعد أن كان الألم يعلّم، ويُطهِّر، ويخلِّص، أصبح الألم يحرِّر وغدا أداة من أدوات المقاومة والتحرير. يقول تيري إيغلتون: “إن الذات ما بعد الحداثية ذات يشكّل جسدها جزءًا لا يتجزّأ من هويتها. والحقّ أنّ الجسد قد أصبح […] شاغلاً من شواغل الفكر ما بعد الحداثي. ولقد امتلأت المكتبات بالأعضاء المشوّهة، والأجساد الموشومة أو المسجونة، المُعَاقَبة أو الراغبة، وظواهر أخرى مشابهة، ومن الحريّ بنا أن نتساءل عن السبب” لقد تمثّل التوجّه نحو الجسد وصدماته وآلامه نوعًا من الهروب من القضايا الكبرى وعداء للوعي وإعمال العقل. غير أن هناك فرقًا تجدر ملاحظته بين دلالة الألم فترة الحداثة ودلالة الألم فترة ما بعد الحداثة. فالألم، في الحداثة، كان حافزًا للمقاومة ودافعًا لأن يتحوّل إلى قوة ثورية في الفكر والممارسة.
اليوم، مع انتشار فكر ما بعد الحداثة، يصبح الألم في حدّ ذاته مقاومة. مقاومة يجب ألا تُقاوَم، وألا توضَع في سياق أخلاقي، وتبقى خالية من الحقيقة والمحتوى. فغاية فكر ما بعد الحداثة تفكيك الأخلاق وتقديم نظريات مغرية سياسيًا وأخلاقيًا، لكنها نظريات غير صالحة لا للسياسة ولا للأخلاق. وليس غريبًا، إذًا، بروز مفردات الألم في جميع الأماكن، والتركيز على الصدمة (التروما) في التعليم والإعلام والثقافة والأدب والشعر، وتطبيع صور المعاناة والضعف وتمييع فكرة القوة وتسخيفها. تقول دايان إنس في كتابها “عنف الضحية”: “يمثّل فوكو مثالًا جيدًا على التهرّب من الخطاب الأخلاقي، إذ يدافع عن الضرورات العالمية للوجود الإنساني” وعن “التحدث بالنيابة عن الآخرين”، وهو مبدأ مقدس في الخطاب النسوي […] أيضًا إيمانويل ليفيناس لا يقدِّم أي نظرية أخلاقية، بل يتحدث عن تعزيز العلاقة الأخلاقية مع الآخر […] لكن هذه المسؤولية تجاه الآخر تفتقر إلى الحكم الأخلاقي، وتبقى علاقة أخلاقية مجردة لا تسمح بمواجهة المعضلات الأخلاقية أو لا تسمح للضحية بالفاعلية وتحمُّل المسؤولية.
من الغريب أن يتحدث هؤلاء الفلاسفة ضمن سياق يُفترض أنه أخلاقي، ومع ذلك، لا نجد في نهاية المطاف سوى نظريات -ربما تكون جميلة وجذابة- لكنها محدودة الجدوى عندما يتعلق الأمر بالممارسة السياسية والحكم الأخلاقي”. وعليه، يأتي تطبيع الألم أيضًا مع تطبيع عدم مقاومته. ويأتي نقد الألم مع نقد مقاومته. ويأتي نقد الأخلاق القديمة مع عدم تقديم أي بديل أخلاقي. ويظهر نقد خطاب الضحية في هذا السياق تحديدًا. فنقد أخلاقيات الضحية يأتي مترافقًا مع نقد النماذج الأخلاقية كافةً، ويأتي نقد خطاب الضحية الذاتي مع نقد كلِّ شكل من أشكال الخطابات الموضوعية. ما يجعل النقد بلا أساس، أو محتوى، أو جدوى، وما يحوّل المشكلة إلى معضلة، تبدأ بالتناقض وتنتهي بالاستحالة.
الضحية ليست فكرتها
يُعَدُّ سؤال هوية الضحية وفاعليتها (كيف تُعرَّف الضحية، أو كيف يُميَّز بين ضحية وأخرى) أحد الأسئلة الأساسية التي طُرحت في السنوات الأخيرة في الفلسفة الأخلاقية والعلوم الاجتماعية والسياسية، إذ يبدو عدم المساواة بين ضحية جريمة شرف، ضحية عنصرية، ضحية استبداد سياسي أمرًا بدهيًا، لكن الصعوبة تكمن في إثبات هذه البداهة. وماذا عن ضحية جريمة شرف تقع نفسها ضحية عنصرية واستبداد واستعمار مثلًا؟ هنا يصبح الإثبات أكثر تعقيدًا. طُوِّرت نظريات ومناهج كثيرة لحلّ مشكلة هذا “الإفراط في تعيين” أشكال الاضطهاد، نذكر منها مثلًا النظرية التقاطعية التي تنظر في تشابك الهويات المختلفة وكيفية تقاطع أشكال الاضطهاد المختلفة. لكن جدواها لا تزال موضع شك. وفي الآونة الأخيرة، توجَّهت الكتابات نحو سؤال الفاعلية، مدى فاعلية الضحية وقدرتها لا على التأثُّر وحسب، بل على التأثير أيضًا. ونَظَرت كتابات أخرى كثيرة في سؤال الضحية من زوايا مختلفة.
وعلى الرغم من وفرة الكتابات في هذا الشأن، وسداد بعضها وبطلان بعضها الآخر، تبدو المشكلة أعقد كثيرًا حين يُنظَر في سؤال الضحية في السياق العربي، إذ يصعب الاعتراف بأنَّ كل ما جاء ما في هذه المقالة مُستَمَدٌّ من واقع غربي وكتابات غربية تنظر في سؤال الضحية في سياقات ما بعد حداثية. ويصعب الاعتراف بأنَّ معظم الكتابات التي كُتِبَت دفاعًا عن الضحية (الغربية وغير الغربية) أو تصدّيًا لها، تأتي حتى هذا اليوم من الغرب. والاعتراف الأصعب هو أنَّ معظم الكتابات العربية التي تناقش هذه القضية، وقضايا أخرى مشابهة، هي كتابات لا تقارب واقع المنطقة مقاربةً مباشرة، وهي كتابات غير منظّمة ولا تصلح لتشكيل نظرية حول ما يحدث. هي كتابات معلّقة في الهواء، تُنشَر في أفق افتراضي منفصل، تقتصر على عدد قليل من القراء، معظمهم يعمل في منظمات إنسانية تفرض منطقًا معينًا للتداول وتنتقي قضايا معينة للتبني. هنا يُلحّ السؤال التقليدي: هل يصلح إسقاط نظريات الضحية هذه على ضحايا المنطقة؟ هل تنطبق أوصاف الضحية الغربية، خطابها، آلامها، قضاياها، صراعاتها على ضحايا المنطقة العربية؟
لا شكّ أنَّ لهذه النظريات طابع عالمي يتجاوز ما هو غربيّ، وهي تساعد في فهم أي واقع معيش ونقده. لكن بقدر عدم إمكان رفض هذه الأفكار والنظريات وعزلها عمّا يحدث في المنطقة العربية، لا يمكن إسقاطها على المنطقة إسقاطًا مباشرًا. ولا تكمن المشكلة هنا في، كما يُزعَم عادةً، الاختلاف الثقافي والسياسي وصراعات الخصوصية والعالمية، وما إذا كان يصحّ إسقاط العالمي على الخصوصي أو اختزال الخصوصي في العالمي. تحاجج هذه المقالة أنَّ المشكلة تكمن في أنَّ خطاب الضحية العالمي هو خطاب مُنتَصِر، فالضحية نفسها منتصرة في هذا السياق، وخطاب الحقوق الذي تعتمد عليه هو خطاب منتصر وسائد، الأمر الذي لا يمكن إسقاطه إطلاقًا على مَن يُسمى “ضحية” في السياق العربي. فلا يمكن فصل خطاب الضحية الغربي عن انتصار خطاب الحقوق وانتصار تيار ما بعد الحداثة في الغرب الذي شقّ طريقًا للانتشار في الأكاديميا والأوساط الفنية والثقافية الغربية بسبب هذه الانتصارات.
تقول جودي دين، “لقد انتصر اليسار في الحروب الثقافية التي خاضتها الجامعات والفنون ووسائل الإعلام خلال الثمانينيات والتسعينيات […] إن انتصار اليسار الأكاديمي في الحروب الثقافية لا بدَّ أن يُفهَم بأنه […] يؤكِّد انتصار ما بعد الحداثة”. ويشير الصحافي الأميركي فرانك ريتش، “إن المحافظين الذين كانوا يستنكرون في وقت ما تيار ما بعد الحداثة والنسبوية الأخلاقية أصبحوا الآن يدافعون عنها بشغف”. الأمر الذي يؤكد، من جهة أولى، أنَّ خطاب الضحية ما كان لينتشر لولا انتصار يسار ما بعد الحداثة، وأنه، من جهة أخرى، خطاب غير ناجح في السياق الغربي أيضًا لأنَّه لم يتمكن من اتّخاذ موقع خاص له، وتحوَّل إلى خطاب يلائم جميع التيارات بسبب النسبوية الأخلاقية التي تبطّن هذا الخطاب وتحوطه بهالة من القدسية تمنع أن يطاله النقد، وتحوّل المصطلح إياه إلى نقطة عقدية و”دالّ فارغ”، كما جاء في بداية هذه المقالة، يمكن ملؤه بأيِّ معنى وكلِّ معنى بحيث يصبح فاقدًا للأثر والمعنى. وعليه، سيصعب إسقاط صفات هذه الضحية المنتصرة على ضحية أخرى لا يلائمها هذا الخطاب إطلاقًا وتحتاج إلى “فكرة” وخطاب من نوع آخر يلائم الصراعات الوجودية التي تختبرها، والانهزامات المتتالية والأزمات السياسية التي مرت بها حتى هذه اللحظة. ولا يمكن النظر إلى الفكر السائد في المنطقة العربية على أنه فكر ما بعد حداثي، فما بعد الحداثة تُهمِّش الصراع، ويمكن التجرؤ على القول هنا إنها تلغي الصراع أو تؤجِّله، ففي العقود الماضية لم تكن في حاجة له بعد انتصارها. وليس غريبًا القول إن العالم العربي ليس في مرحلة ما بعد الحداثة، وهو لا يزال في مرحلة صراع ومحاولات تحديثية.
مرة أخرى، تؤكّد المنظّرة السياسية اليسارية جودي دين أنَّ “موقف الضحية ينشأ من تيار بارز في السياسة الأميركية المعاصرة، وهو الخطاب الحقوقي المرتبط بحركات الحقوق المدنية، وحقوق المرأة، وحقوق أقليات الجندر”. وبالمثل، يشير الكاتب اليميني المحافظ تشارلز سكايز إلى الفكرة نفسها حين يقول إنَّ أميركا أصبحت “أمة من الضحايا”. وعليه، لا يُفصَل خطاب الضحية عن حضور القوانين الإنسانية والحقوق المدنية والسياسية التي من المفترض أن تمثل نوعًا من حماية الحريات الفردية وضمان القدرة على المشاركة في الحياة المدنية والسياسية من دون تمييز أو اضطهاد، فينبثق خطاب الضحية حين يظهر تمييز أو اضطهاد في هذه الحقوق، ويظلّ متّصلًا بالخطاب الحقوقي حتى حين يثور عليه ويشكِّك فيه. وعلى الرغم من رفض هذا الخطاب ونقده بشدّة مؤخرًا من جانب تيارات سياسية وثقافية مختلفة، تبقى أهم سماته أنَّه خطاب سلمي، يوجّه اللوم إلى الآخر بمفردات لطيفة، ويخضع في النهاية للعقلانية العلمية نفسها التي ينتمي إليها خطاب الحقوق الأصلي.
ويمكن الزعم أنَّ محاولات استمداد عناصر من الخطاب الغربي ما بعد الحداثي المرتبط بالضحية من أجل بناء خطاب عربي مشابه والدفاع عن الضحية، هي محاولات أخفقت مرتين بالضرورة. إخفاقها الأول سببه إخفاق الخطاب نفسه بدرجة ما في الغرب (ونجاحه بدرجة ما مؤقتًا)، وإخفاقه الثاني سببه أنَّ الخطاب غير صالح للمنطقة وقضاياها وفكرها وظرفها. كما تحاجج هذه المقالة بأنَّ خطاب الضحية في السياق العربي، الذي يزعم بأنَّه جاء لينتقد ما يُسمى بمنطق “المركزية الغربية”، هو أشدّ المتورطين في هذا المنطق. وهذا ما تُثبته السرديات النمطية والسائدة ذات الطابع الثقافوي الديني أو الطائفي أو القومي التي تتبنى خطاب الضحية الغربي ما بعد الحداثي لتدافع عن قضاياها من منطلق ثقافي بحت، فيظهر خطابها متناقضًا في الشكل والمضمون، يدافع بقوة عن قضايا جوهرية ذات طابع كوني لكن من منطلق الهويات الضيقة ذات الطابع الخصوصي، أو ويدافع عن نسبوية أخلاقية في قضايا لا تتحمّل أيَّ نسبية ولا يُختَلَف في حقيقتها وشرعيتها، أو العكس، يدافع بشدة عن القضايا الأخلاقية، لكن من منطلقات نظرية ومن دون اتّخاذ موقف سياسي واضح، متورطًا بالحياد أو موهومًا بأنَّ الأخلاق تعني وجود طرف إنساني “نظيف اليدين” يمكن الانتماء إليه، وانتظار مجيئه، كمن ينتظر “غودو”، الشخصية الغامضة في مسرحية “في انتظار غودو” للكاتب الإيرلندي ما بعد الحداثي صامويل بيكيت، التي شُبِّهت بالمهدي المُنتَظَر، والتي تُمثِّل حالة الانتظار المستمر وعدم القدرة على التغيير أو التحرك، وعدم الحسم، وهي شخصية غير مرئية، مجردة، غير واقعية.
ليست الضحية وفكرة الضحية سيّين. ليست الثورة وفكرة الثورة سيّين. تموت القضايا والضحايا والثورات إن لم تتحول إلى أفكار وممارسات وخطابات تحوّلها إلى واقع مادي. غير أنَّ السؤال هنا كيف تتحول الضحية من شيء مجرد إلى خطاب عقلاني متداوَل، إلى حراك شعبي منظم، إلى فكرة تكتسب واقعًا ووجودًا ماديًا في عالم السياسة والثقافة، لا في النفس والذاكرة والكلام العام وحسب، وتمكّنها من البقاء والصراع وربما الانتصار؟ أيكون ذلك من خلال التمسك بالحقائق الموضوعية والتاريخية أم بنسبوية الحقيقة والأخلاق؟ أيكون من خلال الواقعية السياسية أم من خلال الأخلاق المُتّهمة باللاواقعية؟ إن الانتصارات السياسية الواقعية وحدها لا يمكن أن تصنع الأفكار والقضايا وتحوّل الأشياء المجردة إلى حقائق ملموسة.
وليس من المبالغة القول إنَّ الواقعية السياسية وحدها تمثل النقيض المباشر لذلك، فهي تركّز على الواقع وتتمسّك بالأشياء الموجودة “كما هي”، وتغدو بذلك قادرة على تبرير أي شيء، بحسب المصلحة، وهي لا تخلق الأفكار واقعيًا إلَّا بقتل حامليها، أي هي التي يمكنها أن تنقذ فكرة الضحية بقتل الضحية الحقيقية نفسها. ومن ناحية أخرى، لا يمكن للأخلاق وحدها أن تصنع القضايا وتحوّل المجرد إلى ملموس. وبالمثل، ليس من المبالغة القول هنا أيضًا إنَّ الأخلاق وحدها تمثل نقيض ذلك، فهي تركّز على الخير والحق والعدل بوصفها قيمًا ماورائية مضمونة، يعمل منطقها بمعزل عنّا، وتجلب الانتصارات من تلقاء نفسها. لا يُسوِّغ هذا المنطق الإخفاق السياسي الواقعي وحسب، بل يشارك في قتل الضحية الحقيقية نفسها ويحولها مرة بعد مرة إلى مجرد رقم. إذًا، لا يمكن أن تكون، أو أن نرضى بأن تكون، الإجابة من نوع الـ إما/أو.
أما نحن، في هذا السياق، ربما نكون أقلّ من ضحية، كما يرى المثاليون، ينقصنا التعيين، الوعي والتغيير الثقافي لتتجاوز الضحية واقعها غير الملموس وتحوّله إلى ملموس وتكفّ عن إلقاء اللوم على الآخر. وربما نكون أكثر من ضحية، كما يرى الماديون، أي ضحية مفرطة التعيين، وما نحتاج إليه هو التغيير والعمل والمطالبة بأن يكفّ الآخر يديه عنا. لكن ماذا لو لم نكن هذا أو ذاك تمامًا؟ ماذا لو كنّا شيئًا آخر وفي حاجة إلى خطاب آخر؟ ماذا لو أمكن ظهور خطاب لا يحجب التاريخ بحجة القانون، ولا يلغي السياسة بحجة الأخلاق؟
في هذا السياق، تصدر (رواق ميسلون) هذا العدد في محاولة لتقديم إجابة أو إجابات عن هذا السؤال.