الضحية: بعض التأملات الأساسية

يصعب الحفاظ على التمييز الضروري بين الضحية في حد ذاتها وما هو خارجها في الحوارات الدائرة حول ثقافة تفكير الضحية والنقد الموجه لها، لأن الثلاثة يقومون بالأفعال نفسها وبطرائق متقاربة جدًا، فالثلاثة يستدعون ضمنيًا المركزية عند إعلانهم عن الظلم والمطالبة بالحقوق وما إلى هنالك من الحنق والاستياء من الواقع مع فارق أن الضحية الحقيقية تستدعيها غريزيًا (أي على نحو غير واع) لترد عن نفسها الظلم الواقع عليها، أو ربما تكون واعية لكن بدرجة أقل من تمكينها على التخطيط والفعل، بينما تتصرف ثقافة تفكير الضحية بمنزلة الوكالة الواعية بذاتها لتستدعي المركزية من أجل توجيهها إلى الضحية – لا بد من ملاحظةٍ هنا وهي أنه في بعض الأحيان تنخرط هذه الوكالات في فعلها لدرجة تشعر أنها هي نفسها الضحية. أما نقاد هذه الظاهرة فإنهم يطلبون المركزية من خلال نقد طلبات الآخرين للمركزية – وهنا أيضًا لا بد من ملاحظةٍ وهي أن نقاد طلب المركزية هم المركز في الحالة العامة.

هذه النقاشات انطلقت بجدّية منذ الهولوكوست وهيروشيما والإبادة الجماعية التي قام بها الأوروبيون في أميركا وغيرها من الأماكن، ولكن غالبًا ما يعد الهولوكوست كنقطة بداية – تحدد الدكتورة أماني أبو رحمة سبب مركزية الهولوكوست عن باقي المجازر هو هلع القارة الأوروبية من العنصرية التي أصبحت تأكل أبناءها – وبعد عدة عقود من الدراسات الدائرة في الفكر ما بعد الحداثي حول الضحية والمهمشين وتقسيم الناس إلى فئات وهويات وإلى ما هنالك من أناس خارج المركز، ظهرت تنظيرات تطالب بالاكتفاء من هذا التركيز كله على هؤلاء الناس وأن الاستياء البادر منهم أصبح في غير مكانه وأنه لا بد من العودة إلى التعامل كذوات متساوية، لا ضحايا وجلادين وهويات. سأحاول هنا تقديم ومناقشة فكرتين أساسيتين أرى فيهما أن نقد ثقافة تفكير الضحية يستند إليهما في تنظيراته.

الذات الحداثية

تقوم الحداثة على الذات الفاعلة والقادرة على مسك زمام نفسها بما تعرف؟ وبما تأمل؟ وما تقوم به بغية هيكلة وتحقيق نفسها لتصل إلى الاعتراف بنفسها كذات كلية وذلك من خلال علاقتها بمثلث الحقيقة والسلطة والأخلاق. فالذات الحداثية ليست إرثًا إنسانيًا إنما تكتسب من خلال عملية بناء مستدام، وبكلمات فوكو إن التذويت هو التجلي الأنطولوجي الذي يسبق ويمهد لظهور الذات كمصطلح وكينونة. وضمن هذا الخطاب المتين يقوم جزء من النقد الموجه لثقافة تفكير الضحية على أن الإخبار عن ضحية مطلقة هو بمنزلة تخلٍّ من الذات عن وجودها ومسؤوليتها وفاعليتها عما يحدث معها في حياتها. ويذهب المنتقدون إلى أن التركيز على الضحية كضحية يجعلها كذات لا تُعرّف عن نفسها إلا من خلال الاستياء المستمر حول وضعها من دون أن تحاول جديًا في تغيير واقعها.

تغيب عن هذا النقد نقطتان وهي أن هناك ضحايا حُرموا من أبسط الشروط الموضوعية لوجودها كـ “أنا” بيولوجية فكيف نتحدث عنها كذات؟ أي أن هذه الأنا هي كينونة لم يُتح لها أيّ فرصة لتكوين نفسها كذات، ولا بد أنه من الطبيعي في هذه الحالة أن يغيب عنها كل مخطط لتغيير عالمها، ويكون بذلك تعبيرها عن استيائها هو إعلان فاعل عما يجب تغييره وهنا مكمن فاعليتها، فهي لا تخلي عن نفسها كل فعل إنما تشير إلى الواجب الذي على المحيطين بها من ذوات فاعلة فعله. والإشارة هنا فعل ضمن قدرة الضحايا على مقاومة ما يقع عليها وذلك من خلال إضفاء الأهمية على حياتها، هل يمكن عدّ هذه الحركة على أنها لا-فاعلية؟ ثم يأتي دور الوكالات التي تكسب الضحية من خلال تجمعاتها قوة جماعية وقدرة أكبر على البقاء.

ولا يمكن أن ينكر أحدٌ أن المجتمعات التي خاضت وخبرت تجربة تفكير الضحية أصبحت العلاقات بين مكوناتها من أعراق وأجناس أكثر عدالة، ولا يمكن إنكار أن ثقافة تفكير الضحية قدمت نظرية معرفية أخلاقية قوية ولا ينبغي التقليل من فاعليتها خاصة في المجتمعات التي تعاني داخليًا خللًا كبيرًا في توازن القوى، إضافةً إلى ما تعانيه كمجتمع بحد ذاته من خلل في موقعها مقابل القوى العالمية وهذا يضفي أهمية حقيقية على هذه النظرية.

ويمكن القول إن الفئةَ الأكبر من الناس لا بدّ من أنها لا تحب فكرة أن تكون هي الضحية، بل تشعر بالعار من هذا الوصف، فلا يمكن أن تتمثل الدور لأجل المتعة. إضافةً إلى أن هناك أمثلة واضحة عن عيب نظرية توزيع عبء الظلم على الطرفين، وأن تحميل الضحية دورًا في ما وقع عليها هو عمليًا الوقوف إلى جانب المعتدي، مثل الحالة التي يتكرر الحديث عنها عن دور المرأة في إغواء المعتدي والقول إنه كان بإمكانها التقليل من خطر تعرضها للانتهاك بخروجها بلباس أكثر حشمة. وهذا النوع من الالتفات إلى دور اللباس وحركات المرأة هو عملية إخلاء سبيل للمعتدي من المحاسبة الأخلاقية والجنائية الحقة. وفي هذا المثال فإن وقفتنا إلى جانب المرأة وإعلانها كضحية كاملة هو التقدم الذي علينا أن نظل متمسكين به من أجل تحقيق قيم الحداثة نفسها في المساواة الإنسانية وترسيخها في مجتمعاتنا.

شبكية السلطة

يرى فوكو أننا تجازونا قطبية السلطة وأن السلطة في العالم الحديث موزعة على شكل شبكة بعقد ونقاط، أي على كل فرد داخل الشبكة الاجتماعية، وأطلق مفهوم “ميكروفيزياء السلطة” والذي يعني عدم وجود سلطة واحدة وإنما سلطات عديدة منتشرة على الجسد الاجتماعي كله مما يتيح للجميع المقاومة أو ممارسة السلطة بحد ذاتها. اعتمد منتقدو ثقافة تفكير الضحية بطريقة أو بأخرى على هذا التنظير، وأن الضحية لها ذات وقادرة على المقاومة وإن فعلت العكس فهذا يحملها جزءًا من الظلم الواقع عليها. وثمة مثال شهير لفوكو حول شبكية السلطة سأتناوله وأناقش وضعيته ضمن مختلف الظروف. والمثال كالآتي: العمارة التي فيها سكان مقيمون ولها بوّاب يحرسها.

يخبرنا فوكو أن البوّاب على الرغم من ضعف مركزه نظريًا مقابل مرؤوسيه الذي هم سكان المبنى إلا أنه من خلال مركزه نفسه يتملك قانون إغلاق وفتح الباب، وكذلك يتيح له معرفة خبايا المقيمين وبهذا يكتسب سلطة لا تقل عن سلطتهم. وبالتأكيد جميعنا يرى دقة هذا الوصف وأنّ فوكو لم يخفَ عليه أن هذا لا ينطبق على دولة شمولية تحتكر السلطة والعنف أو مجتمع يخلو من القوانين وتقوده العصابات، وأكثر من ذلك أرى أنه حتى شبكية فوكو في أكثر الدول الديمقراطية تتحقق ضمن شرط واحد وهو وجود هرمية غير مرئية وعلى قمة هذا الهرم تقع القوانين والدساتير الأساسية التي تعطي أريحية شبكية وتتدخل في حال الخروقات الكبيرة في ميزان توزع القوة. وعلى هذا النحو دعونا نتخيل وجود ضابط استخبارات ضمن سكان المبنى نفسه لكن المبنى في هذه المرة يقع في دولة أمنية، ما الذي يتغير؟ مؤكد ستنهار الشبكية وتتمركز السلطة تمامًا في يد الضابط الذي يوزع سلطات أخف بحسب قرب الأفراد منه. أو لنتخيل دولة لا تطبق القانون ويقطن في العمارة رجل عصابة، ستنهار الشبكية مجددًا. أو لنتخيل مجتمعًا أبويًا وقد انتقلت إلى المبنى ساكنة جديدة وهي امرأة وحيدة، وقرر أحد الذكور على نحو ما أنها لا تلائم مجتمع المبنى، لأن امرأة تسكن بمفردها يعني أنها ليست على خلق، أي أنها لا تتبع المعايير الخلقية لذلك المجتمع على حد رأيهم، عندها سينتهك هذا الذكر الشبكية بكل بساطة ومن دون رادع بل سيلقى الدعم من باقي سكان المبنى وعلى إثر ذلك سيطردون السيدة أو حتى يقتلونها، وحدث هذا بالفعل في إحدى العواصم العربية ومن شدة خوف السيدة أقدمت على رمي نفسها من الشرفة.

في الحالات السابقة ثمة بيئة تسمح بظهور ضحايا كاملين، لأن الأفراد هنا لا حول ولا أي قدرة لهم على فعل شيء مقاوم للحدث. ولنتخيل أمرًا آخرًا كانهيار المبنى وبقاء فرد أو مجموعة من الأفراد تحت الأنقاض وهو أمر يحدث كثيرًا في مناطقنا، حينها سوف يصرخ هذا الفرد بصوتٍ عالٍ طلبًا للنجدة، وبصراخه هذا يعلن عن نفسه كضحية، ويطلب إلى الآخرين تحويله لنقطة مركزية أي يعترف بأن ثمة قوة أعلى منه وتطلب منها مد يد العون، فطلب العون هو اعتراف بوجود مركزية خارجة عنها وفي الوقت نفسه تطلب أن تتحول إليها المركزية. إن الفرد في هذه الحالة ضحية كاملة حتى ضمن مفهوم جيرار لمحاكاة الرغبة، فالذات ذات طالما هناك طرف آخر يريد محاكاتها، ولكن في هذه الحالة لا يرغب أحد بالتأكيد في أن يكون مكان الشخص الذي تحت الأنقاض. وإذا لم تتحول المركزية فعلًا للضحية وماتت، تصبح ضحية مطلقة وينطبق عليها وصف دريدا عن الضحية المطلقة بأنها “ضحية لا تستطيع حتى الاحتجاج. ولا يمكننا التعرف إليها كضحية. لا يمكنها حتى تقديم نفسها على هذا النحو. إنها مستعبدة تمامًا أو مغطاة باللغة، لقد أبادها التاريخ”. ضمن هذا العرض ثمة بالتأكيد ما هو محق في تنظير نقد ثقافة تفكير الضحية، وهو إن أُنقذت الضحية من تحت الأنقاض وأكدت سلامتها وأصبحت بوضع تستطيع من خلاله بناء ذاتها، ولكنها على الرغم من ذلك استمرت بالمطالبة بالمركزية ومطالبة الجميع الالتفاف حولها، في هذه الوضعية حينها يصبح الوضع فاسدًا نوعًا ما ويصبح النقد الموجه لتفكير الضحية محقًا.

في نهاية المطاف، فإنه بالنسبة إلى وكالات ثقافة “تفكير الضحية” ينطلق توصيفهم للحالة من تصوّرٍ ديستوبي مطلق، وفي المقابل يظن من يقرأ النقد الموجه إلى هذه الوكالات أننا نعيش في يوتيوبات من المساواة المطلقة. ومن الواضح أن المجتمعات كلها لا هذا ولا ذاك، وأن هناك تفاوتًا كبيرًا بين المجتمعات المختلفة من درجة قربها للديستوبيا واليوتوبيا داخليًا وبين-ذاتيًا. ولا يمكن تطبيق التنظيرات والخطابات نفسها حول تفكير الضحية ونقدها للجميع وفي كل مكان بالدرجة نفسها.

وهنا لا بد أن أختم بملاحظات ذاتية وهي أنني لا أخلي مسؤولية الأفراد والمجتمعات عن نفسها، وفي الوقت نفسه لا أجدني قريبًا من تحميل المسؤوليات على الدرجة نفسها منطقيًا أبدًا، وأنني أتفق مع نقد ثقافة “عقلية الضحية” في نقطة ألا تتحول معاناة ومأساة الضحية إلى حفل مقدس في حد ذاته ويصبح لها قيمة أساسية في سوق السياسة، ففي هذه الحالة تصبح الثقافة العامة ميالة إلى أن تكون ضحية أكثر من كونها فاعلة. وشهدنا دخول الضحايا والوكالات في عملية لا نهائية من المقارنات حول من هي الضحية الأكمل، وهذا النوع من التفكير لا يعود فيه التفكير في التغيير إلى أي مكان، ومن جهة ثانية أوافق تمامًا وكالات ثقافة الضحية بأن للسياسة جانب أساسي وهو الأخلاق والمسؤولية وعلينا جميعًا التكاتف من أجل أن تحقق العدالة والمساواة قدر الإمكان.

مشاركة: