ملخّص
شكّلت فكرة الهجوم على فلسفة التاريخ الغربي، وخاصة بشكلها الجدليّ الهيغليّ، نقطة انطلاق الثورة الفكرية التي أنتجت خلال القرن العشرين عديدًا من مجالات الدراسات النقدية التي تهاجم المركزية الأوروبية وخطاب التفوّق الثقافي الغربيّ. والبديل الذي تقدّمه هذه الدراسات هو تاريخ المهمّشين والأقليات والمستضعفين، أو بصفة عامة تاريخ الضحيّة التي تناضل لاسترداد تاريخها وذاكرتها من يد الهيمنة الاستعمارية. ولكن التسليم بهذه الصورة المثنوية التبسيطية للعالم يتجاوز عددًا من الأسئلة التي ينبغي طرحها. أحد هذه الأسئلة يتناول على نحوٍ خاص مسألة التاريخ؛ فالتصوّر القائم على أساس أنّ الغرب يكتب تواريخ الضحايا الذين لا حول لهم ولا قوة هو صورة غاية في التبسيط، لأنه من جهة يضع جميع “الآخرين” أو خصوم الغرب في مرتبة واحدة هي مرتبة الضحية، ومن جهة أخرى يتجاوز هذا التصور تعقيد مسألة هوية “الضحية” ومفهوم المعرفة وتأويل التاريخ، كما يفترض جدليًا أنّ البشر عمومًا يعملون باجتهاد لمعرفة الحقيقة.
ولكن هل تريد “الضحية” فعلًا أن تعرف تاريخها وتعيد نبشه، وما هي الذاكرة التاريخية التي تريدها، وما مفهومها للمعرفة التاريخية ضمن السياق العربيّ؟ عمل هذا البحث على تفكيك مفهوم هوية الضحية ومناقشة مسألة التماهي غير المبرّر بين مجموعات بشرية وتاريخية مختلفة تحت هذا المسمّى، وسيقدّم تصوّرًا عن علاقة هذه “الضحية” (العربية) بمفهوم التاريخ. وقد بيّن البحث أنّ المجتمعات العربية عمومًا لا تنطبق عليها صورة الضحية الثقافية-التاريخية في علاقتها مع قوة تسعى لإعادة كتابة تاريخها، فعلى النقيض من بعض المناطق الأخرى في العالم التي عانت من العبودية و/أو لم تملك تاريخًا مكتوبًا قبل الغزو الغربي لها تتميز المجتمعات العربية بحضور كثيف وفائق جدًا لتاريخها الذاتي لا بل، على العكس تمامًا، تعاني عدم القدرة على “طمس” ما كان ينبغي له أن يذهب في غياهب الماضي.
مقدّمة
يشكّل خطاب “الضحيّة” وما يحتويه من مفهوماتٍ ومصطلحات جزءًا أساسيًّا من الخطاب السياسي والثقافي المعاصر، فهو حاضر اليوم في كل مكان، وهو إلى جانب كونه يشكل عصب دراسات قائمة بذاتها في الدراسات الأكاديمية في فروع مختلفة من الأبحاث الجنائية إلى الدراسات النقدية والثقافية، يشكّل أيضًا جزءًا مكوّنًا من خطابات الهويّة المعاصرة والمسائل المتعلّقة باللاجئين في الدول الغربية وغير ذلك مما يدور في فلك العلاقات بين الثقافات والدول. ولعلّ من أهم السياقات التي يغزوها مفهوم الضحية على نحوٍ صريح أو ضمنيّ هي تلك المتعلقة بالنقد التاريخي والهوية الثقافية، وهذان سياقان متشابكان لا يمكن فصلهما، وخاصة ضمن الخطاب العربيّ الذي تمتزج فيه أسئلة التاريخ والتراث والصراع مع الغرب في صلب فهم الهوية الثقافية الحديثة خلال القرنين الأخيرين. ولعلّ في كتاب جورج طرابيشي “المرض بالغرب” مثالًا من أمثلة عديدة تلخّص خطاب الضحية في العالم العربي، وإن كانت أغلب أمثلة طرابيشي تتعلق بشقّ واحد يتمحور حول الخطاب العصابي الذي يصوّر العرب ضحية اعتداء جنسيّ رمزيّ متكرر، يكاد يعبّر عن حالة جوهرانية[1]. والتركيز في هذه الدراسة سيكون على نحوٍ خاصّ على الضحية بوصفها مفهومًا ثقافيًّا-تاريخيًّا ضمن التصوّر العربي-الإسلامي، وليس بالمعنى السياسيّ أو العسكريّ، على افتراض أنّه يمكن أن تكون منطقةٌ ما أو مجموعةٌ بشرية معينة ضحيةً عسكريّةً أو سياسيةً لقوة كبرى ما في زمن ما من دون أن تكون في الوقت ذاته ضحيّة بالمعنى الثقافيّ-التاريخيّ الذي يفترض تهميشًا ثقافيًا واستهدافًا مزوّرًا أو طامسًا لتاريخها. إضافةً إلى ذلك، فمن الأهمية بمكان التشديد هنا على أنّ المقارنات والخلاصات الناتجة من هذا البحث ينبغي ألا تقرأ في ظلّ أحكام قَيَميّة مطلقة تحيل على مثنويات الصحيح والخاطئ أو الجيّد والسيئ، وذلك لتعدد المناحي والتطبيقات والنتائج الثقافية والتاريخية التي يمكن أن تنتج من كل نموذج حضاريّ، من دون إهمال حقيقة وجود آليات تراجيدية (فوضوية) يمكن أن تفضي بظاهرة إلى ما يناقضها ويخدمها من الداخل. بحيث تتحول الثقافة الرفيعة إلى حالة من الانحطاط الثقافي في حين تتحول الحالة الفطرية الطبيعية إلى حالة ثقافية بالغة الجمود والبعد عن الطبيعة.
يمثّل سمير الزبن خطاب الضحية أفضل تمثيل، ملخصًا في الوقت عينه فكر فرانز فانون، مؤكدًا أنه:
في قضايا الاستعمار والتحرّر الوطني، هناك مُستعمِر ومُستعمَر، ضحية وجلاد، معتدٍ ومعتدى عليه، ظالم ومظلوم. وبالتأكيد، هما ليستا قوتين متساويتين على طرفي جبهة حرب، تخوضان حربًا فيها منتصر ومهزوم. تحديد الأساس المكون للصراع، وموقع الأطراف المتصارعة فيه، هو الذي يحدد طبيعة الخطاب السياسي الذي يحتاج إليه الطرف الذي يخوض الصراع، وتحديدًا عندما يكون هذا الطرف هو الضحية[2].
وفي هذا التصوير يغلب ما يمكن تسميته الوصف الجنائي لمسرح التاريخ وعزل اللحظة المعاصرة عن السياق العام، فتكون الضحية هي التي تُقتَل وتسيل دماؤها والجاني هو الذي يضغط على الزناد أو يمسك السيف ويقتل. ومن هذا المنظور يكون الوصف صحيحًا. ولكن حتى في عالم البحث الجنائي لا يمكن الاقتصار على لحظة من لحظات العلاقة بين الطرفين. وإذا كان إصدار حكم المحكمة يحتاج على نحوٍ رئيسٍ إلى نهاية القصة والصورة الأخيرة ليصدر حكمًا، فإنّ تاريخ العلاقة بين الجاني والمجني عليه يمكن في بعض الحالات أن يؤدّي دورًا في تغيير الصورة. فهذا التعريف المثنوي يغفل عنصر تضافر الأضداد ambivalence الذي تشير إليه ديان إِنس في معرض تقديم كتابها “عنف هوية الضحية” The Violence of Victimhood والذي يدل على أنّ الضحية يمكن أن تكون جلادًا في الوقت عينه[3]. وهنا تجدر ملاحظة التعريف الذي يقدمه “مركز ديناميكيات التمكين”، فهوية الضحية أو وعي الذات كضحية victimhood هو أمر مختلف كليًا عن وقوع الإنسان ضحية لشيء معين victimization، لأن تلك الهوية عبارة عن طريقة حياة وهوية ذاتية “تفترض أن المرء عاجز عن اختيار استجاباته لتحديات الحياة”[4]. والمسألة هنا تتعقّد بعض الشيء حين لا تترافق هذه العقلية بأشكال تقليدية لخطاب الضحية؛ فهذا الخطاب يمكن أن يتخذ أشكالًا تمويهية تقوم على المبالغة في إطلاق الشعارات التعبوية والصيحات البلاغية التي تقوم مقام الفعل الحقيقي، الأمر الذي يجعل وضوح هوية الضحية يضيع بين الأصوات العالية والصور المجازية المبتكرة أو تلك التي تحيل على التراث، مع استمرار الوجود الفعلي لهذه الهوية.
الضحيّة مفهومًا وهويةً ملتبسة ضمن السياق العربي
يؤكد يان فان دايك أنّ مفهوم الضحية في الفكر الغربي مرتبط أساسًا بالفكرة المسيحية عن المسيح بوصفه ضحية، وضمن هذا التصوّر فإنّ “الضحية” كمفهوم اجتماعي يسم شخصًا ما بسمات أهمها السلبية ووجوب الغفران، وهكذا تكون “الضحية المثالية في الثقافة الغربية… هي شخص يعاني بصمت… أو تترك حقها الطبيعي بالانتقام من المعتدي”[5]. هذه الصورة الانسحابية للضحية تتحول في الخطاب السياسي التحرري وما بعد الاستعماري إلى صورة معاكسة تمامًا؛ فالضحية فاعلة، ولكن فقط من خلال كونها ضحية، ولديها رخصة مطلقة لكل ما يمكن أن يفسَّر بأنه كفاح ضد الاستعمار والهيمنة، وفي الزمن المعاصر رخص لنيل حقوق معيّنة بناءً على هويّتها كأقلية أو مجموعة هامشية أو مستضعفة وما إلى ذلك. والضحية التي ينتقد فان دايك قولبتها في إطار ضاغط يجبرها على الغفران والصمت تصبح عند فانون جاهزة لممارسة “العنف المطلق”[6]. لا بل إنها في مرحلة ما تصبح قادرة على رفض كلّ ما من شأنه ألا يسلّم لها تسليمًا مطلقًا بحقها المطلق في الانفجار في وجه الهيمنة. ولعلّ هذه الحالة الإطلاقية التي تتملّك “الضحية” تسمح لها بأن تتحول بسهولة إلى مواجهة ثقافة الأجنبيّ المهيمن بالرفض المطلق لكلّ ما تتضمنه؛ فالأنثروبولوجيا مثلًا تصبح في حدّ ذاتها استعمارًا أو توأمًا له،[7] و”الضحية” هنا غير مضطرة إلى مساءلة مقولات الأنثروبولوجيين في حد ذاتها، ربما لأنّ هذه المساءلة نفسها تتضمن استعمال لغة ومصطلحات وأساليب محاججة ابتكرها المهيمن نفسه. ومن نتائج هذا أن تصير العقلانية مثلًا ابتكارًا أوروبيًا محضًا يمكن رفضه بناء على أصله، وهكذا تدخل الضحية في حلقة مفرغة من الانفصالات المتتالية ليس عن المفاهيم فحسب بل عن استعمال اللغة ذاتها، وذلك لئلّا تقع في الشكل الغربي للكلام[8]. وفي كلتا الحالتين تتحول “الضحية” إلى إطار نظريّ مجرّد مفارق للواقع البشري، ولا يأخذ في الحسبان تعقيدات والتباسات الواقع؛ فالضحية التي تعدّ جميعَ أملاك الظالم أو الدولة المهيمنة رصيدًا يستعمله الظالم في القمع وبذلك ينبغي تدميره، لا تأخذ في الحسبان واقع الحياة الملتبس الذي قد يتضمن أنّ هذه الأملاك نفسها لا يمكن تدميرها لأنّها تزوّد أي مجتمع قائم بسبل الحياة الضرورية، وهي ضمن سياق زمني ما غير قابلة للاستبدال أو التعويض أو التجديد في حال تدميرها (مثال: سدّ الفرات في سورية، أو شبكة الطرق التي أقامها الاستعمار في الأردن أو مصر أو الجزائر).
وبمغادرة النطاق النظري، والدخول في حقل التجربة التاريخية والسياسية، يمكن ملاحظة الالتباس في هوية الضحية في عديدٍ من المصطلحات أو الافتراضات التي لا تساعد في الحقيقة في فهم الواقع والتعامل معه؛ فهكذا تصبح فجأة منطقة مثل سورية عند بعض معتنقي التصورات ما بعد الاستعمارية جزءًا من “الجنوب العالمي” وفي مصاف جزر الكاريبي ودول أفريقيا جنوب الصحراء؛ و”الأمة العربية”، المجاورة جغرافيًا للغرب الأوروبي، والمتفاعلة دينيًا وثقافيًا معه، والتي كانت نواة إمبراطوريات ودول متعددة خاضت معارك طاحنة مع ممالك أوروبية متعددة—تصبح فريسة للاستعمار الغربي تمامًا كما لو كانت الهند البعيدة عن الغرب والتي استيقظت فجأة على الشركات والجيوش البريطانية الغازية أو كانت شعوب أميركا الجنوبية وقد استيقظت على السفن الإسبانية الباحثة عن الذهب وأحلام الإلدورادو. فهل يمكن مثلًا المساواة بين إيالة الجزائر التي كانت تمتلك أساطيل بحرية تنزل الخوف في قلوب الخصوم والأعداء بسكان أميركا الشمالية والوسطى والجنوبية الأصليين الذين يعيشون حياة بدائية أو شبه بدائية، ولم ينخرطوا يومًا في علاقة مع أوروبا؟[9] أو بين سكان أستراليا الأصليين ومناطق شمال أفريقيا و”جهادها البحري” قبل وبعد سقوط الأندلس حين كان بعض “المجاهدين”، بمبادرات شعبية أو بوصفهم مقاتلين ضمن جيش الدولة أو السلطة، وكان بعضهم ذوي علاقات جيدة مع الهولنديين وغيرهم، “يلقون الرعب في الشواطئ الإسبانية حيث يهاجمونها ليلًا، فيقبض بعضهم على الرجال، ويسبي آخرون النساء والذرية ويستولون على المتاع، وقد يترصدون للسفن القادمة من أميركا وعلى متنها سبائك الذهب فيستولون عليها، ويقتادون البحارة إلى الأسر”؟[10].
ولهذا من المشكوك به أن يستطيع الدارس العربيّ أن يعدّ المبادئ والمفهومات التي تنتشر في الدراسات التي تهدف إلى إبراز وقوع كثيرٍ من شعوب “الأطراف” و”الجنوب” ضحية ثقافية وتاريخية للاستعمار—أن يعدّها قابلة للتطبيق المباشر على بلاده العربية وأن يعدّ أنه بإمكانه التماهي معها لمجرّد وجود صراعات سياسية وعسكرية بين بعض البلدان العربية والدول والقوى الغربية الكبرى. هذا التماهي غير الحذر يمكن أن يجعل مجتمعات عربية عديدة ذات باع طويل في تجارة العبيد ضحية ثقافية وجزءًا من “الجنوب العالمي” كما لو كانت هي نفسها التي تعرّضت للاستعباد أو كما لو كانت مماثلة لجزر الكاريبي في الموقف من الهيمنة الغربية وبما تعرضت له من الاستعمار الغربي، والتي تعرضت لقرون من العبودية والفصل العنصري، وصاغت لذلك منهج كفاحها ما بعد الاستعماري على أساسات أوروبية قائمة على حقوق الإنسان والفكر الأوروبي المتأثر بالهولوكوست[11]. وقد يجوز القول في هذا المقام أنه بالمقارنة مع أفريقيا والكاريبي والهند وسكان أميركا الأصليين ومناطق أخرى في العالم تبدو تجربة أغلبية المجتمعات العربية، عدا بعض البقاع في شمال أفريقيا (التي كانت كما ورد أعلاه فاعلة في مواجهة طويلة مع القوى الغربية)، ثم فلسطين لاحقًا، وهذه الأخيرة لها وضع خاص ناجم عن وجود عنصر دينيّ حسّاس—تبدو هذه التجربة (الانتدابية والاحتلالية) أشبه بمشكلة استغلال طبقي ضمن إمبراطورية واحدة أكثر من كونها مشكلة استعمارية-استعبادية تصلح موضوعًا للدراسات بعد الاستعمارية؛ فنظرة الأوروبيين لمناطق شرق المتوسط ومصر لا تختلف في كثير من الأحيان عن نظرة برجوازيي أوروبا في فترات من القرون الحديثة إلى فلّاحي وعوامّ بلادهم وللمكامن الريفية لأساطيرهم الذاتية في الماضي البعيد[12]. فمصر وسوريا وبلاد الرافدين وبلاد الإغريق كانت مجالًا خصبًا للمخيال الأوربي الباحث عن عصر ذهبيّ ماضٍ، خارج بلاده في الشرق الأدنى، وداخلها في الريف من حيث نبت “الشعب” The Folk/Das Volk، يفضّل بعضها وينبذ بعضها الأخرى بحسب الحقبة الزمنية والحافز المحرّك[13]. ولكن بالنتيجة كانت علاقة الغرب بالشرق الأدنى، بحلوها ومرّها، علاقة جدلية تتعلق بالأصول والتأثيرات عبر آلاف السنين، ولا يمكن اختزالها بعلاقة استعمارية وبنموذج الجلاد-الضحية أو السيد-العبد أو الشمال المهيمن-الجنوب العالمي، بالمفهوم المعاصر. فحتى البؤس الاقتصادي في سوريا إبان الاحتلال الفرنسي يحتاج إلى أكثر من حكم قيمة مبني على خطاب ما بعد استعماري جاهز لمعرفة ما إذا كان هذا البؤس “استعماريًا” في جوهره أم أنه جزء من البؤس العمالي والفلاحي العالمي في تلك الفترة الزمنية التي شهدت في أوروبا والولايات المتحدة صعود نجم الكفاح العمالي والنقابي، بالإضافة إلى الحاجة إلى دراسات أكثر عمقًا حول مسؤولية كل من المحتل الفرنسي والإقطاعي وصاحب المعمل المحليّ[14].
والواقع أنّ تحوّل مفهوم “الضحية” إلى مفهوم أيديولوجي له نصيب كبير من المحتوى النظريّ المجرّد هو ما يسمح بهذه الاختلاطات التاريخية والواقعية، بحيث يصبح ابن شرق المتوسّط، وهو تاريخيًا وثقافيًا سليل ثقافات المتوسّط المتشابكة، ساعيًا إلى تكوين هويته كضحية للهيمنة الغربية، بدل أن يتخذ موقفًا يطالب من خلاله، نفسه أولًا قبل غيره، بأنّ يستردّ، أمام نفسه أولًا، هويته كشريك في صناعة الحضارة وأن يعمل على نحت هويّة تستلهم بشجاعة جزءًا من ماضيه الحقيقي. وهذا بالطبع يعني أنّه لا يستطيع أن يقوم بما يقوم به الهنديّ أو الكاريبيّ أو أحد سكان أميركا الأصلية—لا يستطيع أن يعتبر الإرث العقلاني الغربي إرثًا مهيمنًا وأجنبيًا تمامًا فُرِض عليه فرضًا كاملًا؛ فهو لا يمتلك “ترف” أن يعتبر نفسه ابن قارة بعيدة استيقظ سكانها فجأة على أقوام أجنبية غازية ربما لم يسمعوا عنها في حياتهم. موقف كهذا هو تنصّل من مسؤولية حمل عبئه التاريخيّ والثقافي الذي يريد من الآخرين، كونه يرى في نفسه مجرّد ضحية، أن يحملوه؛ وهكذا فهو يريد من الغربيّ أن يقدّم اعترافًا عادلًا وكاملًا بكامل جذور حضارته الحديثة والمعاصرة، كون “الاعتراف بالجذر الثالث العربي-الإسلامي للحضارة الغربية… ما زال خارج المناهج الدراسية المعتمدة في أوروبا والولايات المتحدة”، وقد يكون هذا مطلبًا محقًّا، من منظور ما على الأقل، ولكنه لا يريد أو لا يطالب ثقافته بتقديم اعتراف عادل وكامل مماثل بجذورها الحضارية. والاعتراف هنا ليس مجرّد تناقل شفهيّ لحقيقة تاريخية ما، بل يعني اتخاذ إجراءات واقعية وملموسة على أصعدة متعددة، ليس أقلّها المناهج الدراسية والأبحاث العلمية العالية وغير ذلك من نتائج سياسية داخلية ممكنة[15]. وهذه الناحية تحديدًا تؤدّي إلى بحث مسألة التأريخ وفلسفة التاريخ في الثقافة العربية-الإسلامية ولكن بعد التطرّق إلى أحد أهم ركائز هوية الضحية وهي فكرة خطاب التفوق الغربي المؤسس على فلسفة عنصرية الجوهر.
الضحيّة الثقافية-التاريخية وخطاب التفوق الأوروبي
يرتبط مفهوم “الضحية” في المفهوم ما بعد الاستعماري بمسألة التاريخ والكتابة التأريخية، واستدعاء المفهوم الأول يتطلب عاجلًا أم آجلًا استدعاء الثاني. وجوهر المسألة هو القول بأنّ الحداثة الأوروبية بما أتت به من استعمار غربيّ لبقاع عديدة من العالم تقوم على بعد عنصري يقوم في صُلبه على اعتبارات تاريخية فوقية وعنصرية ترى في التاريخ الأوروبي نسخًا لتواريخ القارات والشعوب الأخرى التي أصبحت بناء على هذا مجموعة من مهمّشي الأطراف والأتباع[16]. ويكفي بحث عاديّ على شبكة الإنترنت لاكتشاف عدد لا يحصى من المقالات بالعربية، تأليفًا وترجمةً، تتحدث عن عنصرية الفلاسفة الأوروبيين وفلسفة التاريخ العنصرية عند هيغل وغير ذلك، بما يعني في نهاية المطاف أنّ العالم كلّه (وضمنيًا البلاد العربية) عانى وما يزال يعاني من عنصرية غير عادية يتميز بها الأوروبيون؛ فهذه مقالة مترجمة تنقل لقارئها “عنصرية” شيلر غير العادية حين يعتبر أن في الناس قومًا “تسيطر عليهم الغريزة”[17]. كما يبيّن أحمد عبد الحليم عطية جميع جوانب عنصرية فلسفة هيغل وأثرها في نشوء الأيديولوجيات الغربية العنصرية والقومية في الغرب ناقلًا قولًا يفيد أنّه “من الضروري وضع الفلسفة الهيغليّة حول تاريخ الشرق في موقعها التاريخي المناسب” وأنّ هذه الفلسفة “المغرقة في عنصريتها” لم تكن مجرد آراء شخصية لهيغل بل هي “الوريثة الشرعية” لكل الفكر العنصري المركزي الأوروبي وأحد أهم أساسات الاستعمار الإمبريالي اللاحق[18]. ويصل أمر إضفاء الغرابة والانعزالية على الفلسفة الغربية إلى درجة تخيّل أنّ الفلسفة ستقوم يومًا ما بـ”الرحيل” عن أوروبا وترجيح استقرارها في أفريقيا التي تمتلك رؤية “كونيّة”، تجلّت في ذهاب جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية بناء على رؤية فلسفية، قادرة على إنقاذ الفلسفة من “العنصرية” الأوربية[19].
إنّ هذه “الصدمة” العربية من آراء الفلاسفة الغربيين تبدو قائمة على أمرين اثنين: الأول شعور مضمر أو صريح بكينونة الضحية التي تعرّضت ولا تزال تتعرض لأقسى أشكال العنصرية، والثاني هو استنادها على نقد أوروبيّ ذاتيّ لأسس الحداثة الأوروبية يهتمّ بأدنى تفاصيل اللغة والمصطلحات والعبارات ضمن مراجعة ضخمة للخطاب الأوروبي الفلسفي واللغوي والنظري بشكل عام بعد الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى قراءة النتاج الفكري والفلسفي الصادر من شخصيات عالمية أفريقية وهندية وغير ذلك. وإذا كان النقاد الأوروبيون يحاولون “تنظيف” تاريخهم الحديث مما يعتبرونه أساسات لبنى فكرية قادت بشكل أو بآخر إلى الفاشيّة والحرب العالمية الثانية وما حصل فيها من فظائع، فإنّ الناقد العربيّ العارف جيدًا بتاريخه وآدابه لا ينبغي أن يصاب هو أيضًا بنفس “الدهشة” التي يصاب بها الأوروبي المعاصر حين يقرأ عند شيلر على سبيل المثال مفردة “الهمج” أو يقرأ عند هيغل الكثير من العبارات التي تحيل على جوهرانية يمكن تأويلها إلى عبارات عنصرية فجّة يمكن بالتأكيد استخدامها لخدمة مشاريع سياسية؛ فالمثقف العربيّ يعلم جيدًا (أو ينبغي أن يعلم جيدًا) أنّ الأدب العربيّ، والتراث المكتوب بالعربية عامةً، يحتوي أيضًا على مصطلحات ومفردات مثل “الهمج” و”الرعاع” و”الدهماء” للتعبير عن حالات شبيهة أيضًا بما يعبّر عنه شيلر، ففي التراث “النَّاسُ ثَلَاثَةٌ – فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ومُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ اَلْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَؤوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ”، ولعلّ المراقب الخارجي لن يفشل في التحقق من صوابية هذا القول[20].
وكذلك فإنّ الموروث العربيّ يحتوي أيضًا على إطلاق أحكام جوهرانية على الأقوام، أكان هذا الأمر يرد على نحوٍ إيجابيّ أم سلبيّ، ولا يبدو أن الثقافة العربية قامت بمراجعة حديثة لهذا الموروث كما فعلت وتفعل أوروبا، مرغمة أو راضية، وهذا يظهر في عين الخطابات التي تحكم على الفلسفة الغربية بالعنصرية وترى في عِرقيّتها صفة أصيلة ومتعلقة بنواحيها كافة وبجميع ما ينتج عنها في حيز الثقافة والتاريخ ومفهومات العقل والعقلانية ونظرية المعرفة وغير ذلك. وفي الأدب الموروث يرد مثلًا حوار يَنسب على سبيل المثال فضائل وصفات معينة للعرب دون غيرهم وأخرى للترك وثالثة للفرس وغيرها للروم أو الزنج الذين يميّزهم “الصبر والكّدّ والفرح” ولكن “غلبت عليهم الفُسولة [أي قلة المروءة وضعف الهمّة] وشاكلت [أمّتهم] البهائم الضعيفة”، وهكذا دواليك، رغم أنّ المتحدث في إحدى المناسبات واعٍ جيدًا بعدم انطباق تلك الصفات على كل فرد من أفراد جنس بعينه[21]. ولا شك في أنّه يمكن تبرير ذلك بالإشارة إلى الزمن وطبيعة المجتمعات ضمن أزمنة معيّنة، ولكن هذا التبرير في ذاته يدعم تمامًا فكرة التقدم الأوروبية، واستخدام تبرير كهذا يقدّم حجة دامغة ومجانية لمصلحة عقيدة التقدم والفلسفة الهيغلية[22]؛ فأحد أعمدة عقيدة تقدم التاريخ يستند على القول بأن للزمن الماضي أخلاقه وقيمه ومفرداته وأن الزمان يتجه ارتقائيًا نحو المعرفة المطلقة والأكمل في نهاية التاريخ، لأنّ الفرد البشري والظاهرة البشرية تجاوز مستمرّ للحدود والأشكال التاريخية[23].
في هذا المقام يبدو عنف الهجوم على الفلسفة الغربية نوعًا من زيادة تأكيد المكانة الخاصة لهذه الفلسفة، وإلا ما هو مبرّر هذه النظرة التي لا ترضى إلّا بأحد قطبين: إما الإنسانية المطلقة المجرّدة من أي عنصرية (وهي واحدة من كثير من المثالي التي يمكن أن تميّز النشاط ضمن مجموعة بشرية معينة) أو فلترحل الفلسفة إلى مكان (فردوس أخلاقي؟) آخر يستحقّها؟ ولعلّ الذي يرى في نفسه ضحية للفلسفة الغربية سيجد نفسه في موقع المضطر إلى البرهنة على أنّ عنصرية الفيلسوف مرادف لخطأ ما يقول هذا الفيلسوف في شؤون التاريخ والثقافة وحركيّة المجتمع؛ فصفة العنصرية لا تُسقِط تلقائيًا مقولة ما أو نسقًا فكريًا معينًا.
كتابة التاريخ أم التوق إلى اللاتاريخ؟
إنّ إصرار الطرف المقهور على هوية “الضحية” يحمل في جوهره إذًا دعمًا إضافيًا لسيادة السيّد المفتَرَض، ويمنح السيّد المهيمن اليد العليا في تحديد سلوك “الضحية”، التي وإن كانت تقف في الطرف المقابل للسيد، وقد تصل إلى مرحلة الفعل المتمرّد، فإنها مع ذلك تبقى غالبًا (إلا في حالة الثورة الحقيقية) ضمن الإطار الذي خلقه السيد وصمّمه أولًا من حيث الجزء الأكبر من ردات الفعل التي يمكن أن تقوم بها، وثانيًا من خلال الموقف النفسي الذي تتخذه الضحية؛ فاللوم المستمر للمهيمن ونسب جميع المشكلات العميقة في حياة الضحية إليه هو موقف يمنح المهيمن صفات موازية للألوهة والأبوّة والأمومة التي كلّما تمرّد عليها العابد أو الولد كان تمرّده مؤكدًا لصفات الهيمنة والسيادة، ولا تزول هذه الهيمنة فعليًا إلا حين يتحرر (بالفعل) الطرف الأضعف من الهيمنة الساحقة لهذه الصور النفسانية، ويقيم معها علاقة جدلية، متوقفًا من ثمّ عن الشعور بالحاجة إلى اللوم والتشكّي أو الحقد والكراهية.
وفي الكتابة التاريخية يمكن لهوية الضحية أن تسبغ صورتها على هذا الفعل بحيث تصبح العملية التأريخية مرتبطة، أو تتم تحت ظل، الصورة المهيمنة. ويمكن القول إنّ جوانب رئيسة كبرى من ثقافة المجتمعات العربية خلال القرنين الأخيرين على الأقلّ نشأت وتشكّلت تحت تأثير المواجهة مع الثقافات الأوروبية—المواجهة المعرفية أولًا، ثم المواجهة العسكرية والاستيطانية. وهكذا تشكلت الهوية الذاتية تحت شبح المواجهة مع الغرب، وأصبح للتأريخ “خاصية سجالية” بحسب تعبير عزيز العظمة[24]. والحقيقة هي أنّه لجزء كبير من التراث العربي علاقة جدلية مع ثقافات القارة الأوروبية، ليس في النشأة الدينية فقط كما يمكن أن يلاحظ المرء في الطبيعة الدفاعية apologetic والهجومية polemic لبعض الرؤى الدينية الإسلامية، في مقابل الديانات والفرق الأخرى الموجودة حينذاك، حول طبيعة الله وعلاقته مع العالم المخلوق وعلاقة الإنسان به، ولكن أيضًا خلال عملية التراكم والتفاعل التاريخية التي تمثلت في كثير من الفرق والرؤى الكلامية والفلسفية والتي لا تنفصل عن التأثّر بالمنطق والفلسفة اليونانيين اتفاقًا وخصومةً[25]. وهكذا لا يمكن للثقافة العربية-الإسلامية (إذا عدَدناها كذلك وليست “ثقافات” متعددة متجاورة أو شقيقة) أن تتخذ، من وجهة نظر تاريخية، موقفًا يمكن أن تتخذه الثقافة الأفريقية جنوب الصحراوية أو الكاريبية أو الآسيوية؛ فالتراث العربي الديني والثقافي مشتبك “جوهريًا” منذ بدايته مع ثقافات القارة الأوروبية وثقافات شرق البحر المتوسط قبل الإسلام، حتى من دون اللجوء إلى معونة أمثلة التفاعل الثقافي في الأندلس وصقلية وغير ذلك، والتي يمكن أن يعزوها البعض إلى حوادث الأمر الواقع فقط.
ولهذا فإنّ “الغزو” الأوروبي الحديث للمجتمعات العربية، وعلى نحوٍ خاص لطبقات منها، يمكن أن يُنظَر إليه كإعادة تنشيط لعلاقات ومعارك قديمة غير محسومة نهائيًا، بمعنى أنّ الثقافة العربية استعادت من خلال المواجهة الحديثة ما كان قد بدأ من نقاشات وصراعات كلامية وفلسفية ثم انقطع ودُفِن عبر القرون بسبب الحوادث التاريخية والعسكرة الأجنبية المكثّفة مع الحضور التركي-الآسيوي في المجتمعات العربية. ومن ثمّ لا يمكن الحديث عن “غزو” و”فرض” بالمعنى الكامل كما يمكن لأبناء الجزر الكاريبية والأوقيانوسية أن يدّعوا—محقّين.
ويمكن هنا المحاججة أنّ “التاريخ الجديد” الذي غزا المجتمعات العربية من أوروبا لم يكن إعادة كتابة لتاريخ العرب الذين تحولوا إلى “هامش” بمحاذاة “مركز” هو أوروبا، بل إنه إضافة موازية للثقافة العربية وليس استبدالًا وفرصة تاريخية لتفاعل جديد على مستويات عديدة. بمعنى أنّ التاريخ الأوروبي قدّم للمجتمعات العربية نظرية جديدة في كتابة التاريخ لا يمتلك العرب في الحقيقة بديلًا لها، وقام هو نفسه بأكبر عملية استصلاح ونشر لعدد لا يحصى من الكتب والمخطوطات العربية التي كانت ضائعة أو طيّ النسيان؛ فالتأريخ العربي-الإسلامي كما يقول عزيز العظمة قائم على كتابة خَبَرية مرتبطة دائمًا بالسلطان والدولة، والدولة في هذا السياق هي الحاكم، والعكس صحيح[26]. يكتب العربي تاريخه حين يكتب تاريخ سلطانه/ دولته، أما التاريخ الحديث، كما يتمثّل خصوصًا في هيغل، فهو تاريخ الفكرة-المفهوم الأصلي الذي يسير عبر التاريخ، متجسدًا في “الأخبار” التي يمكن أن تكتَب، ولكنها تشير إلى ما وراء هذه الأخبار. في التأريخ العربي يكون الخَبَر لذاته، وللسلطان، من دون غائية نهائية، أما في التاريخ الحديث تكون الكتابة التأريخية تصورًا لظهور الفكرة The Idea التي تتجسّد في أشكال تاريخية موقتة، تنشأ ثم تنحلّ، في سبيل الفكرة الكبرى وتجلّيها المستقبلي المجهول وغير المحدَّد مُسبقًا (كما هو الحال عندما يكون التاريخ هو تاريخ السلطنة، الدولة بوصفها سلطنة السلطان/ملكوت الملك أو الأسرة المالكة).
إنّ تاريخ الحداثة الغربية هو في المفهوم الميتافيزيقي تاريخ “الفكرة”، ولكنه في حيّز الواقع الملموس، تاريخ “العمل” أو تاريخ “القوة العاملة” التي تقدّم للتاريخ إطار الفهم والمضمون في الوقت ذاته، وهو بذلك يتجاوز مفهوم التاريخ بوصفه أخبار الماضي والتراث. ومن هنا فإنّ التاريخ الغربي الذي فرض نفسه على العالم هو “العمل” الذي تجلّى كتقنية، وليس من رتبة “الأخبار” التي تنسخ أخبارًا أخرى وتحلّ محلّها. والثقافة العربية حين واجهت الغرب لم تواجه أخبارًا تسعى لنسخ أخبار قبائل العرب وأنسابها ومقولاتها أو ديانة تسعى للحلول مكان الديانة السائدة، بل واجهت شيئًا غير مسبوق—العمل بوصفه قوة محرّكة للتاريخ ومنشئة للقيم لأنه “بالعمل فقط يكون الإنسان كائنًا فوق طبيعي… ومن خلال قيامه بالعمل يكون ’عالمًا‘ تاريخيًا وتاريخًا ’صائرًا موضوعًا‘”.[27] كما واجهت المجتمعات العربية الإنسان بوصفه ذاتًا جوهرُها العمل تشكّله ويشكّلها وليس مجرّد وسيلة لكسب الرزق، وهو من ثمّ صيرورة. وإذا كانت الثقافة العربية واجهت العمل بوصفه قوة غائية، فهي قد واجهت أول مرة “الإنسان” بوصفه قوة فاعلة، بوصفه “الصانع” الذي يصنع التاريخ، بوصفه مركزًا لصيرورة هذا التاريخ، ولا يدخل إليه كنعمة مبنية على الطاعة والرضى، وواجهت من ثمّ “الدَّولة” بوصفها خلاصة “العمل” البشري وإطار حركته.
وفق التصور السابق يصبح التاريخ منتجًا ثقافيًا يتم ابتداعه وفي تحوّل دائم، وليس فردوسًا موهوبًا. ولذلك فالخطاب “الضحيّاتيّ” الذي يركّز على كون “المركزية الأوروبية” مبنيّة على استبدال تاريخها الشخصي بتواريخ الضعفاء يفتقر في عدد من جوانبه، وربما في جوهر نشأته، إلى فهم لجدلية الفعل التاريخي، وإلى حقيقة أنّه ببروز الإنسان الصانع لم تعد هناك إمكانية لسيادة غيره، إلا على نحوٍ معزول ومنسيّ، وخاصةً إذا كانت رؤيته التاريخية تتمحور حول عالم يتم الانتصار فيه مرّة واحدة وينتهي الأمر. هذا لا يبرّر بطبيعة الحال الممارسات الاستعمارية الوحشية في كثيرٍ من البقاع، لأنّ البقاء وعدم البقاء، بالنسبة إلى كلّ ما هو تقليديّ لا يعترف بالقفزات، هما مسألة تلقائية ولا تحتاج بالضرورة إلى الفعل القسري؛ فعلى سبيل المثال، المجتمع الذي يتحوّل إلى مجتمع متعلّم يهجر تلقائيًا عددًا من العادات الملازمة لحالة الأمّيّة، أكان قد أراد أن يقلّد الغالب على نحوٍ واعٍ أو لم يُرِد؛ والمرأة المتعلّمة والعاملة لا يكون موقفها من إنجاب عدد كبير من الأطفال مثل موقف الأمّ غير المتعلّمة التي لديها (أو ليس لديها) الخيار في ذلك، وذلك من دون أن تتقصّد هذه الأم أن تقلّد غيرها.
هذا التحوّل التلقائيّ مثبت في حقيقة أنّه حتى في تلك المجتمعات التي تصرّح مرجعياتها بأنّها ترغب في الماضي ومحاسن التراث هي في ذاتها مجتمعات متغيّرة عن مجتمعات الماضي ولا يمكن إلا أن تكون كذلك، لأنّ “التاريخ (الأوروبي) الجديد” لم يحلّ محلّ التاريخ القديم بل سار بموازاته، مع تماسات في نقاط معيّنة، كونه من طبيعة مفهومية جديدة تضيف نفسها إلى الأشكال الأقدم من فهم الزمان ومعنى التاريخ، ناسخةً بعض الأشكال الماضية التراثية مبقيةً بعضها الآخر على نحوٍ مشلول، ومن ثمّ تسبب عَطَبًا في آلية العمل عند البُنى التي تقاوم بناءً على أسباب أيديولوجية. لهذا يمكن أن يجد المراقب جماعات تعتقد بمعتقدات دينية سَلَفية على الرغم من أنها تمارس ريادة أعمال على مستوى عالٍ وتمتلك أيضًا سمات استهلاكية أكثر تطرفًا من تلك الموجودة في المدن الأوروبية. وهذه الصورة هي التي تمثّل ما يقوله عزيز العظمة عن “الخاصية السجالية” في الخطابين السلفي وشبه السلفي في البيئة العربية تحديدًا؛ فالدخول في “التاريخ الجديد” قد تمّ بالفعل، على مستوى معين، وما يثار حول عدد من الجوانب الثقافية هو مسائل سِجالية لا تؤثر “بالفعل” في ما حصل وانتهى بالفعل [وهذه مسألة يكررها العظمة في عدد من محاضراته على سبيل المثال]. وهكذا تكون “الضحيّة” الثقافية وهمية لأنّ المسألة مسألة تحوّل تاريخي لا تتوقف على إرادة سلطة استعمارية “تريد” استبدال تاريخ بتاريخ أو ثقافة بثقافة كما كان يمكن أن يحدث في مواجهة ندّية خلال القرون الوسطى الباكرة بين قوّتين من طبيعة القوة وطبيعة النشاط الاقتصادي نفسيهما.
إنّ الاصطدام الحقيقي بين التاريخ الأوروبي والتاريخ العربي-الإسلامي بعد الحملة النابليونية على مصر هو اصطدام بالدرجة الأولى بين منهجين في قراءة الوجود البشري وعلاقته مع الزمان بالإضافة إلى نتيجة هذين المنهجين اللذين يؤدي أحدهما إلى أشياء والثاني إلى أقوال. ويشرح العظمة كيف أنّ “الاستمرارية التاريخية” ضمن النظرة التأريخية العربية-الإسلامية “لا تزيد عن كونها عبارة عن الزمان المجرد اقتطعت منه مقاطع أُطلِقت عليها أسماء عَلَم [أسماء الملوك ودولهم]”[28]. أما الوجود البشري عامةً فيكون ممتدًا بين كمالٍ وكمالٍ آخر، عالمي البداية والنهاية الإلهيتين، وبالتالي فإنّ التصوّر العربي-الإسلامي للتاريخ لا ينسف فكرة التقدم فحسب (وبالتالي يكون غير متفق مع التاريخ الأوروبي الحديث) بل ينسف التاريخ ككل؛ فهو يحاول قراءة الماضي كحقبة غير متمايزة مهّدت لظهور الإسلام بالإضافة إلى أنه يحاول إسقاط النهاية على الماضي بشكل رجعيّ، بحيث يصبح كل الامتداد الزمني للوجود البشري حقبة غير متمايزة العناصر. وإذا كان هناك بعض التمايز بين الإسلام وما قبله، باعتبار الإسلام ختام الحقّ وتجليه الأنصع، فإنّ الزمن التالي للإسلام يتوقف عمليًا، في انتظار مجموعة من الانهيارات العالمية التي تمهد لنهاية العالم وظهور الكمال القديم مجددًا، أو كما يعبر العظمة بأن التاريخ بحسب هذا المنظور مؤلف من “وحدات تاريخية تبتدئ بكمالٍ نبويّ ولا تكاد تبتدئ حتى تباشر التناقص القيميّ”[29]. وهكذا، كما يشير العظمة، يفقد التاريخ أي عِلِّيَّة (سببيَّة) ممكنة بين عناصره ووحداته المكوّنة له[30]. ويتحول التاريخ في جوهره إلى تاريخ نقص بعد اكتمال وزمان ضياع لا يمكن أن يساهم بأي شكل في بنية مستقبلية مرتجاة، لأن العملية التأريخية منفصلة عن الزمان إلا بما هو زمان ملوك، وبالتالي لا وجود تاريخيًا لغير ما يتعلق بالملوك (وبعض الأحداث الطبيعية العجيبة)، ومنفصلة عن المكان (على خلاف عملية التأريخ الإيراني مثلًا المرتبطة بجغرافيا المنطقة) لأنّ المكان أيضًا لا حضور له خارج حياة الملوك؛ وهذا يعني أنه من وجهة النظر العربية-الإسلامية لا يمكن أن يوجد تاريخ للعربية أو لسوريا أو لمصر[31].
وهكذا يكون التاريخ من المنظور الإسلامي، وبالاستناد إلى رؤية العظمة لعملية التأريخ، ليس تقدميًا، وليس تشاؤميًا بالمعنى الدقيق (رغم أنه محقَّب بطريقة تنازلية من حيث قيمته العامة)، بل هو عبثيّ،[32] غير عِلِّيّ، لأنّ نهايته لا تنتج عن صيرورته، بل هي اختراق إلهيّ محض لمسيرة الزمان، وتكون من ثم حوادث الوجود البشري كلها بلا معنى من حيث ورودها بهذا الترتيب أو ذاك في غياب أي سلسلة ممكنة للأسباب والنتائج. وهذا ما يلخصه العظمة حين يبيّن أنّ “النهاية استعادة مطلقة للبداية، وليست تقويمًا لما بينهما. فإن ما يجري بين نقطتي البدء والانتهاء نقصٌ محض لا بُنى خاصة به تجعل له علاقة مع النهاية إلا العلاقة المفروضة من الخارج، أي لزوم وقوع النهاية في لحظة زمانية معينة لأسباب لا علاقة لها ببنية النقص الداخلية، بنية التاريخ الأرضي”[33]. وهكذا فإنّ الرؤية “التقدمية” الغربية التي سادت إبّان الحداثة، القائمة حول عِلّية تاريخية معينة في رؤية التاريخ، لا تنافس رؤية أخرى من رتبة مماثلة، كالرؤية الدائرية للتاريخ (كما كانت الرؤية الإغريقية القديمة) أو رؤية تشاؤمية تراجعية كما هو الحال في بعض المذاهب المسيحية اللاهوتية، بل إنّها تقف في مواجهة نظرة عبثية للزمن-التاريخ، أي بموازاة نظرة لا تاريخية. بمعنى آخر، فإنّ النظرة العربية-الإسلامية لا تستطيع مبدئيًا أن تقدم نظرة متكاملة للتاريخ لتواجه بها النظرة التقدمية، لأنها لا تشرح ما هو التاريخ ولا ماهية صيرورته، إذا كانت الصيرورة أصلًا واردة، ولا غاية هذا التاريخ، وهي عاجزة عن تحقيبه إذًا، لأنّ التاريخ بلا تعريف وهو لا يتجاوز وصف ما يحدث فيه[34].
المواجهة العربية-الإسلامية إذًا مع “التاريخ الجديد” ليست في جوهرها مواجهة ضحيّة مع جلّاد، بل مواجهة بين طرفين مشتبكين عبر القرون في الجغرافيا والتاريخ والثقافة من عدة نواح—وهو اشتباك بمعنى التداخل والتبادل وبمعنى التعارُك والخصومة، حدث أنّ الافتراق بينهما استمرّ في الازدياد إلى حدّ أنّ التباين أصبح مؤهِّلًا لحدوث شرخ ثقافيّ وسياسيّ واقتصاديّ، ووجودي عمومًا. وبهذا المعنى يكون الانفصام في الواقع الثقافي والمعرفي العربيّ حتميّة لا مفرّ منها حتى في حال غياب الحدث الاستعماري كليًا، ويمكن تشبيهه افتراضيًا بما حصل في المعسكر الاشتراكي وروسيا السوفياتية، حيث شهد التاريخ عدة عمليات تفكك وانحلال في ذلك المعسكر، يمكن ردّ بعض منها على الأقلّ إلى عدم القدرة على مواكبة ثم مواجهة تاريخ الصيرورة والانفجار في التنوّع المعرفيّ والتقنيّ والاستهلاكي، بعد تحوّل الديالكتيكية الماركسية في البلدان الشيوعية إلى حالة ستاتيكية قاصرة ومكبّلة بأيديولوجية وبيروقراطية غير قادرتين على الاستمرار وعلى مواكبة التسارعات التاريخية الهائلة.
خلاصة الأمر هو لقاء بين حضارة تقليدية لا ترى في التاريخ مسيرة ذات معنى داخلي يربط بين أجزائه، وهي لذلك السبب بالذات ميّالة بين الفينة والأخرى للسير على حواف الهاوية التي من أسمائها الأكثر مقبوليةً “الفِطرة” (الحالة الطبيعية الخام للإنسان قبل اكتشافه المفاهيم السببية المجرَّدة، كضدّ للتاريخ-الثقافة)، في حين ترى أخرى، أحدث زمنيًا، أنّ التاريخ مرادف للفاعلية البشرية ولابتداع كل ما هو جديد ويخدم الوجود الإنساني المستميت لتجاوز حالة الطبيعة؛ وهي رؤية صاغها بطريقة وجودية “نيكولاي نيكولايفيتش”، أحد شخصيات الروائي الروسيّ بوريس باسترناك، حين رأى أنّ التاريخ عبارة عن “قرون من العمل الممنهج والمكرّس لحل لغز الموت، عسى أن يُهزَم الموت نفسه في النهاية”، أو بصيغة أخرى هو “كونٌ آخر –كونٌ بناه الإنسان بمعونة الزمن والذاكرة للإجابة على تحدّي الموت”[35]. إنّ الحديث عن وجود افتراق في ميتافيزيقا الثقافة لا يعني بأي حال من الأحوال التسليم بتصورّات جوهرانية، بل يعني فتح الباب لبحث دقيق في القواعد الأنطولوجية التي يقوم عليها أو ينبثق منها الحضور التاريخيّ لحالة ما بما يشمل ذلك مفهوم الزمن وعلاقته بالخطاب.
خاتمة: تاريخ مطموس أم تاريخ حاضر فوق العادة؟
ومن هذا المنظور، فالرؤية الغربية الحديثة للتاريخ والإنسان وكياناته العمرانية لا تجد نظيرًا لها في الثقافة العربية-الإسلامية، أو في الثقافات التقليدية عمومًا؛ فنظرية داروين في النشوء والارتقاء لا تقابل نظرية علمية أخرى في الثقافات التقليدية، بحيث إنها تتصارع معها لتحلّ معها، بل هي تواجه سرديات من طبيعة أخرى تمامًا، وبالتالي لا يمكن للنظرية الغربية أن “تنسخ” وجهة النظر الدينية أو الفلكلورية بمعنى الكلمة، لأن مفردات الحوار غير متناظرة، وهكذا فهي إما أن تسقط أمامها أو تسير بالتوازي معها بما يولد ازدواجية في البيئة المستقبلة، أو تحلّ مكانها مع تقدم الوقت، ولكن من دون جدل برهانيّ حقيقي كما يحدث مثلًا بين فيزياء نيوتن وفيزياء آينشتاين على بعض المستويات الكونية. ومن ناحية الثقافة العربية-الإسلامية فإنّ ما يميّزها بحسب العظمة ليس وجود الأسطورة والقصة الفلكلورية فيها، فهذه محتويات كل الثقافات التقليدية، بل “تتميز عن غيرها بكونها تلك التي تتخذ فيها الأسطورة شكل العلم، وتنتقل فيها الممارسة الأسطورية من الثقافة الشعبية المنكفئة في أطر اجتماعية ومحلية منغلقة نسبيًا إلى الثقافة التي تضطلع بتقديمها الدولة التي تجنّد لها سلك مثقفيها”[36]. ولذلك فالثقافة العربية أبعد ما تكون عن موقع الضحيّة الثقافية التي يسعى أحدهم لطمس تاريخها، بل على العكس، وكما تمت الإشارة سابقًا، لم تنل ثقافة في العالم من الاهتمام الأوروبي لإعادة إحياء عدد ضخم من كتب تراثها كما نالت الثقافة المكتوبة بالعربية (بغض النظر عن نيّات الاستخدام السياسي، غير الثقافي)، والتاريخ العربي الأدبي والديني، المكتوب والشفهي، لا يزال حاضرًا في المجتمعات العربية بقوة يندر وجودها عند معظم أمم العالم، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال تشبيهه بتاريخ الجزر البعيدة وشعوب “الأطراف” التي ربما لم تحصل على نصوص مكتوبة لثقافتها أو حتى أبجدية للغاتها إلا—فعلًا—على يد المستعمرين والغزاة.
ولعلّه من الممكن القول في نهاية هذا البحث إنّ أزمة المجتمعات العربية ليست في طمس تاريخها من جانب المركزية الغربية والتاريخ الأوروبي، بل على العكس تمامًا، حيث إن أجزاء كبرى من ماضيها وتاريخها حاضرة بكثافة مفرطة في حاضرها وحتى—قصديًا—في مستقبلها، وبعض ما يستحق المضيّ مع رياح الأزمنة والعهود البائدة بقي عالقًا وغير قابل بعد لإعادة الكتابة عبر ابتكار سرديات مختلفة لتأويله؛ أي بسبب عدم القدرة—حتى الآن—على ابتكار فلسفة تحقّب التاريخ العربي بطريقة عِلّية تسمح بالتعامل مع كل حقبة بوساطة مفردات وأدوات معرفية مختلفة وبطريقة تفصل بوضوح بين التاريخ والأسطورة والحكاية السحريّة والخرافة. فمَن مِن أمم الأرض لا يزال يتذكر حوادث أو أساطير العهود الماضية بمعاركها وحروبها وفتوحاتها كما لو أنها حدثت في الأمس ويعدّها تاريخًا رسميًا؟! هذه الأزمة لم تواجه اليابانيين أو الصينيين بالقوة نفسها، فلم تظهر عندهم الأزمات المعرفية-الاضطهادية الكبرى التي شهدها العالم العربي المجاور لأوروبا—والذي يحضر في مخيلته ووجدانه كثير من شجون ومعارك العهود القريبة والبعيدة، كما أنّها بالتأكيد لم تواجه عددًا كبيرًا من الثقافات المحلية ضمن “الجنوب العالمي”، والتي بقيت حتى مجيء الاستعمار الحديث ثقافات شفهية نقلها المستعمِر إلى عالم الكتابة والتاريخ المدوّن والسرديات المسجّلة بطريقة بات بسببها يحقّ لسبيفاك أن تتساءل ما إذا كان “التابع” يملك أن يتكلّم وأن يكون له تاريخ خاصّ. أما المجتمعات العربية فلم تعدم فرصة للتكلّم والاستطراد في الكلام والقيام بمعاركها وتأسيس ممالكها وإمبراطورياتها وتسجيل أخبارها ورواياتها عبر القرون الطويلة.