ملخص
الصوابية السياسية أو الصواب السياسي هو تعبير عن مفهوم ظاهره سياسي وباطنه يحمل تناقضات. وصفه البعض بالحق الذي يراد به باطل، وعرف بعض الباحثين هذا المصطلح بوصفه لغة لا تنطوي على “العدائية” خصوصًا عندما يتعلق الأمر بوصف تلك المجموعات التي تُصنَّف على أساس النوع أو الثقافة أو الجنس، وعادةً ما يستخدم مصطلح الصوابية السياسية لفرض الانضباط والرقابة على الخطاب السياسي بهدف تجنب أدنى إساءة إلى الأقليات والمهمشين والمضطهدين من الناحية الاجتماعية والتاريخية، وتصف لنا عدة حوارات سياسية بوصفها أمثلة مبكرة، كيفية استخدام مصطلح “الصوابية السياسية”، ونجد أن أكثرها يرتبط بأروقة الحزب الشيوعي السوفياتي بعد الثورة الروسية (1917)، وترتبط روايات أخرى بالأروقة الأميركية المضادة لاحقًا، حيث استخدم المصطلح لمدح ممارسات وسياسات موافقة للتوجه الخاص بكل فريق على الرغم من افتقارها إلى الصوابية الأخلاقية أو المنطقية. وارتبط مصطلح الصوابية السياسية بالخطاب الضحياتي للأقليات الخارجة عن المألوف خاصةً في ظل عصر الليبرالية الجديدة في نموذج ما بعد الحداثة فنجد على سبيل المثال “الشاذ” من الناحية الجنسية يطلق عليه مثلي، وامتد الأمر إلى استخدام الصوابية السياسية للقضاء على مفهوم الأسرة الطبيعية المكونة من الزوج والزوجة ليُستبدَل هذا المصطلح بشريك الحياة ليلغي بذلك أي لهجة تحمل فروقًا جنسية، وعلى المستوى السياسي يتجلى دور الصوابية السياسية في تبرير الخطاب الضحياتي الإسرائيلي، الذي يرتدي ثوب المظلومية بوصفه أقلية مضطهدة من العالم بأسره، فأصبح كل من يعادي الكيان الصهيوني من منطلق الصوابية السياسية متهمًا بمعاداة السامية واضطهادها.
1- الصوابية السياسية بوصفها مفهومًا فضفاضًا
في الواقع يبدو أن الهدف الظاهر من وراء هذا المصطلح الفضفاض هو وضع القيود على الخطاب العدائي والسلوك العدواني تجاه مجموعة من البشر الخارجين عن المألوف والذين تم تصنيفهم وفقًا لثقافة أو معتقد أو نوع أو جنس. فقد تناولت العديد من الدراسات مصطلح الصوابية السياسية من زوايا مختلفة، بعضها نظر إلى المصطلح في ضوء التركيز على المجموعات الشاذة كالمثليين وغيرها من الأشكال التي حرمتها الشرائع السماوية والتي تخالف القيم والمبادئ الإنسانية على مر العصور، وهنا خلصت هذه الدراسات إلى أن الصوابية السياسية التي تبدو وكأنها خطاب إنساني وحضاري ينادي بالقيم الإنسانية والأخلاق الحميدة، أظهرت في جوانبها التطبيقية أنها كارثة تهدد الوجود الإنساني وبقاء الجنس البشري([1]). وعلى الرغم من أن أنصار الصوابية السياسية يسوقون لهذا المفهوم من الناحية الخطابية بوصفه دفاعًا عن حقوق الأقليات، إلا أنه يحمل في ذاته خطابًا عدائيًا ضد الأغلبية.
وقد ذهب “باتريك جي. بوكانن” إلى أن الصواب والخطأ يمكن أن يتم تحديدهما من خلال الكيفية التي يعيش بها الناس حياتهم وليس عن طريق إجراء استطلاعات الرأي التي جعلت النظام الأخلاقي القديم في حالة موت([2]). ومن هذا المنطلق عرف “بوكانن” الصوابية السياسية بوصفها نظام معاقبة للهرطقة الاجتماعية وشبهها بمحاكم التفتيش الأوروبية التي حاربت الهرطقة الدينية. وأشار إلى وصف “إيميلي ديكنسون” للصواب السياسي عندما قالت: “وافق؛ تكن أنت العاقل. اعترض؛ تكن أنت الخطر على الفور وتعالج بالسلاسل”([3]). وعلى هذا النحو يمكن تعريف الصوابية السياسية بوصفها نظامًا فكريًا متعصبًا وغير متسامح.
وذهب أنطوني براون في كتابه “تراجع المنطق” إلى أن الصوابية السياسية لم تكن مجرد أسلوب خطابي مستخدم بوصفه تحديثًا لاستخدام اللغة، بل إنه نظام يتألف من معتقدات ونمط فكري، يقرر ما يمكن مناقشته في الخطاب العام، وأضحى يسيطر على سياسات الحكومات خاصة في دول الغرب([4]).
وعلى هذا الأساس كانت الصوابية السياسية تعسفية، فاختلاف الآراء بين البشر حقيقة لا جدال فيها ولكن مع ذلك لا يمكن إجراء حوار مع المتحمسين للصوابية السياسية، حيث يعتبرون ما يؤمنون به حقوقًا لا تقبل النقاش، ليس هذا فحسب بل إن تدخلهم تخطى حدود الفعل والقول وذهبوا إلى ما يحمله الفرد من نوايا فيعتقدون على سبيل المثال أن فتح الرجل باب السيارة لامرأة يعكس نظرة سلبية بوصف المرأة كائنًا ضعيفًا يجب دعمه. كما الصوابية السياسية تحمل داخلها تدميرًا ذاتيًا فكلما زاد تبني شخص ما لأفكار هذا التيار زادت خلافاته مع أقرانه من نفس التيار الذين لا يتفقون معه في درجة تبني الفكرة نفسها([5]). ونستطيع أن نرى ذلك على المستوى السياسي في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة الأميركية، ففي عام 2016م، فاز ترامب بكل سهولة على منافسته هيلاري كلينتون، وذلك يرجع إلى الميل إلى النظام الذكوري للحكم حتى من أنصار الصوابية السياسية الذين يزعمون تبني خطاب المساواة، ومن الممكن أن يتكرر المشهد مرة أخرى في الانتخابات الأميركية المقبلة خاصةً بعد انسحاب “بايدن” من السباق الرئاسي أمام ترامب وأضحى أبرز منافسيه امرأة. وفي ضوء ما سبق يتبين أن الصوابية السياسية تحمل مفهومًا متناقضًا فمن ناحية تدّعي الدفاع عن حقوق الأقليات والضعفاء ومن ناحية أخرى، تفتقد لخطوط واضحة للتفريق بين الصواب والخطأ الأمر الذي يجعلها عرضة للاستغلال من القوى المهيمنة لقمع معارضيها تحت ستار الصوابية السياسية.
1- الصوابية السياسية في ضوء السياسة الأميركية
كتب الروائي “جيمس بالدوين” لا يوجد في التاريخ الأميركي مؤسسة واحدة ليست مؤسسة عرقية، وأضافت “روبن ويست” في نص لها بعنوان الدستورية التقدمية، أن التاريخ السياسي للولايات المتحدة هو تاريخ لممارسات وحشية نحو كراهية وإبادة العرق الأصلي الأميركي والتقليل من قيمة غير البيض وكذلك التقليل من ثقافتهم([6]). وهنا نجد التشابه الواضح بين ما فعله المهاجرون إلى القارة الأميركية بالسكان الأصليين، وبين الكيان الصهيوني المحتل الذي يسعى لأن يكون نموذجًا أميركيًا جديدًا يسعى للقضاء على الشعب الفلسطيني، وعلى هذا النحو كان دعم الولايات المتحدة غير المشروط للكيان الإسرائيلي هو دفاع عن موقفه في المقام الأول فسقوط الكيان الصهيوني هو سقوط سياسي وأخلاقي للولايات المتحدة الأميركية.
فقد تبنت الولايات المتحدة الأيديولوجيا الليبرالية وقدمتها تحت خطاب الصوابية السياسية، فالموضوع التاريخي لليبرالية هو الفرد، حيث يُنظر إلى الفرد على أنه وحدة عقلانية ومُنحت إرادة. الفرد هو أساس الليبرالية وهدفها. إنه مُعطى، لكنه غالبًا ما يكون غير مدرك لهويته بوصفه فردًا. وجميع أشكال الهوية الجماعية – العرقية، والقومية، والقائمة على الدولة، والدينية، والطائفية، وما إلى ذلك، تعرقل وعي الفرد بشخصيته الفردية. فالليبرالية تشجع الفرد على أن يصبح هو نفسه، أي أن يتحرر من كل تلك الهويات والتبعيات الاجتماعية التي تقيد الفرد وتحدده خارجيًا. هذا هو معنى الليبرالية. علاوة على ذلك، أكد المنظرون الليبراليون (على وجه الخصوص، جون ستيوارت مل) حقيقة أننا نتحدث عن “التحرر من”، أي حول التحرر من الروابط والهويات والقيود السلبية في محتواها([7]).
وفي ضوء الفيلسوف الروسي “ألكسندر دوجين” نجد أن الولايات المتحدة الأميركية تنتهك الإنسان تحت شعار الصوابية السياسية. فالإنسان لم يعد يُنظر إليه بوصفه وحدة كلية، بل تُعدّ أجزاؤه مستقلة. ما يهم هو رغباته وعواطفه وحالاته المزاجية وميوله. وفي الوقت نفسه، من ناحية، يُنقل الانتباه من الفرد إلى المستوى الفرعي أي المستوى الجزئي منه، ومن ناحية أخرى، يندمج المستوى الجزئي أو الفرعي مع الأجزاء الفرعية الأخرى، وهذا يعني أنه يدخل في مجال المتحول للفرد. ويضرب لنا دوجين مثالًا بالمرقص المعاصر الذي يعبر عن الفوضى، وهو بمنزلة استعارة لهذه الشخصية العابرة للفردية. ففي المرقص المعاصر من الممكن التمييز بين الأزواج، والأشكال، والتمريرات، والتعبيرات، والجنس خلال الرقصة الرباعية أو حتى رقصة الروك، التي هي أواخر الحداثة. أما بالنسبة إلى الرقص في حد ذاته، فهناك مخلوقات من جنس غير محدد، ومظهر غير محدد، وهوية غامضة، تهتز ببطء وبصورة منتظمة مع الموسيقى. علاوة على ذلك، فإن للاهتزاز طبيعة مفرطة في الفردية: فالناس لا يرتجفون، بل يتعرضون للاهتزاز. ما يهز كل زائر هو ملهى خرساني، يهز الآخرين أمثاله. في هذه الحالة، هل جميعهم يرتجفون معًا؟ يجيب دوجين لا، أجزاؤهم تهتز في وقت واحد، وتستسلم لمرنان مشترك. ويحدث شيء من هذا القبيل في السياسة: نزع الطابع الفردي عن الفرد وإضفاء الطابع الفردي على المؤسسات والهياكل السياسية، ومن ثمّ، فإننا نواجه سياسة جديدة تمامًا، والتي تمثل في جوهرها إنكار السياسة بوصفها خطًا سياسيًا موثوقًا ومتميزًا([8]).
وفي هذا الإطار يوضح دوجين أن الولايات المتحدة اكتشفت شكلين آخرين للهوية الجماعية. بدايةً “الجنس”. بعد كل شيء الجنس هو أيضًا شيء شمولي: إما ذكوري أو أنثوي. لذا كانت الخطوة التالية هي تدمير الجنس كشيء موضوعي وأساسي ولا يمكن الاستغناء عنه. وعلى هذا الأساس يتطلب الجنس الإلغاء. ومن هنا جاءت سياسة النوع الاجتماعي، وتحول فئة الجنس إلى شيء “اختياري” يعتمد على الاختيار الفردي. فالإنسان هو شخص كفرد، بينما يمكن اختيار الجنس بصورة تعسفية، تمامًا كما تم اختيار الدين والمهنة والأمة وطريقة الحياة من قبل([9]).
وعلى هذا النحو كان خطاب الصوابية السياسية خطابًا قمعيًا ليس لمعارضي الولايات المتحدة ولكن للإنسان في حد ذاته ويتضح ذلك من خلال الانتقال من مفهوم المجتمع إلى مفهوم الفرد، ثم لم تكتفِ الليبرالية الأميركية بذلك فاتجهت إلى تقسيم الفرد نفسه إلى أجزاء وتحويله من إنسان إلى آلة حيوية تسعى لاستبدال بعض أجزائها بأجزاء أخرى، ونتيجة لذلك يمكن تبرير الشذوذ الجنسي بوصفه مثلية فالإنسان ليس كيان مزدوج يتكون من ذكر وأنثى بل هو فرد مكون من أجزاء.
1- خطاب الضحية الإسرائيلي والصوابية السياسية
واليوم أصبحت الصوابية السياسية خطابًا قمعيًا تستند إليه الأقلية الشريرة لتبرير أفعالها الوحشية ضد الأغلبية، ونجد في خطاب الضحية للكيان الصهيوني مصطلح معاداة السامية، والذي سوقت له الصوابية السياسية من أجل حماية مصالح إسرائيل، من دون النظر إلى المجازر التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني خاصة بعد معركة طوفان الأقصى وحملة الإبادة الجماعية ضد سكان غزة. ومصطلح معاداة السامية هو مفهوم أوروبي يعني كراهية اليهود، حيث ترتكز الدعاية الصهيونية في أفعالها على أن معاداة السامية هي الدافع وراء مساعي الدول العربية والإسلامية في مواجهة الصهيونية.
فليس ما يهم الكيان الصهيوني ومن يؤيده، الكفاح ضد معاداة السامية، إنما يتمثل الهدف بتحويل هذا الكفاح إلى أداة لضرب مصداقية التضامن مع الشعب الفلسطيني المحتل، فهذا المصطلح الذي ليس له أساس قانوني ملزم، أصبح أداة للدعاية والترهيب، فلا يهم مؤيدي السياسة الإسرائيلية أن يكونوا على صواب من الناحية القانونية، فهدفهم هو زرع الريبة والخوف من الاتهام بمعاداة السامية([10]).
فالصوابية السياسية تنظر إلى العدوان الإسرائيلي من منطلق حق الإسرائيلي في الحياة، دون النظر إلى حق الفلسطيني في الحياة. فنجد أن الخطاب الإسرائيلي إلى الغرب يستند إلى متلازمة الإسلاموفوبيا المسيطرة على الدول الغربية، التي تم ربطها بمفاهيم استشراقية قائمة على تصوير المسلم بوصفه شخصًا عنيفًا يكره الآخرين وبشكل خاص اليهود، ونلمس صدى الخطاب الإسرائيلي العنصري في خطاب الرئيس الأميركي “جو بايدن” الذي وصف عملية طوفان الأقصى بالشر الخالص، معتبرًا حماس جماعة إرهابية هدفها قتل اليهود، ونزع صفتها بما أنها حركة مقاومة من أجل التحرر من الكيان الصهيوني المحتل، وذلك لتبرير العدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وعلى الصعيد الآخر نجد أن الخطاب الإسرائيلي الموجه إلى جمهوره استند إلى نزع الطابع الإنساني عن الشعب الفلسطيني، ويتضح ذلك في تصريح “يوآف غالانت” وزير دفاع الكيان الإسرائيلي في قوله نحن نحارب حيوانات بشرية([11]). وعلى هذا النحو نجد أن خطاب الضحية الإسرائيلي ارتكز على لغة الصوابية السياسية المدعومة من الغرب لتبرير العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، ولتحييد جميع القوى المناهضة للكيان الصهيوني وخصوصًا العالم العربي والإسلامي ومنعهم من اتخاذ أي إجراء مناهض للكيان الإسرائيلي.
الخلاصة
إن الصوابية السياسية هي خطاب قمعي تستند إليه القوى المهيمنة لفرض سياساتها ورؤاها على الضعفاء من منطلق أنها حقائق لا تقبل النقاش، لذا كانت الصوابية السياسية مفهومًا فضفاضًا لا يحمل معايير محددة وواضحة ويوصف بأنه متناقض فظاهره يحمل الخير وباطنه باطل، وهو أداة للقمع وفرض الرؤى الشمولية تحت شعار حماية الأقليات والمضطهدين، منتهكة بذلك حقوق الأغلبية، وعلى هذا الأساس يُبرَّر الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية والعنف الممنهج ضد الشعب الفلسطيني مع تكميم أفواه جميع المعارضين من خلال فخ الصوابية السياسية المعروف بمعاداة السامية خطاب الضحية الإسرائيلي.