جدلية المظلومية والكراهية في سياقات الخطاب العربي

ملخص

لا ينحصر خطاب المظلومية في كونه مجرد صرخة احتجاج عابرة، لكنه طريقة في التفكير وبناء العلاقة مع الآخر. الأمر الذي جعل الإنسان على الدوام ضحية للآخرين ولأفعالهم أكان ذلك على مستوى الوعي أم اللاوعي. الأمر الذي يؤدي إلى نفي كل مسؤولية لهذا الإنسان عن صنع واقعه أو التأثير فيه. بهذا المعنى، فإن خطاب المظلومية هو أحد أبرز الميكانيزمات الدفاعية (غير الواعية) التي يلجأ إليها الإنسان العاجز في مواجهة أطراف أقوى منه وأكثر قدرة على التأثير في واقعه. وإذا كان تجلي هذا الخطاب، يتفاوت باختلاف المجالات الحياتية للإنسان، فإنه يتجلى أكثر في الميدان السياسي، وفي مجال إدارة العلاقات العامة. أكان بين كل ما هو “عربي” وكل ما هو “غربي”، أم بين الحاكم والمحكوم على المستوى العربي.

وإذا كان يخيّل للإنسان في أغلب الأحيان، أن خطاب المظلومية رائج فقط بين عامة الناس في مختلف المجتمعات، فالحقيقة تتجاوز ذلك، لتشمل الجزء الرئيس من تفكير عديدٍ من المثقفين والمفكرين، والمحللين، وحتى بعض صنّاع القرار السياسي. يبرز ذلك جليًّا من خلال ما تتداوله وسائل الإعلام العربية، وغيرها من مقالات ومقابلات ومواد إعلامية، تكشف عن المدى الواسع الذي يسيطر فيه خطاب المظلومية على الطريقة التي يفكر بها الإنسان اليوم، ومختلف الأدوات التي يستخدمها في هذا التفكير. حيث يغذي خطاب المظلومية جانب الكراهية لدى الإنسان تجاه الآخر، كيفما كان هذا الآخر.

مقدمة

تنامى في السنوات الأخيرة الاهتمام بخطاب الكراهية وتأثيراته في المجتمعات العربية، وتماسكها من جانب عديدٍ من مراكز الأبحاث والدراسات غير الحكومية أو شبه الحكومية العاملة في العالم العربي، والعربية الموجودة خارج العالم العربي على حد سواء. الأمر الذي يؤشر على خطورة هذا الخطاب. وبخاصةٍ أن خطابات الكراهية باتت اليوم تنتشر بسهولة واتساع وقدرات تأثيرية معولمة بسبب شبكات التواصل الاجتماعي والعصر الافتراضي. وفي قلب احتراق الأركان المشكلة لبنى العالم العربي السوسيولوجية والأنثروبولوجية والثقافية والحياتية والسياسية على حد سواء، تتحول خطابات الكراهية إلى أحد أهم مصادر الوقود التي تغذي تلك الحرائق، وتعمل على توسيع آفاق انتشارها واتساعها.

لهذا، فإن العمل على تفكيك وتشريح مصادر خطابات الكراهية ومكوناتها ومآلات إرهاصاتها القصوى لهي الأمور المطلوبة للنجاح في وأد نيران تلك الخطابات، وفي إزالة تأثيراتها أو التقليل منها للحد الأدنى على الأقل. إلا أن هناك، خطابًا آخر موجودًا وبدأ أيضًا ينتشر في أوساط العالم العربي، وهو ذو تأثير لا يقل سلبية وخطورة، عن تأثير خطاب الكراهية. يتجلى في خطاب المظلومية. لطالما كان هناك اعتقاد في الأوساط البحثية والثقافية والمعنية بالشأن العام في العالم العربي وفي العالم عمومًا بأن خطاب المظلومية هو أداة الضعفاء وضحايا الكراهية التي تثيرها خطابات الكراهية ضد جماعات أو أفراد بعينهم. ولطالما نظر السياق العام إلى حملة خطاب المظلومية وإلى سردهم عن أنماط الظلم العديدة التي تعرضوا أو يتعرضون لها نظرة تعاطف ودعم وشعور بالذنب تجاه من يقول بالمظلومية ورغبة في الانتصار له أو لها، ومن ثم محاسبة من سبب لهم الظلم بالأشكال كافة ونبذ هذا الظالم أو هذه الظالمة مجتمعيًا وفكريًا وقانونيًا وتاريخيًا ودوليًا. الأمر الذي شكل هذا المخيال العام المتعلق بخطاب المظلومية. ففي وقتٍ نضع فيه خطاب الكراهية على طرف الإدانة والشر والرفض والكبت والإزالة، فإن الأوساط العامة تضع خطاب المظلومية على الطرف النقيض وتعدّه إحدى الدعوات المشروعة والنبيلة التي تستحق الدعم والتعاطف والعدالة وإعلاء الشأن والتثبيت. من خلال هذا التصور العام، سنحاول مقاربة مسألتي “خطاب المظلومية” و”خطاب الكراهية”. وتلك العلاقة الجدلية القائمة بين المظلومية وجميع خطابات الكراهية.

تعمل خطابات المظلومية على تركيب وابتكار حالة ظلم وصورة مظلومية انطلاقًا من افتراضات مؤدلجة ومبرمجة لخدمة منطق تصنيفي دوغمائي تضادي. تلك النماذج التي لا تقارب الظلم في الواقع وفي الحضور الحقيقي للوجود، بل تخلق مخيالًا أو تبتكر سيناريو مظلومية معين. لا يدور في الواقع حول حالة موضوع خطاب المظلومية، بقدر تركيزه، وإن كان بلغة مواربة وتلميحية، على الإيحاء بوجود فاعل مضاد ذي مواصفات معينة. وبقدر رغبة هذا السيناريو في جعل من يتعرض لخطاب المظلومية المذكور، يكون في مخياله، وتخلق في لا وعيها، تصورًا مفترضًا عن آخر بعينه، لا يمثل إلا الشر والظلمة ولا يستحق إلا الإدانة والكره. الأمر الذي يعمل على “صناعة الظلم” التي تقود جدليًا ومنطقيًا إلى صناعة الكراهية.

من هذا المنظور، تناولت هذه الدراسة موضوع المظلومية من خلال ما يأتي: خطاب المظلومية من حيث الماهية والدلالة، علاقة المظلومية بالكراهية، شعور المظلومية الذي يولد الكراهية، خطاب المظلومية في سياقات العالم العربي من خلال مجموعة من النماذج (لبنان، سورية، البحرين، العراق).

خطاب المظلومية، الماهية والدلالة

أصبح خطاب المظلومية أحد أدوات صاحب السلطة والقوة والقرار التي تخدم سياسة الأقلية التي يتبعها ضد كل من يخالفه. إن واحدة من أهم الأدوات التي يستخدمها مروجو خطاب المظلومية في العالم العربي هي فكرة “الأقلية”، إذ يتحدث الخطاب المصطنع المذكور عن تعرض جماعات بعينها، تمثل أقليات دينية أو طائفية أو عرقية أو ثقافية، لاضطهاد وقمع وظلم وتهميش وأذية من قبل أكثرية مزعومة ومفترضة قبليًا، على قاعدة أن الأولى هي أقليات عددية ضعيفة وعاجزة وأن الثانية هي أكثرية عددية موصوفة ومهيمنة.

إن ما يدل على أسطورية ووهمية خطاب المظلومية المذكور هو حقيقة أن فكرتي “الأقلية العددية” و”الأكثرية العددية”، ليستا العاملين المؤسسين لحياة وظروف عيش وخبرات وجود الجماعات في العالم العربي، لا على الصعيد المجتمعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الدولي أو الثقافي أو حتى الديني. يؤشر واقع العالم العربي المعاصر السوسيولوجي والسياسي والسياقي المعقد، على أن المنطق العددي لا يقرر مصير وحياة وظروف عيش وممكنات المجاميع البشرية في سياق الحياة في المنطقة، سواء أكانت تلك المجاميع صغيرة أو كبيرةً في الحجم. لأن الواقع السياقي للعالم العربي يؤشر إلى أنه لا توجد أكثريات في الواقع المذكور، وإنما مجاميع من الأقليات المتكافئة في حالات العيش وظروف الوجود وممكنات الاستمرار وخبرات الوجود والحقوق والإمكانيات، بصرف النظر عن حجمها العددي. ذلك أن السبب في إمحاء تأثير العامل العددي في سياق العالم العربي، هو أن المجتمعات العربية عمومًا، تخضع لسلطة وهيمنة وقيادة منظومات دولية وسياسية وحاكمية، تمارس على المجموع العام الشعبي المؤلف لتلك المجتمعات سياسات أقلَلَة ممنهجة ومبرمجة لا تقوم على منطق العدد، بل على قواعد الولاء والطاعة والخضوع والخنوع والتشارك والانصياع والتأييد تجاه من يملك القوة، ومن يتمتع بالسلطة وتجاه برامجه وأجنداته ورؤاه وأطماعه ومصالحه([1]).

من هنا، فإن هناك أفرادًا ينتمون إلى مجموع يتمتع بأكثرية عددية، يتعرضون لقمع ولاضطهاد ولمظلومية من قبل أصحاب سلطة، ينتمون إلى جماعات تمثل أقليات عددية. في هذا السياق العام، يصبح خطاب المظلومية أحد أدوات صاحب السلطة والقوة والقرار التي تخدم سياسة الأقللة التي يتبعها ضد كل من يخالفه ويتغاير معه ويفارقه ولا يناصبه الولاء. هنا، يصبح خطاب المظلومية سردًا تبريريًا لممارسات الأقللة ضد هذا المخالف والمتمرد، والتي تؤدي إلى تغذية مشاعر الكراهية عند أتباع صاحب السلطة والموالين له (الذين يتمتعون عندها بأفضليات تجعلهم يعيشون حالة من “الأكثرة” الوجودية) تجاه هذا الطرف المغاير المؤقلل. في الواقع العربي، لا نجد خطاب مظلومية يقارب أو يتحدى سياسة الأقللة المذكورة، بل نسمع العديد من سرديات ظلم متخيل يخلق كراهية ضد ظالم وهمي مزعوم([2])، لأنه في الحقيقة ليس سوى ضحية لسياسة الأقللة التي يتم التغاضي عنها.

المظلومية والكراهية، أي علاقة؟

تتميز أغلب خطابات المظلومية بنوع من الراديكالية، قوامها تركيب مخيال يتأسس على تضاد ومغايرة حادة. تقود إلى إنتاج حالة كراهية. ثمة مقاربة ذات بعد مختلف لخطاب المظلومية، تذهب إلى كون خطاب المظلومية لا يقف على طرف نقيض معاكس تمامًا ومضادّ ديالكتيكيًا لخطاب الكراهية. خلافًا لذلك، فإن خطاب المظلومية يمكن أن يكون مشابهًا في بعض الحالات والسياقات وأسباب صدوره لخطاب الكراهية. بحيث إن الفرق الموضوعي والبنيوي بينهما، لا يرتبط كثيرًا بالواقع، بل يقتصر على فروقات منهجية، أو نفاذات، تتعلق بالمقاربات وبالمركبات الهرمنيوتيكية لكل خطاب وللدور الذي يلعبه([3]).

إنها في المدى الأقصى، فروقات في الأسلوب والدرجة وليس بالضرورة فروقات في الجوهر والمضمون والنتائج من حيث الكينونة المفاهيمية والموضوعية. بحيث يرتبط كلا الخطابين بمسألة الكراهية. لأن خطاب الكراهية يقارب موضوع “الكراهية” مقاربة مباشرة، من خلال توظيف كل تعبيراته وافتراضاته وتفاسيره ومكوناته المعرفية في خدمة تسليط الضوء على مشاعر ومواقف وتقييمات وأحكام، تدور كلها بشكل لا مواربة فيه حول فكرة شيطنة الآخر وإدانته والمغايرة القيمية معه والعنفية تجاهه. أما خطاب المظلومية، فيـقارب موضوع الكراهية مقاربة غير مباشرة، بل مضمرة وتلميحية، من خلال الحديث عن حالات وجودية معينة، وتقديم تفسيرات تحليلية عن شعوريات وسلوكيات الذات أو النفس. تقود من يقرؤها، أو يسمعها، في المحصلة إلى اتخاذ موقف أو تطوير شعور أو إبداء استعداد لشيطنة آخر ما وإدانته وتحقيره ومغايرته عنفيًا([4]).

ففي الوقت الذي يتعامل فيه الخطاب الأول مع الكراهية بشكل مباشر، يدور حول فكرة “الآخر” وينطلق بلا مواربة من تقديم هذا الآخر بشكل سلبي وعنفي وظلامي، فإن الخطاب الثاني، لا يقارب الكراهية مباشرة، وإنما يوحي بها ويستنفر التفكير حولها بشكل تلميحي يدور حول فكرة “الأنا”. يعمل بشكل غير مباشر على قيادة من يقرأ الخطاب المذكور أو يسمعه، كي يستنتج لوحده أن الطرف الذي يجعل صاحب “الأنا” موضوع الخطاب تشعر بالمظلومية، طرف شرير وقبيح يستحق الإدانة والتحقير والشيطنة. لهذا تعد فكرة الكراهية في الخطاب الأول، نقطة الانطلاق والافتراض القاعدي والموضوع المطروق مباشرة. أما في الخطاب الثاني، ففكرة الكراهية هي الخلاصة والنتيجة المنطقية والاستنتاج الذي ينتهي إلى اقتراحه ضمنيًا وتلميحًا من ينطلق من فكرة “الظلم”، جاعلًا من تلك الخلاصة استنتاجًا يؤدي إليه أي تفاعل منطقي مع مضمون السرد المتعلق بالمظلومية([5]).

لهذا، ليس هناك ما يسوغ وضع خطاب الكراهية، من جهة، وخطاب المظلومية، من جهة أخرى، على طرفي نقيض. بل إن خطاب المظلومية يسوّغ الكراهية، ويمهّد الطريق الافتراضي والمنطقي للوصول إليها، في وقتٍ يطرق فيه خطاب الكراهية فقط المسألة بلا مواربة ولا تلميح، بل بكل مباشرة وعلى نحوٍ مركز. يأخذ فيه السرد المذكور عن كاهل المتلقي عناء محاولة الوصول إلى خلاصة الكراهية بجهدها العقلي والتفسيري الفردي، ويقدم لها تلك الخلاصة جاهزة ومسبقة الصنع.

 

خطاب المظلومية في سياقات العالم العربي

كثيرة هي نماذج خطابات المظلومية في سياقات العالم العربي التي تقدم أمثلة عن توظيف فكرة المظلومية في خدمة تطوير وعي ومخيال عن آخر معين يدفع الرأي العام لشيطنة وكراهية هذا الآخر([6]). حيث يستطيع الباحث أن يتوقف مليًا عند خطابات مظلومية الأقليات الذي انتشرت في المشهد العربي خلال سنوات الحرب والصراع ضد النظام الاستبدادي هناك. ذاك الخطاب الذي قام النظام والأطراف الداعمة والمؤيدة والراعية له، بتسويقه في دوائر خلق الأفكار وحلقات صناعة القرار في المنطقة والعالم على حد سواء. حيث أطلق خطاب المظلومية هذا عاليًا صرخة الظلم والتهديد والخطر الوجودي الذي تتعرض له الأقليات الدينية ([7]). الأمر الذي يمكن من خلاله أن تجد وسائل الكراهية أرضًا خصبة ذات مشكلات اجتماعية.

يمكن للباحث أن يجد في مناطق مختلفة من العالم العربي، ومنطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نماذج كثيرة من خطابات مظلومية راديكالية. تقوم على تركيب مخيال يتأسس على تضاد ديالكتيكي ومغايرة حادة تعاكسية. تؤدي إلى إنتاج حالات كراهية، أو إلى تمهيد السبيل للوصول إلى حالة الكراهية تلك.

كما أن الغرب أيضًا، يمظهر في سياقاته المجتمعية والثقافية، حالات خطابات مظلومية. تنتج في منطقها ومحتواها وافتراضاتها المفاهيمية ولغة خطابها، مشاعر ومواقف كراهية في الفكر والوعي العام([8]). حيث تتجه هذه الكراهية، تجاه آخر متخيل ومركب غير واقعي ولا حقيقي أحيانًا. فهناك بعض خطابات المظلومية المتعلقة بمناهضة الإسلامية، وكذلك مناهضة الإسلاموفوبيا التي تتأسس في بنيانها المعرفي وافتراضاتها وتعابيرها المفاهيمية، على بناء لغة تغايرية ديالكتيكية وتضادية. تفرط في التشديد على مظلومية “الأنا” وعلى براءتها ومعاناتها، لدرجة تؤدي إلى خلق “آخر” مضاد ومعاكس كليًا. يمثل كل ما هو عكس تلك الأنا “المظلومة” ويصبح مصدر ظلمها الأول([9]). ليصبح كل ما هو عكس طرف الخير، شرًا مستطيرًا مطلقًا. وكلما تمت أسطرة المظلومية، أدى ذلك إلى خلق كراهية أسطورية معادلة وموازية. بحيث إن وجود كل من الطرفين يصبح مشروطًا بمصدرية الآخر. فلا ينتج الظلم عن الكراهية فقط، بل إن الكراهية بدورها تصبح أحد منتجات الظلم. تؤشر على حالات ظلم حقيقية وواقعية بوصفها ظلمًا مستطيرًا في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ظلم متعدد الأوجه والمصادر ومختلف التمظهرات الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والأنثروبولوجية والجندرية وسواها([10]).

نماذج من خطاب المظلومية العربي

ثمة نماذج من خطابات المظلومية العربية تركب وتبتكر حالة ظلم وصورة مظلومية، انطلاقًا من افتراضات مؤدلجة ومبرمجة. تركز هذه الخطابات على مظلومية الأقليات المسيحية والشيعية في مواجهة مع كراهية الأكثرية السنية، فيشيطن كل من هو غير مسيحي (وأحيانًا غير ماروني وغير مسيحي – عوني) وغير شيعي، ويرسم عنه مخيالًا سلبيًا وعدائيًا وظلاميًا غير واقعي ولا حقيقي. من أجل الدفع، بالنتيجة لكل من يتعاطف مع هذا الخطاب إلى إدانة الآخر/ العدو المحتمل، ومناهضته، بل ربما إلى كراهيته أيضًا([11]). حيث ترسم الذات من خلال خطاب مظلومية معين، صورة معاناة وحرمان وظلم من خلال مغايرة الذات راديكاليًا وصداميًا عن آخر مصطنع ومركب، والتضاد مع هذا الآخر لدرجة تجعل من يتفاعل مع مظلومية الطرف المتحدث(الذات) بهذا الخطاب، ينتهي بكراهية وشيطنة الآخر الذي يوحي خطاب المظلومية بأنه يقف على طرف نقيض وتضاد مع الطرف الذي يعاني الظلم.

1. الحالة اللبنانية

يعد لبنان نموذجًا واضحًا لإنتاج خطاب مظلومية، وكراهية يتم تسويقه شعبويًا. فمنذ عودته إلى الساحة اللبنانية في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري ومن ثم انخراطه في العمل العام والصراع على السلطة وصولًا إلى اليوم، طور التيار العوني، أو “التيار الوطني الحر”، خطاب مظلومية صارم ومتشعب. يدور حول مظلومية مسيحية طائفية مزعومة تعرض لها مسيحيو لبنان، إن لم يكن موارنتها بالتحديد. قادت إلى حرمانهم من حقوقهم في ممارسة السلطة والمشاركة في قيادة ومقدرات وصناعة مصير البلد. لطالما ردد مسيحيو التيار العوني خطاب مظلومية مستطير على كافة المنابر اللبنانية والعربية والإقليمية والعالمية([12]).

قوام هذا الخطاب أن المسيحيين، لا في لبنان فقط، بل وفي المشرق برمته، يتعرضون لاضطهاد ممنهج دوليًا وسياسيًا وطائفيًا من قبل المسلمين السنة. وأن السنة في لبنان أولًا والعالم العربي ثانيًا، متطرفون وراديكاليون ويكرهون الآخرين. لكن خطاب المظلومية المذكور، لا تجده يدور حول الجماعة المسلمة السنية بحد ذاتها، ولا على تفكيكها أو مهاجمتها بشكل مباشر أو صريح أو مركز. وإذا كان هذا الخطاب يسهب في الحديث عن المظالم والغبن التي يتعرض لها المسيحيون، فإنه يطنب في تمجيد طرف مسلم معين. يتجلى في جماعة الشيعية، وخاصة ميليشيا مسلحة “حزب الله”، مؤكدًا أن هذا الأخير هو حامي المسيحيين ونصيرهم ضد الخطر المحدق بهم في المجتمع السني اللبناني والمسلم السني في محيط جوارهم العربي الأوسع([13]). والحال أن أزمة الهوية والانتماء، التي تطحن مشاعر اللبنانيين كافة وتخلع على سلوكهم السياسي طابعًا مريرًا، لا تبدو على هيئة واحدة. فبينما هي بالنسبة للمسلمين أزمة أيديولوجية، وبالتالي أزمة في الطريقة التي ينظر بها المسلمون إلى الواقع، فإنها بالنسبة للمسيحيين أزمة واقع وأزمة علاقة مع الواقع نفسه. هذا الفارق ليس فارقًا عابرًا ولا شكليًا، بل إنه فارق جوهري، إلى حد يكفي لفهم كيف أن اللبنانيين لا يتحدثون بلغة واحدة، وكيف أن حوارهم هو دائمًا ”حوار طرشان”.

لكن الحال هو أن اللبنانيين، بانتماء كل منهم إلى فكرته هو عن لبنان، وبشعورهم العميق، والذي لا مفر منه، بأن الواقع لا يطابق هذه الفكرة الأقلوية ولا يوافقها، يصدرون عن أزمة هوية وانتماء هي بذاتها منقسمة، غير متماثلة ولا تذهب في الاتجاه نفسه. ففي مجتمع أكثرية واضحة وأقلية، ينشأ التوافق من خلال الغلبة، غلبة العصبية الكبرى على بقية العصبيات الأصغر منها حجمًا وقوة([14]). لكن العصبية الكبرى لا تستطيع أن تفرض نفوذها وهيمنتها، ومن ثمّ الاعتراف لها بالرئاسة، إلا من خلال تماهي هذه العصبية مع ”قوة ثالثة”، تصبح هي بذاتها مصدر الولاء. وليست هذه القوة الثالثة إلا الكيان نفسه والشكل المؤسسي الذي يمثله. بحيث يبدو الولاء لهذه القوة بالنسبة إلى العصبيات الصغيرة، وكأنه إذابة قسرية وطرد من خصائصها ومميزاتها.

2. الحالة السورية

دار خطاب المظلومية المعارض حول فكرة تفسير الثورة السورية وتبرير اندلاعها على قاعدة الظلم المفرط الذي تعرض له السنة المسلمون في عهد سوريا الأسد الأب والابن، وكيف أن نظامي هذين المستبدين عملا بشكل متساو على حرمان الأكثرية السنية من حقوقها، بل وعلى اضطهادها وقمعها وملاحقتها وقتلها، مقدمين بالمقابل كل المكاسب والمنافع والحقوق للعلويين والمسيحيين في البلد. وإذا كان في المقابل اختزل النظام في خطاب مظلوميته المعارضة والثورة، بجماعة طائفية واحدة محددة، وتسبب خطابه في شيطنتها ونشر الكراهية ضدها في ظهراني السوريين الناجين داخل البلد، فإن الأطراف المعارضة الإسلامية والمتطرفة، قامت باختزال من لم يقف مع الثورة ومن لم يتخل عن النظام إلى جماعتين فقط (العلويين والمسيحيين)، رافضة أن تعترف بأن هناك مسلمين سنة وقفوا وما زالوا مع النظام.

وفي المقابل، هناك العديد جدًا من المسيحيين والعلويين، وقفوا مع الثورة وعارضوا النظام بلا هوادة. وكما قاد خطاب مظلومية الأقليات المزعوم في معسكر النظام، إلى كراهية وشيطنة ومناهضة الأكثرية السنية المزعومة، فإن خطاب مظلومية الأكثرية المزعوم في معسكر المعارضات (ولا سيّما الإسلامية)، أنتج كراهية وشيطن وناهض المواطنين السوريين من غير المسلمين السنة بأن جعلهم جميعًا موالين للنظام([15]). لهذا، يقدم خطاب المظلومية في هذا السياق، سردًا وتصويرًا غير واقعي ولا حقيقي ديالكتيكي وتضادي. يؤدي منطقيًا إلى زرع بذور كراهية ضد آخر مصطنع ومركب. كما خلقت هذه الشيطنة كراهية لطرف ما من خلال خلق خطاب عن المظلومية، تمت صناعته في معسكر المعارضة السورية أيضًا. لينتشر خطاب مظلومية مضاد ديالكتيكيًا مع الخطاب الذي أطلقه طرف الموالاة. وإذا كان خطاب المظلومية الذي أطلقه الموالون يدور حول مظلومية تتعرض لها الأقليات من قبل الأكثرية، فإن خطاب المظلومية الذي أطلقه المعارضون دار حول مظلومية تعرضت لها الأكثرية السنية المسلمة عبر التاريخ الماضي في سوريا من قبل الأقلية العلوية، وشدد على أن الثورة السورية، ما هي إلا انتفاض لتلك الأكثرية ضد مظلوميتها التاريخية، ومن أجل التحرر منها وإعادة الحقوق إلى أصحابها([16]).

كما تحدثت أصوات خطاب مما ريةة؛ يمثله، ظلومية أخرى عن الفظائع والكوارث والعنف والبربرية والكراهية التي يتعرض لها المسيحيون والعلويون في سوريا والتي ستقضي على وجودهم في سوريا إذا ما نجحت الثورة والمعارضات السورية(التي تم اختزالها إلى “جماعات سنية” أو “كتائب إسلامية” فقط لا غير)، والذي تمت تسميته كذبًا وبهتانًا في هذا الخطاب بـ “حامي الأقليات” و ”نصير المظلومين والمهمشين” في المشهد العام والسياسي السوري – وعملت على الإمساك بزمام السلطة بدلًا عنه([17]). مما أنتج نموذج خطاب مظلومية حمله الكثير من مؤيدي النظام في سوريا وسوقوه في الأوساط المحلية والإقليمية والدولية([18]). ومع أن هذا الخطاب يركز على نحوٍ مباشر وأساسي على الإسهاب حول حالة تلك الأقليات ومعاناتها ومآسيها في المشهد السوري العام من دون أن يهاجم مباشرة هذا الآخر المزعوم الذي يعرض تلك الأقليات للخطر والموت، إلا أن المبالغة في التشديد على مأساة الأقليات المزعومة وتقديم مخيال غير واقعي ولا حقيقي عما يقترفه الطرف الآخر المضاد في حق تلك الأقليات. أنتج على نحوٍ غير مباشر، لكنه غير مضمر ولا مبهم، صورة سلبية وتضادية مغايرة على نحوٍ متطرف لهذا الآخر الأكثري المسلم السني، وعملت على شيطنته ودفع الرأي العام إلى إدانته واتهامه ومعاداته ومن ثمّ إلى كراهيته.

3. الحالة البحرينية

يعود خطاب التحريض والكراهية في البحرين إلى عدم تغلغل الإيمان بسواسية أبناء المجتمع، وإلى عدم احترام التنوّع. كما يعود إلى سياسات التمييز، ومحاولات السياسي استثمار الخطاب الطائفي الكامن في الصراع السياسي مع أو ضد النظام السياسي القائم. لكن ما يلفت النظر هنا، هو أن خطاب التحريض والكراهية الطائفي والعنصري والقبلي وغيره، إنما هو خطاب قديم، وليس خطابًا طارئًا، بل كان خطابًا مدجّنًا مسيطَرًا عليه، في حين أن الخطاب الذي يراد استزراعه ليكون متسامحًا ومتعايشًا مع الآخر، إنما هو خطاب جديد. حاول المثقفون تأصيله فترة السنوات العشر الأولى من عمر الإصلاحات، ولكنه لم يترسخ بما فيه الكفاية([19]).

وبالتالي حين انفجرت الأزمة السياسية، ظهر الخطاب القديم الراسخ، مشحونًا بالبغضاء والخشية من الآخر، ليأكل المنجز الذي كانت تنتظره دولة الحرية والعدالة والمساواة والتسامح، ويقضي عليه. على الرغم من أن ذلك لم يصل الى حدّ التقاتل، خاصة في ظروف منطقة تمور بالصراعات والتحولات السياسية. يوظّف فيها الخطاب الطائفي، خطاب الكراهية، والعنصرية، بأعلى درجاته، وهو أمرٌ لم يحدث من قبل في التاريخ الحديث. لهذا، فإن ما جرى في البحرين، لم يكن سوى امتداد لحالة عامّة خارجية، وربما كان جزءًا مما جرى خارج دولة البحرين، فأثّر على شرائح مجتمع باتت تشعر بالخشية على ذاتها، ولم تجد سوى الطائفة ملاذاً لها، والخطاب الطائفي مسوّراً لتخومها حماية لها من الاختراق النفسي والسياسي. فساهمت السياسة ومصالح السياسيين في تفجير أزمة الخطاب الطائفي([20]).

لهذا، فإن الخطاب الطائفي الذي هو موجود طيلة العقود الماضية، قد بقي محدود التأثير في شرائح مهملة، ولم يكن منتشرًا أو مؤثرًا على الحياة الاجتماعية العامة بين السنّة والشيعة. لكن انخراط السياسيين في استثماره، أدّى إلى تعميمه في القمّة والقاعدة على حدّ سواء، وشمل المؤسسات الأهلية والرسمية والدينية والمجتمع المدني وغيرها. فتمّ قولبة بعضها وكأنها مشروعات وطنيّة خالصة. فهذا يرفع شعار (إخوان سنّة وشيعة) في حين لا سنّة موجودين سوى بضعة أنفار، وهو يعلم أن ما يهمّه من حضور السنّي حضور مشروعه السياسي. وذاك يسمّي فعاليته بـ (الوطنية) وهو يعلم أن الآخر غائب ولا وجود له. وثالث يغلّف مواقفه بالوطنية في حين أن مشروعاته في جوهرها تكرّس حالة الطائفية والفرز في المجتمع([21]). هذه الوطنية كلٌّ يدّعي وصلًا بها، في حين أنها لا تعدو سوى القشرة الرقيقة التي تغطّي المشاعر والحسابات الطائفية. وفوق هذا، لا تزال المنابر الدينية والسياسية تصدح بالطائفية. بعضهم يتذاكى على الناس، وهناك آخرون، لا يهتمون بتزويق خطاباتهم، ويوصلونها إلى الجمهور بأقرب الطرق وأسرعها فتكًا. في حين لا تجد خطابات الكراهية محاسبة من أجهزة الدولة، وكأنها غائبة تمامًا عن المشهد، إما لأنها لا تستطيع محاسبة هذا الشيخ، أو ذاك السياسي، أو تلك المؤسسة، نظرًا لحصانات مفتعلة معنوية، أو لخشية أن تتهم بمحاباة هذا الطرف أو ذاك([22]).

يريد البعض أن يلقي بتهمة ترويج خطاب الكراهية على الدولة وحدها، تتحمّل المسؤولية الأكبر، خاصة إن سمحت لأجهزتها المشاركة فيها، أو وفّرت الأرضية للتنازع الاجتماعي، أو قصّرت في التعاطي مع المواطنين على قدم المساواة. لكن هذا (إن صحّ) لا يمكن أن يلغي مسؤولية المجتمع بشرائحه السنيّة والشيعية، بمن فيهم النخب المتعلمة والإعلاميون ورجال الدين، والسياسيون بشتى أصنافهم (الدينية والليبرالية والعلمانية). فحين تشتعل مشاعر التطرف، فإن الجميع يشارك في الفتنة والترويج لها، الجميع يتأثرون ويؤثّرون([23]).

حاول البعض أن يحل الإشكال بعيدًا عن السياسة. كالدعوة الى حوار بين رجال الدين، ووضع قوانين تضبط الخطاب الديني، لكن رجال الدين وحتى الإعلاميين إنما يتحرّكون في فضاء السياسة، ومحكومون بمعادلاتها، إن لم يكن بعض هؤلاء مدفوعين من السياسيين أنفسهم لتبنّي خطاب بمواصفات تحريضية تعمّم الكراهية في المجتمع. هل نبدأ بالحوار الداخلي المجتمعي أولًا لنصل الى حلّ سياسي؟ أم نبدأ بحل سياسي كون المصالح السياسية هي التي فجّرت الأزمة، ومن ثمّ سينعكس ذلك على النسيج الاجتماعي بما يخفض من سقف الكراهية؟ يصعب إيجاد حلٍّ سياسيٍّ بدون تهدئة مجتمعية؟ لأن السياسي، وهو إذ ينظر إلى رصيده من الجمهور، يخشى أن يقدم على تنازلات مطلوبة للحل التوافقي، فيثور عليه جمهوره كلما بدرت منه بادرة تنازل متبادل. لأن الشارع المتوتر بخطاب الكراهية، لا زال يحكم القيادات السياسية التي شحنته بالداء الطائفي، ولا زال يقلّص من هامش مناورتها السياسية من أجل الحل. كما أن الحوار المجتمعي سواء بين المجتمع المدني، أو بين رجال الدين، أو بين المثقفين على ضفتي الموالاة والمعارضة، إن لم يكن السياسي مؤيدًا ودافعًا له، فإنه سيفشل. وفي النهاية، لا تستطيع ماكنة المجتمع أن تتغلّب على إرادة السياسة، وتفرض إرادتها عليه.

لهذا، فإن المصالحة السياسية يجب أن تترافق مع المصالحة الاجتماعية. وكما الهدوء في الخطاب السياسي مطلوبٌ لتهيئة الأجواء وإنجاح الحوار بما ينعكس على الوضع الاجتماعي ويضعف خطاب الكراهية، كذلك، فإن الحوار الداخلي المجتمعي بحاجة إلى ترطيب وإلى مبادرات، تشجع السياسي على الاقتراب من الحل. كانت البحرين موطنًا للتعدد والتنوع الثقافي والمذهبي والتسامح، لكنها أصبحت متشرذمة اجتماعيًا، بعد أن اجتاحها طوفان الطائفية. كما لعب في نسيجها خطاب الكراهية، وجاس في ديارها تيار العنف والتشدّد([24]). كلّ هذا تمّ بأيدي أبنائها، بنخبهم السياسية والثقافية والدينية والإعلامية. حيث قادوا شرائح مجتمعهم إلى التذرّر والتطرّف والعنف والبغضاء والانقسام.

لهذا، فإن ثمار عقود طويلة من المحبّة والوئام والسلم الاجتماعي، ذهبت سدى على مذبح المنافع الخاصة، وباستهتار مريع. ليتجدد اليوم الحديث من جديد عن كيفية إعادة ما ضاع. ويتم طرح السؤال التالي: لماذا وصلت البحرين إلى حالة الانفصام؟ لأن ذلك سيقود إلى تخريب النسيج الاجتماعي، وإطلاق موجة الكراهية والعنف غير المسبوقة. لهذا، ضرورة الحاجة إلى عقود من البناء. ثلاث سنوات من التدمير الذاتي، ربما تحتاج إلى ثلاثة عقود لإعادة ما انهدم في الإنسان وفي المجتمع. لأن البناء الذي بدأ التفكّير فيه والحضّ عليه، لن يكون سهلًا، ولا يتمّ بالوعظ الديني، وبالمقالات والخطابات والتسويات الفوقية، بقدر ما يحتاج إلى رؤية استراتيجية صحيحة، قائمة على أُسس علميّة، تعالج المشاكل من جذورها. بحيث تجمّدـ إن لم تقضِ ـ على خطاب الطائفية والكراهية والمظلومية، وتزرع الأمل في الأجيال القادمة بعيش مشترك، وبحرية وعدالة ودولة قانون([25]). إن خطاب الكراهية الناتج من الإحساس بالمظلومية، مجرد منتج لأداء المجتمع بقواه السياسية والاجتماعية. إنه متفرّع من الطائفية التي كانت، ولا يمكن مكافحة المنتج من دون الغوص بعيدًا إلى جذوره واستئصالها.

4. الحالة العراقية

من الإشكاليات المطروحة على أتباع مذهب أهل البيت يبرز خطاب المظلومية في العراق بشكل جليًا، أيام عاشوراء الحزينة الإشكالية القائمة على أنَّ هناك اعتمادًا تامًاعلى منهج نشر المظلومية بغية إثبات الأحقية. مما يدل على أنَّ هذا المذهب عاطفي بالدرجة الأولى. يفتقر إلى الأدلة المقنعة، ويعتمد أسلوب الإلفات العاطفي من أجل استجرار التجاوب مع مطالبه لا عن تعقل وبرهان([26]). تبرز هذه الإشكالية في الممارسات التي يصرُّ عليها أتباعُ هذا المذهب في خصوص الأيام العاشورائية. إذ إنّها ممارسات تؤول إلى التمسُّك بهذا المنهج. إنها مليئة بالإشارة إلى مظلومية الحسين، وإذاعة ما وقع عليه من مصائب، والجهر على نحو المبالغة بها بما ينشر الحزن، والكآبة، والغم.

يكمن جوهر هذا الإشكال في كونه مادة خصبة لتفعيل العديد من المغالطات. وبالتالي، إثارة شبهة حاصلها يعتمد على إبراز هذا المذهب على أنَّه مذهب العاطفة، لا مذهب العقل. ونذكر ما يمكن أن يعبِّر عن بعض التساؤلات التي قد يقوي ظاهرُها هذا الإشكال، من خلال ما يلي:

أ. الناحية النفسية: يبرز هذا الجانب من خلال السؤال التالي: أليس للدوران في دائرة المظلومية، مردودات سلبية جدًا على المستوى النفسي؟ لأنَّ في ذلك ترسيخاً للانغلاق على الذات، والانكفاء على تحديد طاقاتها. مما يشكل مانعًا من بناء الحاضر، وصياغة المستقبل. لهذا، تؤدي ثقافة المظلومية، إلى صياغة حالة نفسية غير سوية عند الإنسان، وبعيدة عن الإنتاج، والتفاؤل، والرغبة في التقدم والعطاء، والأجدر هو تجاوز هذه الحالة، والانعتاق من سلطتها([27]).

ب. الناحية الاجتماعية: يتسبَّب الإصرارُ على نشر المظلومية في هذا الجانب بالحؤول دون تجاوز أخطاء الآخرين؟ وهذا أمر منفِّر، يتهدد العلاقات الاجتماعية، خصوصًا عند الفئة المتعاطفة مع الخصم.

ج. الناحية التربوية: يؤثر منهج نشر المظلومية في الأجيال، بحيث يفرض عليها أن تعايش ماضيًا لم يكن لها ذنب في صياغته، ولا تحمل القناعة تجاه جميع أطرافه. الأمر الذي يستنزف طاقة الجيل، ويهدرها في غير موضعها.

لهذا، يمكن أن النظر إلى هذا الإشكال على أنَّه بحاجة إلى جواب. خاصة وأنَّ هناك آثاراً سلبية مدّعاة على أصعدة مختلفة، تنتج عن هذا المنهج الذي يمارس باعتباره عقيدة في أيام عاشوراء على المستوى الاجتماعي. لأنَّ مسألة بناء الدين على العاطفة، والاعتماد على جلب انتباه الآخرين عاطفيًا إلى العقيدة الحقَّة، ليست مسألةً مخالفةً للعقل والمنطق كما يصوِّرُ أصحاب الإشكال، بل على العكس من ذلك تمامًا، فمع التركيز على منهج القرآن الكريم، وسلوكيات الأنبياء والرسل، نجدُ بوضوح أنَّ هناك اعتمادًا واضحًا على منهج التعاطف لديهم، بل يوجد نظرية جافة خشنة غير مستساغة. إلا أنَّ طريق العاطفة لوحده لا ينتج دينًا كاملًا، بل ينتج طقوسًا فارغة، فالطريق الصحيح هو إنزال الدين البرهاني في قوالب عاطفية. ليجد طريقه إلى التطبيق، والتفاعل. من خلال ما تقدم انبثق منهج المظلومية دينيًا. إذ إنَّنا نجدُ الدين يدعو لممارسة هذا المنهج دون أيِّ تحرُّج، لكونه منهجًا عاطفيًا مستندًا إلى العقل، لا مجردًا عنه([28]). وكان أبو ذر يعبر عن أمير المؤمنين في الإشكال من استنقاص منهج نشر المظلومية لاعتماده أسلوب الاستعطاف للآخرين مبني على فهم منقوص، ونظرة أحادية، تفهم الدين على أنَّه مجرد براهين، دون أن تستطيع أن تفرِّق بين دور البرهان في إسناد خيمة الدين ابتداءً فقط، وبين كونه المصدر الوحيد للتدين. فالأمر ليس كذلك، ويدل على ذلك ما يشهد به الوجدان، مما يحتاج إلى تبين نِسَبي إحصائي لما نلمسه من تأثير عقدي وأخلاقي واجتماعي إيجابي واضح، ينطلق من تأثر العديد من الفئات المختلفة من مظلومية الزهراء، فإنَّ نشر هذه المظلوميات بالطريقة الواعية. تسبب في اهتداء الكثيرين من الضلال، وكانت نقطة انطلاق الهداية شعور بتعاطف كبير مع الزهراء أو مع الحسين، وهذا دليل وجداني على إيجابية هذا المنهج. الجواب الثاني: ما يوضّح الخلط في النواحي المذكورة في الإشكال. مما يستوجب تحديد ثلاث قضايا أساسية:

1. التمييز بين المظلومية المحفزة والمثبطة: هناك فرق كبير بين الإصرار على المظلومية بما تؤدِّي إليه من تثبيط، وتراجع، وانتكاس للماضي، وعدم اتزان في الحالة النفسية، والانحصار في الكآبة والحزن السلبي، وبين الإصرار على المظلومية من أجل أن تكون دافعًا لبناء الحاضر والمستقبل. وذلك راجع إلى المنطلق في فهم هذه المظلومية، والقرار بيد نفس صاحب المظلومية. حيث يستطيع بفهمه الضيق أن يبقي المظلومية في نطاقها المحدود المعطَّل، ويحولها بفهمه المنفتح إلى آلة يوظفها للبناء لا للتهديم.

فكم من شخصية تعرَّضت إلى الظلم الشديد، فاستطاعت من خلال ما عاشته من شعور الانظلام والحسرة والحزن، أن تغيِّر الواقع إلى واقع مغاير متقدِّم جدًا. لم تكن لتصل إليه لو لا ما عاشته من مظلومية، شكَّلت بالنسبة إليها حافزًا قويًا للتغيير والتطوير، وهناك أمثلةٌ كثيرةٌ حوَّلت مراكز الضعف عندها إلى قوَّة، وكان النقصُ الداخلُ عليها مدعاة للمراجعة والتصحيح والأمل والهمَّة العالية. كما تجلى في قصص الملهمين على مستوى العالم، والتي صارت محطًا لاهتمام الدراسات السيكولوجية، والأبحاث والمحاضرات التنموية البشرية، يعتمد عليها المدربون، والمطورون، والمحاضرون، والمحفزون؛ من أجل تغيير واقع الآخرين، وتحويل فشلهم إلى نجاح. لكن هؤلاء يخلطون بين المظلومية المحبطة، والمظلومية المحفزة، فعلى الإنسان أن يعرف الفرق بينهما من أجل استثمار فرصة المظلومية، وتحويلها إلى أداة بناء، لا هدم([29]). ترتبط بالجانب الأوَّل المستشكِل على منهج المظلومية من الناحية النفسية.

2. التمييز بين المظلومية الشخصية والعامة: هناك مظلومية شخصية، آثارها مقتصرة على الشخص نفسه، فتدخل عليه بالنقص الشديد، دون أن تؤثِّر مباشرةً على غيره، كأن يُظلم الإنسان بانتهاب ممتلكاته، أو إسقاط سمعته، أو سلب حريته، أو ما شاكل ذلك، وهناك مظلومية عامة، يدخل النقص فيها على المجتمع ككل، فهي تمسُّ شأن الأمة، وتؤثِّر على صلاحها وفسادها. أما المظلومية الأولى فقد يحسن تجاوزها في بعض الأحيان مراعاةً لمصلحة أكبر منها، كالمحافظة على العلاقات الاجتماعية في أطرها العامة على الأقل، خصوصًا مع ملاحظة طبيعة الموضوع، وما يترتب عليه من مكتسبات صغيرة. بينما المظلومية الثانية، لا وجود لأمر أكبر منها مصلحةً. إذ إنَّها تضرب على وتر المصلحة العليا، وتصرخ من وطأة المفسدة الكبرى. ونشر المظلومية في هذه المساحة، يعني إرجاع الأوضاع إلى نصابها الصحيح، وذلك عبر التأثير على الآخرين بجلب التعاطف الذي يستتبع النصرة، والدعم، وإلا أصبح بقاءُ الوضع على ما هو عليه استمرارًا للمفسدة العليا([30]). والمظلومية التي يتمسك بنشرها في عاشوراء، يعدّونها مظلومية عامة، وليست مظلومية شخصية، على الرغم من ارتباطها بمظلومية الحسين، وبيانها للعالم. لكنها تساهم في تفكيك العلاقات الاجتماعية المحدودة بالإصرار على نشر مظلومية الحسين، كما قد تُجدَّد خلافات عقائدية كبيرة بالإصرار على نشر هذه المظلومية.

3. التمييز بين المظلوميّة الجزئية، والرمزية: إن ما يفهم من التوجيهات المباشرة في هذا الشأن، ليس فقط رجحان التمسك بمنهج المظلوميّة([31])، بل ضرورته، وأهميته. ذلك أنَّ المسألة لا تجمد عند الأشخاص بما هم، بل إنَّها تبدأ منهم لتتعدى إلى الرمزية الكامنة فيهم. ومن ثمّ، فإنَّ التركيز على منهج المظلوميّة هو تركيز على المبادئ، وليس انتصارًا لأخطاء وقعت في زمان معين بين أشخاص معينين. وهذا ما يفسِّر فهم الآخرين على أنَّه مبالغة في تجديد الذكريات تحت حجة المظلومية.

خلاصة

إن ما يتسبب به العنف الإذلالي، والممارسات التمييزية بعامة، وما تعممه سرديات المظلومية، هو بالضبط وقف الأفعال الانعكاسية، وتعطيل القدرة على الخروج من النفس والنظر إليها من خارجها ومساءلتها عن أفعالها. بمعنى توقفُ أفعالِ مراجعةِ النفس. لأن الإنسان ينكمش على نفسه أو يتجمع عليها، حين يتعرض لعدوان ممن لا قِبَل له به، محاولًا بذلك تقليل مساحة التعرض للأذى. يتقوقع على نفسه أو الجماعة على نفسها، ويتطور له درع خارجي صلب، يحول دون الحركة الطليقة من النفس وإليها، وتاليًا من ملاقاة آخرين والتعرف إليهم ومشاركتهم، مما يختنق في هذا التندّب أو يضمر. هذا التعدد داخل النفس، لا يقتصر على تندّب أو تقوقع وضمور، بل يتعزز كذلك بنزوع خاص، تُحفزه الضرورة على الاستغناء عن الضمير كشيء كمالي في أوقات العسر لضمير مبدأ الغيرية، للشعور بالغير وتقمص الغير. لهذا، يشعر الإنسان بمظلومية قائمة على الكراهية. لأنه يشعر بشروط نازعة لإنسانيته. الأمر الذي يجعله يتصرف من خلال صور غير إنسانية صونًا لفرص بقائه.

قائمة المصادر والمراجع

1. مراجع باللغة العربية

مرقص. إلياس، نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن، ط1(بيروت: دار الحقيقة، 1970).
غليون. برهان، المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، ط2(بيروت: دار الطليعة، 1989).
البحيصي. حمزة، طقوس الولاء لمظلومية كربلاء، ط1(لندن: منشورات الكتب، 2023).
الحاج صالح. رشيد، تفاعل المثقفين مع الثورة السورية، ط1(إسطنبول: معهد العالم للدراسات، 2018). بشتاوي. عادل سعيد، الظلم العربي، ط1(بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005).
ـــــــــــــــــــــــــــــ، تاريخ الظلم الأمريكي وبداية زمن الأفول الإمبراطوري المديد، ط1.
المسدي. عبد السلام، مراجعات في الثقافة العربية، ط1(قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017).
العروي. عبد الله، نقد المفاهيم، ط1 (الدار البيضاء/ المغرب: المركز الثقافي العربي، 2018).
مصطفى. عدنان ياسين، الأمن الإنساني والتنمية في العراق، وفاعلية السياسيات، ط1 (عمان: دار أمجد للنشر، 2016).
بشارة. عزمي وآخرون، المسألة الطائفية وصناعة الأقليات في الوطن العربي، ط1 (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، 2017).
وافي. علي عبد الواحد، مقدمة ابن خلدون، ط6 (القاهرة: دار نهضة مصر، 2012).
بوزياني. فاطمة الزهراء، مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وابن خلدون، ط1 (الجزائر: منشورات جامعة أبي بكر بلقائد، 2012).
ربيع. محمد عبد العزيز، الثقافة وأزمة الهوية العربية، ط1(الأردن: دار ورد، 2019).
الجابري. محمد عابد، العصبية والدولة، ط1(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994).
ــــــــــــــــــــــــــــــ، العقل السياسي العربي، ط2 (الدار البيضاء/ المغرب: المركز الثقافي العربي، 1991).
الأهواني. أحمد فؤاد، الحب والكراهية، ط1 (القاهرة: مؤسسة هنداوي للنشر، 2017).

2. المراجع باللغة الأجنبية

• Brandel, F, Ecrits sur l’Histoire, (Paris, Flammarion, Paris, 1969).
• Eve Feuillebois Pierunek et Autres, Théâtres d’Asie et d’Orient (Bruxelles, éd scientifiques internationales, 2012).

3. المراجع المترجمة

شافر. روي، الاختبارات الإسقاطية والتحليل النفسي، محمد محمود خطاب (مترجم)، ط1 (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1996).

1- محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994)، ص 62.
2- محمد عبد العزيز ربيع، الثقافة وأزمة الهوية العربية، ط1(الأردن: دار ورد، 2019)، ص 152.
3- المرجع نفسه، ص 174.
4- المرجع نفسه، ص 178.
5- برهان غليون، المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، ط2 (بيروت: دار الطليعة، 1989)، ص 174.
6- مصطفى عبد الله خشيم، أزمة الخليج بين الإرادة الشعبية ومصالح الحكومة، مجلة الوحدة، العدد 88 (كانون الثاني/ يناير 1992)، ص 38.
7- غليون، ص 183.
8- محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ط2 (الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي، 1991)، ص 33.
9- المرجع نفسه، ص 73.
10- أحمد فؤاد الأهواني، الحب والكراهية، ط1 (القاهرة: مؤسسة هنداوي للنشر، 2017)، ص 65.
11- المرجع نفسه، ص 124.
12- علي الصراف، أزمة لبنان الحقيقية: الكيان والدولة، صورة لتناقضات الخطاب الأقلوي، مجلة الوحدة، العدد 98 (1992)، ص 85.
13- المرجع نفسه، ص 103.
14- عادل سعيد بشتاوي، الظلم العربي، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005)، ص 21.
15- إلياس مرقص، نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن، ط1(بيروت: دار الحقيقة، 1970)، ص 350.
16- رشيد الحاج صالح، تفاعل المثقفين مع الثورة السورية بين الواقع والمأمول، ط1 (إسطنبول: معهد العالم للدراسات، 2018)، ص 66.
17- المرجع نفسه، ص 73.
18- غسان سلامة، قوة الدولة وضعفها: بحث في الثقافة السياسية العربية، مجلة المستقبل العربي، العدد 9 (1987)، ص 112.
19- غليون، ص 91.
20- عبد السلام المسدي، مراجعات في الثقافة العربية، ط1 (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 16.
21- عبد الله العروي، نقد المفاهيم، ط1 (الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي، 2018)، ص 11.
22- فاطمة الزهراء بوزياني، مفهوم الحضارة بين مالك بن نبي وابن خلدون، ط1 (الجزائر: منشورات جامعة أبي بكر بلقائد، 2012)، ص 126.
23- عادل سعيد بشتاوي، تاريخ الظلم الأمريكي وبداية زمن الأفول الإمبراطور.
24- حمزة البحيصي، طقوس الولاء لمظلومية كربلاء، ط1 (لندن: منشورات الكتب، 2023)، ص 93.
25- البحيصي، ص 84.
26- عدنان ياسين مصطفى، الأمن الإنساني والتنمية في العراق، وفاعلية السياسيات، ط1 (عمان: دار أمجد للنشر، 2016)، ص 131.
27- المرجع نفسه، ص 155.
28- العروي، ص 92.
29- بشتاوي، الظلم العربي، ص 25.
30- بشتاوي، الظلم العربي، ص 59.
31- روي شافر، الاختبارات الإسقاطية والتحليل النفسي، محمد محمود خطاب (مترجم)، ط1 (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1996)، ص 141.

  • باحثة مغربية في مجال التراث والنقد الأدبي العربي والشؤون التربوية، شهادة الدراسات الجامعية العامة (أدب حديث)، شهادة الإجازة العليا (اللغة العربية وآدابها)، عضوة في جمعية الفوانيس المسرحية، عضوة في جمعية المنار للثقافة والتربية. من مؤلفاتها: (أمسية الغرباء "قصص"، 2002، دار القرويين، المغرب)، (طائر الموت "قصص"، 2006، مطبعة الأندلس)، (عوالم الصحراء؛ التقاليد والعادات، 2008، المغرب)، (طريق قصبات الجنوب، دراسات في التراث المادي، 2011، المغرب). نشرت دراسات ومقالات نقدية عديدة في مجلات ودوريات عربية متنوعة (مجلة البحرين الثقافية، مجلة العربي، مجلة تراث الإماراتية، مجلة الكويت، مجلة العربية والترجمة، جريدة الفنون الكويتية)، وفي جرائد ومجلات مغربية.

مشاركة: