حالة الاستثناء في سورية الأسد

تحاول هذه الدراسة أن تفكر تحليليًا ونقديًا، في الواقع السياسي العربي، من خلال الأدوات والمفهومات، التي أنتجتها الخلفيات الفلسفية والسياسية للمفكر والفيلسوف جورجيو أغامبين. وهي مفهومات ساهم في سيرورة تشكلها كثيرٌ من المرجعيات الفلسفية والمعرفية والإبستمولوجية، والسياسية، والأيديولوجية. نذكر على سبيل المثال لا الحصر تفاعله النقدي البناء والخلاق مع كل من كارل شميت، فالتر بنيامين، مشيل فوكو، حنة أرنت…

كما أن الأدوات والمفهومات النظرية التي اشتغل عليها أغامبين، إنتاجًا وبناءً وتأسيسًا لجدل تكاملها المعرفي النظري والمنهجي، تبقى حاضرة بقوة في ترابطاتها شديدة التركيب والتعقيد، في تمفصلها وتضافرها وتلازمها البنيوي. وذلك لتعميق الرؤية الفلسفية السياسية، وتوسيع المنظور المنهجي التعددي التكاملي في دراسة الظواهر والقضايا الاجتماعية، والقانونية والسياسية.

هذا يعني أن دراسة حالة الاستثناء الأبدي التي تعرفها البلدان العربية تترابط جدليًا مع مفهومات ومصطلحات: الإنسان المستباح، حالة الطوارئ، الحياة العارية، السلطة السيادية، السلطة الحيوية، الدكتاتورية، والبيوسياسة، والتناتوسياسة، سياسة القتل، الحصار والمعتقل والتهجير، والعنف السياسي والقانوني…

وهي مفهومات علمية قادرة تحليليًا ونقديًا على إنتاج معرفة بواقع حالة الاستثناء السائدة في المنطقة العربية. وسنبحث في هذا السياق، كنموذج، حالة الاستثناء السورية، التي تحضر وتتكشف فيها جميع حالات الاستثناء العالمية والإقليمية والمحلية، أكانت تلك الصريحة المستبدة منها، أم التي تتقنع برداء الديمقراطية، أو بالنزاهة والعدالة القانونية السياسية، كما هو الشأن بالنسبة إلى القانون الدولي ومؤسساته الرسمية. وتتجلى، حالة الاستثناء، بصورة واضحة لا لبس فيها بين الطغيان والتوحش الصريح المحلي، والاستبداد والقهر التسلطي الإقليمي المكشوف، والدكتاتورية أو الديمقراطية على المستوى العالمي.

بهذا المعنى نعتقد في أهمية وضرورة التفكير نقديًا مع جورجيو أغامين الوقائع والحوادث الحية لحالة الاستثناء التي عمت، بتفاوت في الشدة والحدة والمدة والامتداد، العلاقات الداخلية لكل بلد، والعلاقات الخارجية الدولية.

أولًا: حالة الاستثناء

لقد تشكلت هواجس وانشغالات وأسئلة أغامبين الفلسفية والقانونية والسياسية، ليس انطلاقًا من هم معرفي نظري علمي فقط، بل أيضًا بسبب ارتباطه الذاتي والموضوعي بالصراع السياسي الاجتماعي الذي تعيشه البشرية. خاصة في ظل النظام الرأسمالي الإمبريالي والنيوليبرالي، في سيرورة تكونه وتطوره، مع سيطرته وهيمنته وتحكمه في الفرد والجماعة، في العقول والأجساد، في الحريات والحقوق، في المجتمع والدولة والثقافة والتاريخ…

لذلك كان ناقدًا شرسًا لجميع حقائق ومظاهر القهر الدكتاتوري، والإذعان التسلطي، والعبودية المستحدثة باسم حماية الشعب والدولة. وهذا ما جعله يرفض جملة وتفصيلًا جميع المسوغات والمبررات الفلسفية والسياسية التي أنتجها كارل شميت في دفاعه المستميت نظريًا، عن الشمولية النازية، من خلال، مجموعة من الأعمال الفلسفية السياسية، كالدكتاتورية، واللاهوت السياسي، ومفهوم السياسي…

لهذا نقد ونقض أغامبين أغلب الطروحات النظرية لكارل شميت حول السلطة السيادية الدكتاتورية التي تفرض هيمنتها وسيطرتها وتسلطها الطغياني على العقول والقلوب والأجساد. مختزلة السيادة والقانون والسياسة والسلطة في الحاكم بوصفه صاحب السيادة الذي يستأثر وحده بالسلطة المطلقة، بالتقرير والتشريع والتنفيذ باسم القانون من خارج القانون، مستحدثًا وضعًا من حالة الطبيعة، كما هي عند هوبز. يحدث هذا بعد أن علّق صاحب السلطة المطلقة القانون وفرضَ حالة الاستثناء التي تجعله وحده خارج القانون، صاحب السيادة، الذي لا شريك له في سلطة السيادة. واضعًا الأفراد والجماعات والمجتمع خارج دائرة الوجود البشري القانوني والحقوقي، والحضور السياسي الاجتماعي والتاريخي. وهذا ما يسميه أغامبين الحياة العارية، التي تفتح الباب واسعًا للنفي والإقصاء والتهجير والقتل خارج المنطق القانوني الحقوقي للجريمة والإبادة. لأن هذا الوضع ببساطة يجعل الناس في حالة الإنسان الحرام/المقدس، الإنسان المستباح، المهدور دمه، خارج منطق القتل والمتابعة القانونية للقاتل.

هكذا هي “مفارقة السيادة، صاحب السيادة كائن في الوقت نفسه خارج النظام القانوني وداخله (أنا صاحب السيادة، الكائن خارج القانون أعلن أنه لا وجود لما هو خارج القانون)”[1].

انطلاقًا من هذه المفارقة المشحونة بالالتباس بين القانون/الحق والواقع تتأسس لحظة الاستثناء كعتبة عدم تمايز تفارقية بين الداخل والخارج بين حالة الطبيعة والقانون. ففي هذا الوضع المستحدث من تعليق القانون، من خلال استبطانه واجتيافه، تسود حالة الطبيعة نافية ومستبعدة النظام القانوني والحقوقي السياسي. وهذا ما يسمح لكارل شميت بالقول: “القرار السيادي يبرهن على أنه لاستحداث القانون لسنا في حاجة لنكون على حق”[2]. هذا يعني أن حالة الاستثناء يكون لها شكل سياسي قانوني بما لا يمكن أن يكون قانونيًا. ينتج هذا الوضع الدكتاتوري حين تلتهم السلطة المطلقة السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، إلى درجة عدم التمييز بين هذه السلطات كلها. إننا في حالة الاستثناء هذه أمام نموذج للحكم تلجأ إليه السيادة الدكتاتورية للسطو على السيادة الشعبية، بدواع أمنية، حربية، تهديدات مرتبطة بالدولة والشعب…

وغالبًا ما تتستر وراء المصلحة العامة في لجوئها إلى منطق وقانون الضرورة التي لا قانون لها. حيث تجعل هذه الضرورة ما هو غير مشروع في القانون مشروعًا. فالضرورة لا تعرف القانون، بل تخلق قانونها الخاص. “خاصية الوضع المستحدث في الاستثناء هي أنه لا يمكن تعريفه لا على أنه وضع واقع ولا على أنه وضع حق. إنه ينشئ بالأحرى بين هذين الوضعين عتبة عدم تمايز تفارقية”[3].

ويخبرنا أغامبين أن حالة الاستثناء متجذرة بنيويًا في التاريخ السياسي الغربي. فقد عرفتها البلدان الغربية، من فرنسا إلى أميركا، بجميع توجهاتها السياسية اليمينية واليسارية. حيث تحولت السلطة التنفيذية إلى هيئة تشريعية، في تخلٍ واضح للبرلمان عن سلطته الدستورية. ومن ثمّ سادت في تاريخ هذه البلدان حالات الأحكام العرفية وحالات الطوارئ…، وهذا ما جعل “السلطة التنفيذية تبتلع السلطة التشريعية، مما أدى إلى بروز جمهورية حكومية وليس برلمانية”[4].

هذا الوضع المستحدث والناتج من التقدير الذاتي السياسي، البعيد كليًا عن فزاعة الضرورة والمصلحة العامة، يخلق التباسات معقدة في العلاقة بين الواقعة والقانون، بين سريان القانون المعلق واستحالة التطبيق. “بوسعنا أن نصف حالة الاستثناء وفقًا لنظرية شميت بأنها الحيز الذي يصل فيه التعارض بين القاعدة وتطبيقها لأقصى درجات التركز. إنه حقل للتوتر القانوني يتلاقى فيه أدنى حد من السريان الشكلي مع أقصى درجة للتطبيق الفعلي وبالعكس… حالة الاستثناء التي تظل القاعدة فيها سارية دون تطبيق”[5].

وفي ظل هذا الالتباس تتغول السلطة المطلقة للحاكم، صاحب السيادة الذي لا شريك له في اعتلاء عتبة حيز المفارقة بين كونه خارج القانون، ومشرعًا ومنفذًا وحيدًا لإجراءات ومراسيم وتعاليم، تكتسب قوة القانون. هكذا يهدر القانون ويهمل على الرغم من كونه ساريًا، لكن من دون مفعول، ومن دون دلالة.

“حالة الاستثناء تشير إلى حالة قانون تحتفظ فيها القاعدة المعيارية بسريانها دون أن تطبق (أي ليس لها قوة) من جانب، ومن جانب آخر ثمة تدابير تكتسب قوة القانون دون أن تكون له مرتبته… حالة الاستثناء فضاء لا معياري مثار الاهتمام هو قوة قانون بلا قانون… إن تطبيق القاعدة يستلزم في النهاية تعليق تطبيقها وإنتاج الاستثناء”[6].

وينبهنا أغامبين إلى أن هذا الحضور القوي لصاحب السيادة في ممارسته للسلطة المطلقة، بعد تعليق القانون، من خلال تخريب متعمد لمضامينه ودلالات قواعده التطبيقية، لا يعني أننا أمام دكتاتورية من القانون المطلق. بقدر كون هذا الواقع يمثل حالة استثناء تعيش تعليقًا وفراغًا قانونيًا، في ظل دولة البنى المزدوجة. حيث يعمل القانون على استيعاب واحتواء غياب القانون نفسه.

” إن حالة الاستثناء ليست ديكتاتورية، بل هي فضاء ذو فراغ قانوني، حيز من اللامعيارية تتعطل فيه كل التمايزات القانونية وعلى رأسها التمايز نفسه بين العام والخاص”[7].

ثانيًا: التلازم البنيوي بين حالة الاستثناء وحالة الطبيعة

في حالة الاستثناء التي يفرضها الحاكم صاحب السيادة، من خلال تعليق القانون، ووضع نفسه خارج القانون باسم القانون الذي يأخذ شكل إجراءات ومراسيم وتدابير لها قوة القانون. في هذا الفضاء السيادي للدكتاتور ينتشر التصحر السياسي، ويتم الإجهاز على الخصوم الذين يرفضون الاندماج السياسي في حالة الاستثناء. هكذا يسود العنف السيادي ويتحول الوضع إلى حالة الطبيعة. وهذه الأخيرة لا تعني الحياة، كمرحلة تاريخية ماضية من الحياة العارية التي عاشتها البشرية في تطورها التاريخي الاجتماعي. بل يتعلق الأمر بوضع مستحدث فرضته حالة الاستثناء التي ابتلعت فيها السلطة التنفيذية السلطة التشريعية، السلطة السيادية للشعب.

لذلك فإن ما بصدد الحدوث لا يعني، “عودة ظهور حالة طبيعية لصراع الجميع ضد الجميع… وإنما بالأحرى على أنها بروز حالة الاستثناء من حيث هي بنية قارة لزعزعة الموضعة وللتصدع القانوني السياسي. لا يتعلق الأمر بتقهقر التنظيم السياسي نحو أشكال بالية، وإنما بأحداث متوقعة تنبئ، وكأنها نذر دامية، بناموس الأرض الجديد”[8].

هكذا يعيش الناس الحياة العارية معرضين لجميع المخاطر والنبذ والنفي والتخلي من جهة القانون، أي بصفتهم الكائن المتخلى عنه. واستحداث هذا الوضع من حالة الطبيعية التي تصير فيها حياة الإنسان مستباحة، ومعرضًا للقتل، من دون أن تكون له صفة الضحية، ولا يسمى القاتل مجرمًا، أو يمكن أن يتعرض للعقاب والمتابعة القانونية. لأن “العنف السيادي يفتح منطقة عدم تمييز بين القانون والطبيعة، بين الداخل والخارج، بين العنف والحق”[9].

فالحياة العارية هي الشكل السياسي للسلطة السيادية في سيطرتها وهيمنتها. إنها تعمل على إنتاجها بوصفها “الأداء الأصلاني للسيادة. الخاصية المقدسة للحياة التي نحاول اليوم إبرازها بوصفها حقًا إنسانيًا أساسيًا ضد السلطة السيادية، على العكس من ذلك هي في الأصل تعبير عن إخضاع الحياة لسلطة الموت، عن عرضها المحتوم في علاقة الإهمال”[10].

وليس غريبًا في ظل هذا الوضع أن يسود نوع من الترابط الجدلي بين التحكم الأبوي في الرقاب والسلطة السيادية. وهو ترابط بين النظام الأبوي وسلطة الحاكم المطلقة، ويعني هذا تحكم السلطة في الحياة والموت. وهذا ما يجعل خطاب السلطة المطلقة اليوم مفعمًا ومشحونًا بعبارات الأب القائد، والأب الخالد، في تماه واضح بالأب والإله. “نفوذ الحاكم ليس هو غير تحكم الأب برقاب أبنائه ممتدًا إلى كل المواطنين…قد لا يسعنا أن نقول بأكثر وضوحًا إن الأساس الأول للسلطة السياسية هو حياة معرضة بإطلاق للقتل الذي يتسيس عبر إمكانية الإعدام هذه ذاتها… استحالة فصل السلطة عن التحكم بالحياة والموت”[11].

هذا هو واقع حالة الاستثناء التي يفرضها الحاكم الدكتاتوري، كما يمكن أيضًا أن تأتي حالات الاستثناء من البلدان الديمقراطية. ولعل في السرد التحليلي النقدي الذي قام به أغامبين في كتاباته، وخاصة في كتاب (المنبوذ السلطة السيادية والحياة العارية) وأيضًا في كتاب (حالة الاستثناء الإنسان الحرام)، حول حالة الاستثناء في البلدان الغربية من فرنسا إلى أميركا، خير دليل على عدم ارتباط حالة الاستثناء بالأنظمة الدكتاتورية. والأكثر من ذلك في تناوله لحالة الاستثناء التي فرضتها أميركا داخليًا وخارجيًا بعد حوادث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. حيث مارست نوعًا قذرًا من الحياة العارية في حق كثير من الشعوب أفرادًا وجماعات. وخرقت جميع الشرائع والقوانين الدولية والإنسانية، وتصرف حكامها بوصفهم أصحاب السيادة الذين يمكن أن يعتدوا كما يشاؤون على الناس، بوصفهم ما دون البشر. “على عكس ما اعتادت الحداثة تصويره على أنه فضاء للسياسة في صيغة حقوق المواطن، الإرادة الحرة والعقد الاجتماعي، من وجهة نظر السيادة وحدها الحياة العارية سياسية على الحقيقة. لذلك لا يتمثل أساس السلطة السيادية عند هوبز في تنازل الرعايا عن حقهم الطبيعي بقدر ما يتمثل في كون صاحب السيادة يحتفظ بحقه الطبيعي في الفعل دون حدود إزاء أي إنسان وأي شيء، وهو امتياز يمثل منذ تلك اللحظة بوصفه حقًا في العقاب”[12].

وهذا الواقع الجديد من الحياة العارية، أو حالة الطبيعة التي لا تعني النكوص والعودة إلى ما قبل الثقافة والقانون، بل هي حالة استثناء بامتياز كبير، تم فيها السطو على سلطة السيادة، وإخراج الناس من دائرة السياسة، وتعليق القانون. وفرض حالة الطبيعة والحياة العارية داخل المجتمع. يتم ذلك من خلال اللاتمايز الذي يسود بين الحق والواقع، وبين واقع التخلي والإهمال والنبذ والاستباحة والقانون. وهذا ما يجعل العنف السيادي سيد الموقف. “حالة الطبيعة وحالة الاستثناء ليستا غير وجهي نفس المسار الطوبولوجي حيث ما كان مفترضًا خارجًا (حالة الطبيعة) يظهر حاليًا من جديد في الداخل بوصفه حالة الاستثناء”[13].

ثالثًا: المعتقل فضاء استثناء

المعتقل هو أرقى أشكال العنف السياسي، الذي تمارسه السلطة المطلقة الشمولية، في سعيها لفرض السيطرة والهيمنة. إنه تعبير جلي على حالة الاستثناء، وتجسيد حي لحالة الطبيعة والحياة العارية للإنسان المستباح، المعرض للقتل في أي لحظة. كما أنه متروك للمنفى مأواه، حيث تم التخلي عنه في العراء. وهذا ما يجعله هدفًا سهلًا لسياسة الموت (تناتوسياسة). حيث “أي شخص يكون دخل معتقلًا يكون دخل منطقة عدم تمييز بين الداخل والخارج، بين الاستثناء والقاعدة، بين المباح والمحظور، حيث مفاهيم الحق الذاتي والحماية القانونية ذاتها لم يعد لها معنى”[14].

لذلك فإن المعتقل، بوصفه حياة عارية، هو نتيجة حالة الاستثناء التي يقررها الدكتاتور صاحب السيادة. من دون أن يكون لسياسة الموت التي يمارسها أي بعد قانوني، ومن دون أن تكون ثمة جريمة قتل. والأكثر من ذلك فهو يذهب بعيدًا في ممارسته السياسية، كطاغية في التقرير في ما يخص الحياة العارية، أي الحياة التي يجدر أن يعيشها الناس.

“عندما تنحو الحياة والسياسة إلى التماهي وهما المفصولتان والمتمفصلتان بالأصل بينهما بالأرض المقفرة لحالة الاستثناء حيث تقطن الحياة المنبوذة، حينها تصبح الحياة بتمامها منبوذة وتصبح السياسة كلها استثناء”[15].

مثل هذا الواقع الراعب لحالة الاستثناء والحياة العارية، يُؤسس سياسيًا لآليات وأدوات القتل والنفي والاستباحة والدم المهدور…، وضمن هذه الأدوات الجهنمية يبرز المعتقل بوصفه فضاء استثناء يعمل على تأبيد وديمومة حالة الاستثناء، كنظام غريب خارج القانون، يمتح وجوده من تكريس حالة الاستثناء، من خلال قانون الطوارئ والضرورة والأحكام العرفية. “المعتقل هو الفضاء الذي ينفتح عندما تبدأ حالة الاستثناء في التحول إلى قاعدة. حالة الاستثناء التي كانت بالأساس تعليقًا مؤقتًا للنظام القانوني على قاعدة وضع حقيقي للخطر، تكتسب من الآن فصاعدًا في المعتقل قاعدة مكانية دائمة غير أنها تظل باستمرار من حيث هي كذلك خارج النظام العادي”[16].

لذلك يمثل المعتقل التجسيد الحي لمفارقة وجود صاحب السيادة سياسيًا وقانونيًا. حيث لا شيء معياري أخلاقي قانوني سياسي. واقع من عدم التمييز بين الداخل والخارج، بين تعليق القانون واستمراره من دون أي دلالة، بين الحق والواقع، بين الاستثناء والقاعدة، بين المسموح والممنوع. جميع الفظاعات وما لا يُصدّق من الأفعال والحوادث والممارسات تقع داخل المعتقل. وفي فضاء الاستثناء هذا، وبعيدًا من القانون العادي، تسود حالة الطبيعة، كحياة عارية خالية من أي قيمة إنسانية، وحس أخلاقي بشري. الإنسان يقتل ويعذب ويسحق ويباد، لا لدينه، لغته، عرقه، قوميته…، بل لكونه قملًا، بلغة هتلر، أو جراثيم بلغة بشار الأسد…

“لاحظت حنة أرنت أن المعتقلات هي الموضع الذي يظهر فيه بتمام الوضوح المبدأ الذي يحكم الهيمنة الكليانية، أي المبدأ القائل إن كل شيء ممكن، أن الحس المشترك يرفض بعماد الاعتراف بذلك. لأن المعتقلات ليست سوى فضاء استثناء وحسب مثلما رأينا ذلك، فضاء لم يقع فيه تعليق القانون بشكل تام فقط، وإنما علاوة على ذلك يختلط فيه الحق والواقع تمامًا، فإن كل شيء يصبح ممكنًا فيه. ما لم نفهم هذه البنية القانونية الخاصة للمعتقلات التي مهمتها هي تحديدًا تحقيق الاستثناء بكيفية ثابتة، فإن المذهل الذي يحدث داخلها يظل غير مفهوم تمامًا… إن المعتقل هو أيضًا الفضاء البيوسياسي المطلق الذي لم يسبق أن تحقق مثله، حيث لم يعد قبالة السلطة غير الحياة العارية دون أي توسيط”[17].

رابعًا: حالة الاستثناء في سورية

“إن إحدى السمات الأساسية لحالة الاستثناء، التي تتعلق بالإلغاء المؤقت للتمييز بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تكشف عن نزوعها للتحول إلى أسلوب دائم للحكم”[18].

ترتبط حالة الاستثناء في سورية بفرض نص قانون “إعلان حالة الطوارئ” المرسوم التشريعي رقم 51 تاريخ 22 كانون الأول/ ديسمبر 1962، من طرف مجلس قيادة الثورة بعد الانقلاب العسكري الذي قاده حزب البعث، وذلك بتاريخ 8 آذار/ مارس 1963. يؤرخ هذا الحدث لولادة صاحب السيادة، الحاكم المطلق، الذي قرر من خارج القانون تعليق القانون حماية للبلد والدولة والشعب، من تهديد بالحرب الذي تمثله إسرائيل وجودًا واحتلالًا. والشروع في تطبيق حالة الاستثناء، من خلال مواد هذا المرسوم، التي تعبر بوضوح عن سطوة العسكر على السلطات التشريعية والقضائية. وجعل التدابير والمراسيم والإجراءات والأحكام العرفية تكتسب قوة القانون المطلق، المحتوم والمحسوم. فقد وضعت جميع السلطات بيد الحاكم العرفي الذي يحكم تبعًا لتقديره الذاتي السياسي في إخضاع الجميع لمنطق الضرورة الوهمية في وجود تهديد بالحرب. هكذا تضمن القانون لغة القيود والتدابير والمراسيم، وهي كلها مصطلحات تنقض القانون بذريعة حماية القانون والدستور والبلد. “حيث تتخذ حالة الاستثناء شكلًا قانونيًا لما لا يمكن أن يكون قانونيًا… إنها نموذج مهيمن للحكم في السياسة”.

ويتضح لنا هذا البعد الخطر عند إلقاء نظرة تحليلية نقدية إلى مواده:

المادة 2:

أ تعلن حالة الطوارئ بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسة رئيس الجمهورية وبأكثرية ثلثي أعضائه، على أن يعرض على مجلس النواب في أول اجتماع له.
ب يحدد المرسوم القيود والتدابير التي يجوز للحاكم العرفي اتخاذها والمنصوص عليها في المادة الرابعة من هذا المرسوم التشريعي، دون الإخلال بأحكام المادة الخامسة منه.

المادة 3:

أ عند إعلان حالة الطوارئ يسمى رئيس مجلس الوزراء حاكمًا عرفيًا، وتوضع تحت تصرفه جميع قوى الأمن الداخلي والخارجي.
ب للحاكم العرفي تعيين نائب أو أكثر له مرتبطين به وذلك بمرسوم.
ج يمارس نواب الحاكم العرفي الاختصاصات التي يفوّضهم بها (الحاكم العرفي) ضمن المناطق التي يحددها لهم”[19].

هكذا يتم الإجهاز على الحقوق المدنية والسياسية للشعب، وعدّ المواطن متهمًا مشبوهًا، ومستباحًا في أمنه وأمانه، وحياته الخاصة. وهذا ما قامت به السلطات المطلقة للحاكم العرفي السوري، من خلال أجهزة الاستخبارات ومحاكم أمن الدولة. فقانون حالة الطوارئ كان بتقدير ذاتي سياسي، من طرف الحاكم العرفي، بمنزلة أرضية لخلق حالة الطبيعة للحياة العارية. حيث صار السوري معرضًا للظلم والقهر، والقتل والاعتقال والاختفاء والتعذيب. ولهذا وجدت جميع أجهزة النظام الأمنية والعسكرية أرضية خارج القانون باسم قانون حالة الطوارئ، للقيام بأفعال غير قانونية إجرامية من دون متابعة ولا عقاب.

“ولنأخذ على سبيل المثال، حالة الدولة النازية. فلم يكد هتلر يمسك بزمام السلطة حتى أصدر في 28 شباط/ فبراير1933 مرسوم حماية الشعب والدولة، الذي كان يعلق العمل بمواد الحريات الشخصية في دستور فايمر. ولم يلغ هذا المرسوم قط حتى أنه، من الناحية القانونية، يمكن اعتبار دولة الرايخ الثالث (ألمانيا النازية) برمتها دولة خاضعة لحالة الاستثناء امتدت لاثني عشر عامًا”[20].

ليس من الغرابة أن يحصل هذا التطابق، في ما حدث، شكلًا ومضمونًا بين النظام السوري الأسدي والنظام النازي لهتلر. فبعد وصول نظام العسكر البعثي إلى السلطة في إثر الانقلاب، أعلن قانون حالة الطوارئ التي استمرت عقودًا من الزمن. ممعنة في خلق حالة الطبيعة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وقيميًا وأخلاقيًا. وهذا ما تناولته التقارير المحلية والدولية للجمعيات والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان.

“حالة الطوارئ المفروضة حاليًا نافذة منذ 8 آذار/ مارس 1963، حينما وصل حزب البعث إلى السلطة. وعلى حاله القائم فإن قانون الطوارئ يخول رئيس الوزراء سلطة حاكم البلاد بحسب القانون العرفي ووزير الداخلية نائبه، ويمنحهما سلطات فائقة. وتسمح أحكام القانون التي تمنح سلطات واسعة للحاكم العرفي وهي:

وضع القيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل والمرور في أماكن أو أوقات معينة، وتوقيف المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام توقيفًا احتياطيًا والإجازة في تحري الأشخاص والأماكن في أي وقت، وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال.

وقد أدت أشكال السلطة هذه إلى تفشي حالة من إساءة السلطات الحكومية للحقوق والحريات الأساسية للشعب السوري وعلى نطاق واسع، إذ تبنت الحكومة إجراءات تعسفية لإسكات الانتقادات تحت شعار حماية الأمن الوطني. ومثلًا يحظر القانون مخالفة الأوامر الصادرة عن الحاكم العرفي، والجرائم الواقعة “ضد أمن الدولة والسلامة العامة”، والجرائم “الواقعة على السلطة العامة”، والجرائم “المخلة بالثقة العامة”، والجرائم التي “تشكل خطرًا شاملًا”[21].

وبموجب حالة الطوارئ يمكن أن تحيل السلطات السورية المتهمين المدنيين إلى محكمة أمن الدولة العليا، وهي محكمة استثنائية لا تتبع القواعد نفسها التي تتبعها المحاكم السورية الاعتيادية. وقد اعتمدت السلطات السورية على محكمة أمن الدولة من قبل في مقاضاة نشطاء حقوق الإنسان، وكانت محكمة أمن الدولة العليا هي التي حكمت في آذار/ مارس 1992 على عشرة من نشطاء لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية بالسجن (انظر الفصل الثالث أعلاه)، على سبيل المثال. وقد اتهمت محكمة أمن الدولة العليا المتهمين في تلك القضية بعضوية منظمة غير قانونية، وتوزيع المنشورات من دون تصريح، وانتقاد الحكومة السورية، والتآمر لتقويض الحكومة.

ويعدّ معظم نشطاء حقوق الإنسان أن استمرار تطبيق قانون الطوارئ هو العائق الأكبر أمام عملهم. وقد عبر أحدهم عن إحباطه وغضبه بقوله: “في نهاية المطاف، فالموضوع ليس موضوع قوانين [قائمة]، سواء كانت جيدة أم سيئة. إذ إنه بموجب حالة [الطوارئ]، لا يمكنني شراء ماكينة فاكس دون تصريح. إن الموقف ليس عمليًا بالمرة”[22].

وينتهك التطبيق المستمر لقانون الطوارئ لأكثر من 44 عامًا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي تعدّ سورية طرفًا فيه. والمادة الرابعة من العهد الدولي تقصر تطبيق قوانين الطوارئ على “حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسميًا”. كما تنص المادة على أنه يجوز للدول الأطراف في العهد أن تتخذ “في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي”.

وفي تقرير لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة عام 2000، وهي الجهة المسؤولة عن رصد التزام الدول بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بررت سورية استمرارها في تطبيق قانون الطوارئ بالقول إنه منذ تأسيس إسرائيل عام 1948 وسورية تواجه “تهديدًا حقيقيًا بالحرب من جانب إسرائيل” وإن هذا “يفرض موقفًا استثنائيًا يتطلب التحريك السريع والموسع للقوات في الجمهورية العربية السورية، ومن ثمّ، يجب وجود تشريع يضمن قدرة الإدارة على التصرف سريعًا في مواجهة هذه الأخطار المحدقة”.

إلا أن لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لم تجد التبريرات مقنعة. وفي 28 تموز/ يوليو 2005 خلصت اللجنة إلى ملاحظاتها حول الرد السوري:

مع إشارتنا إلى القلق حول حالة الطوارئ المعلنة منذ زهاء الأربعين عامًا والتي ما زالت نافذة وتساعد على التهرب من تنفيذ القانون وممارسة الحقوق المنصوص عليها بموجب المواد 9 و14 و19 و22 وغيرها من العهد، دونما أي تفسيرات مقنعة تم منحها حول علاقة أشكال التهرب من التنفيذ هذه بالنزاع مع إسرائيل وضرورة أن ترقى أشكال التهرب هذه إلى مستوى جسامة الموقف الطارئ المزعوم أن سببه النزاع”[23].

حرصنا على وضع هذا النص على الرغم من طوله نوعًا ما، لكونه يسلط الضوء، على حرب أهلية قانونية، لا معيارية. إنها حالة الفراغ القانوني التي سيدها قانون حالة الطوارئ، للحاكم العرفي، صاحب السيادة والسلطة المطلقة. مبتلعًا السيادة الشعبية، وجميع السلطات، القانونية والدستورية، التشريعية والقضائية. وتحويل نفسه إلى هيئة تشريعية تتحكم في مصير البلد، وفي حياة الناس، وموتهم أيضًا. وبذلك نجد أنفسنا أمام نظام شمولي استفرد بالشعب ولم يلغِ فقط حقه القانوني والسياسي، بل أيضًا حقه في الوجود الإنساني، بعيدًا من حالة الطبيعة والحياة العارية للإنسان المستباح، من خلال آلة العنف السياسي الأمني والعسكري الشمولي. المسيج استثنائيًا بقانون حالة الطوارئ التي تتغدى في وجودها السياسي على الموت والقتل والإبادة والاعتقال…، والحياة العارية للشعب المهدور دمه.

“على هذا الصعيد، يمكن تعريف الشمولية الحديثة بأنها: عملية تأسيس حرب أهلية قانونية من خلال تطبيق حالة الاستثناء، بما يتيح إمكانية التصفية الجسدية ليس فقط للخصوم السياسيين، بل لشرائح كاملة من المواطنين تعدّهم السلطة، لسبب أو لآخر، غير قابلين للاندماج في النظام السياسي. منذ ذلك الحين، بات الخلق الطوعي لحالة طوارئ دائمة”[24].

خامسًا: الأسدية بوصفها حياة عارية

“التحول الجذري للسياسة إلى فضاء للحياة العارية (أي إلى المعتقل) هو بالتحديد الذي شرع للهيمنة وجعلها شاملة”[25].

“المعتقلات لا تنشأ من القانون العادي، إنما من حالة الاستثناء، ومن قانون الأحكام العرفية”[26].

حالة الاستثناء التي فرضها النظام الأسدي، الشمولي بالمعنى الذي تناولته حنة أرنت، نزل بحياة الناس إلى مستوى ما دون البشر. وهي حياة عارية انحدر فيها الناس في وجودهم الإنساني إلى المستوى النباتي، بحثًا عن لقمة العيش في ظروف سياسية اجتماعية اقتصادية مفعمة بالمذلة والقهر، والتصفية الوجودية والسياسية، من خلال معتقلات رهيبة تتفاوت في القهر، والتعذيب والموت (تدمر، صيدنايا…). لكن يجمعها الإلغاء الرمزي والوجودي للشعب. وهذا الواقع السياسي الرهيب صار بإمكان الأدب تمثيله وتشخيصه، خاصة من خلال تجارب وشهادات لمجموعة من المعتقلين السياسيين. التي أخذت الشكل الفني الأدبي للسيرة، والرواية.

صار من الواضح بالنسبة إلى المشتغلين في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، مدى قوة الأدب وقدرته على سبر أغوار التاريخ المنسي. وتأسيس معطيات وضعية أقرب إلى الملفات الميدانية، التي يمكن أن تقدم خدمة جليلة في مجال البحث العلمي السوسيولوجي والأنثروبولوجي. لذلك يكتشف قارئ أدب السجون السوري، عبر التوسط الجمالي الأدبي عمق كفاية الأدب، وقدرته الساحرة فنيًا على تسليط الأضواء على السيرورات التاريخية المغيبة والمهمشة، في تاريخ البلاطات والعائلات والحروب. تاريخ القهر المنتصر الذي اعتلى منصة الوعي التاريخي، مخلفًا وراءه حقائق مذهلة، ووقائع وحوادث، وسيرورات طمست وقبرت. وصارت جزءًا من التاريخ المجهول، المسكوت عنه، في تاريخية التناقض المجتمعي، وما يفرزه من توترات ومنعطفات وصراعات وتغيرات سوسيولوجية. وما ينتج منها من تحولات اجتماعية.

هكذا يتبين للقارئ وهو يتصفح هذه الروايات بهدوء وتفكير عميق في القراءة والبلورة لفرضيات التأويل، مدى الإمكانات الفنية والمعنوية، الأدبية والفكرية التي تمتلكها الرواية، وهي تبني سردية الإنسان المقهور، في علاقتها بالتشكل التاريخي الاجتماعي لما يسميه ابن خلدون التغلب والاستبداد القهري. وهذا ما سنتناوله من خلال رواية ” القوقعة” للكاتب والمعتقل السياسي مصطفى خليفة. إنها رواية تكشف رعب الحياة العارية في المعتقلات الأسدية. وهي رواية بقدر ما تحمله من جمالية أدبية، استطاعت تعرية طبيعة النظام السياسي الأقرب إلى النظام النازي الذي يرى في خصومه ومعارضيه مجرد قمل بشري، أو جراثيم بلغة الطاغية في إصراره على إبادة الشعب. حدث هذا تبعًا لمضامين قانون حالة الطوارئ الذي تحول إلى قاعدة ونموذج حكم دائم.

“صاحب السيادة هو الذي يقرر حالة الاستثناء فقد كانت له دائمًا سلطة تقرير أي حياة يمكن انتزاعها دون أن تكون ثمة جريمة قتل”[27].

فالقهر والقتل ومختلف أشكال العنف الرمزيّ والدّموي، إلى جانب القسوة والخنوع والخضوع والذّل والمهانة وجميع ما يندرج في الحقل الدلاليّ والثقافيّ السّياسيّ للعبوديّة والاسترقاق، المرتبطين بالاستبداد والتّغلب القهريّ والطّغيان السّياسيّ والدينيّ للبلاطات والعائلات الحاكمة في تاريخيّة مجتمعاتنا هو ما يشكّل البنى التّحتيّة والطّبقات العميقة للفراغات والأخاديد الّتي تملأ جوف القوقعة في صمت أقرب إلى الخرس. ففي النّص كمّ هائل من الآلام والمعاناة ومختلف أشكال القهر والتّعذيب الوحشيّ إلى حدّ القتل، وسلخ إنسانيّة الإنسان وتحطيمه كشيء تافه. وهدر حياة المئات، بل الآلاف من خلال التّعذيب، والتّحكم في الآخرين بما يتجاوز منطق التّملك والعبوديّة السّياسيّة والدينيّة في السّيطرة على الأجساد والقلوب، إلى التّحكم في الأرواح، بما يشبه القوّة الجبّارة الّتي ليس كمثلها شيء في تدبير شؤون الكون والعباد: في الرّزق والتّجويع، في الموت والحياة، في الإيمان والكفر، في الرّحمة والتّوبة والتّعذيب، في الإبعاد والقرب، في الولاء والبراء…

إنّنا إزاء التّجلي السّرديّ لتجربة رهيبة في تشكّل مجتمعاتنا حيث تضافر فيها التّكامل القهري الاستبدادي بين سيّد السّماوات وسيّد الأرض، وكانت هيبة كلّ واحد منهما في خدمة الآخر، الأمر الذي جعل الحاكم فوق المجتمعات والتّاريخ البشريّ معلنًا أسماءه الحسنى في الأبد والخلود والمُلك، وفي القهار الجبّار. وهو يتحكّم في أعمار النّاس إلى درجة يمكن لزبانيته تصفية ثلاثة إخوة دفعة واحدة لأب طاعن في السّن لم يكن يملك غير ألم الصّراخ “يا ربّ.. يا ربّ العالمين، أنا قضيت عمري كلو صايم مصلّي وعم أعبدك، يا ربّ أنا ما بدي أكفر.. حاشا الله واستغفر الله العظيم.. بس بدي أسأل سؤال واحد: ليش هيك؟.. وبصوت عالي أقرب إلى الصّراخ وهو يلتفت إلى النّاس.. ولك ليش هيك؟؟ يا ربّ العالمين.. ليش هيك؟؟ أنت القوي.. أنت الجبّار.. ليش عم تترك ها الظّالمين يفظعوا فينا.. ليش؟… أنت ربّ العالمين.. معنا نحن وإلا مع ها الظّالمين؟ لحد الآن كلّ شيء يقول…إنّك معهم.. مع الظّالمين”[28].

هكذا تفتح القوقعة هذا الجحيم المسكوت عنه ليس في ولادة الاستبداد فحسب، وإنّما الطّاغية في مجتمعاتنا كإله اعتلى السّدة العالية للحكم “تبارك الّذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير” وهو يلعب لعبته الخطرة في التّحكم في الحياة والموت: فالمرء مهدّد في أمنه وأمانه، وفي حياته في أي لحظة وذلك بحسب مزاج الطّاغية ونواياه، أو وفق ما تراه زبانيته وشبّيحته انطلاقًا من ثقافة الولاء وعشق القرب العبوديّ من الطّاغية. “كان في السّجن قرابة الألف سجين إسلامي، وفي يوم حزيراني قائظ، حطّت طائرات الهيليوكوبتر محمّلة بالجنود الّذين يقودهم شقيق الرّئيس، مدجّجين بالأسلحة، نزلوا من الطّائرات في ساحة السّجن، دخلوا على السّجناء في مهاجعهم وبالرّشاشات حصدوهم حصدًا، جمعوا قسمًا منهم في السّاحات وقضوا عليهم جميعا”[29]. كانت الإعدامات بالجملة، والتّعذيب أيضًا كان يتمّ بالجملة إلى درجة التّحكم في الجسد والفكر والرّوح والكلام…كما لو أنّنا في مطبخ الألوهة لعمليّة التّحطيم والتّدمير والإبادة للمتمرّدين “الكفرة”، أو الخلق من جديد. هكذا يتمثّل المجتمع تجربة الاختطاف والإخفاء والتّغييب القسريّ للأفراد والجماعات في السّجون السّريّة والعلنيّة. وتبعًا لهذه المعاني يسعى عنف السّلطة الغاشمة إلى تشكيل وجدان وفكر وخيال النّاس والسّجين تجاه نفسه وهو يقيم “حريّته” خارج السّجن: الدّاخل مفقود والخارج مولود. “إذا كان للاستبداد أكثر من مستوى ولون وممارسة ضمن الخطوط الحمر للسّلطة، فإنّ الطّغيان على العكس من ذلك هو نقيض هذه اللّعبة. إنّه السّلطة المحضة ليس على مستوى الحكم والسّياسة وحدهما، بل على مستوى المجتمع ذاته. الطّاغية باختصار يفترس المجتمع بما فيه من مؤسّسات وهيئات وناس. إنّه يلتهم الجميع ولا يقبل أن يترك شيئًا خارجه قوّته، وسطوته تتغذّى من عمليّة الالتهام المستمرّة هذه حتّى يصبح هو البلد والبلد هو…هم الطّغيان الأول ليس ردع خصومه، بل تدميرهم وإفناءهم. إنّه لا يكتفي إذًا بالسّيطرة على النّاس من الخارج، بل يريد السّيطرة عليهم من الدّاخل، من داخل ذواتهم على مستوى السّلوك والفكر والإرادة وحتّى الوعي والكيان”[30]. هذا ما تجسّده وتشخّصه وتبني سيرورة تدليله بوقع جمالي رائع حركة السّرد من دون أيّ إضافات في تأكيد عري الفرد المهدّد بموت غير مشروط في أيّ لحظة، إنّنا أمام حركة سرد حاف في حالة طوارئ قصوى تحسبًا للحضور الوشيك للموت، من طرف السّجان/ السّيد الصّغير.

“صاحب السيادة يتماهى مع الإله لأنه يشغل في الدولة المكانة عينها التي يشغلها الإله في العالم”[31].

في الطّبقات الرّهيبة والمروّعة للقوقعة تتقاطع العلاقة بالسّلطة، في عنفها الراعب وقسوتها الجنونيّة في تحطيم الفرد، بالعلاقة مع الإله في جبروته وسلطان عظمة قوّته في النّيل من العصاة والكفّار والمشكوك في صدق عبوديتهم المفعمة بالذّل والمهانة. لا قدسيّة للحياة، فالموت هو سيّد الموقف في جميع العلاقات حيث يخيّم باستمرار خارج السّجن وداخله على نحو مكثّف رهيب، إنّها علاقة مشحونة بالموت، حيث الشّبيحة أو الزّبانيّة من جنود وبلديات وشرطة تشتغل ليل نهار، وتجري على قدم وساق وهي تحصي حركات وسكنات المعتقلين في داخل السّجن وخارجه في شكل باذخ لتماهي حاكم الأبد بالإله الذّي يتأسّس معنى خلوده في حكمه من خلال فناء النّاس، أي إبادتهم. لهذا كانت سطوة رعب الموت حاضرة في القوقعة على نحو مخيف ومفزع كشعور بالنّهاية الوشيكة الّتي تترصّد غفلة السّجين في حركاته وسكناته، وفي أبسط أشكال تواصله اللّفظيّ والجسديّ. وهذا ما يولّد في اللاّوعي نوعًا من الخرس والخشوع الأقرب إلى الهروب في الذّات لحمايتها من التّهديد المحدق من خلال توسّط رمزي جسدي روحاني أخذ شكل القوقعة كتمثّل سردي لتجربة الموت في حضورها الطّاغي بهدف فرض الطّاعة والخضوع. هذا الحضور الجنوني والدّائم للموت في التّعذيب والإعدامات والمرض والتّجويع…، تؤسّس السّلطة من خلاله لوجودها كدليل على القوّة المطلقة الّتي لا تقهر. وفي سياق هذا الرّعب نفهم بشاعة العنف الّتي تميز العلاقة بين السّجين والسّجان الّذي يضطرّ هو الآخر مكرهًا وفق أساليب وحشيّة إلى التّماهي بالمعتدي والتّعلم الاجتماعيّ بين السّجان القديم والجديد الّذي سرعان ما يتخلّى عن إنسانيته وتقزّزه وغثيانه بسبب الفزع من وحشية الإعدامات شنقًا، ليس للأفراد فقط، بل للقيمة الإنسانيّة الّتي تسلخ منهم ”وتخيّلت أن عناصر الشّرطة العسكريّة، هؤلاء الّذين أراهم أمامي، ذوو وجوه مسلوخة، أيّة قوّة سلخت هذه الوجوه؟…كيف سلخت؟…لماذا؟…أين؟…لست أدري لكن ما أراه أنّ الوجوه البديلة لا تشبه وجوه باقي البشر، وجوه أهلنا وأصدقائنا…مسحة غير بشريّة…غير مرئيّة، صحيح، ولكنّها قطعا موجودة”[32]. الشّيء الوحيد الّذي ينمو في حركة السّرد العاري من أي توسّط رمزي للعلاقة بين السّجين والسّجان هو هلع الحضور القويّ والمكثّف للموت، أي قدرة السّلطة على منح الموت، من دون أن تخشى لومة لائم في قتل المنبوذ، أو الإنسان المستباح في هذه الحياة السّجنيّة العارية من بُعد الاعتداء والظّلم والجريمة. هكذا تفجّر القوقعة صورًا ذهنيّة لتتراكم في الذّاكرة حول السّيرورة التّاريخيّة لجنون السّلطة من الخليفة، ظلّ الله في أرضه، وصولًا إلى حاكم الأبد، حيث الموت طقس يومي، “فقد يأتي الأمر بالموت علنًا في غفلة من الحاضرين، والنّطع أو السّيف يرافقان الكلام الّذي لا نقاش فيه. والنّطع فراش من الجلد تقطع فوقه رؤوس من أمر بإعدامهم بحيث تقطع الرّؤوس لتوّها دونما مهلة، ودون أن يمكن لأي كان، من الحاضرين، الاعتراض على ذلك. يظلّ الخليفة في كلّ الظّروف “القايل” ذي القول النّافذ سواء كان في كامل وعيه وإدراكه، أو كان ثملًا أشدّ الثّمالة يأمر بالموت أو بالحفاظ على الحياة. فقد شعر عبد الملك بن مروان في حضرة رجل عرض عليه، فاشتهى قتله لما رأى من جسمه وهيئته، وقد يكون بسبب الاشمئزاز منه، أو بسبب الإحساس بالقدرة على القضاء عليه”[33].

تخبرنا القوقعة بعدد هائل من المحاكمات الصّوريّة والعبثيّة وهي تشير إلى قتل الانسان من خلال الإعدامات شنقًا بطريقة مروّعة ومؤلمة، كما لو أنّها الشّكل الغذائي لخلود سلطة الطّاغية، واستمرار سلطته وسطوته وتغلّبه القهريّ على النّاس وهو يرفع شعار الأبد في وجه الخصوم والمنافسين. وكأنّ متخيّل الكتابة في سيرورة القراءة الحيّة يمتصّ هذا التّاريخ الموبوء في ارتكاز الحكم في تاريخ مجتمعاتنا على الموت، أو في السّعي للسّلطة من خلال الموت، بأسماء برّاقة مخادعة للنّاس بين الشّهيد والمجاهد، والثّوري…، فالوقائع التّاريخيّة لا تزال تقطر بدماء الأبرياء، والحكايات الكبيرة في هذا التّقاطع بين نصّ القوقعة والقراءة الموجّهة من خلال السّجل الثّقافيّ الخاصّ بتجربة التّسلط والحكم التّاريخيّة كثيرة ومؤلمة في استعباد الرّعيّة وقتل الخصوم، والفتك بسبب أو من دون سبب لزرع الخوف والرّعب، وفقا للنّص (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون)  فذاكرة السّجل الثقافي للقراءة تستحضر بألم ممارسة خلفائنا العظماء الأشاوس للعبة الموت بمختلف الأشكال من التّعذيب والإعدام وعرض الجثث، وتقرير ساعة الوفاة…، وهم يعبّرون عن قوّتهم في الانفراد بالامتياز الإلهي في منح الموت أو تأجيله، أو منح الحياة، وفتح باب التّوبة والعفو والمغفرة. “تهديد المرء في حياته، ثمّ إعطاؤه هذه الحياة من جديد، هو بمثابة إعادة خلق: فكأنّ الأمر يتعلّق، هنا، بنقل السّلطة بين السّماء والأرض”[34].

والقوقعة شاهدة على كثيرٍ من الحالات في القتل تحت التّعذيب، ليس بقصد انتزاع اعترافات ما، بل بهدف القتل السّاديّ والوحشيّ، حيث تجتمع الشّبيحة على السّجين كالكلاب الضّارية وهي تتلذّذ بالقسوة وبثّ الرّعب والألم والعذاب في الضحيّة وتحطيمه نفسيًا وروحيًا قبل الإجهاز عليه على نحو عدواني، أو من خلال ضرب السّجين الأعزل على الرّأس بصورة مفاجئة ممزوجة بغدر التّوحش. ثمّ هناك حالات إنسانيّة كتبت بدمها طلب العفو والرّحمة بصورة فيها كثيرٌ من الخنوع والقهر والذّل، ومع ذلك تركت بين مخالب الموت وعذابات الانتظار الّذي غالبًا ما ينتهي بالشّنق، كما حدث بالنّسبة إلى شخص مرّ على اعتقاله سنوات من دون أن يثبت في حقّه الجرم المشهود، لكن في يوم مفاجئ أُعدم. وفي هذا ما يناظر القدرة الإلهيّة في التّحكم في مصائر النّاس “ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن أتاه الله الملك، إذ قال إبراهيم ربّي الّذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت” هكذا هو الطّاغية العربي أبًا عن جدّ.

بناء على هذه المعرفة والأفكار كانت تتكوّن وتتطوّر سيرورة القراءة، في حرقة أسئلتها القلقة حول الأساس والخلفيّة عميقة الجذور، والأسس الّتي كانت تشرعن وتبرّر بناء طغيان الحكم من خلال إفناء وإبادة النّاس. بمعنى كيف أمكن أن تكون الإبادة إحدى الأدوات والآليات الرّهيبة في استمرار الحكم ومعاودة إنتاجه من دون حاجة إلى الآليات الأيديولوجية والسّياسيّة؟ وانطلاقًا من أيّ بنيات ثقافيّة اجتماعيّة سياسيّة انتقل الحاكم من مستوى الزّعيم والسّيد إلى مستوى القائد الخالد المفدّى وهو يسطو على امتياز إلهي، في التّحكم في مصائر النّاس من خلال قرار الإماتة “وهي صفة أساسيّة من صفات الألوهيّة باتت صفة له، وبذلك صارت الأرض والسّماء تلتقيان في شخصه”[35].

هكذا كانت القوقعة تدقّ أجراس خطورة العنف الوحشي الّذي كانت سيرورة تكوّنه وتطوّره تلتهم كلّ شيء وهي تنشر التّصحر في كلّ ما كانت تطاله يد المطبخ الرّهيب للألوهة الأسديّة المستحدثة، وهي تعيد الإنسان إلى عهده الأوّل العاري قبل أي توسّط رمزي لغوي أو إيمائي، إلى نوع من العراء والعري من جميع قواعد القانون الأخلاقي، والتّواصل البشريّ الإنسانيّ، في صورة أقرب إلى الإلغاء أو الموت الرّمزي خارج أي دلالة، أو تفاعل، أو علاقات مجتمعيّة طبيعيّة تعبّر عن حدّ أدنى من الحسّ الأخلاقيّ الإنسانيّ، وخارج زمنيّة الشّرط البشريّ. “أمشي في الرّتل الدّائر حول السّاحة، منكّس الرّأس، مغمض العينين، ممسكًا مطاط بيجاما من يتقدّمني، يجرّني خلفه…أتساءل أحيانًا: أي كائن أنا؟ هل أنا إنسان؟ حيوان؟ شيء؟”[36]، إنّها عذابات قلق الأجل والنّهاية المحتومة على يد سلطة اعتلت عرش السّماء، من دون أن يرفّ لها جفن الشّعور الإنساني، وهي ممعنة في إفناء النّاس وحرق البلد، حيث لا يمكنها أن تكون وتضمن شروط ديمومتها، وتأبيد وجودها إلّا من خلال الإبادة وتدمير شروط حياة مجتمعيّة ينال فيها الإنسان التّقدير والاعتراف. هكذا قتل النّاس صبرًا في السّجون، حيث احتُفظ بهم في انتظار القضاء عليهم. واللّفظ – الصّبر – يعني في الأصل السّجن حتّى الموت، “وتنقل الأخبار أنّ إحصاءً للمقتولين صبرًا تحت حكم الحجاج بلغ مئة ألف قتيل”[37].

سادسًا: جدلية الثورة وسياسة الموت الأسدية

مع ثورة الشعب يؤكَّد لنا أن الواقع الفظيع الذي مثله وشخصه أدب السجون السوري، كسير ذاتية وروايات، هو أدب فاض فيه الواقع على الخيال وغطى عليه. هذا يعني أن من لم يكن يعرف أو يصدق ما في نصوص هذه المحن والتجارب الراعبة، من فظاعات، فإنه أمام سياسات الموت الجماعي (البراميل والكيماوي…) التي لجأ إليها النظام، في حق شعبه، الذي طالب سلميًا بالحرية والعدالة والكرامة، يتأكد له أننا إزاء حالة الاستثناء للسلطة السيادية المعنية بالتهديد والتدمير والقتل. وتكريس الحياة العارية للإنسان المستباح. إنها سلطة صاحب السيادة، البعيدة عن السياسات الحيوية كما طرحها ميشيل فوكو.

“يستخدم فوكو فكرة البيولوجيا السياسية لتأكيد القدرة الإنتاجية للسلطة التي لا يمكن اختزالها في السيادة القديمة لحق الموت. في حين أن السيادة تعمل أساسًا كآلية إذعان استولت على الحياة من أجل قمعها. إلا أن السلطة الجديدة المكرسة للحياة تعمل على تعزيز وتحقيق الاستفادة المثلى من القوى الخاضعة لسيطرتها. ووفقًا لفوكو فإن تأسيس البيولوجيا السياسية كان خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، على أساس أنها تمثل سلطة تميل إلى إنتاج القوى وجعلها تنمو، والاهتمام بالتحكم فيها، بدلًا من إعاقتها وإخضاعها أو تدميرها كما حدث مع نموذج السيادة”[38].

سياسة الموت الأسدية سلخت عن السوري قيمته الإنسانية. وحولته إلى إنسان مستباح في نمط من الحياة العارية التي مارسها النظام الأسدي في تاريخ سورية الحديث والمعاصر، منذ إعلانه قانون حالة الطوارئ، التي جعلت الحاكم المستبد العرفي طاغية، في وضع مفارق خارج القانون وداخله في الوقت نفسه. واضعًا الشعب خارج القانون، عارٍ من أي حماية أخلاقية أو دينية. لذلك لم يكن النظام معنيًا بحماية الحياة وإنتاج السكان، كأجساد في آلة الإنتاج. بقدر ما كان معنيًا كنظام شمولي بسياسات رفض الحياة، وتكريس حالة الاستثناء، المنتجة للموات الأبدي. وهذا ما جسدته عملية التطهير الديموغرافي والدفع بالناس إلى التهجير القسري لفئات عريضة من الشعب، نحو الدول المجاورة والأوروبية.

حالة الاستثناء التي يقدمها الإنسان السوري المستباح، في علاقته بالعنف السياسي والأمني والعسكري الدموي، تمتد في عنفها الهمجي، وتطاردهم كلاجئين سوريين عراة من أي حماية قانونية سياسية.

وأدت الأهداف الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية، بالمحيط الدولي، بدوله ” الديمقراطية”، والإقليمي بدوله الاستبدادية والمحكومة هي أيضًا بحالة الاستثناء، إلى إنتاج أوضاع غارقة ومتجذرة، كمشاريع وجودية سياسية، في حالة الاستثناء المعكوس من قبل تماهي الضحية بسياسات الموت والقهر الأسدي. وجسدت هذه الحالة التيارات الدينية المسلحة، في قهرها للشعب الذي انتفض ضد حالة الاستثناء الأسدية. لقد تورطت في إعادة إنتاج سياسة الجلاد خدمة له، وخدمة للمصالح والأجندة الإقليمية والأوروبية.

هكذا هي المسارات الراعبة التي كان النظام يحاول زج الثورة في مستنقعاتها، وهو يعتمد على أسسه السياسية ومنطلقاته اللاوطنية، القريبة من التفكير السياسي الكولونيالي، في تفجير الإطار الوطني للشعب السوري، من خلال تفخيخ تنوعه وتعدده، هدمًا لوحدة البلد والشعب التي تهدد بقاءه، كاحتلال محلي بسياسة وعقلية وآليات صهيونية في التمركز والانتشار. في ظل حالة الاستثناء الدموية، صار وضع حالة الطبيعة للحياة العارية، يتهدد أكثر الثورة في سلميتها، وسقوطها في لعبة السلاح مكرهة في الدفاع عن حق البقاء والحياة، بحسب شروطها الأمنية والنفسية والاجتماعية والتنظيمية والسياسية… بالموازاة مع العوامل الإقليمية والدولية، التي كانت تريد نجاح هذا الأفق الحربي التدميري للبلد والثورة والشعب. وذلك تبعًا لمصالحها الخاصة وأهدافها السياسية والجيوإستراتيجية.

في ظل هذه المعطيات التي لم تكن في مصلحة الثورة لعب النظام لعبته القذرة التي هيأ، منذ سطوه على السلطة، تربتها العفنة والملوثة بالطائفية السياسية، والتخويف لكثير من المكونات الطبقية والثقافية والسوسيولوجية، جاعلًا من التنوع والتعدد سلاحًا للتدمير الذاتي للإطار الوطني الذي حاولت الثورة في مرحلتها الأولى تحصينه وحمايته من الشقوق والشروخ والانكسار. لكن رعب العنف المروع، وسياسة الحياة العارية، في القتل بمختلف الأسلحة التقليدية والكيماوية التي نهجها النظام بمباركة المجتمع الدولي، أدى إلى تشويه منطلقات وأهداف الثورة الوطنية، كحلم جامع لجميع السوريين في وحدتهم وتقرير مستقبلهم التحرري الديمقراطي. “بقدر ما يستحكم منطق الكفاف والبقاء، ستبدو المقتضيات الأكثر تجريدًا للديمقراطية والوطنية كماليات وإفراطًا في التطلب. وبينما كانت الثورة تتعرف في البداية بأهدافها العامة، فإنها تكاد تتعرف اليوم أكثر بالعملية الصراعية المستميتة التي تخوضها في مواجهة نظام متوحش”[39]. الشيء الذي أنتج ظاهرة السلاح والعسكرة المشحونة بالمعاني الطائفية والمذهبية، التي استفاد منها النظام كدعم إقليمي من العصابات الشيعية من إيران والعراق وحزب الله اللبناني. وبالموازاة مع الأفق العدمي للنظام وحلفائه، برزت التنظيمات الدينية العدمية للإرهاب الديني التي كانت تخدم أجندة بعيدة كليًا عن طموحات وتطلعات ثورة الشعب السوري. ثم أخيرًا جاء التدخل الإمبريالي ليحارب سلعته الإرهابية، متجاهلًا حقيقة المستنقع العدمي العطن للفاشية الأسدية. كمصدر أصلي لجميع العدميات الحاملة للأقنعة الدينية والإثنية والمذهبية. وهذا المصدر في حقيقته السياسية إرهاب صريح، في حق شعب أعزل سمح المجتمع الدولي بجميع مؤسساته لهذا النظام بارتكاب كثيرٍ من الجرائم ضد الإنسانية. والأكثر من ذلك تضافر الجهد الإقليمي والدولي على طي صفحة الثورة، وعلى مساعدة الدولة الأسدية على معاودة إنتاج حالة الاستثناء نفسها التي ثار ضدها الشعب. بما يدل على أن حالة الاستثناء في سورية وجميع بلدان المنطقة، هي تعبير صريح عن الوجه الكولونيالي الدموي للديمقراطية الغربية.

إن ما يحدث في المنطقة، من حروب ودمار وتشرذم طائفي إثني مذهبي، يعري ما تتستر عليه الديمقراطية الغربية في بلدانها من توحش نيوليبرالي، تحت غطاء سياسي إعلامي خطر وضع العالم على فوهة بركان. “وبنظرة واسعة، يبدو أن المسألة السورية تخبرنا بأننا اليوم حيال أزمة عالمية، عالم يتحكم فيه الأقوياء أكثر من أي وقت سبق منذ قرن على الأقل، وكل يوم يزيد هذا العالم تعقيدًا وقتامة، ويفقد الوجهة، وتضمر الممكنات التحررية والديمقراطية فيه”[40].

المراجع

1- أغامبين. جورجيو، حالة الاستثناء الانسان الحرام، ناصر إسماعيل (مترجم) ج 1 و2 (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2015).
2- ــــــــــــــ، المنبوذ السلطة السيادية والحياة العارية، عبد العزيز العيادي (مترجم)، ط 1 (د.م، منشورات الجمل، 2017).
3- الحاج صالح. ياسين، الثورة المستحيلة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017).
4- حجازي. مصطفى، الإنسان المهدور، ط 1(د.م، المركز الثقافي العربي، 2005).
5- النّاجي. محمد، العبد والرعيّة، مصطفى النّحال (مترجم) (د.م، المكتبة الوطنيّة،2009).
6- خليفة. مصطفى، القوقعة يوميات متلصص (د.م، دار الأداب، د.ن).

 

1- جورجيو أغامبين، المنبوذ السلطة السيادية والحياة العارية، عبد العزيز العيادي (مترجم)، ط1 (منشورات الجمل، 2017)، ص31.
2- المرجع نفسه، ص 35.
3- المرجع نفسه، ص 35.
4- جورجيو أغامبين، حالة الاستثناء الإنسان الحرام، ناصر إسماعيل (مترجم)، ج1-2 (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2015)، ص69.
5- المرجع نفسه، ص 102-103.
6- المرجع نفسه، ص 105.
7- المرجع نفسه، ص 126.
8- أغامبين، المنبوذ، ص 60 .
9- المرجع نفسه، ص 90.
10- المرجع نفسه، ص 112.
11- المرجع نفسه، ص 119.
12- المرجع نفسه، ص 144.
13- المرجع نفسه، 58.
14- المرجع نفسه، ص 158.
15- المرجع نفسه، ص 192.
16- المرجع نفسه، 219.
17- المرجع نفسه، 221.
18- أغامبين، حالة الاستثناء، ص 52.
19- https://www.hrw.org/legacy/arabic/reports/2007/syria1007/4.htm
20- المرجع نفسه، ص41.
21- https://www.hrw.org/legacy/arabic/reports/2007/syria1007/4.htm
22- المرجع نفسه.
23- المرجع نفسه.
24- أغامبين، حالة الاستثناء، ص44.
25- أغامبين، المنبوذ، ص 156.
26- المرجع نفسه، ص 216.
27- المرجع نفسه، ص 185.
28- مصطفى خليفة، القوقعة يوميات متلصص (بيروت: دار الآداب، 2008)، ص17.
29- المرجع نفسه.
30-مصطفى حجازي: الإنسان المهدور، ط1 (المركز الثقافي العربي، 2005)، ص79.
31- خليفة، القوقعة، ص32.
32- محمد النّاجي، العبد والرعيّة، مصطفى النّحال (مترجم) (المكتبة الوطنيّة، 2009)، ص265.
33- المرجع نفسه، ص269.
34- المرجع نفسه، ص 269.
35- خليفة، القوقعة، ص72.
36- الناجي، العبد والرعية، ص 282.
37- المرجع نفسه،283.
38- مراد بن سعيد، بين البيولوجيا السياسية والشمولية: جورجيو أغامبين والمعتقل، المجلة العربية للعلوم السياسية، العددان 51 و52، (صيف خريف 2016)، ص92.
39- ياسين الحاج صالح، الثورة المستحيلة (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017)، ص53.
40- المرجع نفسه، ص 38.

  • كاتب مغربي، حاصل على الإجازة في الأدب العربي وعلى الإجازة في علم الاجتماع، يعدّ دكتوراه في علم الاجتماع، نشرت له بعض المقالات والأبحاث في مجلاّت مغربيّة وعربيّة.

مشاركة: