1- مقدمة
لقد ظلت التعددية الثقافية ميزة تعريفية لكثير من المجتمعات الغربية منذ الثلث الأخير من القرن العشرين على أقل تقدير، غير أنها قد واجهت معارضة معتبرة خلال العقدين الأخيرين. كان معظم هذه المعارضة قد نشأ في سياق الإرهاب المرتكب باسم الإسلام، في ظل تصورات نظرت إلى المجتمعات الأقلوية المسلمة على أنها مقاومةٌ للاندماج، وإلى الإسلام على أنه دينٌ غير متوافق مع المجتمع الغربي. تحيل التعددية الثقافية إلى “نظرية للهوية السياسية ومجموعة مشتقة من السياسات” معدّةٍ من أجل دعم حق التعبير لدى الثقافات الأقلوية وتسهيل دمجهم في مجتمع الأغلبية على حد سواء (Wright et al. 2017, 103). نشأت معظم المجتمعات المتعددة الثقافات في الغرب نتيجة سياسات الهجرة التي سهلت استقرار الناس من مختلف الإثنيات، واللغات، والأديان. غالبًا ما تُعَارَض التعددية الثقافية بالإدغام assimilation، والذي يُنتظر من خلاله أن يتبنى المهاجرون ثقافة المجتمع المضيف ولغته بالإضافة إلى علامات أخرى تخص الهوية الوطنية، من قبيل القيم والسلوكيات. بعد أن اقتنصت المواقع المتشعبة في السجال الدائر حول التعددية الثقافية، تصرح دراسة حديثة بما يلي:
يجادل أصحاب هذه السياسات بأنهم يسهلون اندماج المهاجرين المتنوعين ثقافيًا ويساعدون في ربطهم ببلدانهم الجديدة. يجادل نقاد بأن من شأن تحصين الاختلافات الثقافية أن يقوض الوحدة القومية والتماسك الاجتماعي، وأن الحقوق المتباينة بحسب المجموعات غير متوافقة أساسًا مع المبادئ الليبرالية المتعلقة بالمعاملة التي تساوي بين الأفراد (Wright et al. 2017, 103).
لقد بات الإسلام والمسلمون عنصرين مركزيين في الفشل الذي يُنسب إلى التعددية الثقافية (Farrar 2012) والتراجع عنها في الكثير من المجتمعات الغربية(Joppke 2004) . يتفحص هذا الفصل المناظير البحثية المتنافسة وبيانات استطلاعات الرأي الحالية فيما يخص الجماعات المسلمة في الغرب بالعلاقة مع التعددية الثقافية. إنه يجادل بأن التصور الذي يرى أن الإسلام مساهمٌ مركزيٌ في فشل التعددية الثقافية في الغرب والتراجع عنها هو تصور في غير موضعه، ويقترح أن ثمة حاجة إلى إيلاء قدر أعمق من الاهتمام إلى دور الأيديولوجيا الإسلاموية ما بعد الكولونيالية المضادة-للغرب في تقويض التعددية الثقافية في الغرب. يختتم هذا الفصل بإعادة التأكيد على أهمية التعددية الثقافية في تعزيز الاعتراف بمنافع التنوع الثقافي وإدماج المسلمين في المجتمعات الغربية.
2- خلفية عامة
أُسس عدد من البلدان متعددة الثقافات، بما فيها أستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة الأمريكية، كمستعمرات استيطانية، والتي شردت، أخضعت، و/أو حاولت إبادة سكانها الأصليين. كما حافظت على قيود الهجرة لفترات طويلة في سبيل تشجيع التجانس العرقي وهيمنة المستوطن الأبيض. في النصف الثاني من القرن العشرين، استبدلت هذه البلدان بقيود الهجرة لديها وسياساتها الإدغامية التعدديةَ الثقافيةَ، والسبب عائد في جزء منه إلى تحول أيديولوجي، واهتمامات إنسانية، وإلى مصالح نفعية تتعلق بتلبية احتياجات سوق العمل كذلك. جرى تطبيق مقاربات مختلفة لدمج المهاجرين في المجتمعات الغربية خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وواصلت هذه المقاربات تطورها في السنوات الأخيرة بعد أن سَاقَت الصراعات في الشرق الأوسط وشمال افريقيا أعدادًا قياسية من المهاجرين إلى البلدان المجاورة وإلى الغرب، خصوصًا بلدان غرب أوروبا.
في بعض البلدان الأوروبية، مثل ألمانيا، لم يتحقق الطابع المتعدد ثقافيا للمجتمع عبر اعتناقٍ أيديولوجي واعٍ للتنوع الثقافي، بل كنتيجة لاستجلاب عمال مهاجرين بغية سدّ النقص في العمالة. لقد ظل نموذج العامل الضيف بمنزلة تحدٍ مستمرٍ لعملية دمج المهاجر، لا سيما على صعيد القضايا المتعلقة بالحقوق والمواطنة. لقد تبنت معظم البلدان المستقبلة للمهاجرين في الغرب شكلًا من أشكال دمج المهاجرين. عند أحد طرفي الطيف، عمدت دول مثل أستراليا، كندا، هولندا، السويد، والمملكة المتحدة بفاعلية إلى إدماج السكان المهاجرين عبر سياسات التعددية الثقافية، إذ شجعت المهاجرين وساعدتهم على الحفاظ على هوياتهم الدينية والثقافية مع تبني رؤية تسعى إلى خلق مجتمعات ترتكز على قوى التنوع ومنافعه. وعند الطرف الآخر من الطيف، باشرت بلدان مثل فرنسا (وهولندا منذ تسعينيات الفرن العشرين) نموذجًا إدغاميًا لإدماج المهاجرين يستند على توقعات أكثر حزمًا فيما يتعلق بتبني الثقافة والهوية الوطنيتين.
يتبنى كل من جوبكي Joppke ومودود Modood، وكلاهما علّامةٌ رائدٌ كثيرًا ما يُستشهد به في مجال التعددية الثقافية، آراءً متعارضةً بشأن تبعات التعددية الثقافية في المجتمعات الغربية. جوبكي هو ناقد للتعددية الثقافية، إذ يركز على تقييدات هذا المنهج ويدعو إلى الاندماج المدني. أما مودود فيعترف ببعض هذه التقييدات، ويدعو إلى توكيد التعددية الثقافية مع إضافة بعض التعديلات. يعرِّف مودود التعددية الثقافية بأنها عملية ثنائية الاتجاه ولكنها تتقبل قوالب متعددة للاندماج “وتعترف بالواقع المجتمعي للجماعات”، وتشجع على “ظهور أشكال جديدة من الانتماء للمواطنة والدولة” وتولّد “تشكيل هويات موصولة” من قبيل الأمريكان-اليهود، الألمان-الأتراك، والاستراليين-المسلمين كجزء من عملية دمج الأقليات. إذ يلاحظ الطبيعة المتطورة والمتنازع عليها لمثل هذه الهويات الموصولة، يجادل مودود بأن هذه البناءات تعمل “كقاعدة شرعية للحراك والضغط السياسيين”، غير أن مخرجاتها قد تتباين في سياقات اجتماعية مختلفة.
يبين مودود أن التعددية الثقافية الناجحة تحتاج إلى أن تُتَمَّم بهويةٍ وطنيةٍ واثقةٍ يُنْتَظَر أن تندمج الأقليات فيها. بالمقابل، فإن الإدغام يعدّ عملية أحادية الاتجاه، حيث يتسبب القادمون الجدد في أقل قدر ممكن من البلبلة للوضع الراهن ويقتضي أقل قدر من التغيير من جانب الأغلبية (Modood 2005, p. 3). في حين أن الولايات المتحدة الأمريكية تعدّ بوتقة انصهار لمختلف الإثنيات والثقافات، يُنظر إلى إدماجها للمهاجرين على أنّه مثال للسياسات الإدغامية، لا السياسات متعددة الثقافات. يُعتبر اليهود، على سبيل المثال، مستوعَبُون بصورة ناجحة، لكن كما يلاحظ مودود، فإن “استخدام هذا المصطلح ينطوي على الوعي بأنهم قد غيروا كذلك المجتمع الأمريكي وثقافاته التي أصبحوا جزءًا منها” (Modood 2005, p. 2). منذ بداية القرن، اكتسب الاندماج أرضية معتبرة في الغرب بخصوص التعددية الثقافية بوصفه النهج المفضل لتضمين المهاجرين. إن الاندماج هو عملية ثنائية الاتجاهات لكل من مجتمعات الأقلية والأغلبية مقارنة بالإدغام. مع ذلك، يحتج مودود بأنه حين يتحدث السياسيون في بريطانيا، وقارة أوروبا خصوصا، عن الاندماج، فإن ما يخطر ببالهم هو “الإدغام”، وبالتالي فإن ثمة تراجعًا عن التعددية الثقافية.
3- التراجع عن التعددية الثقافية
يعزى التراجع عن التعددية الثقافية إلى عدد من العوامل. يدرس جوبكي (2004) هذه الظاهرة في أستراليا، وبريطانيا، وهولندا ويحدد ثلاثة عوامل مفتاحية: (1) ضعف الدعم الشعبي لسياسات التعددية الثقافية، (2) قصور سياسات التعددية الثقافية وإخفاقها على صعيد المؤشرات الاجتماعية-الاقتصادية، و (3) تشديد جديد من جانب الدولة الليبرالية على فرض السياسات الليبرالية. إنه يوثق هواجس ذات صلة بالمسلمين ومدى قدرة التعددية الثقافية على إفساح المجال تأسيس مؤسسات إسلامية من شأنها أن تكون مناوئة لقيم الغرب ومبادئه الليبرالية.
يبرز مودود (2005) عددًا من الحجج التي طُرِحت في عقب تفجيرات لندن يوم السابع من تموز/يوليو عام 2005، والتي عزت الهجمات إلى فشل سياسة التعددية الثقافية. شملت هذه الحجج التشديد على أن المفجرين كانوا “محصلة سعي مضلل وكارثي للتعددية الثقافية” و”أبناء مجتمع التعددية الثقافية البريطاني نفسه”. يشير كذلك إلى أنه قبل التفجيرات، تجلت الهواجس بشأن التعددية الثقافية في سياقات “الانفصالية الثقافية والعزل الذاتي من جانب المهاجرين المسلمين” والتي “مثّلت تحديًا للقومية البريطانية، وأن التعددية الثقافية “الصائبة-سياسيًا” قد عززت التشظي بدلًا عن الاندماج”. يسلط مودود الضوء على شعورٍ سائدٍ يرى أن التعددية الثقافية قد عفّا عليها الزمن وأنها عاجزة عن إنتاج أقليات تعتنق الهوية الوطنية. إنه يدافع عن التعددية الثقافية بوصفها مشروعًا سياسيًا جديرًا بالاهتمام ولكنه يقر بضرورة أن تُتَمَّمَ بالاندماج.
يشير مناوئو التعددية الثقافية إلى مطالب المسلمين للدولة، والمنادية بتقديم تسهيلات، وإعفاءات، وتسوية شتى الدعاوى الثقافية و/أو الدينية، والتي تُعتبر بمنزلة تحدٍ “لمواطنة موحدة وغير متمايزة” (Statham et al. 2005, p. 428). يستجوب ستاثهام وآخرون Statham et al (2005) العلاقة بين مطالب المجموعة المهاجرة وسياسات الدول الليبرالية المستوعبة للاختلاف الثقافي والديني، مع التركيز بشكلٍ خاصٍ على الإسلام. إنهم يقارنون صناعة الدعاوى لدى المهاجرين على صعيد مطالب المجموعات في بريطانيا، وفرنسا، وهولندا، والتي لديها تقاليد مختلفة في منح الاعتراف لاختلافات المهاجرين الثقافية. يلاحظ المؤلفون أنه “بينما تتمثل بعض مطالب المجموعات المهاجرة في “التكافؤ” في التعامل مع المجموعات الدينية والإثنية الأخرى، يذهب آخرون إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يطالبون بتعامل خاص أو “استثنائي” مقارنة بالمجموعات الأخرى في المجتمع” (p.431). وغالبا ما يرتبط هذا المطلب الأخير بالمسلمين.
في أكثر من نصف مطالب المجموعات المهاجرة التي درسها ستاثهام Statham، كوبمانز Koopmans، جونيي Giugni، وباسي Passy، تم طرح المطالب باستخدام أشكال دينية للتعريف الهوياتي. هكذا كانت الحال بالنسبة إلى أغلبيةٍ في فرنسا (53%)، ستة أعشار في هولندا (60%)، وثلثين في بريطانيا (66%). إضافة إلى ذلك، كانت الأغلبية العريضة من مطالب المجموعات قد طرحت من جانب المهاجرين المسلمين (فرنسا 51%، هولندا 47%، وبريطانيا 61%). وجد المؤلفون أن هذه الأرقام مرتفعة على نحو مفاجئ بالنظر إلى الأهمية التي توليها هذه الدول، على الترتيب، لعلامات الهوية الثقافية أو الإثنية، مقارنة بالدينية. وهم يحتجون بأن “الطبيعة العامة للدين الإسلامي، والمطالب التي يفرضها على الطريقة التي يدير بها أتباعه حياتهم العامة، هي التي تجعل من الإسلام نمطا مرنًا بشكلٍ خاصٍ من أنماط الهوية، وهي التي تتمخض عن صناعة الدعاوى لمطالب الجماعة” (p. 441). يكشف التحليل النوعي عن علاقات إشكالية بين الإسلام والدولة، “في المقاربة الهولندية المغالية للتعددية الثقافية، وضمن علاقات العرق البريطانية، والكونية المدنية الفرنسية” (Statham et al. 2005, p. 427).
لقد عَرَّف عدد من الدراسات التمظهر العام للإسلام المعاصر في الغرب بوصفه عاملا مفتاحيا في التصور الشعبي السلبي الذي يلقاه، لاسيما فيما يخص التعددية. على سبيل المثال، يتجذر الخطاب الأسترالي حول “مقاومة” المسلمين للحداثة، والقيم الأسترالية المتمثلة في الفردانية والعلمانية، في “الخوف من الإسلام السياسي” (Humphrey 2001, 34). علاوة على ذلك، تستنتج دراسة حديثة عن محتوى مواقع التواصل الاجتماعي لدى المجموعات المضادة-للإسلام في أستراليا أن “الهواجس بشأن الإرهاب والتهديد السياسي المحسوس من الإسلام عالية” (Miller 2017, 383). نناقش أدناه هذه النسخة المسيّسة الأكثر عمومية من الإسلام من حيث علاقتها بمفهوم الإسلاموية الشامل. إن تركيز الإسلاموية على مظاهر الدين العامة والسياسية قد أبرز أن المسلمين ووضعهم في خلاف مع قيم الفردانية والعلمانية الغربية (Peter 2006; Humphrey 2001) في وقت كان الغرب فيه على وشك أن يُواجَه بتهديد الإرهاب الإسلامي، وتحديدا هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية، متبوعة بهجوم السابع من تموز/يوليو في بريطانيا وهجمات إضافية أحدث تاريخا أعلنت داعش مسؤوليتها عنها في بلجيكا، فرنسا، تركيا، الولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا. يلاحظ أكبر زاده Akbarzadeh وروز Roose (2011) أنه حتى المسلمين المعتدلين متهمون بالخيانة والتواطؤ: “ينظر اليمين المتطرف إلى المسلمين المعتدلين بوصفهم “حصان طروادة” لأجندة إسلامية أكثر تطرفا” ” (p. 319).
كما جُودِلَ بأنه في القتال ضد التطرف العنيف، أثَّرَت الحكومات الغربية، ربما عن غير عمدٍ، بشكل سلبي على تصورات غير المسلمين عن الإسلام والمسلمين. يزعم كل من دون Dunn، وعاطي Atie، ومابيدزاهاما Mapedzahama بأن السياسات والمبادرات الحكومية الرامية إلى نشر التآلف والتماسك الاجتماعيين ومجابهة التطرف العنيف قد وصمت المسلمين بصورة عامة عبر “توكيد مهين على سهولة وقوع المسلم في براثن التطرف”. يؤكد المؤلفون على أن “الأثر المؤسف لهذه المهمة هو أن ثمة تهديدًا قتاليًّا مؤكدًا بشكل رسمي، وإضافة إلى ذلك، يعزز ذلك الكثير من الصور النمطية الجوهرية عن الإسلام في الغرب: القتالية، الرجعية، عدم التسامح، الأصولية، كراهية النساء والانعزالية”. بينما يقول 54% من البالغين في الولايات المتحدة الأمريكية أن هناك القليل من الدعم، إن كان هناك دعم من الأصل، للتطرف في أوساط الأمريكيين المسلمين، يقول 35% أن هنالك على الأقل “قدرًا معتبرًا” من مساندة التطرف بين الأمريكيين المسلمين، من ضمنهم 11% يعتقدون أن هنالك “قدرا عظيمًا” من ذلك. كما جودل في مكان آخر، ساهمت المنظمات الإعلامية الغربية في الترويج لتصورٍ كهذا عبر اختيار الأخبار المتعلقة بالإسلام والمسلمين وتأطيرها على حد سواء، لكن مثل هذه الإدلاءات تُعَزِّزُ وتُعَزَّزُ بوساطة الخطابات السياسية. أما محصلة ذلك فهي أنه قد بات يُنظر إلى الإسلام والمسلمين بارتياب من جانب الغربيين.
يقترح ساثام وآخرون أنه “ليس ثمة مخطط سهل للإدماج السياسي للإسلام، والذي تكسبه طبيعته العامة والدينية مرونة أمام التكيف السياسي” (p.427). يأتي هذا الاستنتاج جزئيًا من فكرة أن الإسلام لا يمكن ببساطة أن يُحصر في إيمان دين خصوصي، فهو يتوغل في دنيا السياسة حيث تكون سلطة الدولة والمواطنة المدنية هي العليا. ومع ذلك، وكما سنناقش أدناه، فإن ما يصطلح على تسميته غالبًا “بالإسلام” يحيل إلى الإسلاموية. يحذر مودود من أن الأيديولوجيا الإسلاموية “مناهضة للتعددية الثقافية” بما أنها تسعى “لتقسيم الناس إلى فئتين (مسلمون وغير مسلمين)” وتنحو إلى ترويج هوية مفردة. قبل أن نواصل مناقشة الإسلاموية من حيث علاقتها بالتعددية الثقافية والمسلمين في الغرب، سننظر أولًا في أحدث البيانات الكمية المتعلقة بالتصورات عن الإسلام والمسلمين في المجتمعات الغربية.
4- الجمهور الغربي ومناظير المجتمع الإسلامي
هنالك شكوك واسعة المدى حول اندماج المسلمين، بالأخص لدى اليمين السياسي. مع ذلك، قارن نوريس Norris وانغليهارت Inglehart (2012) القيم الاجتماعية والسلوكيات ذات الصلة بالتدين، والتحرير الجنسي، والمساواة الجندرية، والديمقراطية لدى المهاجرين المسلمين مع نظيراتها في بلدهم الأصلي وبلد المقصد ووجدوا أنها تقع بشكل تقريبي في الوسط بين الاثنين. استنتجوا أن المهاجرين المسلمين “يستوعبون بشكل تدريجي الكثير من تفاصيل الثقافة المستضيفة” لكن ليس بنفس معدل التغيير الحاصل بين السكان الغربيين (p.228). مع ذلك، يبدو أن التصورات تلعب دورًا أكثر أهمية في تشكيل المواقف الغربية تجاه المسلمين والإسلام.
وجدت دراسة حديثة أجراها مركز بيو للأبحاث (2017) أن الكثير من الأمريكيين لديهم “تحفظات حول دور الإسلام في المجتمع”. تقول غالبية من الراشدين من الولايات المتحدة (50%) إنهم لا يرون أن الإسلام جزء من المجتمع الأمريكي العام، ويقول ثلاثة فقط من بين كل عشرة مسلمين أمريكيين راشدين أن الأمريكيين يرون الإسلام جزءًا من التيار السائد. علاوة على ذلك، يعتقد ربع الراشدين الأمريكيين (25%) أن نصف المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، أو أكثر من نصفهم، “ضد الأمريكييين”، بينما يقول 24% أنهم يعتقدون أن “بعض” المسلمين مناهضون للأمريكيين. وقد فاق عدد الأمريكيين القائلين بأن الإسلام ليس جزءًا من “المجتمع الأمريكي العام” (50%) عدد الذين قالوا إنه جزء منه (43%).
تعتقد أكثريات في أنحاء أوروبا أن المسلمين في بلدانهم يرغبون في التمايز ولا يريدون تبني أسلوب حياة البلد. تراوح هذه النسبة بين 78% في اليونان، 76% في المجر، 68% في إسبانيا، 61% في إيطاليا وألمانيا، إلى 54% في المملكة المتحدة، 53% في هولندا، 52% في فرنسا، 50% في السويد، و45% في بولندا مع متوسط 58% في هذه الدول العشرة. ترتفع هذه الأرقام كثيرًا بين المنتمين إلى اليمين السياسي، إذ تشمل 80% من مؤيدي حزب استقلال المملكة المتحدة UKIP و 76% من مؤيدي الجبهة الوطنية National Front ، مقارنة بـ 40% من الناخبين في حزب العمال و42% من الناخبين في الحزب الاشتراكي في بريطانيا وفرنسا على الترتيب (Pew 2016).
في أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، تنقسم الآراء حول ما إذا كان المسلمون يرغبون في أن يتمايزوا أو أن يتبنوا أسلوب حياة البلد بين 46% في أستراليا و43% في الولايات المتحدة الأمريكية يقولون إن المسلمين راغبون في أن يكونوا متميزين و42% في أستراليا و 43% في الولايات المتحدة الأمريكية يقولون إنهم يرغبون في تبني أسلوب حياة البلاد. وافق نصف المستجوبين الأستراليين، و45% من الأمريكيين و48% من الأوروبيين على أهمية أن تتشارك الأقليات أعراف البلد وتقاليده على صعيد الهوية الوطنية. إضافةً إلى ذلك، يعتبر التحدث باللغة الوطنية مهما جدًا بالنسبة إلى 77% من الأوروبيين، 70% من الأمريكيين، و 69% من الأستراليين. من الجدير بالملاحظة، مع ذلك، أن 80% من المسلمين في أستراليا يجيدون التحدث بالإنجليزية جيدًا، أو جيدا جدًا أو يتحدثونها كلغة أم (Hassan 2015).
لقد تغيرت الآراء حول اندماج المسلمين بمرور الوقت في بعض البلدان. مقارنة بالاستجابات المقدمة في 2005، حين طُرح السؤال أول مرة، ثمة زيادة قدرها 23 نقطة مئوية في ألمانيا، 12% في المملكة المتحدة، 11% في هولندا، و7% في فرنسا في نسبة من يقولون إن المسلمين يرغبون في تبني الأعراف الوطنية. مع ذلك، لم تزل هناك أقليات معتبرة تقول إن أغلب المسلمين، أو كثيرين منهم، يؤيدون كيان داعش: إيطاليا (46%)، المجر (37%)، بولندا (35%)، اليونان (30%)، إسبانيا (25%)، فرنسا (19%)، المملكة المتحدة (17%)، السويد (16%)، هولندا (16%)، وألمانيا (12%). لم يوجد في أي من البلدان المستفتاة أغلبية تقول إن قلة قليلة من المسلمين تؤيد كيان داعش، على الرغم من اقتراب النسبة في عددٍ من البلدان: المملكة المتحدة (48%)، ألمانيا (48%)، السويد (46%)، وفرنسا (44%). على الرغم من بعض التصورات بشأن المسلمين، وجدت دراسة مركز بيو أن 56% من الأمريكيين و49% من الأستراليين يقولون إن تنامي التنوع الثقافي يجعل بلدانهم مكانًا أفضل للعيش، مع ذلك، لم يتجاوز متوسط استجابة الأوروبيين لهذا السؤال 22% عبر الدول الأوروبية العشر التي تم استقصاؤها.
سعت دراسة حديثة أجراها معهد بروكينغ Brooking Institution لمعرفة ما إذا كان الأمريكيون يفرقون بين الإسلام والمسلمين وقد وجدت آراءً أكثر سلبية عن الإسلام مقارنة بتلك التي عن المسلمين (Telhami 2015). يُعزَى ذلك إلى ما يصفها التقرير بأنها “قيم راسخة مضادة للتمييز- أن تعبر عن عدم إعجابك بفكرة مجردة بدلًا من أن تبدو مجحفًا بحق الناس”. ساءت الآراء عن الإسلام في الشهور التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، مع صعود الآراء السلبية عن المسلمين من 39%، بعد ثلاثة أسابيع من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلى 61% بعد مرور عقد من الزمان، في عام 2011، حيث ظلت في مكانها وقت إجراء الاستقصاء في 2015. خلال ذلك الوقت، انخفضت نسبة الآراء الإيجابية عن المسلمين من 47% في عام 2001 إلى 33% في عام 2011، لكنها وصلت إلى 53% في عام 2015.
تقول أغلبية (57%) من الأمريكيين بتشابه غالبية الناس في الغرب والعالم الإسلامي من حيث احتياجاتهم ورغباتهم، بينما تقول أقلية (39%) بعدم توافق التقاليد الدينية والاجتماعية الغربية والإسلامية (Telhami 2015). وجد التقرير كذلك أن الشباب، والتعليم العالي، والتفاعل مع المسلمين هي عناصر تتناسب طرديًا مع الآراء الأكثر إيجابية عن الإسلام والمسلمين ومع رفض أطروحة صراع الحضارات. تم تبيان علاقة هذه العوامل الديمغرافية بالتصورات القائمة تجاه المسلمين في دراسات سابقة في مواضع أخرى. مع ذلك، وجد التقرير أن هذه النتائج لا تنطبق على حالة الإسلام:
… إن معرفة بعض المسلمين، ولو بشكل جيد، لا تؤثر كثيرا على آراء الأمريكيين بشأن الإسلام. لقد حسَّن أولئك الذين يعرفون المسلمين بشكل طفيف آراءهم عن الإسلام، مع ذلك، لم تزل أغلبية من الجمهوريين والمستقلين يحتفظون برأي سلبي عن الدين الإسلامي. وحتى الأمريكيين الذين يقولون إنهم يعرفون بعض المسلمين بشكل جيد جدا منقسمون في المنتصف على صعيد مواقفهم تجاه الدين الإسلامي (Telhami 2015).
جزئيًا، يتصل هذا بتصور يرى أن الإسلام دينٌ غير متسامح. وجدت دراسة غالوب Gallup (2012) أن واحدًا من بين خمسة أمريكيين يقول إن “المسلمين حول العالم لا يرغبون في السلام ولا يتقبلون العقائد الأخرى ولا الناس المنتمين إلى أعراق غير أعراقهم” وقد عبر عن تلك الآراء السلبية عن الإسلام ما نسبته 36% من المستجوبين الذين أفادوا بعدم وجود تحيز شخصي تجاه المسلمين. أبدى ما نسبته 91%، من أولئك الذين أشَّروا على وجود قدر كبير من الإجحاف تجاه المسلمين، آراءً سلبيةً عن الإسلام.
كما تقترح بيانات أحد الاستقصاءات الحديثة أن العامل الرئيس الآخر وراء التراجع عن التعددية الثقافية ربما يتمثل في تصور المسلمين عن الديمقراطية وعلاقتهم الفعلية بها، بالنظر إلى أن الديمقراطية هي ميزةٌ تعريفية للبلدان الغربية. بحسب بيو، يعتقد 44% من المستجوبين في الولايات المتحدة أن ثمة خلافًا طبيعيًا بين الإسلام والديمقراطية، فيما يقول 46% بعدم وجود ذلك. ربما الأكثر أهمية هو أن ثلثي المسلمين الأمريكيين (65%) يقولون إنهم لا يعتقدون أن ثمة خلافا طبيعيًا بين تعاليم الإسلام والديمقراطية، ولكن ثلاثة أعشارهم يقولون إن ثمة خلافًا متأصلا بين الإسلام والديمقراطية. إضافةً إلى ذلك، وردًا على التصريح القائل بأن “الديمقراطية هي شكل غربي للحكم ولا تتوافق مع الإسلام”، وجدت دراسة عن الأستراليين المسلمين أن أكثر من ربع المستجوبين قد اتفقوا مع هذا التصريح، من بينهم 14% قد اتفقوا بشكل كامل، بينما أعرب ما نسبته 12% عن أنهم يعتقدون أن “معظم جوانب الإسلام غير متوافقة مع الديمقراطية” (Rane et al. 2011). إلى أي مدى يعبر مثل هذا التفكير عن معتقدٍ إسلامي راسخٍ أو تأثيرٍ إسلاميٍ أكثر جِدَّةً بين المسلمين؟
يؤكد أكبر زاده وروس (2011) أن “المجموعات الإسلامية ترى في النموذج الغربي للحكومة وسياسة التعددية الثقافية ضررًا بالهوية المسلمة والإسلام”. وهما يبينان أن مجموعات من قبيل حزب التحرير (HT) ترى في “الديمقراطية والتعددية الثقافية حيلةً لإضعاف العقيدة، وإزاحة المسلمين عن الحق وإخضاعهم” (Akbarzadeh and Roose 2011, 314). أما بالنسبة إلى أولئك الذين يتبنون تأويلات متطرفة عنيفة للإسلام، فيرون أن الديمقراطية هي صورة من صور الشِّرْك. على سبيل المثال، يعتقد قائد القاعدة أيمن الظواهري أن الديمقراطية معتقد زائف ينبغي تدميره لأن الرب هو المصدر الوحيد للتشريع، وليس البشر. من وجهة نظره، تسمح الديمقراطية للبشر بالتشريع، وبالتالي فهم يضعون أنفسهم في منزلة الرب. عندما خرج من السجن عام 1984، أدان الظواهري جماعة الإخوان المسلمين المصرية بوصفهم كفارًا (infidels) لمحاولتهم المشاركة في العملية السياسية في الدولة، وهو الفعل الذي اعتبره “تضحية بسلطة الله من خلال القبول بفكرة أن الناس هم المصدر الأسمى للسلطة” (Rabasa and Benard 2015, p. 27).
ليس لهذا الفكر أصل في القرآن، ولا في السنوات المشكِّلة للإسلام أو حتى في الإسلام الحديث الكلاسيكي أو المبكر (Rane 2010b). لقد نادى مفكرون مسلمون منذ القرن التاسع عشر بالديمقراطية وجادلوا بتوافق الديمقراطية مع الإسلام. يوثق عزام التميمي (1997) أنه منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كان رفاعة الطهطاوي (ت. 1873) واحدًا من أوائل العلماء العرب المسلمين الذين أثنوا على الديمقراطية وبيّنوا توافقها مع الشريعة. من بين دعاة الديمقراطية المسلمين المرموقين الآخرين جمال الدين الأفغاني (ت. 1897)، والذي أطَّر حججه بالعلاقة مع الحاجة إلى العدالة، والشورى والالتزام بالدستور في البلدان المسلمة بهدف محاربة الاستبداد وضمان خضوع الحكام للمسؤولية أمام العامة (Tamimi 1997). مع ذلك، ومع حلول النصف الثاني من القرن العشرين، عارض عدد من الزعماء المسلمين ذوي النفوذ الديمقراطية ودعوا إلى بدائل تستند إلى مفهوم الدولة الإسلامية.
تعتبر فكرة الدولة الإسلامية المتسمة بتطبيق الشريعة ظاهرة حديثة دافع عنها أبو الأعلى المودودي (ت. 1979) في سياق الحكم الاستعماري البريطاني وسياسات الهوية في شبه القارة الهندية خلال السنوات التي سبقت التقسيم. ردًا على دعوات رابطة المسلمين إلى إقامة دولة باكستان الإسلامية، ودعوات الهندوس إلى هند علمانية، ودعوات الشيوعيين إلى دولة اشتراكية، استشعر المودودي تهديدًا للهوية الإسلامية ودعا إلى تأسيس “حكومة الله، “حكومة إلهية” hukumat-e-ilahiya أو دولة إسلامية (Ahmad 2009). في المركز من معارضة المودودي للديمقراطية، كان مفهومه عن التوحيد، والذي فسر من خلاله السيادة بوصفها تنتمي على وجه الحصر إلى الله، نافيًا شرعية أي تشريع سوى ذلك الذي يراه ذا أصل إلهي (Maududi 1976). ينكر هذا المنظور أن تكون الشريعة تفسيرًا بشريًا للقرآن والتقاليد النبوية التي جرت على مدى مئات السنين في عقب وفاة النبي محمد (Kamali 2008). رأى المودودي أن الإسلام هو “النقيض البحت للديمقراطية الغربية العلمانية” لمّا كان “الأساس الفلسفي للديمقراطية الغربية هو سيادة الناس”. لَاقَى مفهوم المودودي عن الدولة الإسلامية تأييدًا من جانب مفكرين وزعماء إسلاميين ذوي نفوذ حينها. من الجدير بالملاحظة أن المودودي قد لعب دور استشاريًا بارزًا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية، وهي مؤسسة كانت في واجهة نشر الفكر الإسلامي المسنود من جانب السلفيين، وبخاصةٍ الإسلام الوهابي. يصف لورنس (2012, 54) نطاق الدعوة السعودية للإسلاموية، والسلفية، والوهابية خصوصًا في أوساط الجاليات المسلمة الغربية كما يلي:
كانت الطفرة في الدعوة السعودية حول العالم –من خلال بناء المساجد الكبرى، وتوزيع الملايين من كتب الأدعية الوهابية المجانية، وابتعاث الدعاة والأئمة- قد مُوّلَتْ عن طريق البترودولارات (عوائد النفط) بكلفة تقدر بأكثر من 85 بليون دولار بين عامي 1975 و2005، مما عكس جهدًا حثيثًا من أجل تأسيس هيمنة روحية وسياسية على ممارسة المسلمين. لقد موَّل الملك فهد (1982-2005) شخصيًا بناء 210 مراكز إسلامية ودعم أكثر من 1500 مسجد و202 كلية وحوالى 2000 مدرسة لتعليم الأطفال المسلمين في البلدان غير الإسلامية.
قليلة هي الدراسات المتعلقة بالمسلمين في الغرب التي تسمح بتمييز السلوكيات، والتدين، والقيم بالنسبة إلى الانتساب إلى المساجد والمنظمات الإسلامية. بينما لم يكن تركيز دراستهم عن المسلمين في أستراليا متعمّدًا، وجد كل من عاطي Atie، دون Dunn، وأوزالب Ozalp (2015) اختلافًا لافتا بين استجابات المسلمين الذين تمت مقابلتهم وجهًا لوجه في المساجد أو الفضاءات الإسلامية وبين استجابات أولئك ممن تمت مقابلتهم عبر الهاتف. ردًا على السؤال المتعلق بالاختلاط مع غير المسلمين في أماكن العمل وعلى الأصعدة الاجتماعية وفي الأوساط التعليمية، كانت إجابة أولئك ممَّن تمت مقابلتهم وجهًا لوجه في المساجد أو الفضاءات الإسلامية بأنهم عادةً، أو كثيرًا، ما يفعلون ذلك أقلَّ بشكل ملحوظ من أولئك الذين تمت مقابلتهم عبر الهاتف (مكان العمل 82:88، اجتماعيًا 60:76، والتعليم 71:87). كانت الاختلافات واضحة كذلك بين أولئك الذين أجابوا بأنهم لم يسبق لهم أبدًا الاختلاط بغير المسلمين، أو نادرا ما فعلوا ذلك (مكان العمل 8:3، اجتماعيًا 11:4، الأوساط التعليمية 12:8).
إضافة إلى ذلك، واستنادًا إلى مجموعة البيانات نفسها، خرج دون، وعاطي، ومابيدزاهاما بنتائج مشابهة. ردًا على سؤالٍ حول ما إذا كان الإسلام متوائما مع المجتمع الأسترالي وأعرافه، أجاب 64% من مستَجْوَبي المساجد مقابل 83% من المُسْتَجْوَبين هاتفيًا بأنهم متفقون بشدة أو متفقون. فيما يتعلق بما إذا كانت العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في أستراليا ودّية، أجاب 45% من مستجوبي المساجد مقابل 86% من المستجوبين هاتفيًا بأنهم متفقون بشدة أو متفقون. فيما أجاب 47% من مستجوبي المساجد مقابل 83% من المستجوبين هاتفيًا، بأنهم متفقون بشدة، أو متفقون، على أن المسلمين مندمجون بصورة جيدة في المجتمع الأسترالي. ردًا على أسئلة الشعور بالهوية الأسترالية، أجاب 74% من مستجوبي المساجد مقابل 98% من المستجوبين هاتفيا بأنهم متفقون بشدة أو متفقون. بخصوص ما إذا كان من المهم أن يتم قبول أطفال المرء بشكل كامل كأستراليين، أجاب 84% من مستجوبي المساجد مقابل 98% من المستجوبين هاتفيا بأنهم متفقون بشدة أو متفقون.
يؤشر تفاوت كهذا على أن أولئك الذين هم الأكثر ارتباطًا بالمساجد والمنظمات المجتمعية الإسلامية يرون أن الإسلام أقل تواؤمًا مع المجتمع الأسترالي وأعرافه، وأن العلاقات مع غير المسلمين أقل ودية. كما يرون أن المسلمين أقل اندماجًا، وأقل تعريفا لأنفسهم كأستراليين، مقارنة بأولئك الذين يُحتمل أنهم أقل ارتباطًا بالجماعات المسلمة. بين أولئك الذين تمت مقابلتهم هاتفيًا عبر اختيار عشوائي، قد يكون هناك تمثيلٌ أعلى للمسلمين الأقل ارتباطًا بمجموعات المجتمع الإسلامي ومنظماته، ولهذا السبب قد يختلفون في هويتهم، وآرائهم، وتجاربهم على صعيد علاقتهم مع غير المسلمين والمجتمع الأسترالي. يمكن أن يعزى هذا التفاوت، ولو جزئيًا، إلى فهم الإسلام وممارسته في أوساط المسلمين الأكثر ارتباطا بالمساجد والمجتمع الإسلامي اليوم، حيث انتشر الفكر السلفي والإسلاموي بشكل أكثر عمومية منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين (Laurence 2012).
يوثق لورانس (2012) أنه قد تم ترسيخ ثقافة فرعية إسلاموية عن طريق اتحادات الإسلام السياسي، وذلك من خلال إتاحة وتوفير مُصَلَّيات، وأئمة، ومحاضرين وأنشطة اجتماعية. يلاحظ أنه “على الرغم من أن هذه المنظمات قد تمثل قاعدة عضوية ضئيلة نسبيًا مقارنة بحجم السكان المسلمين (عادةً 2-4% فقط)، فإنها تتحكم على الأغلب بعددٍ معتبرٍ من الجمعيات الدينية المسلمة والمُصَلَّيات المسجلة – وأحيانا تصل النسبة إلى واحد بين كل ثلاثة- حيث يجتمع المسلمون المواظبون على الذهاب إلى المساجد للتواصل والصلاة” (Laurence 2012, 41).
يتحفز الكثير من المسلمين في الغرب للانتقال إلى أماكن قريبة من المساجد وإلى حيث يمكن أن يرتاد أطفالهم المدارس الإسلامية من أجل حماية هويتهم الإسلامية (Bouma 1994; Tinker and Smart 2012; McCreery et al. 2007) . بحسب بيانات الإحصاء الرسمي الأسترالي لعام 2011، يعيش نحو ثلث (32%) المسلمين في أستراليا في واحدة من نحو 80 ضاحية تفوق فيها نسبةُ المسلمين نسبةَ السكان المسلمين في الولاية التي توجد بها هذه الضواحي بخمس مرّات على أقل تقدير. إضافة إلى ذلك، ارتفع عدد هذه الضواحي التي يتركز فيها المسلمون بمرور الوقت، كما ارتفعت نسبة المسلمين المقيمين في هذه الضواحي[2].
بحسب همفري Humphrey، “بالنسبة إلى المهاجرين أنفسهم، فإن فعل الهجرة يتحدى إحساسهم بقيمتهم الذاتية وقيمة تراثهم الثقافي على حد سواء”، ومن خلال “فعل الهجرة، يطلب منهم تقييم الدول، والمجتمعات والثقافات التي هاجروا منها مقارنة بالفرص والإمكانات التي أتيحت لهم في العالم المتقدم” (1990, 211). جادل همفري بشأن مدى قدرة الجاليات المسلمة في الغرب على البقاء في عزلة نسبية عن المجتمع الأوسع، والقدرة على الحصول على منافع الدول المتقدمة مع الحفاظ على حس من الولاء المتصور لأوطانهم، وثقافتهم، ودينهم. في حين أن ثمة حاجة إلى مزيد من الأبحاث حول التعاليم التي تنتشر تحت عباءة الإسلام في مثل هذه المجتمعات المسلمة الغربية، ثمة سبب للوثوق في أن التعاليم ذات الطبيعة الأكثر شعبوية، وتسييسًا، وانعزاليةً ومناهضةً للغرب، تستقي من الإسلام أقل كثيرًا مما تستقي الإسلاموية. وهذه هي القضية التي سينعطف إليها الآن هذا الفصل.
5- الإسلاموية
الإسلاموية مصطلحٌ ظل يستخدمه بَحَّاثو الإسلام الأوروبيون منذ نهاية القرن السابع عشر في إحالةٍ إلى ديانة المسلمين. بحلول سبعينيات القرن العشرين، بدأ بحاثو الإسلام الغربيون يستخدمون جملة من المصطلحات للإحاطة بالتطورات والحركات السياسية المستلهَمَة دينيًا في العالم المسلم، لاسيما تلك المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين المصرية والحركات المتصلة بها، ونشر الوهابية من المملكة العربية السعودية، والثورة الإسلامية الإيرانية (Zakariyya 2005. لقد حاولت هذه المصطلحات، والتي تشمل الأصولية الإسلامية، والإسلام الراديكالي، وإحياء الإسلام، والإسلام السياسي، أن تعكس الخصائص السياسية، والعنيفة في بعض الأحيان، والمناهضة للغرب، والمناهضة للديمقراطية، لتلك الظاهرة (Esposito and John 1999). في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر الإرهابية، صارت الإسلاموية المصطلح الأكثر استخدامًا للإحالة إلى المجموعات الشيعية والسنية، بما في ذلك الجماعات الوهابية والسلفية[3]، التي تؤيد هيمنة تأويل شمولي للإسلام يرى في الغرب النقيض ويبرر، لبعض المجموعات، استخدام العنف لتحقيق الأهداف السياسية الوطنية أو العالمية (Mozaffari 2007).
ليس الإسلام والإسلاموية الشيء نفسه. فالأول هو العقيدة، أما الأخيرة فهي أيديولوجيا تستعير من دين الإسلام كي تكتسب شرعيتها.
… ثمة فارق بين عقيدة الإسلام والسياسة المُدَيَّنَة للإسلاموية، والتي توظف الرموز الدينية لغايات سياسية. سينفي الكثيرون وجود هذا الفارق، ومن بينهم أكثر الإسلاميين بروزًا. ما من شك في أن الكثير من الإسلامويين يحملون القناعة الصادقة بأن إسلامويتهم هي الإسلام الحق. مع ذلك، تنبثق الإسلاموية في واقع الأمر من تأويل سياسي للإسلام: فهي لا تستند إلى العقيدة الدينية للإسلام، بل إلى توظيف أيديولوجي للدين ضمن المجال السياسي (Tibi 2012, vii).
يعرِّف مظفري الإسلاموية بأنها “أيديولوجيا دينية ذات تفسير شمولي للإسلام وغايتها النهائية هي الاستيلاء على العالم بشتى الطرق”. إنه يزعم أن “الإسلاموية هي أكثر من مجرد ’دين‘ بالمعنى الضيق للمعتقد الثيولوجي (العقائدي)، والصلاة الخاصة والعبادة الطقوسية، بل هي أيضا بمنزلة أسلوب حياة شامل مع توجيه للسلوك السياسي، والاقتصادي والاجتماعي” (2007, 22). توظّف الإسلاموية تعاليم الإسلام بانتقائية كي تشكل مجموعات الأفكار التي تتضمن الأيديولوجيا، والتي تعيد إنتاجها كالتزامات دينية شرعية. ليست الإسلاموية حركة توحيدية ذات قيادة مركزية، وليس استعمال العنف بين مجموعاتها المقوٍّمة مُطردًا أو منهجيا (Mozaffari 2007).
يحيل طيبي Tibi (2012) إلى مجموعتين عريضتين، يدعوهما بالإسلامويين المؤسسيين والإسلامويين الجهاديين. لقد تبنى الأولون، والذين غالبًا ما يُشار إليهم “بالوسطيين”، جوانب إجرائية من الديمقراطية وهم على استعدادٍ للجوء إلى صندوق الاقتراع بدلًا من العنف لتحقيق أهدافهم السياسية. أما الأخيرون، والذين يُنظر إليهم بوجه عامٍ على أنهم متطرفون أو راديكاليون، فيستخدمون العنف والقتال المخالف للقواعد والإرهاب بشكل علني لنفس الغاية. على أية حال، يُمثّل كلاهما، في تقدير طيبي “جانبين لحركة، عابرة للحدود، واحدة” (Tibi 2012, 10).
بناءً على الأفكار المبكرة لمؤسس جماعت إسلامي الباكستانية أبو الأعلى المودودي (ت. 1979) وزعيم الإخوان المسلمين المصرية سيد قطب (ت. 1966)، تشمل الأهداف المركزية للإسلاموية تأسيس دولة أو خلافة إسلامية تقوم على تطبيق النظام القانوني المسمى شريعة(Rane 2010b). مع ذلك، ينبغي ملاحظة أن تشخيص الإسلامويين للشريعة كنظام قانوني لا يتسق مع مفهوم النهج الأخلاقي (شريعة) المستخدم في القرآن (الآية 18 من سورة الجاثية) وفي السنوات المشكِّلة للإسلام من جانب النبي محمد وصحابته (Kamali 2008; Tibi 2012). إن مفهوم الإسلامويين عن الشريعة كنظام قانوني يختلف كذلك عن استخدامها في الحقبة الكلاسيكية للحضارة الإسلامية (القرنان الثامن-الثالث عشر) عندما كانت تشتغل كقانون للفقهاء يعكس أحكامهم الفردية فيما يخص العبادات (الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، وما إلى ذلك)، أو المعاملات المدنية (الزواج، الطلاق، الميراث، التجارة، وما إلى ذلك)، والحدود/الجرائم المعينة والعقوبات (السرقة، الزنا، القذف، وما إلى ذلك). خلال هذه الفترة، كانت شؤون الدولة، من مثل الحكم، الضرائب، الحرب، والعلاقات الخارجية، تندرج ضمن فئة منفصلة تسمى سياسة (السياسة والحكم) وكانت من صلاحيات الخليفة. لم تكن السياسة مرتبطة بالشريعة حتى القرن الرابع عشر، حينما قام ابن تيمية (ت. 1328) بذلك ردًا على تدمير الخلافة من جانب المغول في عام 1258. إنه لمن البعيد عن إطار هذا الفصل تفصيل ذلك الأمر، غير أن الخلافة نفسها كمؤسسة سياسية ليست موجودة في القرآن أو الحديث، وبالتالي لا يمكن أن يُنظر إلى تطبيقها على أنه واجب ديني بحسب ما بيّنته بالتفصيل دراسةٌ للعالم الأزهري، علي عبد الرازق، كتبت عام 1925 (Razek, 2013).
إن مفهوم الشريعة كنظام قانوني هو من اختراع إسلامويي القرن العشرين. فبعيدًا عن محاولة تقنينٍ قام بها العثمانيون في نهاية القرن التاسع عشر، ليس هنالك من سابقة في التاريخ الإسلامي لتطبيقها كنظام قانوني لدولة إسلامية:
هذه ظاهرة جديدة كليا في إطار الإسلام، والاِدعاء بأنها تستعيد مؤسسة تاريخية ما هو، على وجه الدقة، إلا اختراع للتقليد: جهد لغرس قيم وأعراف سلوكية معينة عبر التشديد على وجود تواصلية مع ممارسات سابقة متخيلة. لكنه اختراع ضروري. يعد الاِدعاء بأنها تستقي قوانينها لا من التداول الإنساني بل من إرادة الله مركزيًا بالنسبة إلى الأيديولوجيا الإسلاموية (Tibi 2012, 25).
مع مرور الوقت، أخذت الحركة الإسلاموية تخضع بشكل متزايد لهيمنة السلفية، والتي استوردها مسلمون وجدوا فرص عمل في الاقتصاديات النفطية الخليجية المزدهرة، وصُدّرَتْ من خلال “البترودولارات” التي مولت بناء المساجد، ونشر الأدبيات الدينية، وتدريب الأئمة، وتأسيس شبكة عالمية من المنظمات (Prokop 2003; Blanchard and Prados 2007; Laurence 2012)، وقد وجدت مؤخرًا تجلياتٍ لها في السرديات، والقوانين والكتب المدرسية الخاصة بـداعش (Shane 2016). لم تكن الدول الغربية معزولة من الحرب الأيديولوجية التي كانت تشن في العالم الإسلامي، بل ظلت ساحة قتال مهمة (Laurence 2012).
إن اللبس بين الإسلام والإسلاموية لا يوجد في عقول العامة من المسلمين وغير المسلمين فحسب، بل يتعداهم إلى الحكومة، والإعلام، وحتى الأوساط الأكاديمية:
في حقل الدراسات الإسلامية، ثمة تجاهل كبير للاختلاف بين الإسلاموية والإسلام، بل ولربما تم استبعاده. لكن …الفرق حاسمٌ بالنسبة إلى أي اعتقاد بأن المسلمين قادرون على التعايش بسلام مع غير المسلمين. إن المعتقد الإسلامي لا يشكل عائقًا أمام السلام ولا تهديدًا للآخر غير المسلم. على الجانب الآخر، تخلق الإسلاموية تصدعات حضارية عميقة بين المسلمين وغير المسلمين (Tibi 2012, vii).
يحتج طيبي بأن اللبس بين الإسلام والإسلاموية، من جانب المسلمين وغير المسلمين، يقود إلى صراعات مسلمة داخلية فضلا عن عداء مباحٍ دينيًا تجاه غير المسلمين بل والمسلمين الذين لا يتقبلون الأجندة الإسلاموية كتعبير حقيقي عن الإسلام. بحسب استعراض لأطروحات وفتاوى دينية نشرت بشكل رئيس منذ ثمانينيات القرن العشرين، ومقابلات أجريت مع أئمة ومرتادين للعديد من المساجد والمنظمات الإسلامية المشهورة في البلدان الغربية، يجادل شافيت Shavit (2014) بأن السلفيين يروجون لفهم (للولاء والبراء) يتطلب من المسلمين أن يمتنعوا عن مصادقة غير المسلمين أو محبتهم أو تقليد معتقداتهم وأعرافهم. إنه يعرِّف السلفيين في علاقتهم بهذا المفهوم على النحو التالي:
… بالمعنى المعاصر للكلمة، فإن أولئك الذين يمثلون العناصر العقدية في المؤسسة الدينية السعودية فضلا عن المؤسسات غير السعودية التي تستلهم منها، والذين ينادون بفهم حرفي صارم للقرآن والتقاليد النبوية والآراء الاجتماعية المحافظة -يطبقون هذا المفهوم ليجادلوا بأن الرب ونبيه قد أمروا المؤمنين بأن يقصروا محبتهم وصداقتهم على المسلمين وأن يفصلوا أنفسهم عن الكفار، وأن يحتقروهم ويتجنبوا محاكاة معتقداتهم وأعرافهم. لقد تطور المفهوم ليصبح ركنًا للنهج السلفي، مبررًا دعوته إلى تقليل تفاعلات المسلمين مع غير المسلمين فضلا عن تقليص إدماج المعايير الغربية في المجتمعات المسلمة. (Shavit 2014, 67)
كما وجد أنه “منذ تسعينيات القرن العشرين، انتشرت أطروحات وفتاوى سلفية حول “الولاء والبراء” في المساجد الغربية وعلى المنصات الإنترنتية، مروجةً أجندةً مضادةً للاندماج” (Shavit 2014, 68). إن هذه الفتاوى، كما يقول، “تكشف عن مَقْتٍ للممارسات الحديثة (بالأخص تلك المتصلة بالثقافة والقيم الغربية)، ورفض للانغماس في الأنشطة الترفيهية التي تلهي المؤمنين عن تكريس حياتهم لعبادة الله، وتركز على الحاجة إلى فصل النساء بشكل صارم عن الفضاء العام” (Shavit 2014, 70). إضافة إلى ذلك، استحضر السلفيون الولاء والبراء ليجادلوا بأن “العلاقات المتبادلة الشخصية الودية بين المسلمين وغير المسلمين محرَّمة وأن على المسلمين ألّا يتشبهوا بالكفار أو يقلدوهم” (Shavit 2014, 72). يجادل شافيت بأنه قد “جرى تطوير المفهوم وترقيته إلى جوهر الكتابات السلفية المعاصرة لأنه قد طوَّر اثنين من أهدافهم الأيديولوجية الرئيسة: الإخلاص الكلي في العقيدة والممارسة، والحد من آثار الثقافة الغربية على المجتمع” (2014, 72). وهو يزعم أنه “يقلل من احتمالية اندماج المسلمين في المجتمعات الغربية” على الرغم من “أن السلفيين يفسرون ويطبقون هذه النصوص في الغرب بطرق شتى، بعضها متصلبة، وبعضها أكثر مرونة” (Shavit 2014, 83). على أي حال، يمكن رؤية تأثير مذهب الولاء والبراء السلفي في بيانات استقصاء أُجري حول العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين:
إن نحو واحد من بين ثلاثة مسلمين أمريكيين يقول إن جميع (5%) أو معظم (31%) أصدقائه المقربين هم من المسلمين. ونحو النصف (47%) يقولون إن بعض أصدقائهم من المسلمين، وواحد من بين ستة تقريبا يقول بالكاد إن أيا من أصدقائه هم من المسلمين (15%) أو إن ليس لديه أصدقاء من المسلمين (1%). تقول نسبة أقل من المسلمين اليوم إن جميع أصدقائهم أو معظمهم هم من المسلمين مقارنة بعام 2011 أو عام 2007، في حين أن نحو نصف المسلمين الأمريكيين يقولون ذلك. إن المسلمين الذين يقولون إن الدين بالغ الأهمية بالنسبة إليهم هم الأقرب احتمالية بشكل كبير إلى أن يقولوا إن جميع أصدقائهم، أو معظمهم، من المسلمين مقارنة بأولئك الذين يقولون إن الدين أقل أهمية (Pew 2017).
لقد منحت التعددية الثقافية في أوروبا وغيرها إشارات مختلطة للمهاجرين المسلمين فيما يخص توقعاتهم الثقافية (Humphrey 2001)، وبالنسبة إلى بعض المراقبين، فإن احترامها غير التمييزي للاختلافات الثقافية قد أفسح المجال للإسلاموية (Laurence 2012). حتى وقوع الهجمات الإرهابية الإسلاموية الكبرى في مطلع الألفية الثانية، كان يُسمح للإسلامويين بالعمل علانيةً من دون عوائق من جانب السلطات في كثير من البلدان الغربية، وبالأخص في المملكة المتحدة. هناك بين المسلمين المهمشين اجتماعيًا في أوروبا، بما في ذلك الطبقة الدنيا الإثنية الفقيرة فضلا عن الطبقة الوسطى الأكثر امتيازًا، مِن أولئك الذين يواجهون وطأة ثقافة يجدونها تمارس “عنصرية إقصائية” رغم التعددية الثقافية، مَن يجدون في “سياسة الهوية الإسلاموية” ملاذا للتعبير عن استيائهم Laurence 2012, 82).
علاوة على ذلك، كان هنالك تعاون واسع النطاق بين الحكومات الأوروبية والمسلمة في مجتمعات الشتات حيث تأثر الإسلام في الغرب بالمناهج، والطرق، والتأويلات الأجنبية بدلًا من التجارب والتعابير المحلية التي من المرجح أن تنتج أشكالا أصلية من الإسلام في الغرب والتي هي أكثر ملاءمة للسياقات المحلية:
لقد عملت كل من الحكومات الأوروبية والدول المسلمة عمدًا ضد الاندماج على مدى عقود، وذلك من خلال تشجيع الحفاظ على اللغة الأم والمحافظة على الهويات الثقافية والدينية المتمايزة التي لم تختلط مع مجتمع الأغلبية – إنها ذات الملامح التي سيُستَشهد بِها لاحقًا كبرهان على فشل الاندماج. (Laurence 2012, 56)
إذ يتأمل القضايا التي تناولتها دراسة رايت وآخرون Wright et al. (2017) عن التعددية الثقافية وإدماج المسلمين، يوثق لورانس أن الحملات الأخلاقية للإسلامويين، والتي هي أكثر عدائية على صعيد الجوانب المتعلقة بالتعليم المشترك والدفاع عن وجود الإسلام في الفضاء العام، تجلب القلق بشأن الإسلام والمسلمين لمَّا كان بالإمكان “أن تُعزى كثيرٌ من المواجهات السلمية غير المشهورة بين “الإسلام” و “الغرب” بين عامي 1990 و 2010 إلى وجود شبكات الإسلام السياسي في أوروبا”، والتي يجد أنها “قد أظهرت نزوعًا لا تخطئه عين تجاه الرقابة” (2012, 87). يشرح:
لقد فاقم نجاحها من الهواجس التي ترى أنها سوف تشجع أجيال المسلمين الأوروبيين المولودين محليًا على التغاضي عن سلطة القانون في سبيل نداء أسمى: (القرآن دستورنا). لقد اعترض المتحدثون الإسلامويون على صور النبي محمد في الروايات البريطانية، والنماذج الجصية الإيطالية، والرسوم الكاريكاتورية الدنماركية، أو في دور الأوبرا في جنيف وبرلين. إنهم يشجعون “الحشمة” بين النساء الشابات، ويناضلون من أجل حقهن في ارتداء الحجاب والغياب عن حصة التربية البدنية. ويرى بعض المراقبين أنهم يباشرون الزحف الإسلامي على أوروبا (Laurence 2012, 41).
يضيف لورانس أنه “منذ عام 1989، باتت الشبكات التي أنتجتها اتحادات الصلاة الإسلاموية تطرح التحدي الأكبر أمام الحكم “العلماني” للقانون في أوروبا” وأنه “حينما يقترح نقاد الإسلام أن الدين في حاجةٍ إلى الإصلاح، أو يتهمون القيادة الإسلامية “بخطاب مزدوج”- إذ يبشّرون بالمصالحة والحوار بألسنة أوروبية، وفي الوقت نفسه، يؤججون الحماسة الدينية بلغاتهم الأصلية- فإنهم يضعون في بالهم القيادات الإسلاموية” (2012, 88). ثمة رأي في الأوساط البحثية يفيد بأنه “إذا نَزَعَ الدين الإسلامي إلى صهر الدين بالسياسة… فإن أي اعتراف رسمي بالإسلام أو أي ترسيخٍ لسياسات تصب في صالح الدعاوى الدينية للمسلمين سوف يؤدي حتمًا إلى إضعاف أساسات الديمقراطية الليبرالية” (Laurence 2012, 123). تبعًا لذلك، “شدّد بعض المنظرين على ضرورة التفريق بين دعم المجتمع “للتعددية” والتخلي عن “التعددية الثقافية””. تظل هذه الخطابات خارج إطار الصوابية السياسية في العديد من المجتمعات الغربية نظرًا للبس بين الإسلام والإسلاموية ولأن الثانية لم تزل غير معترف بها وتخضع للتدارس في سياق الإسلام والمجتمعات المسلمة في الغرب.
لم يتناول هذا الفصل الدعاوى التي تقول بأن الخطابات التي تعزو فشل التعددية الثقافية إلى الإسلام هي التي تشكل الإسلاموفوبيا. يؤكد طيبي (2012) أن الإسلامويين لم يستخدموا دعوى الإسلاموفوبيا من أجل تحريف النقد المشروع للأيديولوجيا فحسب، بل اخترعوه لهذا الغرض:
فضلا عن تعزيز الاستقطاب بين المسلمين وبين الآخر غير المسلم، تولد الإسلاموية كذلك مشاكل داخلية شرسة في إطار مجتمع الإسلام. إذ تسعى الإسلاموية، في جهادها ضد “أعداء الإسلام”، لطرد المسلمين الليبراليين أنفسهم من الأمة -مجتمع الإسلام بأسره. في سبيل حماية أنفسهم من النقد، ابتكر الإسلامويون صيغة “الإسلاموفوبيا” بغية النيل من سمعة النقاد. (2012, vii–viii)
سنتفحص هذه الدعاوى ونناقشها في الفصل العاشر، جنبا إلى جنب مع الآثار المترتبة على استغلال الإسلامويين للإسلاموفوبيا في سبيل تحويل نقد الإسلاموية عن مساره وكبح انتشار تأويلات أكثر أصالة وغير مسيسة للإسلام في الغرب.
6- خاتمة
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، رفعت الكثير من الأمم الغربية، ومن بينها دول مستعمِرة سابقة للبلدان ذات الأغلبية المسلمة، قيود الهجرة كي تسمح باستيطان ما أضحت لاحقا مجموعاتٍ سكانيةً أقلويةً مسلمةً في الغرب. في الكثير من هذه البلدان، وخاصةً في أوروبا، شكلت التعددية الثقافية الأيديولوجيا والسياساتِ الرامية إلى إدماج مهاجرين جدد. مع ذلك، شهد النصف الثاني من القرن العشرين كذلك بزوغ أيديولوجيا جديدة في العالم الإسلامي، ألا وهي الإسلاموية، والتي عَوَّلت بشكل انتقائي على دين الإسلام في سعيها لتحقيق أجندتها السياسية. لقد ساهم الفشل في التفريق بين الإسلام والإسلاموية، لا بين الحكومات والإعلام والجماهير الغربية فحسب، بل ضمن المجتمعات المسلمة كذلك، بشكل كبير في تكوين آراءٍ سلبيةٍ عن الإسلام في الغرب، وتصوراتٍ عن المسلمين كمواطنين غير مرغوب بهم، ودعاوى ترى أن التعددية الثقافية قد جعلت المجتمعات الغربية عرضةً للتغيير الاجتماعي غير المرحب به وللتهديدات التي تطال الأمن القومي. لقد تراجع عدد من الدول الغربية عن التعددية الثقافية بسبب هذه الهواجس أو بسبب استغلالها سياسيًا من جانب أحزاب وجماعات الجناح اليميني. مع ذلك، لم يزل هناك دعمٌ واسعٌ النطاق للتعددية الثقافية واعترافٌ بمنافع التنوع الثقافي في الغرب. نحتج بأن كليهما من شأنه أن يتقوّى لمصلحة المجتمعات الغربية ومجتمعاتها الأقلوية المسلمة إلى الحد الذي سيدفع المسلمين وغير المسلمين إلى التمييز بين الإسلام والإسلاموية، إذ يعترفون بالأول كدين، وبالأخيرة كأيديولوجيا سياسية لا ينبغي أن تَشعرَ التعددية الثقافية الغربية بأنها مضطرة إلى استيعابها.