نزوع الضحية إلى السيطرة

يُصنع التاريخ مرتين، المرة الأولى في الحقيقة، والأخرى في اللغة. الأولى هي صناعة الواقع، والأخرى هي صناعة الرواية. في الصناعة الأولى يتحقق التاريخ بوصفه أحداثًا ووقائع سياسية أو عسكرية أو علمية… إلخ. هذه صناعة حقيقية، ليس بمعنى أنها تصنع الواقع المادي المباشر بقواه وعلاقاته وعمرانه وحدوده فحسب، بل بمعنى أنها تحققٌ مستمر مرتبط بمسار الزمن الذي لا يتوقف ولا يعود إلى الخلف أيضًا. ثم يُصنع التاريخ مرة أخرى حين يُروى، ويصبح موضوعًا للتأمل، هنا تُستعاد المجريات بواسطة اللغة، استعادة وقائعية (سرد وقائع وأحداث ومجريات) واستعادة تحليلية (البحث عما وراء الوقائع من دوافع وروابط) ثم محاولة استخلاص للمعاني التي يُعتقد أنها قد تجعلنا أكثر دراية بحالنا، وأنها بذلك قد تضيء المستقبل بما يمكن أن يجعل الزمن القادم أفضل من الزمن الذي انقضى، أو بما يزودنا بمعرفة تقينا الخسارة وتقربنا من النصر[1]. هذا ما تصح تسميته صناعة الرواية. وهذه صناعة لا تنتهي، لأن التاريخ الواقعي (أي ما تحقق في الواقع) هو موضوع لا يُستنفد للبحث والتحليل وإعادة النظر، ليس بناء على ما استجد من علوم ونظريات فحسب، بل بناء على توازنات القوى الراهنة وما تفرض من انعكاسات على تفسير ما مضى وفهمه أيضًا. بهذا المعنى لا يكفُّ الحاضر عن الصراع من أجل امتلاك الماضي من خلال إعادة صياغته وإدراجه في السياقات التي تناسب أهل الحاضر، كل بحسب مسعاه.

في الحقيقة يمكن كتابة التاريخ من زوايا نظر عديدة، لا يمكن حصرها برواية المنتصر والضحية. رواية التاريخ من مواقع “ذاتية” مختلفة يغني الرواية ولا ينال من “موضوعيتها”، بل يعززها بالأحرى. حتى يمكن القول إن كل رواية للتاريخ هي ذاتية، لأنها تنطلق من موقع الراوي، وموضوعية لأن فيها إضافة إلى الرواية العامة للتاريخ. لا يمكن أن يُروى التاريخ إلا من موقع محدد “ذات”، ورواية الحدث العام تدخل في كتابة التاريخ، أو في صنعه بوصفه رواية. فالتاريخ يُصنع مرة واحدة ونهائية بوصفه حدثًا، ثم تبدأ عملية صناعته بوصفه رواية، وهذه عملية لا نهاية لها. يبقى التوتر قائمًا بين نهائية التاريخ بوصفه حدثًا ولا نهائيته بوصفه روايةً.

لكل صناعة من هاتين الصناعتين ضحاياها. صناعة الواقع تنتج ضحية واقعية، هي الخاسر المباشر الذي يتكبد التبعات المادية للخسارة، في مقابل المنتصر الذي يجعله نصره “سيد الواقع”. وصناعة الرواية يمكن أن تنتج ضحية سردية، أي ضحية يشوهها السرد. مثلًا المناضل الذي يتحول في الرواية إلى مخرب أو إرهابي أو مجرم أو خائن… إلخ، في مقابل البطل الذي ينحاز إليه السرد بوصفه مدافعًا عن حق أو أمة أو مؤسسة دولة أو مصالح عليا … إلخ.

حين تخسر الضحية في الواقع، فإنها تخسر ماديًا، تخسر على مستوى الأرض والأمان والمكانة، وعلى مستوى حياتها ومعيشتها، ويمكن أن تصل الخسارة إلى حدود الدمار الجزئي أو الكلي. وفي الرواية العامة، التي غالبًا ما تكتب من موقع المنتصرين، يمكن أن تُشوه صورة الضحية ودوافعها وأعمالها. من الشائع القول إن المنتصر يصوغ الرواية العامة ويجعل الضحية ضحية مرتين، مرة في الواقع ومرة في الرواية.

قد نخال أن الأنبياء وحدهم ينجون من هذا “القانون”، درجًا على تصور يقول إن النبي يُهزم إذا انتصر، على اعتبار أن الانتصار يعطي النبي سلطة مادية دنيوية سوف تدخل، بحكم قوانين الواقع وآليات السلطة نفسها، في تضاد مع “سماوية” النبوة ونقائها، وسوف تنتصر على روحانيتها، فتهزمها. النبوة المهزومة لها وقع أكبر في النفس، وهي أدنى للانتشار على أنها “صفاء” مهزوم في واقع “قذر”، وأن الصفاء لا ينتصر إلا في قلوب المؤمنين. يخال لنا أن هذا باب يمكن للضحية أن تنتصر فيه، فهكذا كان انتصار يسوع المسيح على بيلاطس البنطي. وكذا كان انتشار الدعوة المحمدية في مكة محمولًا على سلميتها التامة وتحمل معتنقيها صنوف التبخيس والضغوط[2]. ولكن الحقيقة هي أن انتصار يسوع ما كان ليتحقق لولا أن رواية الضحية أو “الصفاء المهزوم” تحول إلى أداة ناجعة للسيطرة في يد المنتصرين الذين هم الرومان، أسياد الواقع. كما أن انتصار الدعوة المحمدية ما كان له أن يتم لولا أنها حُملت تاليًا على ذراع عسكري متمكن وذي أفق توسعي.

نموذج رواية “مظلومية” المسيح وتحولها إلى رواية سلطة، هو نموذج خاص، ذلك لأن السلطة الرومانية التي تبنت الرواية كانت تمتلك السيطرة سلفًا. بكلام آخر كانت السلطة سندًا أوليًا للرواية. غير أن نموذج الدعوة الإسلامية الأولى كانت أقرب إلى النمط الشائع، وهو أن تكون الرواية هي المنطلق الأولي للسلطة أو للسيطرة المبتغاة، وهو النموذج المتكرر في منطقتنا.

المخطط العام لهذا النمط هو أولًا، مستوى ملحوظ من ظلم واقعي ينال جماعة هوياتية ما (في المثال الإسلامي الأول كانت الضحية أو الجماعة المظلومة، جماعة عقائدية لأنها كانت تقوم على مبدأ الاختيار قبل أن تتحول الجماعة الإسلامية إلى جماعة هوياتية قسرية لا محل فيها للاختيار، بعد أن صارت جماعة دينية تورث الدين كغيرها من جماعات الهويات القسرية)، وثانيًا، بلورة تاريخ الظلم هذا في رواية مَظلمة خاصة بالجماعة “مظلومية” تغذي فيها اللحمة والتطلع إلى الانتقام لحالها، وثالثًا، قد يتاح لهذه الجماعة، في لحظة ما، أن تحوز على القوة والشروط المناسبة لوضع تطلعها، بطريقة ما، موضع التنفيذ. ولكن حين لا تتوفر للجماعة الهوياتية المظلومة (الضحية) شروط الخروج من ضحويتها، فإنها تبقى في شعورها العام المتظلم عامل تفكك وطني في عالم اليوم المبني على “الأوطان”. على هذا يكون واقعنا السياسي المنتج للضحايا واقعًا مضادًا للاندماج الوطني، وتميل الصراعات السياسية فيه إلى أن تكون هوياتية أي لا سياسية، ما يجعله واقعًا عصيًا على التقدم.

وقد ساهمت “التفاؤلية” الماركسية في عدم إدراك عمق وثبات الانتماءات الهوياتية الوراثية أو القسرية ذات التغذية المتبادلة، على حساب الانتماءات الحديثة. في مقدمة الباحث اللبناني جورج قرم للطبعة الثانية من كتابه (تعدد الأديان وأنظمة الحكم، دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة)، نقرأ: “وقد كان للاتجاهات الماركسية في الفكر اللبناني أثر بالغ في هذا الاستخفاف بقابلية النظام الطائفي للصمود والدفاع الشرس عن مصالحه أمام موجة التحديث العارمة”[3]. على أن المنظور الماركسي قدم فائدة عميقة لفهم الصراعات الدينية الهوياتية في المجتمع حين ردها إلى مستوى سياسي غير عقائدي، الشيء الذي تعبر عنه عبارة شائعة منسوبة إلى ليف تولستوي: “لو أن الجميع قاتلوا وفقًا لمعتقداتهم فقط، لما كانت هناك حروب”.

رواية عامة وروايات خاصة

إذا كانت الضحية قد خسرت الواقع فلا شيء يمنعها من كسب الرواية، ولاسيما مع التطور التقني المتزايد وانتشار التعليم على نطاق واسع، حتى صار من السهل لكل من لديه قول أن يقوله. بات للضحية أن تصنع روايتها وتنشرها وأن تحول معاناتها الماضية إلى مظلومية تجعل لها ثأرًا “مشروعًا” من الحاضر في الحاضر، وهو ما سيكون، في شروطنا السياسية، مشروع سيطرة.

تنجح الضحية أكثر في هذا الاتجاه، بقدر ما يحوز ممثلوها على قدرات مادية وإبداعية أكبر، تستطيع بواسطتها أن تثير الحزن على حالها وتكسب التضامن و”التفهم” العام، وتحيله إلى طاقة ومشروع.

وكما تثير رواية المظلومية تعاطفًا عامًا، فإنها تولد لدى الجماعة “المظلومة” وعيًا متميزًا للذات، أو نوعًا من التكتل والتراص في الجماعة. كلا الأمرين (التعاطف العام، والوعي بالذات أو التمايز الذاتي) يشكل شرطًا ضروريًا للاستثمار السياسي الذي يحتاج إلى مشروع وإلى قدر جيد من تماسك الجماعة “المظلومة”.

كل جماعة هوياتية يمكن أن تشكل بؤرة نظر خاصة وتصوغ الرواية العامة أو التاريخ، من موقعها الخاص، أي يمكن أن تشكل ذاتًا لها رؤيتها وروايتها. تتعدد الذوات بتعدد الجماعات. ولا تقف الرواية الذاتية عند حدود تعزيز ذاتية الجماعة الهوياتية، بل تسعى إلى أن تكسب جمهورًا يفيض عن جماعتها، وقد تنازع، بقدر ما تتوفر لها من إمكانيات، على السيادة الروائية، أو، على الأقل، على كسب قدر واسع من المقبولية العامة والتعاطف العام.

الواقع أن العلاقة بين الجماعة الهوياتية وروايتها الضحوية الخاصة، علاقة نشوء متبادل، ذلك أن الرواية الخاصة تنتج الجماعة الهوياتية بالقدر نفسه الذي تشكل هذه الجماعة محلًا لرواية أو نقطة انطلاق في النظر إلى التاريخ من موقع المغلوب المظلوم الذي يحرك مشاعر التعاطف والتضامن بين أبناء الهوية المعنية وأيضًا خارجهم. بكلام آخر، يمتنع وجود رواية خاصة بدون جماعة هوياتية خاصة، ويمتنع وجود هذه من دون تلك. الشعور الجماعي الخاص، أكانت الجماعة تقوم على دين أو عرق أو حتى رابط قومي، ليس فطريًا أو عفويًا، بل تصنعه الرواية الخاصة بالجماعة، وبذلك فإن الرواية الخاصة تنقل الجماعة الهوياتية من وجود لا يدرك ذاته، أو وجود بالقوة، إلى وجود مدرك لذاته ومتحسس لوجوده وتمايزه، أو إلى وجود بالفعل، وهذا الوجود بالفعل هو مقدمة أساسية لتحول الجماعة الهوياتية إلى فاعل سياسي. يشبه الأمر سياق تكوُّن النفط من تخمر مواد عضوية مدفونة في باطن الأرض، غير أن وجود النفط بذاته لا يشكل مصدرًا للطاقة، بل يحتاج إلى عملية استخراج وتكرير مدروسة، ليتحول إلى مصدر مهم للطاقة.

هكذا يبدو أن عمل الروايات الخاصة (روايات المظلوميات الخاصة بجماعات هوياتية قسرية) يكون عملًا تفكيكيًا على المستوى الوطني، بقدر ما هو عمل توحيدي على مستوى الجماعة. تبلور الجماعات الهوياتية ونشوء مشاعر تضامن هوياتية داخل الجماعات يعرقل نشوء مجال سياسي فعال ومؤثر في الدمج الوطني، يتحرك فيه فاعلون سياسيون وطنيون أحرار، لصالح نشوء مجال سياسي ملغوم ينتمي فاعلوه إلى “جماعاتهم” قبل انتمائهم إلى وطنهم.

لا يعني هذا أن “المظلوميات” هي التي تفكك الأساس الوطني، وأنه ينبغي، بغرض التماسك الوطني، السكوت عن ظلم قديم أو حديث يمكن أن يكون وقع على جماعة أو جماعات هوياتية، أو أن يكون واقع حالها الراهن، بل يعني أن التطلع إلى معالجة هذه المظلوميات لا ينبغي أن يكون تطلعًا خاصًا بالجماعة أو الجماعات الهوياتية المظلومة، بل تطلعًا عامًا بأفق يتجاوز صراعات السيطرة بين الجماعات الهوياتية التي توجد ضمن البلد الواحد.

الضحوية (شغل موقع الضحية) بوصفها غذاء لنزوع السيطرة ومصدرًا للسلطة

لا يخلو موقع الضحية من جاذبية ليس بالمعنى النفسي فحسب، بل في المجال السياسي أيضًا، ذلك أنه يمكن، في هذا المجال، أن يخدم مصلحة تقوم على جعل الماضي وسيلة استثمار واستجرار دعم مادي أو سياسي، وأن تحقق “شعبية” عبر إنتاج أحقية ما، استنادًا إلى حيف لحق بالجماعة في زمان مضى، واستطاعت الجماعة تحويله إلى مصدر استثمار سياسي لا ينضب. العنف الواسع الذي ترتكبه الجماعات الهوياتية بحق بعضها البعض، قابل للتحول إلى ما يشبه الدَين المستحق للجماعة المضطهدة ليس بوصفها جماعة سياسية، بل بوصفها جماعة هوية، حين تسود الهوية على السياسة في الصراعات الداخلية، كما هو الحال غالبًا في مجتمعاتنا.

غلبة الهويات القسرية على الهويات السياسية، حاضرة بقوة في تاريخنا كلِّه، ولا يقتصر هذا على الهويات القومية والعرقية بل يشمل الجماعات الدينية أيضًا، فلا تتشكل ذوات سياسية عامة “وطنية” متجاوزة لهذه الحدود الهوياتية. على سبيل المثال، شهد مؤتمر الصلح في باريس (1919 – 1920) مطالب بإقامة دولة مارونية في لبنان، ودولة كلدانية في شمال العراق وأجزاء من الأناضول، “فالنزوع إلى التعبير عن الهوية الجماعية والإدارة الذاتية في دولة لم يقتصر على القومية العربية، بل تجاوزها إلى الطوائف الدينية”[4]. ومن الطبيعي أن الإدراك الذاتي الهوياتي للجماعة وسعيها إلى التبلور السياسي، يأتي على حساب جماعة أو جماعات هوياتية أخرى، ويؤسس لصراعات هوياتية، لم تتحرر مجتمعاتنا منها إلى اليوم.

المشكلة التي تطرحها الضحوية هي أنها تخترق السياسة مرتين، الأولى لأنها تؤطر مجموعة وتميزها على أساس هوياتي غير سياسي. والثانية لأنها تقود الجماعة إلى التحرك لاسترداد الحق كجماعة هوياتية (تقوم على الانتماء القسري) لا كجماعة سياسية (تقوم على الانتماء الحر المتحرك)، بل كجماعة هوياتية تتحرك في المجال السياسي فتفسد علاقاته.

غالبًا ما كانت الخطوط الهوياتية ذات حضور وفاعلية أقوى من الخطوط السياسية في بلداننا، وقد ساهمت سياسة الاستعمار الفرنسي في تقوية الحدود بين الجماعات الدينية، ليس في تقسيم سورية على أساس طائفي فحسب، بل في سياسة التجنيد التي كانت “وفقًا لما تتطلبه حاجاتهم (الفرنسيين) لاستخدام هذه القوات لقمع انتفاضات جهات تقطنها أغلبية من طائفة معينة، وذلك باستخدام قوات من طائفة أخرى”[5]. وقد كتب الكولونيل جورج كاترو (George Catroux)، المفوض السامي في بيروت: “إن من الأفضل تنويع التجنيد لتوليد الصراع بين الجماعات والتمكن من المناورة بينها”[6]. من أثر هذه السياسات توليد مشاعر ضحوية لدى الجماعات، وتوليد مشاعر انتقامية فيما بينها، بصورة تفكك الأساس “الوطني” الذي يجمعها.

وكان الإخفاق المتكرر في توضع آلية مستقرة لإنتاج شرعية سياسية عامة في بلداننا، سببًا لتوضع آلية مستقرة لإنتاج الاستبداد السياسي الذي ساهم في تعزيز الحضور “السياسي” للجماعات، على شكل نمو مشاعر تضامن وعداء من طبيعة مذهبية وطائفية، أو من طبيعة شوفينية قومية.

يمكن لنا أن نلاحظ مرورًا أن الجماعات في منطقتنا شديدة الميل إلى الاستثمار في الماضي. يريد المستثمرون السيطرة على الحاضر أو السيادة فيه، عبر توليد عصبية توحد “الضحايا” أو الجماعة المظلومة من خلال تحريض وعي ذاتي ضحوي وإثارة مشاعر التمايز والتضامن الذاتي تجاه آخر أو آخرين، مع محاولة كسب دعم عام باسم العدالة، ولكن ليس لتحقيق العدالة، في الواقع، إنما لتحقيق مشروع سيطرة. ولا عجب في ذلك ما دام شكل العلاقة السياسية الوحيدة في بلداننا (أقصد في أنظمة الحكم التي لم تنجح في إرساء آليات مضطردة لإنتاج الشرعية السياسية وسحبها) هو علاقة السيطرة، فلا أمل لجماعة مضطهدة أن تخرج من الاضطهاد إلا إذا سيطرت، على اعتبار أنه لم تتأسس في بلداننا قاعدة لبناء علاقات حقوقية قائمة على المساواة. هذا فضلًا عن أن أي جماعة تتحرك سياسيًا على أساس هوياتي هي جماعة ذات تطلع سيادي في الغالب.

الضحوية والهويات القسرية

ترتبط الضحوية بالهويات التي تورث أو القسرية[7] على نحو غالب. أما المظلومية التي تلحق بالهويات المختارة، مثل الهويات السياسية (تهميش أو قمع تيار سياسي معين وإلحاق أذى واسع بعناصره ومؤيديه) فإنها لا تشكل خميرة ضحوية بفعالية تلك التي تشكلها مظلومية أبناء الهويات القسرية. على أن قمع الأحزاب السياسية التي تقوم على أرضية هوياتية، مثل الأحزاب ذات المرجعية المذهبية الدينية، أو ذات المرجعية العرقية في بلد متعدد الأديان والأعراق، يمكن أن يحرض عصبية هوياتية أيضًا، وأن يزود هذه الأحزاب بسلاح الضحوية في نشاطها السياسي.

لا يقتصر النهج الضحوي على جماعات عانت من تهميش واضطهاد مزمنين في مجتمعها، بل يمكن أن تسلكه جماعات تتحسر على سيطرة وسيادة خارجية كانت لها في زمن مضى. ربط خسارة السيادة بأفعال وتخطيط عناصر خارجية (قوى خارجية من هويات أخرى) يولد لدى الجماعة شعورًا تضامنيًا انتقاميًا يوحدها ويرسم لها هدفًا واسعًا لمعركة دائمة متعددة الفصول باسم استعادة الأمجاد، وكأن هذه الجماعة “ضحية” مخططات ومؤامرة من آخرين. الحنق والنزعة الانتقامية لدى جمهور في واقع سياسي مترد، مع التطلع إلى استعادة متخيلة للأمجاد، يمكن أن تخلق جماعة سياسية متماسكة، ولاسيما حين يستقر في وعي هذه الجماعة أنها صاحبة حق إلهي وأنها مندوبة للسيادة. ولكن، على خلاف الحالة الأولى (الضحية المزمنة لقوى داخلية، مثل الكرد، أو الضحية المزمنة لقوى خارجية، مثل الفلسطينيين) لا تخلق هذه الحالة تضامنًا أو تفهمًا عامًا يؤازر “الضحية” من خارجها.

وعي الذات على هذا النحو (نحن أصحاب السيادة، ولكننا حُرمنا منها، ولا نزال محرومين منها بفعل آخرين أقوياء يستأثرون بما ليس لهم)، يدفع باتجاه صراعات انتقامية تدميرية الطابع، ولاسيما حين يقترن بتصورات ميتافيزيقية على شكل تكليف أو حق إلهي لا يقبل النقاش. في هذه الحال تفتقد الجماعة الانتقامية للفكر السياسي التنافسي ويقتصر “برنامجها” على العنف.

هذا ما يفسر أن الجماعات التي تسير على هذا النهج (الإسلاميون مثال بارز) يميلون إلى أن يكونوا جماعات مسلحة (ميليشيات)، ويبرعون أكثر ما يبرعون في ضروب القتال الفقير (بسبب الإمكانيات المحدودة وبسبب الحالة غير الرسمية للميليشيات) مشبعين بمشاعر انتقام تكفي لتدمير واسع، دون أن يكون لديهم فكرة وافية وقابلة للحياة عن كيفية بناء العالم تحت سيطرتهم، والأهم من دون شعورهم بالحاجة إلى مثل هذه الفكرة.

يمكن التوقف هنا قليلًا للإشارة إلى أن الحرب التي أعقبت عملية السابع من أكتوبر في محيط قطاع غزة في خريف 2023، حالها في ذلك كحال سابقاتها، تُخاض بوعي ضحوي من جهتي الصراع. ضحوية دولة ذات إمكانيات كبيرة مثل إسرائيل، هو ما يفسر هذه الأهوال وهذا المستوى اللامعقول من العنف الذي تمارسه ضد شعب أعزل، وهي تتحرك، مع ذلك، مدعومة من القوى العالمية الأساسية بوصفها ضحية.

لا يقتصر طلب استعادة الأمجاد على الجماعات الدينية الإسلامية التي تعي نفسها على أساس هوية دينية، والتي كان لأسلافها سيادة واسعة وحضارة مزدهرة. الاستعادة الهوياتية تشكل اليوم برنامج سياسي يسم أقصى اليمين في الحضارة الغربية، استعادة مقرونة بميل قومي انغلاقي صريح. لا غرابة أنَّ في فرنسا اليوم جماعةً سياسيةً يمينةً تطلق على نفسها اسم الاستعادة أو الاسترداد، تنطلق من فكرة ضحوية أيضًا، وهي أن فرنسا باتت، أو في طريقها إلى أن تكون مسروقة ومسيطرًا عليها من قبل غير الفرنسيين، وتنبغي استعادتها.

يستثمر اليمين الأمريكي والأوروبي اليوم في فكرة الاستعادة، استعادة العظمة، عبر ربطها بنزوع قومي حمائي، في حين ترتبط الاستعادة “الإسلامية” عندنا بتصورات غير تاريخية عن حقوق “إلهية” خالدة، ولكن في الحالتين يمكن تلمس السعي لاستجرار طاقة من مشاعر ضحوية.

ضحية أو مسيطر لا محل للعدالة والمساواة

المشكلة هي في نشوء تصور لدى “الضحية”، وهو تصور مضمر في الغالب، لا يرى الحل في المساواة، بل في الخروج من حالة الضحية إلى موقع السيطرة والسيادة على “الآخرين”. كما لو أن الشروط السياسية تكرس في وعي الجماعات الهوياتية قناعة بأن العدالة ممتنعة وأنه “لا توسط بيننا، الصدر أو القبر”. ومن أخطر ما يمكن مواجهته في هذا التحول، هو أن تتمكن الضحية من السيطرة وأن تمارس سيطرتها بعقلية الضحية. أو بكلام آخر، أن تمارس السيطرة كأنها تدفع عنها خطرًا محيقًا بالعودة إلى موقع الضحية، محملةً بوزر ممارساتها غير العادلة ضد “الغير” وهي في موقعها المسيطر هذا، أي أن يكون تاريخ سيطرتها تاريخ ثأر مستمر ليس من الماضي فقط بل أيضًا من مستقبل مُتصوَّر.

الكثير من تاريخنا يمكن فهمه او استيعابه من منظور العلاقة بين نقيضين هما الضحية والسيد المسيطر. والكثير من الضحايا يسقطون في أتون هذا التناقض الذي لا يعرف الحل، ويثابر على الفتك بالمزيد من الضحايا لأن كل طرف في هذا التناقض يتطلب وجود الطرف الآخر ما يجعل من هذا الصراع القطبي صراعا غير قابل للحل ومنتجا للمزيد من الضحايا الجدد والأسياد الجدد في واقع ثابت الانحطاط.

يكتسب العمل لرفع الظلم قيمة سياسية وأخلاقية عالية، ولكن ما يمتلك أهمية حيوية للمجتمع، هو كشف ونقد خطر نزوع الضحية إلى السيطرة، لصالح تعزيز منظور سياسي حقوقي عادل يتجاوز علاقة السيطرة بين الجماعات، سوى ذلك يتعذر الخروج من دائرة الصراع القطبي (سيد/ ضحية) المدمر.

الواقع السياسي الديموقراطي يسمح بتحول الضحوية إلى قوة إصلاح ومساواة وتوسيع دائرة الحقوق في البلد، بدلًا من كونها منصة انطلاق نحو السيطرة. وتقدِّم حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية التي ساعدت في إحداث تحول في التفكير وفي تغيير الوضع القانوني والاجتماعي للأمريكيين الأفارقة، مثالًا مهمًا.

مثال، ضحوية العلويين والسيطرة الموهومة

سبق أن أشرنا إلى أنه في الكلام عن تشكل وعي داخلي لجماعة ما، وما ينطوي عليه ذلك من دوافع عميقة واستعدادات نفسية وارتكاسات، لا تهم حقائق التاريخ القديم بقدر ما تهم الرواية الخاصة بالجماعة، الرواية التي تعتنقها الجماعة بصرف النظر عن مدى “واقعيتها”. ما يهم في هذا الجانب هو ما يستقر في وعي أفراد الجماعة من قناعات حول تاريخ الجماعة وما لحق بها، وعلى يد من. ذلك أن كل “مظلومية”[8] تحتاج إلى “آخر” تحمله المسؤولية، أي تحتاج إلى من يشغل موقع الظالم. ولكن لكي تستوي رواية ما لا بد من نقاط ارتكاز تاريخية، فلا يمكن بناء رواية من فراغ، وإذا كان من الممكن تلفيق رواية خيالية، فإن مثل هذه الرواية لا تخدم في رص صفوف جماعة وخلق لحمة داخلية لها.

لدى العلويين في سوريا رواية خاصة مدعومة بوقائع تاريخية. ربما بالغت روايتهم هنا وهناك، وربما أضافت عناصر أو حذفت عناصر، لكن التاريخ الواقعي للعلويين يسمح بإنشاء مثل هذه الرواية التي تجد محلًا لها، بشكل أو بآخر، في وعي الأفراد، كما في وعي الجماعة، على نحو متشابه.

يوجد نقاط ارتكاز لبناء وعي داخلي ضحوي لدى العلويين الذين تتلمس روايتهم بداية الاضطهاد الجدي مع إصدار السلطان المملوكي الظاهر بيبرس مرسومًا ينص على أن الإسلام السني هو الدين الرسمي للإمبراطورية وأن أصحاب الديانات الأخرى مستبعدين عن المناصب العامة في التعليم والإدارة، وذلك عام 1266 م. وفي 1305 جاءت الصدمة التي مثلتها الفتوى الشهيرة لابن تيمية التي تعلن أن العلويين أشد كفرًا من اليهود والمسيحيين، وأشد كفرًا حتى من الكثير من المشركين، وأن جهادهم وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات. هكذا يتحول التهميش وسوء المعاملة إلى اضطهاد وقتل “منظَّر له” أو “شرعي”. ثم جاءت مجازر السلطان سليم الأول بعد الفتح العثماني لدولة المماليك في 1516، واضطرار العلويين إلى النزوح عن حلب وغيرها من المدن الكبرى باتجاه جبال الساحل الوعرة[9].

النظر إلى دور العلويين في تاريخ سورية المعاصر، على أنه دور جماعة دينية، يغفل حقيقة أن الخيط الجامع لهذه الجماعة ليس دينيًا بحصر المعنى. فهي جماعة غير تبشيرية، ولا تشكل تهديدًا أو غزوًا “دينيًا” للجماعات الأخرى. كما أن غالبية أبناء الجماعة غير “مُلقنين” ولا يعرفون تعاليم دينهم، ومنهم قسم كبير غير مبال دينيًا أو له موقف يتبرأ من الدين بعموم، فضلًا عن أن باطنية الدين العلوي تجعل من المستحيل معرفة محتواه الصحيح أو “الرسمي”، فلن تجمع النخبة الدينية العلوية بأي حال على أن محتوى نص ديني مسرَّب ومنشور هو المحتوى الديني العلوي الصحيح. سوف يبقى، على الدوام، في أي دين باطني، “باطنية” ما، لا يمكن كشفها، أو باطنية مفترضة لا يمكن التحقق من عدم وجودها. تمامًا كما لا يمكن كشف طوية إنسان لا يريد أن يعبر صراحة عن نفسه. وحتى إن أراد هذا الإنسان أن يعبر صادقًا عن طويته، فإن وجود شك لدى الآخرين حياله، يجعل صدقه بلا قيمة، ويبقيه في دائرة الغموض الأبدي. والحق أن امتناع زوال الشك حيال الباطنيين يكافئ امتناع انكشاف باطنيتهم.

على هذا يبقى قليل القيمة والجدوى البحثُ عن تفسير تماسك جماعة مذهبية وفهم سلوكها و”سياساتها” استنادًا إلى مضمونها العقائدي. الحق أن الانتماءات التي تورَّث تتشابه في آلية تشكيل الجماعة، وما أن تعي الجماعة ذاتها، وتتحسس خطوط تمايزها عن الجماعات الأخرى، حتى تتحول إلى جسد اجتماعي يستجيب للظروف السياسية، ولاسيما في مجال سياسي يقوم على الجماعات أكثر مما يقوم على الأفراد الأحرار، وفق المحددات السياسية الميدانية باستقلال كبير عن طبيعة الرابط المتوارث الذي يشكل الجماعة.

التباينات الدينية بين الفِرق في فهم وتفسير الدين الإسلامي، هي خلافات تخص نخبة محدودة من رجال الدين أو “العلماء”، ولكنها لا تشكل بذاتها ما يحدد هوية جماعة أو الوعي الداخلي الخاص بها. تبلور الجماعات ذات التسمية الدينية، يعود إلى عوامل قليلة الصلة بالدين بوصفه عبادة وطريقًا يوصل إلى الباري، ووثيقة الصلة بالتبلور الثقافي والاجتماعي المتمايز والذي يمكن أن يغذي صراعات سياسية هوياتية قد تصل إلى حدود الصراعات الإبادية.

القول إن الدين، بما هو كذلك، لا يشكل ما يحدد الجماعة العلوية، ينطبق على بقية الجماعات ذات التسمية الدينية، بما فيها جماعتا المذهبين العلنيين الرئيسيين، الشيعة والسنة. ومن المنطقي أكثر التعامل مع هذه الجماعات على أنها أقرب إلى الجماعات العرقية أو القومية التي تتفوق فيها الهوية الثقافية على الهوية الدينية[10].

وعلى الرغم من الفارق بين الرابط القومي والرابط الديني، يبقى أن التمايز الذي تشعره الجماعات (أكانت دينية أو قومية) في داخلها وإزاء الآخرين، مصدر لمشاعر تضامن وعداء مشتقة من العصب نفسه. وقد درجت في سورية لغة سياسية، لها مبرراتها، تنظر إلى الشعب السوري على أنه مجموعة “مكونات”، ولا تفرق هذه اللغة، المستخدمة في كثير من الكتابات، بين الجماعات الدينية والمذهبية وبين الجماعات العرقية والقومية[11].

في مثال الجماعة العلوية في سوريا يمكن الإشارة إلى التسلسل الشائع أو “النموذجي” الذي ذكرناه من قبل، نقصد وجود وعي داخلي بالظلم المديد، تسنده وقائع تاريخية وحاضرة، ثم توفر سبيل متاح لإعادة الاعتبار الذاتي عن طريق السلك العسكري عقب الانتداب الفرنسي وبعده، ثم وصول عناصر علوية إلى مواقع مهمة في الدولة السورية عبر هذا الطريق. تحققت، بعد ذلك، النقلة الأهم في السلسلة، وهي انقلاب عسكري أوصل أحد أبناء الجماعة (حافظ الأسد) إلى مركز الرئيس في الدولة السورية، وعلى اعتبار أنها دولة ذات نظام تسلطي، فإن هذا المركز يقرر كل شيء في سياسة البلد الداخلية، فضلًا عن كونه مركزًا “أبديًا” لا يمكن تغييره إلا بالعنف. وحين نجح الأسد في تفادي الانقلابات العسكرية (التي كانت وسيلة التغيير السياسي الأساسية)، فإنه ضَمِن بقاءه في موقعه، ولم يعد تغييره ممكنًا إلا عبر عنف من خارج الجيش، وهو ما واجهه نظام الأسد، بعد حوالي عقد من توليه الحكم، على يد جماعة إسلامية مسلحة اسمها “الطليعة المقاتلة” انبثقت عن الإخوان المسلمين السوريين.

في ظل نظام تسلطي، لا تستمر السلطة إلا بالعنف، ولا تسقط إلا بالعنف. وبما أنَّ السلطة الناقصة الشرعية تحتاج إلى تحريض عصبية هوياتية مناسبة تستند إليها، استند الأسد إلى عصبية طائفية علوية غير معلنة، في تشكيل النواة الصلبة لحكمه. مع الوقت، أشاعت سيطرة هذه النواة على مقدرات الحكم، إضافة إلى المنبت العلوي للرئيس، نوعًا من رد الاعتبار والثقة في الوسط العلوي، وقد غذت طغمة الحكم ذلك بعناية، وبلغة طائفية تحتية تلامس نزعة السيطرة بعد زمن طويل من الاضطهاد. كانت هذه اللغة مدعومة بوقائع وممارسات ملموسة. وكان من السهل أن يشعر العلويون بهذا التغير “الإيجابي” في حالهم نظرًا إلى الواقع البائس الذي كانوا فيه. وقد شاعت نادرة فكاهيَّة في سوريا أيام تسلُّط “سرايا الدفاع”، وهي قطاع عسكري مستقل عن الجيش تحت إمرة الأخ الأصغر للرئيس، دُمجت في الجيش السوري عام 1984، ومسؤولة عن كثير من الانتهاكات والممارسات القمعية في سوريا، تقول هذه النادرة، إن أحد عناصر سرايا الدفاع، وهو شاب انتقل من بيئته الريفية المهمشة ليصبح عسكريًا يخافه الناس، كان في طريقه مع خطيبته إلى دمشق في حافلة عموميَّة، وأراد أن يظهر لخطيبته أنه ذو شأن، فسألها بثقة، هل تريدين أن أوقف لك الباص كي تنزلي لقضاء حاجة؟

الأمر العادي الذي يمكن لأيٍّ كان أن يمارسه، وهو الطلب من السائق التوقف لأمر اضطراري، يتخذ في ذهن هذا الشاب قيمة كبيرة ناجمة عن قلة اعتبار ذاتي هو صدى لقلة اعتبار عام، بسبب تاريخ من التهميش العام المنقول والمعيش. كانت لقلة الاعتبار هذه أن ترده عن طلب كهذا، لشعور بالدونية وبأنه أقل من الآخرين في نظر نفسه، أما اليوم فلديه شعور بأنه ذو “سلطة” بوصفه من عناصر سرايا الدفاع، وهكذا يمكنه أن يتجرأ، ويطلب هذا الطلب العادي الذي لا يبدو له عاديًا، بل يراه مصدر تباه إذ يتحول في ذهنه إلى ممارسة سلطة. وفي حين يمكن لأي راكب أن يتدخل لدى السائق لمثل هذا الأمر الاضطراري، فإن الواقع الجديد لهذا الشاب، تجسد في حقيقة مركبة وهي أنه، في الواقع، لم يَحُز على حق يزيد عن حقوق بقية الركاب، ولكنه يفهم هذا الحق على أنه سلطة، ويمارسه على أنه كذلك.

يفيد هذا المثل في إدراك تصور العلويين عن أنفسهم على أنهم أهل سلطة (استيعاب حيازة حقوق عادية على أنها حيازة سلطة، على خلفية التهميش ونقص الاعتبار المزمنين)، وما يترك هذا التصور في النفس من أوهام. كما يفيد في إدراك تصور الآخرين عنهم بأنهم أهل سلطة (ممارسة الحقوق العادية بمنطق وأسلوب سلطوي). ليس الغرض من هذا القول بالطبع أن يغطي على حقائق تسلطية ذات خلفية طائفية، وعلى تسلط يتجاوز “الحقوق العادية”، وعلى تمييز طائفي كان له حضور مدروس، لكنه يريد تلمس معنى واسع الحضور في تصور عموم العلويين عن أنفسهم.

اللغة التحتية التي تستخدمها الطغمة الأسدية في الأوساط الخاصة، للقول إنها خرجت بالعلويين من التهميش إلى السيطرة، هو استثمار سلطوي في مشاعر “عموم” المهمشين بغرض تحويلهم إلى حراس للنخبة أو “حراس للقصر”، أي أن الريع الأساسي لهذا الاستثمار يعود إلى نخبة الحكم في الواقع، ولا يحوز عموم العلويين على ما يسد الرمق منه، ولكن نظرًا إلى الضحوية العلوية وإلى الشروط السياسية المكرسة في بلداننا، فإن هذا الاستثمار كان مجديًا ومربحًا لطغمة الحكم، على حساب البلد ككل، ومن ضمنه جمهور العلويين الذين يتصورهم عموم الآخرين، كما تصورهم كتابات كثيرة، ومنها كتابات أكاديمية، على أنهم “قوة سياسية مسيطرة”[12]، رغم ما في هذا التصور من تبسيط وكسل عن تأمل واقع الناس وعلاقات القوة المفي التكوين السياسي والاقتصادي والاجتماعي في سوريا.

السؤال الذي يطرح نفسه: ألا يمكن إعادة الاعتبار للفئات المهمشة في المجتمع السوري، ومنهم العلويون، من دون تغذية مشاعر السيطرة الفئوية؟ جوابنا أن كسر حلقة الضحية والسيد تتطلب مجهودًا وطنيًا كبيرًا تقوده نخبة غير تسلطية التوجه. ذلك أن التوجه التسلطي يدفع باتجاه الاعتماد على عصبية هوياتية لا يغذيها كلام المساواة، بل كلام السيطرة. يخرج من هذا أن أي مشروع سياسي يميز أو يضمر التمييز بين الجماعات الهوياتية في بلد متعدد الهويات، مثل سورية، سوف ينتهي، كما لو بحكم قانون، إلى تكريس الواقع المتردي وتكرار الحلقة الضحوية.

خاتمة

تزدهر في مجتمعاتنا ظاهرة الضحية الساعية إلى السيطرة والسيادة، نجاح كل مسعى من هذا النوع ينتج ضحايا آخرين. وتفسير ذلك أنه توجد تغذية متبادلة بين مجموعة من العناصر التي أنتجها واقعنا السياسي المأزوم، وراح يتغذى عليها في حلقة توالد خبيثة. التسلط السياسي يستند إلى عصبيات هوياتية، ويغذي بذلك بروز جماعات الهوية القسرية (الهويات التي تورث)، التي من شأن بروزها أن يفكك الرباط الوطني حين يجعل الحقل السياسي مجال صراع جماعات هوية وليس صراعات تقوم على الخيارات السياسية لأفراد أحرار في نشاطهم العام. النتيجة أن السيطرة في المجال السياسي لا تكون لفكر عام أو برنامج سياسي محدد قابل للمراجعة والنقد والتطوير، وخاضع للتقدم والتراجع بحسب ما ينعكس شرًا أو خيرًا على الناس، بل تكون السيطرة في حقيقة الأمر لمجموعة هوية قسرية تغلف سيطرتها بلغة عامة، كثيرًا ما تكون، في مبادئها وتطلعاتها المقبولة بل التقدمية والتحررية، مناقضة لما يُمارَس في الواقع.

هذه الحال تجعل من الجماعات الهوياتية المغلوبة “ضحايا” قابلة إلى بلورة ذاتها كضحية وإلى تعزيز “هويتها” الخاصة، والسعي إلى رفع الظلم عنها والانتقام لحالها حين تتاح الظروف، ولا يكون ذلك إلا من خلال فعل عنيف (انقلاب عسكري أو حرب أهلية… إلخ). هكذا تصبح مجتمعاتنا ملغومة بالعنف الذي لا يهدأ حتى يندلع من جديد، وتصبح اللغة السياسية المتداولة، في نظر الجماعات إلى بعضها البعض، مجرد حُجُب وذرائع من أجل غايات مغايرة بالكامل لمنطوقها، الأمر الذي يدمر الثقة بين الجماعات فتنسب كل فاعل عام من خارجها إلى مرجعية غير سياسية تضمر السيطرة والغلبة، مهما كانت اللغة المنطوقة. من شأن هذا أن يقتل أي برنامج أو فكر سياسي مطروح في المجال العام. الأمر الذي يفسر ما يشيع بين السوريين من فهم أي كلام سياسي ليس من مضمون موضوعي له، بل استنادًا إلى هوية قائله.

في ظل سيادة علاقات سياسية تسلطية، لا تستقر فيها سلطة من دون أن تعتمد على عصبية هوياتاية ما، فإن تطلع الجماعات المغلوبة (الضحايا) إلى إزالة الظلم عنها، ينطوي، بطبيعة الحال، على حلم سيطرة، الأمر الذي يغذي من جديد الحلقة الخبيثة نفسها.

المشاريع السياسية التي تستجر طاقتها من الضحوية تنتهي عادة إلى إنتاج المزيد من الضحايا، وتغذي بذلك دائرة لا تنتهي من الصراعات الهوياتية المدمرة، التي لا تخرج من واقع إلا كي تنتج واقعًا مشابهًا.

المراجع

1- تورشتين شيوتز وورن، العلويون، الخوف والمقاومة، كيف بنى العلويون هويتهم الجماعية في سورية، ترجمة ماهر الجنيدي، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، الطبعة الأولى 2018.
2- جورج قرم، تعدد الأديان وأنظمة الحكم، دار النهار للنشر، بيروت 1992، الطبعة الثانية، ص9.
3- عبد الباقي صالح اليوسف، الانفجار السوري، الهوية الانتماء، الكرد، الدولة الوطنية، والتسوية التاريخية، مركز أشتي للدراسات والبحوث، دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، 2017.
4- عزمي بشارة، الدولة العربية، بحث في المنشأ والمسار، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2024، ص 289.
5- The Alawi Community of Syria: A New Dominant Political Force
https://www.jstor.org/stable/4282993.

1- عندما نستخدم “نا” الدالة على الجماعة هنا، يمكن للقارئ أن يتخيل أي جماعة تعي نفسها بالتمايز عن غيرها وتعيش جماعةً ويعيش أفرادها، بحسب مجرى التاريخ الواقعي، ظروفًا إلى الأحسن أو إلى الأسوأ، بوصفهم جماعة متمايزة. ما يعني أن كل جماعة تحاول أن تستخلص من التاريخ ما يساعدها على تحسين شروطها، وقد يكون في ذلك انعكاس سلبي على شروط حياة غيرها من الجماعات. ويمكن فهمها على أنها “نا” الدالة على البشرية بوصفها جماعة تتوق إلى مستقبل أفضل. على أن الفهم الأخير قليل الحضور وقليل الطاقة قياسًا على الأول.
2- كان في السلمية التامة للدعوة المحمدية في المرحلة المكية ملمحًا “ضحويًا” واضحًا أسس لانطلاق المرحلة “القتالية” التالية. يمكن العودة إلى كتاب راتب شعبو، “دنيا الدين الإسلامي الأول”، الصادر عن دار شرق وغرب، دمشق 2013، للتوسع في شرح هذا الجانب. هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة، مثلًا، هذا القرار الذي حير الباحثين، تجد تفسيرها في هذا الجانب، ذلك أن تزايد عدد المؤمنين بالدعوة المحمدية في مكة، كان يمكن أن يقود إلى تفجر صدامات بينهم وبين القرشيين الآخرين، الأمر الذي من شأنه أن يفسد صورة الضحية الجاذبة للتعاطف والاهتمام، ويفسد الحامل “السياسي” الأولي للدعوة، فكان قرار محمد، وقد وجد أن إيقاع دخول الناس في الدعوة، تجاوز إيقاعها الخاص، بإبعاد عدد كبير من أتباعه إلى الحبشة، لتفادي نشوب صدامات كان يمكن أن تسيء لصورة الدعوة وتعرقل تقدمها.
3- جورج قرم، تعدد الأديان وأنظمة الحكم، دار النهار للنشر، بيروت 1992، الطبعة الثانية، ص9.
4- عزمي بشارة، الدولة العربية، بحث في المنشأ والمسار، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2024، ص 289.
5- المرجع السابق: ص 310.
6- نقلًا عن المرجع السابق: ص 311.
7- الهويات التي يرثها الفرد بالولادة (دين أو عرق… الخ). هذا النوع من الهويات لا يخضع لتحديد داخلي فحسب، بمعنى شعور المرء بانتمائه إلى جماعة ما، بل لتحديد خارجي أيضًا، يشكله الآخرون الذين يرسمون حدودًا خارجية للهوية ويحبسون الفرد في الهوية التي ولد عليها.
8- تحيل هذه المفردة إلى الماضي، وشيوع استخدامها في المجال السياسي عندنا دليل على جاهزية الجماعات للحضور كفواعل سياسية.
9- يذكر هذه الوقائع تورشتين شيوتز وورن (Torstien Schiotz Worren) في كتابه (العلويون، الخوف والمقاومة، كيف بنى العلويون هويتهم الجماعية في سورية) الصادر عن ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، ترجمة ماهر الجنيدي، الطبعة الأولى 2018، في الصفحة 106. ويستند وورن إلى رواية شخصيات علوية. هذه إذن معلومات مستقرة في وعي نخبة من العلويين تهتم إلى حد ما بتاريخ الجماعة، وإن كانت أغلبية العلويين لا تعلم بالضبط هذه المعلومات، لكن يستقر في وعيهم أن العلويين كانوا مضطهدين وتعرضوا لمجازر، وما إلى هذا.
10- (العلويون الخوف والمقاومة) مصدر سابق، ص33.
11- من الأمثلة على ذلك كتاب الكاتب والقيادي الكردي عبد الباقي صالح اليوسف، الانفجار السوري، الهوية الانتماء، الكرد، الدولة الوطنية، والتسوية التاريخية، مركز أشتي للدراسات والبحوث، دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، 2017. الكتاب يعرض اقتراحًا يسميه (تسوية تاريخية)، هو الديموقراطية التوافقية التي تجمع بين الديموقراطية والفيدرالية بناء على فكرة المكونات المذكورة.
12- من هذه الكتابات التي تغني كثرتها عن الاستشهاد، وقعت، من خلال التجول في الإنترنت، على كتاب مترجم عن الإنكليزية لأستاذ في جامعة أمريكية. محمد فكش، بعنوان (الطائفة العلوية في سوريا: قوة سياسية جديدة مسيطرة).
The Alawi Community of Syria: A New Dominant Political Force
https://www.jstor.org/stable/4282993

  • كاتب سوري يعيش في فرنسا منذ صيف 2014، أمضى في سجون النظام السوري 16 سنة (1983- 1999)، خرج منها مجردًا من حقوقه المدنية، تابع دراسته بعد السجن وحصل على شهادة الماجستير في الطب، صدر له سيرة ذاتية عن مدة السجن بعنوان (ماذا وراء هذه الجدران)، وكتاب يتناول الجانب السياسي من الدعوة المحمدية (دنيا الدين الإسلامي الأول)، وكتاب (قصة حزب العمل الشيوعي في سورية)، له ترجمات عن الإنكليزية، ويكتب في الصحف العربية.

مشاركة: