أجرى الحوار: حسام الدين درويش
حسام الدين درويش: في تضادٍّ مع ذهنية التكفير وصدام الحضارات، وبالتوازي مع أفكار مقارنة الأديان وحوار الأديان ومفاضلة الأديان وتوحيد الأديان واتحاد الأديان …إلخ، وبالتقاطع مع أفكار التسامح والمحبة وقبول الآخر واحترامه ومودته، يطرح الدكتور محمد حبش أطروحة “إخاء الأديان”، في كتابٍ يحمل العنوان ذاته، وقد صدر عن مؤمنون بلا حدود عام 2021. وفي الحوار التالي، نحاول تقديم أطروحة الدكتور محمد حبش حول هذا الموضوع بإيجازٍ، ومناقشة أهم الأفكار المتعلقة بها، وبحث أهم الاعتراضات عليها أو الانتقادات الموجهة لها، بغرض تعميق النقاش المتوازن في هذا الموضوع.
محمد حبش: أسمح لنفسي في بداية الحوار أن أبين للقارئ الكريم بهجتي بدخول هذا الحوار مع الباحث والمفكر الدكتور حسام الدين درويش، فالحوار هنا ليس بين صحافي وكاتب، بل بين مشروعين فكريين، يلتقيان ويفترقان، يجمع بينهما الإيمان بدور حقيقي للأمة العربية والإسلامية والإصرار على تحقيق شراكتها في المشهد الحضاري، كما يجمع بينهما الإيمان العميق بحق الناس في الاجتهاد والرأي والاختلاف.
وأجد من المناسب في مستهل هذا الحوار أن أهنئ الدكتور حسام الدين درويش على خطوته الجريئة في إطلاق منتدى تفاكر ونجاحه في جمع فريق متميز من المثقفين الذين يعيشون في الحوض العربي الألماني، ويتبادلون فيه الثقافة والتفاكر مبشرين بولادة جديدة لأفق معرفي حضاري يصل ابن سينا وابن رشد بهيغل وفيورباخ ويبشر بمنصة فلسفية ومعرفية تتسامى على أطماع السياسة والجغرافيا وتجمع الإرادة الخيرة على الشاطئين المتلاعنين خلال تاريخ طويل.
حسام الدين درويش: أشكرك، جزيل الشكر، على كلماتك الطيبة، وأود، بدايةً، معرفة قصة كتابك “إخاء الأديان”: متى، وكيف ظهرت، لديك، فكرته؟ ومن ثم، كيف تطورت وتبلورت إلى أن أصبحت كتابًا. وما أطروحتك الرئيسة في هذا الخصوص؟
محمد حبش: منذ نشأتي في مدارس التعليم الشرعي، كان تحكمني فكرة غايات الرسل، فالمسألة في الإسلام تشكل ثلث الإيمان حيث ينبغي على كل مسلم أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأمام هذه الحقيقة الاتفاقية فإن عليك أن تعلن بوضوح إيمانًا تامًا بالكتب والأنبياء، وهذا ما يفعله المسلمون كافة، ولكن الشروحات التي ألقاها التراث على نص الإيمان جعلته في غير معنى، وبدلًا من أن يكون الإيمان بالرسل والكتب مدخلًا لبناء أوثق العلاقات مع 87 في المئة من سكان الكوكب الذين يؤمنون بالأنبياء والرسل والأديان، فإنك تجد نفسك مدعوًا لتكفير الجميع، والطعن في إيمانهم وإنكار عقائدهم وبيان ضلالهم، ووجوب العمل على التحذير من هذه الديانات ومن أتباعها ومن عقائدها واعتبار ذلك شرطًا للدعوة إلى الله.
وفي إزاء ذلك يستمر التأكيد على وجوب احترام أربعة كتب ضائعة محرفة غير موجودة و25 شخصًا في غابر التاريخ، وردت أسماؤهم في القرآن ولم نهتدِ أركيولوجيًا لأي أثر حقيقي لهم في الأرض.
وهكذا تتحول العقيدة الراسخة في الإيمان بالأنبياء والكتب من منصة جامعة للبشرية إلى فكرة هامشية منهكة تدعو لاحترام أشخاص غامضين هلكوا في الدهر لا علاقة لهم من قريب ولا من بعيد بهذا العالم الذي يموج بالأديان والعقائد.
فما معنى أن نتمسك بالإيمان بالأنبياء والكتب ونعتبرها رأس الإيمان ثم لا يكون لهذا الإيمان أي أثر في صناعة المحبة في الأرض؟ وهل تعبّدنا الله بالإيمان بأنبيائه والإساءة إلى أتباعهم؟ وما معنى أن يخلق الله البشر وهو يعلم مصائرهم إلى الجحيم ثم يكرر الخلق المرة بعد المرة؟
هذه الأسئلة وغيرها جعلتني أندفع لدراسة الوعي بعقيدة الإيمان بالأنبياء ورأيت أنه لا يستقيم على الإطلاق تصديق هذه الأفكار الاتهامية للخلق إلا عبر قدر كبير من سوء الظن بالخالق سبحانه، وهذا لا يستقيم في منطق إيمان عقلاني أبدًا.
وأما سؤالك عن الفكرة فقد بدأت بالفعل من المعاناة، لقد تلقيت تعليمًا دينيًا تقليديًا، ووقفت على التعليم العميق لثقافة الولاء والبراء، لقد بدا واضحًا أن الثقافة الدينية السائدة تأمرك بكراهية الآخرين حتى يدخلوا في الدين الحق، وفي حديث منسوب للبخاري أن الله يأمر آدم يوم القيامة أخرج بعث النار، فيقول يا رب وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمئة وتسعة وتسعون! وهكذا فإن التربية التقليدية تحرض ضد 999 بالألف من سكان الكوكب، فكيف يمكن أن نبني المحبة في الأرض ونحن نشحن الأجيال الآتية بهذه الثقافة السوداء، وهو أمر لا يمكن تبريره بترك الأمر للآخرة، وأن علينا حسن المعاملة في الدنيا، فهذه الفكرة سرعان ما يرفضها الطفل فإذا كان الله الرحمن الرحيم لن يجد لهم مكانًا إلا في النار فكيف يمكن أن يجدوا مكانًا في قلبي؟
ثقافة الكراهية لها منابت شتى، ولكن يجب الاعتراف أنها تنمو بشكل مرعب في الثقافة الدينية الأحادية، حين يتوقف اللقاء والحوار والإخاء وتنفجر ثقافات الكراهية، وهذا ما يجعل الحديث عن إخاء الأديان على رأس واجبات الإصلاح لبناء مجتمع رشيد.
حسام الدين درويش: لا يقتصر كتابك على تسويغ أطروحة إخاء الأديان بواسطة الدعوة إلى إحسان الظن بالله، بل يذهب إلى ما وراء ذلك ويقدم أدلةً (دينيةً) من القرآن والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستصحاب، إضافةً إلى الاستناد إلى ما سميتها مبادئ الفطرة والفترة والعدل الإلهي ورسالة آدم وعيال الله. كما تحدث عن المواقف الأخلاقية من إخاء الأديان والمواقف الفقهية المؤيدة والمعارضة لهذه الأطروحة. وسؤالي، هنا، هو: ما الحجج الرئيسة التي تستند إليها في دعم تلك الأطروحة؟
محمد حبش: يبدو موقف الذين يتحدثون عن إخاء الأديان ضعيفًا في الوسط المحافظ، وسيرمى أصحاب هذا التفكير بسهولة بالكفر والزندقة والعبث بثوابت الدين، ويفضل كثير من أصدقائي أن نتحدث عن الإخاء الإنساني ولا نمس إخاء الأديان، لأننا في الواقع نواجه ثوابت من النص لا تقبل الجدل، وإذا جئتهم بآية في التسامح جاؤوك بأكثر من ذلك في التعصب والتشدد.
ولكنني في الحقيقة مختلف تمامًا في هذه المسألة وأعتبر أن الأدلة الشرعية كافية ووافية، وهي من دون شك أكثر من الحجج التي يستخدمها الإقصائيون، وقد رصدت الفصل الأول في الكتاب لبسط الأدلة من مصادرها في مسألة إخاء الأديان وقبول العمل الصالح من كل دين، والنجاة في الآخرة لكل مجتهد نبيل، وقد توسعنا في الأدلة من مصادرها العشرة التي أشرت إليها في سؤالك، وهي الكتاب والسنة والقياس والإجماع والاستحسان والاستصلاح والعرف والذرائع والاستصحاب وشرع من قبلنا. وعلى سبيل المثال فإنه قد تكرر في القرآن الكريم في أربع عشرة عبارة {مصدق الذي بين يديه}، {مصدقًا لما بين يديه}، {تصديق الذي بين يديه}، وقد وردت هذه التأكيدات الواضحة مرارًا لدى الإشارة إلى علاقة القرآن الكريم بالنبوات الأخرى وبالكتب السماوية المنزّلة، ومن ذلك مطلع آل عمران: {ألم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم* نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل* من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان*}
وفي الصيغ جميعًا تذكر الكتب السماوية بغاية الإجلال والاحترام، وأنّها تصدق القرآن الكريم ويصدقها، ولم يرد أي نص صريح في القرآن الكريم يفيد أنّ هذه الكتب قد نسخت أو بطلت أو فشلت أو تحولت إلى نصوص ضلالة، وإنما هي نصوص وحي إلهي يحمل مضامين تربوية عالية، وهي كالقرآن الكريم كلمة الله، ونوره وهداه، وإن كانت الإشارة قد وردت في الكتب جميعها أنها نور يهدي وليست قيدًا يأسر، وأن الأحكام تتغير بتغير الأزمان، وأن لكل أمة جعلنا شرعة ومنهاجًا.
وفي تأكيد هذه الحقيقة وردت نصوص واضحة في القرآن الكريم في سورة المائدة وهي من آخر سور القرآن الكريم نزولًا، وشأنها أن تكون ناسخة لا منسوخة، ومنها الآية الكريمة: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.
والآية صريحة وواضحة بأنّ التوراة كتاب عظيم من الله، فيه هدى ونور، وأنّه مصدر للحكمة والنور، وأنه هدي أخذ به النبيّون والربانيون خلال التاريخ، ومن المدهش أنّ هذه الآية ختمت بالنص الذي يستخدمه الجهاديون دومًا: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، وهو يعني أنّ هذه النصوص السماوية متساوية، وهي تملك دورًا متشابهًا خلال التاريخ، وعندما يحكم بها الأنبياء والربانيون فهي ملزمة لسائر الرعية، وهي قانونهم وحياتهم، ولكنها تتطوّر مع القرون، وتحتاج في كل عصر جديد لشرعة ومنهاج ينسج على منوال مقاصدها. وفي الآية دعوة أهل الكتاب للاحتكام إلى التوراة والعمل بمقاصدها، وهي تشتمل على القيم والفضائل، كما أنّ فيها من أحكام الشرائع التي تتجدد وتتغير بتغير الأزمان.
ومن المؤكد أنّ القرآن الكريم أشار إلى بعض محاولات من الكهنة وغيرهم لتحريف بعض نصوص الكتاب أو معانيه. ولا يمكن فهم ذلك على أنّه إلغاء لما في الكتب الأولى من هدى ونور، وإنّما هو بمنزلة التنبيه إلى المحاولات المستمرة لاستغلال النص الديني التي لا تتوقف، وقد حاول الأشرار فعل ذلك في القرآن نفسه.
وعلى المستوى المسيحي وردت آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}. والآية صريحة بأن الإنجيل كتاب الله وأنّه مصدر أحكام وإلهام، وفي تطبيق الإنجيل أيضًا نزلت الآية الكريمة {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه}، والمقصود مقاصده وغاياته التي دعا إليها، ومن المعلوم أنّ الإنجيل ليس فيه شريعة، بل موعظة ونصيحة، ومع ذلك فقد جاء الوعيد شديدًا على الذين لا يحكمون بما أنزل الله فيه، والمقصود بطبيعة الحال المقاصد وليس الأحكام. وفي الآية دعوة للمسيحيين للاعتصام بدينهم وتطبيق ما فيه من الفضائل التي تشترك فيها الديانات، وهو إقرار جلي بإخاء الأديان وتساويها وتكاملها وبناء بعضها على بعض.
والأدلة كثيرة وقد أوردناها بطولها متقابلة مع أدلة المانعين، ولا يسع أحد أن يلغي اجتهاد الآخر في المسألة، ونحن نتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، ونختار لزماننا وعصرنا ما يناسبه من خيارات المفسرين والفقهاء.
حسام الدين درويش: تبدو أطروحة “إخاء الأديان” جديدةً كل الجدة من ناحيةٍ، وذات رباط وثيق وحضور أصيل في كل الحضارات والثقافات، قديمها وحديثها، من ناحيةٍ أخرى. فما الذي يعنيه مفهوم إخاء الأديان تحديدًا؟ وكيف نميزه عن المفاهيم الأخرى السائدة المختلفة عنه، والقريبة منه، والمنافسة له في الوقت نفسه، مثل مفاهيم: حوار الأديان، وحدة الأديان، المقارنة بين الأديان … إلخ؟
من المؤكد أن لكل مصطلح حمولة إيديولوجية مباشرة، كما في حوار الأديان ووحدة الأديان وتوحيد الأديان ومقارنة الأديان، وهذا كله غير مراد، ولا أشعر أنه يحقق رسالتي في الإخاء الإنساني، فمقارنة الأديان وحوارها لن ينتهي إلا إلى تبادل الريب وتشكيك المحاور بخصمه، وأما وحدة الأديان وتوحيدها فهو مشروع فاشل وغير واقعي، ولن ينتج عنه إلا دين جديد يجمع تشوهات وتناقضات لا تجتمع في سياق.
لقد اخترت مصطلح إخاء الأديان الذي يحمل مفهوم الإخاء والاحترام للمختلف الديني أيًا كان دينه وموقفه الاعتقادي، ومن الممكن تمامًا أن تقوم كل جهود إخاء الأديان تحت عنوان لكم دينكم ولي ديني. ويجب الاعتراف أن إخاء الأديان بالمعنى الذي يقصده هذا الكتاب غير موجود على سبيل الحقيقة كمنهج متكامل وإنما تجد بعض ممارساتٍ تخدم هذه الحقيقة، وهنا تتعين الإشارة إلى نقطتين اثنتين:
الأولى: إن الغاية الإنسان لا الأديان، ولكن اختيار إخاء الأديان محورًا للدراسة كان بسبب غياب هذا الأفق، وغياب الإخاء سيولد تلقائيًا الكراهية، وبالتالي فإن الحروب الدينية التي صبغت التاريخ على شاطئي المتوسط وفي العمق الأوروبي والإسلامي أيضًا كانت نتيجة حتمية لغياب مشاعر الإخاء والاحترام بين أتباع الأديان، وقناعتي أننا لن نصل إلى أي إخاء إنساني طالما استمر التحريض الديني على الآخر المختلف، بالشكل الذي تدرسه المعاهد الشرعية الإسلامية والمعاهد اللاهوتية المسيحية واليهودية.
الثانية: أجد لزامًا علي أن أعترف أنني اعتمدت أسلوبًا رغائبيًا في شرح المسألة، ولا يمكنني وصف هذه الدراسة بالحياد الموضوعي التام، بل إنني أعترف لك بأن بها قدرًا من التبشير الواضح لفكرة إخاء الأديان، وفي هذا السياق فإنني بالفعل أستعمل الدليل المرغوب وأقوم بتأويل الدليل المرفوض، وهذا الأسلوب الذي يبدو انتقائيًا ومتناقضًا مع الأصول العلمية للبحث العلمي هو موقف حتمي للتعامل مع تراث واسع وعريض، وفيه ما فيه، من المتشابه والمنسوخ والمشكل والمؤول والمقيد والمجمل والمبهم والخفي، وهذه المصطلحات على قسوتها ورفض رجال الدين المعاصرين لها اليوم، ولكنها مصطلحات علمية منصوص عليها بهذه العناوين تمامًا في علم أصول الفقه في باب واضح النص ومشكله، وخاصة في اختيار السادة الحنفية.
لقد تحقق قدر جيّد من الإصلاح على المستوى الاجتماعي، وباتت لقاءات الأديان وتعاون أبنائها وحواراتهم جزءًا من طبيعة التحولات الاجتماعية، ولكن لم يتحقق ما يكفي على المستوى التربوي، وحين نمارس الإحسان في الذين كفروا ومعاملتهم بالودّ والبرّ والقسط كما يشير القرآن الكريم، ولكن نعتقد في الوقت نفسه أنّهم سيُصْلَوْن نارًا وقودها الناس والحجارة كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب، فإنّنا لا نريد أن نقول: إننا طيبون ولكن الله غاشم وماكر وماقت!! وهو يستدرجهم في الدنيا ليمارس عليهم سادية أبدية، وهي قيم مدمّرة للبنيان الأخلاقي بكل تأكيد، ولا يمكن من وجهة نظري تبريرها إلاّ بتعسف يعصف بالمنطق كله. ويجب التأكيد أننا لا نقصد في هذه الدراسة الحديث عن اللقاءات البروتوكولية بين أتباع الأديان، وتشجيع التعايش والمودة، وبناء ثقافة المواطنة، فهذه كلها مقاصد نبيلة، وهي تجري باستمرار وعلى مستويات كثيرة، ولكننا نهدف هنا إلى البحث في الجذور، وإلى تصحيح الوعي بعلاقة المسلم بالآخر المختلف على أساس تربوي واعتقادي، وليس وفق الحاجات الاجتماعية والقانونية.
لقد تعودنا على رؤية شيوخ وكهنة على المنصات يلتقطون الصور التذكارية، ولكن هذه الابتسامات العريضة حين ننصرف إلى مواقعنا التقليدية سرعان ما تتحول ابتسامات صفراء، وربما غلفناها بعبارة سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وذرهم في غيهم يعمهون، وغيرها من العبارات التي تشي بما نتبادله في قلوبنا من تهم وريب لا يرجى معها قيام، وهو بالطبع ما نتصوره من الآخرين حين يمارسون لقاءات الأديان من دون قناعة بنبل هذه القضية.
حسام الدين درويش: أراك تركِّز كثيرًا على مسألة أن القرآن يذكر الكتب السماوية بغاية الإجلال والاحترام، وأنّها تصدق القرآن الكريم ويصدقها، وأنه لم يرد أي نص صريح في القرآن الكريم يفيد أنّ هذه الكتب قد نسخت أو بطلت أو فشلت أو تحولت إلى نصوص ضلالة، وإنما هي نصوص وحي إلهي يحمل مضامين تربوية عالية، وهي كالقرآن الكريم كلمة الله، ونوره وهداه. وأظن أن معظم المسلمين، وربما جلهم أو كلهم، يتفقون معك في هذه النظرة. في المقابل، انت تعلم أن النظرة الشائعة لدى المسلمين هي أن الكتب السماوية المسيحية واليهودية الموجودة حاليًّا محرَّفة، وبالتالي فإن كل الكلام الإيجابي الوارد عنها في القرآن لا يصدق على تلك الموجودة حاليًّا. وكما أشرت أنت محقًّا، القرآن نفسه يتضمن إشارات إلى بعض المحاولات الكهنوتية لتحريف هذا الكتاب السماوي أو ذاك. فكيف يمكن لأطروحة إخاء الأديان أن تتعامل مع رؤية عموم المسلمين للأناجيل والتوراة الموجودة حاليًّا على أنها محرَّفة ومنحرفة ولا تستحق أي إجلالٍ أو احترامٍ؟
وانطلاقًا من رؤية ترنسندنتالية للحقيقة والاعتقاد، أي للشروط المؤسسة لهذين المفهومين، يمكن القول بوجود مفاضلة وتراتبية في كل اعتقاد وفي كل تبنٍ لحقيقةٍ ما. ووفقًا لتلك المفاضلة أو التراتبية، الصريحة أو الضمنية، يكون مضمون ما أعتقد بصحته هو الحقيقة، وما يخالفه أو يناقضه باطلٌ أو أقل حقيقةً. وبالتأكيد، ينطبق ذلك، أيضًا وخصوصًا، على الاعتقاد أو الإيمان الديني وعلى الحقيقة الدينية. وسؤالي هنا، هل هناك توتر أو تناقض أو تنافر بين وجود تلك المفاضلة أو التراتبية وأطروحتك عن إخاء الأديان؟ هل تتضمن تلك الأطروحة القول بالمساواة بين الأديان في درجة الحقيقة أو الخلاص أو الخيرية أو الصحة إلخ؟
محمد حبش: في المنطق الاستدلالي المؤسس لفكرة احترام الكتب الدينية للأديان فأعتقد أن نصوص القرآن الكريم الصريحة التي قدمناها قبل قليل وهو ما بسطنا القول فيه في الفصل الأول من الكتاب كافية للجزم بوجوب احترام الكتب الدينية للأديان التي جاء القرآن مصدقًا لما فيها، وفي عهد الرسول الكريم أشار القرآن الكريم باستغراب لموقف رجال الدين اليهود الذين يحتكمون إلى القرآن، وقال: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين، والآية واضحة في أن حكم الله كان موجودًا في هذه الكتب في عصر الرسالة على الرغم من محاولات التحريف الذي ذكرها القرآن نفسه.
ولكن احترام هذه الكتب لا يعني اتباعها ضرورة، فالمسلم مأمور باتباع القرآن واحترام الأديان، ووقوع التحريف أو محاولات التحريف على التوراة والإنجيل لا يغض من قيمتهما، بل يوجب النظر بحذر، وهو ما يطلب من المؤمن في كل حال، ولا توجد مشكلة كبيرة نظرًا لأن فكرة النص المقدس في المسيحية مختلفة قليلًا، فهم لا يرون الكتاب المقدس نصًا إلهيًا محسومًا تلقاه المسيح، بل هو كتابات التلاميذ، وهم يقرون باستمرار بوجود الاختلاف بين هذه النسخ ويتقبلون إمكانية الاختيار منها، وهذا ما يفكك عقدة أسوار النص وقيوده لصالح فهم مقاصده ودلالاته.
وإخاء الأديان ليس معنيًا بالجدل اللاهوتي الذي يهدف إلى إثبات الحقيقة الموضوعية، بل هو يتعامل مع الواقع بأكبر قدر من الرؤية الإيجابية، ويترك أمر التحقيق الوثائقي لخبراء التاريخ والمكتبات. ومن هنا فإن إخاء الأديان لا يطالب المسلمين بالحكم على موثوقية كتب الأديان، وليس علينا تكلف تحقيق أسانيدها ورواتها، فهذا شأن أصحاب الديانة، وإنما تتلخص رسالة إخاء الأديان في البناء إيجابيًا على ما يتوفر من هذه الوثائق لصالح الإخاء الإنساني.
وأما النقطة الأخرى التي أثارها سؤالك حول تفاضل الأديان أو مساواتها، فهو اعتراض وجيه، ومن المنطقي أن نقول إن فطرة الدفاع عن المعتقد الديني وتفضيله على معتقدات الآخرين هي فطرة سليمة، ولعل أوضح تعبير لها في التراث الإسلامي هو ما نقله ابن الحاجب عن السلف واشتهر أنه الإمام مالك: قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب، فإن هذا الوعي الاجتهادي منطقي تمامًا، ولا نريد في إخاء الأديان أكثر من هذا، فمن حق كل أحد أن يعتقد بصواب اعتقاده ويدافع عنه، لكن في إطار احترام الرأي الآخر وإعذار المخالف، والاعتصام بالضعف البشري الذي يعني احتمال اكتشاف يقين آخر.
إن ما كتبناه عن مساواة الأديان هو حكم اجتماعي وليس لاهوتيًا، والمقصود هو توفير فرص متساوية في الحياة والتعبير عن الرأي، ومنح المخالف حقه الكامل في الإعذار، وليس الجزم المنطقي بانسداد سبيل التمييز ووجوب التسليم بصحة كل اعتقاد، وهو ما يقتضي تصويب المتناقضات وهو محال.
حسام الدين درويش: ولكن من قال بهذا القول من قبل؟
محمد حبش: إن الشائع أن إخاء الأديان خيار ضيق يختص به الفقهاء الذين ينزعون منزعًا عقلانيًا ويقدمون العقل على النقل، وهم في هذه الحالة قليلون ونادرون، ولكن الواقع يقول غير ذلك، ويمكنني ان أصنف المتحمسين للقول بإخاء الأديان في العالم الإسلامي في مجموعات أربع:
المجموعة الأولى: مجموعة الصوفية من الفقهاء والعلماء والحكماء، سواء أكان توجههم الصوفي على أساس إعذار الخلق في إنفاذ ما أمر به خالقهم، أو على أساس حضور الله تعالى في كل ذات جميلة وجليلة الأمر الذي يجعل الناس جميعًا موحدين وعابدين ولو لم يحسنوا التعبير عن ذلك، ومن هؤلاء الأئمة ابن عربي والتلمساني والجيلاني وابن سبعين والقونوي وأبي الحسن الشاذلي وغيرهم كثير لا يحصون.
المجموعة الثانية: هم فلاسفة الإسلام الكبار الذين اختاروا منهج الإحسان في الخلق والسمو بالنص الديني من التفسير الظاهر إلى التفسير المقاصدي، وقبلوا إخاء الأديان إيمانًا بعدل الله وشمول رحمته، وتنزيهًا له عن العبث والظلم، ومنهم ابن سينا والفارابي والسهروردي والبيروني والكندي وابن رشد وابن باجه وابن طفيل.
المجموعة الثالثة: وهم الفقهاء الإنسانيون الذين جعلوا احترام الإنسان غاية وقصدًا وقبلوا إخاء الأديان إيمانًا بالخير الإلهي في كل خلقه، ومظهرًا للسمو الاجتماعي والحضاري، ومنهم إخوان الصفا وجلال الدين الرومي والسلطان المغولي أكبر شاه والملك الكامل الأيوبي، وفي عصرنا محمد إقبال ومالك بن نبي وروجيه غارودي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وحسن الترابي وجودت سعيد
المجموعة الرابعة: وهم فقهاء الشريعة الذين عملوا مع الدولة الإسلامية خلال التاريخ وفي الواقع المعاصر وأنتجوا لها نصوص القوانين التي تحكم الناس، واستمروا يطورونها باستمرار، وقد قبلوا إخاء الأديان عملًا بمقاصد الشريعة العليا، والتزامًا بالقانون الدولي، ومن هؤلاء اللجان التشريعية والأسرة البرلمانية في (52) دولة إسلامية من أصل (57) دولة إسلامية، فهذه الدول الإسلامية كلها قد انتهت إلى دساتير واضحة تنص على الحرية الدينية وتكفل حق الاختلاف والتنوع، وتلزم الدولة باحترام المختلفين ورعايتهم، وفي ضوء ذلك تقوم الدول الإسلامية كما بيناه ببناء دور العبادة لغير المسلمين أو تيسير إقامتها واعتبار ذلك مسؤولية دينية ووطنية أناطها الله تعالى بمن يلي أمر المسلمين ويرعى ذمتهم.
وبكل تأكيد فإن هؤلاء الفقهاء المشاركين اليوم في التشريع وعددهم بعشرات الآلاف من إندونيسيا إلى موريتانيا يحرسون القوانين من أن يكون فيها تمييز ضد المختلف دينيًا ويصرون على النص الواضح بأن المواطنين سواء ولا فضل لمسلم على غير مسلم إلا بالتقوى والعمل للصالح العام. كما يمكن ضم كثير من الشعراء والأدباء الذين كتبوا في الإخاء الإنساني، حتى نشأ في الأدب العربي أدب خاص اسمه أدب الديارات وهو يشتمل على القصص والأشعار والأمثال التي اشتهرت في حوارات المسلمين والنصارى في الأديره والكنائس والصوامع مما تزخر به كتب الأدب العربي. كما يمكن ضم مواقف نبيلة للخلفاء البارزين في التاريخ الإسلامي الذين أسسوا لهذا اللون من الإخاء بين الأديان، وخاصة الخلفاء الأمويين وعلى رأسهم عمر بن عبد العزيز، الذين أنشؤوا أقوى العلاقات مع الكفاءات المسيحية واستوزروهم ووفروا لهم فرص التفوق والانطلاق وفسحوا لهم المشاركة القوية في الحضارة الإسلامية، ونورد هنا بشكل خاص أسرة منصور بن سرجون التي استمرت من يوم الفتح إلى خلافة هشام بن عبد الملك تتولى شؤون بيت المال وقد اختتمت بأحد أفرادها البارزين جدًا وهو يوحنا الدمشقي وزير عمر بن عبد العزيز الذي كان معروفًا بشدة تدينه المسيحي، حتى رسمته الكنيسة قديسًا في ما بعد، وكذلك ما قام به في السياق نفسه الخلفاء الأندلسيون والخلفاء الفاطميون، وقد تجاوز هؤلاء المسؤولية السياسية التي تفرض بعض المجاملات إلى الوعي العميق بالإخاء الإنساني وتوفير الظروف لأفق أعلى من الحوار والمودة والإخاء.
إننا إذًا أمام مجموعة كبيرة من الخلفاء والعلماء والفقهاء والمشرعين الذين توصلوا إلى وجوب بناء الإخاء بين أتباع الأديان حماية للتلاحم المجتمعي والهوية الوطنية، وتأكيدًا لمسؤولية الدولة في خلق جو من المساواة والعدالة على صعيد المجتمع بكل تلوناته وأشكاله. ويجب القول إن رجال الدين، من الواعظين والخطباء وكذلك رجال الرواية عن السلف لم ينظروا بهذه الودية لإخاء الأديان وظلوا يرتابون في كل سعي كهذا ومن العسير أن نستخلص من الفقهاء موقفًا واضحًا في إخاء الأديان ومع ذلك فقد خصصت فصلًا خاصًا للإشارة إلى من سبق إلى ذلك من الفقهاء وهم بالطبع عدد محدود.
حسام الدين درويش: يبدو أن أطروحة إخاء الأديان التي تتبناها تتطلب إيقاف التوجه الدعوي أو التبشيري في الأديان، فهل تتبنى بالفعل هذا الموقف؟ وفي حال كانت إجابتك بالإيجاب، ألا يتعارض ذلك مع الروح الدعوية والتبشيرية للإسلام، وفقًا لنصوصه المؤسسة ذاتها؟ وألا يمثل ذلك عقبة في وجه تبني تلك الأطروحة، من حيث إن الثمن الذي تتطلبه باهظٌ، لدرجةٍ تسمح بالتفكير في التخلي عنها؟
محمد حبش: إن الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى المحبة بين عباده، ويجب القول إن هذه الدعوة تعرضت للاغتيال في التاريخ عبر استعمال السيف لأسلمة الناس في عصور الجهاد، وما أفرزته تلك الحروب الضارية في ما بعد من شقاق وقطيعة وإرادة انتقام، وكذلك ما أفرزته من مواقف كلامية واعتقادية كرست بين الناس القطيعة والتدابر، وفي العقود الأخيرة تم استعمال المال أيضًا حيث تم إنفاق موازنات مليارية عبر سفارات إيران والسعودية تحديدًا لنشر الدعوة الإسلامية المذهبية وهو أمر كان يعود ببعض المسلمين الجدد، ولكنه كان يتم على حساب شقاقات اجتماعية وصدامات مذهبية ضارية، إضافة إلى توليد حالة من الإيمان الانتهازي تحت عنوان المؤلفة قلوبهم.
والأمر نفسه مارسته المسيحية تاريخيًا حين فرضت الإيمان بسيف الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، ثم بقوة الاستعمار وسطوته، وما دار في فلكه من الجمعيات التبشيرية والتنصيرية، وقناعتي أن ذلك كله أبعد ما يكون عن مقاصد الدين الحق وغايات الرسل والدعوة إلى الله.
نعم إن الدعوة لإخاء الأديان ستفقد هذه الحملات مبرراتها وغاياتها، وستوقف التبشير المبرمج ضد بيئات الديانات القائمة، ولكنها في الوقت نفسه ستحقق ازدهارًا أكبر للدعوة إلى الله، الذي هو رب العالمين وملك الناس ورب الناس وإله الناس، وسينشأ في ظلال هذه الدعوة فرق من الدعاة الذين يؤمنون بالمحبة والسلام والإرادة الطيبة من كل الأديان، وسيناضلون معًا لنشر المحبة والإشراق والفضيلة، ومواجهة الجريمة والفساد والظلم والفحشاء والمخدرات، بدلًا من النضال العابث ضد أديانهم وأفكارهم واعتقاداتهم الموروثة.
شخصيًا لا أجد في دعوة إخاء الأديان ما يخرج قيد أنملة عن نصوص الدعوة إلى الله في القرآن: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين.
حسام الدين درويش: تتحدث عن أن (52) دولةً من أصل (57) دولةً إسلاميةً قد انتهت إلى دساتير واضحة تنص على الحرية الدينية وتكفل حق الاختلاف والتنوع، وتلزم الدولة باحترام المختلفين ورعايتهم. أنت تعلم أن ذلك لا يشمل حرية عدم التدين أو الإلحاد. كما أن حق الاختلاف والتنوع في هذا الخصوص ليس متاحًا أو مصانًا ومحترمًا دائمًا. انطلاقًا من ذلك وغيره، ألا ترى أننا بحاجة إلى مفهوم “الإخاء الإنساني” الذي يتضمن الإخاء الديني، ويتجاوزه إلى الإخاء بين المتدينين وغير المتدينين؟
محمد حبش: إن ما أنجزته هذه الدول الإسلامية اﻟ 52 كبير وفعال، وهو يتطور باستمرار، وعلى الأقل فإن النصوص الدستورية لا تحتاج لتعديلات جوهرية لحماية الأديان وتوفير الحرية الدينية، وعلينا الاعتراف بأن بعض القوانين لا تزال تحتوي على نصوص في التمييز، ولكن يمكن وصف هذه القوانين بأنها غير دستورية، وهي تتعدل ببطء، وحين تتوفر الإرادة السياسية فإن التحول عنها إلى قوانين أكثر ملاءمة للدستور هو أمر ممكن تمامًا. وتعيش الأديان على المستوى الحقوقي والتشريعي في واقع متقدم من الحرية والاحترام وحقوق الإنسان في بلاد إسلامية أساسية كمصر وتركيا وإندونيسيا وماليزيا والمغرب والإمارات وقطر ودول آسيا الوسطى. حتى في بلاد الشام والعراق ووادي النيل والشمال الأفريقي وباكستان والهند فإن القوانين متقدمة على الوعي المجتمعي، والمعاناة في هذه البلاد سببها غياب القانون لا حضوره. ويبقى وتر أفغانستان إيران السعودية اليمن مسكونًا بالتمييز رافضًا للحريات الدينية، وتراهن هذه الدراسة على أن التغيير قادم، ولكنه لن يكون سهلًا.
وتبقى نقطة واحدة في سؤالك وهي ماذا عن اللادينيين، وبالتأكيد إنهم يواجهون قدرًا كبيرًا من الرهق الاجتماعي قبل المواجهة القانونية، ومع إيماني بحقهم الإنساني فإنني لست متحمسًا للمواجهة مع الجمهور لتعديل القوانين التي تعاقب على ازدراء الأديان، حيث يمكننا القول إن التوجهات الفلسفية اللادينية موجودة في هذه الدول الـ 52 ولها منابرها ومدارسها ودور نشرها، وكلمة السر الوحيدة المطلوبة هي عدم الاستفزاز، وبإمكان الفلسفة أن تعيش في البيئات المسلمة طويلًا إذا ألزمت نفسها بعدم الاستفزاز، سواء كان ذلك على نسق حقوقي أو فلسفي أو اجتماعي.
حسام الدين درويش: أنت تشير في كتابك إلى أن ما تهدف إليه هو الإخاء الإنساني، الإنسان، وليس الأديان. صحيحٌ أنك تبرر تخصيص المفهوم ليتمحور حول العلاقة بين المتدينين، وليس بين كل البشر عمومًا، بحجة أن الأديان لا تزال تشكل الوعي الجمعي لغالبية البشر، وأن ثقافة الكراهية والتدابر تنشأ في الغالب في مجتمعات الأديان وتُبنى على أساس ديني. لكن ألا ترى أنه من الصحيح أيضًا أنه بدلًا من الحديث عن إخاء الأديان أو الإثنيات أو المذاهب أو القوميات إلخ، ينبغي إعطاء الأولوية لمفهوم الإخاء الإنساني وفقًا لمنظومة حقوق الإنسان، لأن ذلك المفهوم يتضمن مفهوم إخاء الأديان ويتجاوزه ليشمل جميع البشر من دون استثناء؟ وألا ترى أيضًا أنه ثمة حاجة خاصة وملحةٌ، في العالم العربي الإسلامي، إلى هذا المفهوم الإنساني الشامل، للإخاء، والذي ينبغي لفكرة المواطنة وللقوانين والتشريعات أن تتأسس عليه وتصونه وترتقي به نظريًّا وعمليًّا؟ وفي كل الأحوال، ألا يتأسس مفهومك ﻟ “إخاء الأديان” على مفهوم “الإخاء الإنساني”، ويؤسس له، في الوقت نفسه؟
محمد حبش: العلاقة بين إخاء الأديان والإخاء الإنساني هي علاقة تكامل وليست علاقة تضاد، بل يمكن اعتبار إخاء الأديان فرعًا من الإخاء الإنساني، ولا بد من ربط إخاء الأديان في جميع مراحله بما يتم إنجازه في سياق الإخاء الإنساني. وقد بينت في الكتاب عدة مرات سبب التركيز على إخاء الأديان، وربما يتعين علي القول إنني أمارس دوري بدافع الاختصاص في إطار معالجة ثغرة نازفة في سفينة الإخاء الإنساني، فقد بات من المؤكد أن الأديان هي من يصنع العقل الجمعي لمعظم المجتمعات، وأن الدين أقوى غرائز المجتمع، ولا يمكننا أن نفكّر بالإخاء الإنساني ونحن نتخلى عن مسؤوليتنا في إصلاح الخطاب الديني، إن أي دراسة إحصائية لمركز التوجيه الأخلاقي والمجتمعي ستحملك على الاعتقاد بأن خمسين بالمئة من سكان الكوكب يقادون من معابدهم، وقد أشرت في سؤال سابق إلى تفسير ذلك، ولا أمل في الإخاء الإنساني طالما ظلت هذه المنابر تكرس الشعب المختار يهوديًا أو الكراهية الصليبية مسيحيًا أو الولاء والبراء إسلاميًا، وطالما ظلت هذه المنابر تبشر بثقافة الحب في الله والبغض في الله على أساس لاهوتي محض.
إننا لا نهدف في إخاء الأديان إلى بناء مودة بين الأديان وبناء جبهة مقاومة ضد اللادينية، إذًا سنعود إلى المربع الذي ناضلنا ضده وهو مربع الحب والولاء بين أبناء الطائفة ثم كراهية الآخرين، إن الفكرة واعية تمامًا لهذا المنزلق الخطير، وهي تصرح بأن غايتها نزع ألغام الكراهية المرصودة على طول الحدود الدينية، والانفتاح في الوقت نفسه تجاه الإنسان.
حسام الدين درويش: أصبح شائعًا تحميل الفقهاء والمشايخ ورجال الدين مسؤولية كبيرة عن السلبيات في العالم الإسلامي. فعلى سبيل المثال، يرى الباحث الأميركي التركي أحمد كورو، في كتابه “الإسلام، السلطوية والتأخُّر”، على سبيل المثال، أن التحالف بين رجال الدين والفقهاء من ناحية والخلفاء أو السلاطين ورجال السياسة من ناحية أخرى هو السبب الرئيس لتدهور أو تأخر العالم الإسلامي وللسلطويات المنتشرة فيه. وعلى الرغم من حديثك الإيجابي عن فقهاء الشريعة الذين عملوا مع الدولة الإسلامية خلال التاريخ وفي الواقع المعاصر وأنتجوا لها نصوص القوانين التي تحكم الناس، واستمروا يطورونها باستمرار، والذين قبلوا إخاء الأديان عملًا بمقاصد الشريعة العليا، والتزامًا بالقانون الدولي، يبدو لي أنك تحمل الفقهاء مسؤولية سلبية كبيرة في خصوص انتشار ثقافة الكراهية بين متديني الأديان المختلفة. وبكلماتٍ أخرى، على الرغم من تخصيصك، في كتاب “إخاء الأديان” فصلًا للإشارة إلى الفقهاء السابقين المؤيدين لفكرة إخاء الأديان، فإنك تنظر بعين الشك والريبة عمومًا نحو هؤلاء الفقهاء. سؤالي هنا، لم هذه النظرة السلبية إلى الفقهاء ورجال الدين؟ ومن وجهة نظرك، ووفقًا لتحليلك وخبرتك، ما أسباب كون الفقهاء ورجال الدين المؤيدون لفكرة إخاء الأديان والمتبنون لها قلة عمومًا، وفي الأديان الإبراهيمية خصوصًا؟
محمد حبش: أجد من الضرورة هنا أن أكرر ما قلته حول التفريق بين رجال الدين وبين الفقهاء، فرجل الدين هو رجل رواية والفقيه هو رجل دراية، ورجل الدين معني ببناء الآخرة، والفقيه معني ببناء الدنيا، ورجل الدين يقود العبادات والفقيه يقود المعاملات، ورجل الدين يتلو الأدلة والفقيه ينتجها، ورجل الدين مصادره الكتاب والسنة، والفقيه مصادره الاستحسان والاستصلاح والعرف والاستصحاب وشرع من قبلنا وأشكال الإجماع المتعددة، وهي مصادر حاكمة على الكتاب والسنة تقيد إطلاقها وتخصص عمومها وتقضي بالنسخ والتشابه وغير ذلك من الأدوات الأصولية. ومع ذلك فإن الفقهاء تاريخيًا كانوا يعملون للدولة بمعناها الاجتماعي وليس بالمعنى الاستبدادي وقد كان النظام العالمي قائمًا على الغلبة وحق القوي في إزاحة الضعيف، وبهذا المعنى فإن الفقه لم يكن شيئًا آخر، لقد كانت رسالته أيضًا تمكين الدولة الدينية، وحماية الناس من شرور البغي الديني الذي تمارسه الدول الأخرى. ولكن مع تحول الوعي السياسي إلى الدولة الحديثة، واعتراف الدول الإسلامية بالنظام الدولي فإن الفقهاء سيكونون بالتالي في طليعة الوعي، ويقدمون للدولة بمعناها الاجتماعي الحلول الواقعية وستختلف فتاويهم بكل تأكيد في القرن الحادي والعشرين عن فتاويهم في العصور الوسطى.
ولذلك فإن الفقهاء اليوم (الفقهاء وليس رجال الدين) يدعمون إخاء الأديان، وقد أوردنا في الكتاب عددًا من المواقف اللافتة المتقدمة نقلًا عن الأزهر وأبرز المنظمات الإسلامية الكبرى وأبرز مفتي العالم الإسلامي، وهي وإن لم تصرح بإخاء الأديان ولكنها صريحة في رفض صراع الأديان وشقاق الأديان، وهذا خلاف الموقف التقليدي للفقهاء في عصر الدولة الدينية الذي كان يرى وجوب مقاتلة الذين يلوننا من الكفار ووجوب أن يجدوا فينا غلظة، ويؤكد استمرار الجهاد إلى قيام الساعة، ويمنع الجنوح للسلم إلا عن ضرورة وحاجة.
ويجب التأكيد أننا نقصد هنا الدولة بمعناها الحقوقي والدستوري والاجتماعي، وليس السلطة بمعناها الاستبدادي الغاشم، ففي هذه الحالة يقوم المستبد بالحفاظ على عرشه بكل الوسائل، وهنا فإنه ينشئ تحالفات مع الخطاب الديني المؤثر على الجمهور وهو في الغالب الخطاب التقليدي الذي يقود الناس بذهنية التحريم وليس الخطاب التنويري الذي يجعل على رأس مقاصده الحرية وحقوق الإنسان.
حسام الدين درويش: اسمح لي بالإشادة بنزاهتك (المعرفية) التي تظهر في إقرارك الصريح والجريء بوجود نصوص دينيةٍ إسلاميةٍ رافضةٍ لإخاء الأديان، وبأن المسلمين القائلين بإخاء الأديان يواجهون “ثوابت من النص لا تقبل الجدل”، وأنه إذا جئتهم بآية في التسامح جاؤوك بأكثر من ذلك في التعصب والتشدد. والسؤال هنا: كيف يمكن مواجهة هذا الأمر من المنظور المعرفي والديني؟ أنت تتحدث عن كون أسلوبك رغائبيًّا، من حيث إنك تستعمل الدليل المرغوب وتقوم بتأويل الدليل المرفوض. لكن، ألا يمكن للمتعصبين الرافضين لفكرة إخاء الأديان أن يفعلوا مثل ذلك لإظهار صحة موقفهم من المنظور الديني؟ كيف يمكن للباحثين وللمسلمين عمومًا المفاضلة، معرفيًّا ودينيًّا، بين الموقفين، إذا كان كلاهما يتأسس على ثوابت الدين ونصوصه الأساسية المؤسسة؟ أنت تقدم أطروحتك عن إخاء الأديان على أنها مجرد تأويل، ويزخر كتابك بالحجج المتنوعة الساعية إلى إظهار معقولية هذه الأطروحة وأفضليتها. ومن المهم جدًّا، في هذا السياق، إقرارك بحتمية الاختلاف في فهم المسلمين والناس عمومًا للنصوص الدينية (الأساسية)، لكن، من المهم جدًّا أيضًا، من الناحية، المعرفية النظرية، والسياسية العملية، معرفة طريقة التعامل مع هذا الاختلاف والمفاضلة بين أطرافه، والاعتناء والاغتناء به، من دون استسهال المساواة المائعة بين الرؤى المختلفة. فهل هناك معايير معرفية و/ أو أخلاقية و/ أو دينية واضحة في هذا الشأن؟
محمد حبش: يجب أن ننسب هذه الإشادة التي تقدمها لي لمصدرها الصحيح وهو الإمام علي بن أبي طالب الذي أعلن بوضوح أن القرآن حمّال أوجه، بل يجب القول إن من ألهمهم هذا المنهج هو القرآن الكريم نفسه يوم قال: اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
إن تصريح الفقهاء بوجود حسن وأحسن، وفاضل ومفضول، وجيد وأجود في القرآن الكريم والتراث الإسلامي هو مذهب قديم وقد فصل السيوطي في الإتقان أقوالهم في هذا، وانتهى إلى ترجيح رأي الجمهور بوجود الفاضل والمفضول في القرآن الكريم. إن القرآن الكريم نص أدبي وتربوي، يستخدم القصة والمثل والخبر، وليس نصًا قانونيًا حاسمًا، يقف عند مقاطع الحقوق، ولذلك تكثر فيه الحقيقة والمجاز والترادف، وهذا كله يفسح المجال لتأويلات كثيرة داخل النص، وهو ما يمارسه المفسرون منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا. ويتأطر الخلاف هنا في أنني أفهم من ذلك حق الأمة في اختيار ما يناسب مصالحها الحقيقية من النص في كل زمان ومكان، وتأويل ما لا يعارض ذلك، فيما يذهب رجال الدين إلى وجوب سؤال السلف لاختيار ما يجب العمل به وما يجب تأويله. وإن الاعتراف بأننا نمارس الانتقائية ليس أمرًا سهلًا، فهو يبدو مقتلًا للبحث العلمي، وسينتج الفرضيات المشوهة القابلة باستمرار للنقد والدحض، ولكن علينا الاعتراف بنقطتين:
الأولى: أن نص الوحي نفسه كما قدمناه حمّال أوجه، وهذه الكلمة الثورية الخطيرة نسبت في أكثر من عشرين موضعًا في كتب الأصول الأولى للخلفاء الراشدين وكبار الصحابة كابن عباس وابن مسعود، كما نقلها ابن سعد في الطبقات الكبرى والدارقطني في السنن، وفي ضوء هذه العبارة نشأت علوم خاصة لمعالجة هذا الإشكال، والحنفية يقسمون نصوص الوحي القرآني إلى قسمين: واضح الدلالة وغير واضح الدلالة، فالواضح أربعة: وهو المحكم والمبين والمفصل والنص، وغير الواضح أربعة وهو المبهم والمجمل والمنسوخ والمتشابه، وهذا التقسيم وإن كان حنفيًا ولكنه موجود لدى الجميع بصيغ متقاربة.
والثانية أن الجميع يمارس الانتقائية، حتى أشد الحركات الظاهرية والسلفية، وأوضح مثال على ذلك جدلهم في آيات الصفات وفرح الله وضحك الله ويد الله ورجل الله وساق الله وهرولة الله وناقة الله ووصال الله مع عبده التقي حتى صرت يده التي يضرب بها ورجله التي يمشي بها وغير ذلك من النصوص في القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتفق عليها.
إننا جميعًا مؤولون، السنة والشيعة، والسلف والخلف، والظاهرية والفقهاء، جميعنا يمارس التأويل، فآيات إلغاء الأديان بالدين الخاتم موجودة، وآيات الأمر بالاحتكام إلى الكتب الأولى موجودة، فمن أخذ بظاهر هذه فقد تأول تلك، ومن أخذ بظاهر تلك فقد تأول هذه، وهذا حكم عقلي صرف لا سبيل لإنكاره بحال. على كل حال فإن جدل النص لن ينتهي وقد خصصت لذلك ما يكفي في الكتاب مما أقره علماء الأصول الراسخون وهو بالطبع لا يمكن فهمه بالنص الإطلاقي الذي يمارسه الوعظ الديني. ولا شك أن اعتراضك على تمييع الرؤى هو اعتراض وجيه، ولا شك أن ذلك لن يكون بدون معايير وضوابط تحكم التأويل والاختيار، وبينما يختار رجال الدين هذه المعايير وفق ما روي عن السلف، فإنني أختارها وفق مقاصد القرآن الكريم العليا من العدل والإحسان والحب والسلام، بغض النظر عن موقف السلف، مع التسليم بأنه ما من مسألة فيها قولان إلا وجدنا لكل منهما سندًا من كلام بعض السلف.
حسام الدين درويش: ثمة معنيان للتأويل وللنص: المعنى العربي الإسلامي الشائع يتحدث عن التأويل بوصفه “صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله، …”، أو “إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، …”. وكما هو واضحٌ ينصب مثل هذا التأويل على كلمة أو عبارة أو جملة أو بضع جملٍ على الأكثر. والنص، وفقًا لذلك المعنى، هو أي حكم أو عبارة مكتوبة أو واردة في المصحف أو الأحاديث النبوية إلخ. في مقابل هذا المعنى الذي يبدو لي أنك تتبناه، ثمة معنى آخر للتأويل والنص. من المنظور الهرمينوطيقي. ووفقًا لهذا المنظور النص ليس مجرد حكمٍ أو كلمةٍ أو جملةٍ أو عبارةٍ، بل هو كلية متماسكة ومتشابكة ومتناغمة الأجزاء يمكن تأويلها أو بناؤها وإعادة بنائها بطرقٍ لا متناهية العدد من حيث المبدأ. فالتأويل ليس بحثًا عن معنى باطني أو مجازي مختلفٍ عن معنى ظاهريٍّ، وإنما هو بحثٌ عن فهمٍ لأجزاء النص من خلال فهم كليته، وعن فهم النص بوصفه كلًّا، من خلال فهم أجزائه. ما رأيك في هذين المعنيين للتأويل والنص، وكيف ترى إمكانية استخدامهما في المجال الديني عمومًا، وفي مجال مناقشة أطروحة إخاء الأديان خصوصًا؟
محمد حبش: ربما يناسب هذا السؤالُ حوارًا آخر حول كتابي نور يهدي لا قيد يأسر، وأطمع أن أنجزه معك في مرحلة لاحقة، وهناك فصلت القول في طرق التأويل ومناهجه، وبين المناهج الهرمينوطيقية الثلاثة في تفسير النص على مراد القائل أو فهم المتلقي أو قواعد اللغة، وقد اخترت بحماس تفسير النص على فهم المتلقي وفق حاجاته الحقيقية، سواء وافق اللغة أو صادمها، وحددت معايير القبول طبقًا لما أعلنه المرسل من قصده للعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وغيرها من المقاصد الكبرى، وبذلك فإنني أنظر إلى النص على أنه نور يهدي وليس قيدًا يأسر، لأننا نملك التصرف بأعواد هذا القفص، وتفكيكها، وصولًا إلى المقاصد الكبرى التي أعلنها صاحب النص مما فيه خير الناس وسعادتهم، حيث بات الخير والسعادة والعدل والإحسان قابلًا للقياس اليوم بأدوات موضوعية معيارية، ولا شك بأن بناء الإخاء في الأرض على رأس هذه المقاصد. إن هذا الطموح المنفتح لفهم النصوص مقاصديًا يبدو رومانسيًا لأول وهلة، ولكنه في الواقع ليس إلا التطبيق المعاصر لما مارسه الفقهاء في مشروعهم البنائي الكبير المسمى أصول الفقه الإسلامي وأدواته.
حسام الدين درويش: إضافةً إلى العلاقة الجدلية بين فهم النص بوصفه كلًّا وفهم أجزاء النص، فإن الدائرة الهرمينوطيقية تتخذ شكل العلاقة الجدلية بين فهمنا المسبق وفهمنا أو تأويلنا للنص. فالقارئ لا يأتي النص وذهنه صفحة بيضاء، بل يأتيه محملًا بقدرات وتوجهات وانحيازات ومنظورات معرفية وأخلاقية ومصالح اقتصادية وسياسية إلخ. وهناك من يرفض تأويلاتٍ معينةٍ، انطلاقًا من حسن الظن بالله، ومن أن الدين الإسلامي يمكن أن يكون متوافقًا مع أرقى ما تتضمنه منظومة حقوق الإنسان العالمية، من حيث رفض الرق والتمييز الأخلاقي (السلبي) بين البشر على أساس الدين أو الجنس أو الجنسية أو اللون أو الإثنية إلخ. في المقابل، هناك من يرى إمكانية فهم النص (الديني) من خلال النص ذاته فقط، ويرفض إمكانية رؤيته من خلال منظورات معرفية او أخلاقية متخارجة معه، جزئيًّا ونسبيًّا على الأقل؟ كيف يمكن قراءة أطروحتك عن إخاء الأديان، انطلاقًا من الرأيين المختلفين المذكورين؟ و هل يمكن القول بأن مؤثرات غير نصية مارست دورًا في تبنيك لهذه الأطروحة وفي قراءتك للنصوص الدينية، عمومًا؟
محمد حبش: لقد كتبت طويلًا في ظاهرة الغلو في القرآن، وبينما وقعت النصارى في الغلو في محبة المسيح فاتخذوه إلهًا، فقد وقعنا في الغلو في نص الكتاب، بحيث أصدرنا مجموعة من الأحكام الإطلاقية الغالية فيه، منها قدمه وأزليته وأبديته وإطلاقيته في كل زمان ومكان واعتباره صفة قائمة في الخالق نفسه!! وقد اشتد النزاع في ذلك حتى قامت حركة تنويرية شهيرة رفضت هذا الغلو، وطالبت بالقول إن القرآن مخلوق محدث وليس حاكمًا على الدهر كله، فلا مجد لأي تشريع أو دستور أن يكون صالحًا لكل زمان ومكان، وقد اشتهرت المسألة تحت عنوان محنة خلق القرآن، وهي محنة ركبتها السياسة بأبشع وجه، وأفسدت غاياتها النبيلة في بناء وعي متوازن بالقرآن الكريم.
إن الغلو في القرآن الكريم هو منطق الخوارج الذين رفضوا أي دور للعقل وأعلنوا على رؤوس السيوف لا حكم إلا لله، ومقتضى ذلك أنه لا حكم إلا للكتاب والسنة، ولكن هذا الفهم المغالي هو ما أنكره علماء السلف وفقهاؤه وفي مواجهة ذلك ابتكروا علمًا كاملًا اسمه علم أصول الفقه ونصوا فيه أن مصادر التشريع هي أكثر من الكتاب والسنة، واختاروا التشريع بالاستحسان والاستصلاح والاستصحاب والعرف، وهي في العمق المصادر العقلية للشريعة، وهي مصادر مساوية للمصدر النصي، بل إنها تتقدم عليه وفق ما قرره روادها الأوائل، ولكن هذه الحقائق لا تجد اليوم من يتبناها، حيث ارتدت هذه المصادر في تعليمنا الديني إلى شكل توصيفي لإعمال الكتاب والسنة أكثر من كونها مصادر حقيقية منتجة. إن الاتباع الأصم للنص الذي يجحد أدواته التأويلية لن يؤدي إلى أي نتيجة، إنه سيجعله نصًا بلا مقاصد، ويستحيل في النهاية أن يصدر عنه وعي محكم قابل للبرهان، بل إنه سيتعامل من دون أدنى شك مع العشرات من ظواهر النصوص باللغة التأويلية إياها لينسجم مع الموقع الذي انطلق منه.
ومن هنا فإن هذه الدراسة لا تتقنع، بل تسفر عن هدفها بوضوح وهو بناء إخاء إنساني بين أتباع الأديان، وستتبع ظواهر نصوص وتؤول ظواهر نصوص أخرى، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، أو بتعبير القرآن فإننا نتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا وأكثره مناسبة للزمان والمكان والإخاء.
حسام الدين درويش: أنت تعلن، في الكتاب، تمايز أطروحتك في إخاء الأديان عن اللقاءات البروتوكولية بين أتباع الأديان، وتشدد على أن أطروحتك تهدف إلى البحث في الجذور، وإلى تصحيح الوعي بعلاقة المسلم بالآخر المختلف على أساس تربوي واعتقادي، وليس وفق الحاجات الاجتماعية والقانونية. كما تنتقد، في هذا السياق، الشيوخ والكهنة الذين يمارسون لقاءات الأديان من دون قناعة بنبل هذه القضية. ألا ترى أن الأولوية هي للممارسة والفعل، مع غض النظر جزئيًّا عن مضمون الوعي والاعتقاد. فليس مهمًّا إن كان الآخر يراني كافرًا أو غير كافرٍ، المهم ألا يسعى إلى فرض رؤيته المختلفة عن رؤيتي علي أو إلى معاقبتي على ذلك الاختلاف. فالاحترام المطلوب هنا هو احترام الفعل والسلوك، وليس احترام الشعور أو الاعتقاد المنفتح. وفي كل الأحوال سيبقى كل متدين يرى أن دينه أفضل، لدرجةٍ أو لأخرى من الأديان الأخرى، وهذا هو حال كل اعتقادٍ عمومًا. المهم هنا ألا يكون لدى أي طرف الحق في فرض رؤيته الدينية على غيره، وألا تكون هناك أي ممارسة متأسسة على ذلك الحق المزعوم. ما رأيك؟
محمد حبش: إن تجربتي مع الأداء البروتوكولي للإخاء بين الأديان محزنة ومريرة، لقد كنت أراهم على منصات اللقاء طافحين بالأمل والبشارة وعميق الود، ولكنني كنت أراهم في منابرهم الخاصة بعد ذلك يلتمسون المعاذير لما جرى، وأنها إيلاف قلوب ليس إلا، وأنه لا رجاء من كافر لا يعرف توحيد ربه، وحدّه جهنم وبئس المصير، وأظن أن الأمر نفسه كان يجري في الطرف الآخر. وحين كتبت أول مقالاتي في إخاء الأديان بعبارة واضحة توجب احترام أديانهم وعقائدهم تلقيت علقة ساخنة وفصلت من وظيفتي الأكاديمية، وهتفت منابر الأوقاف والفتوى في سوريا ببيانات علنية قاسية ضدي على المنابر مع أن الأوقاف والفتوى كانتا تمارسان الشيء نفسه على المنصات. إن تكفير الأديان ليس أمرًا سهلًا، وليس مجرد موقف أبستمولوجي كما يحلو للمتشددين وصفه، ولا هو إطار نظري في حدود حرية الفكر بحيث تكفر بقرآني وأكفر بصليبك ونتبادل التكافر بمرح، بل هو موقف خطير تستتبعه ضرورة تطبيق أحكام القرآن في الكافرين من وجوب جهادهم وقتالهم وإرغامهم دفع الجزية وهم صاغرون، وهي مسائل تلقائية ينتجها الفقه التقليدي ولا شك أن عدم تطبيقها ليس حسن أخلاق بقدر ما هو التربص لمجيء الفرصة المواتية لتطبيق هذه الأحكام. وهذا الوعي المشوه نفسه مارسته الكنيسة في العصور الوسطى وحين أفتت بكفر المسلمين وأنهم يعبدون الشيطان أباحت لكل محارب في هذه الحروب قتل كل من يعترض طريقه من رجال ونساء وأطفال، فالجميع حري باللعنة، ولا تكن فيهم أرحم من ربك الذي وعدهم جهنم وبئس المصير. وإن احترام دين الآخرين وتقدير إيمانهم لا يعني قبول ما يعتقدون، ولكنه يستلزم التوقف عن تحقير ما يعتقدون، والعمل على بناء جيل يحترم الاختلاف في الدين، ويأذن بالخلاف الديني على الأقل كما نأذن بالخلاف المذهبي، مع الاحترام لأدلتهم وقواعدهم.
حسام الدين درويش: لمَاذا نحتاج إلى مفهوم إخاء الأديان عمومًا، وفي العصر الراهن وفي السياق العربي/ الإسلامي منه تحديدًا أو خصوصًا؟ هل ثمة مشكلة حقيقية ومهمة في هذا الصدد؟ وكيف، وإلى أي حدٍّ، يمكن لمثل هذا المفهوم أن يسهم في حل هذه المشكلة وتجاوزها أو التخفيف من نتائجها وسلبياتها على الأقل؟
محمد حبش: قال الملحد: لماذا إخاء الأديان؟ الأديان خرافة.. والإخاء بينها خرافة أخرى!! وقال المتشدد: لماذا إخاء الأديان؟ الدين الحق واحد وما بقي فهي أباطيل وظلام يجب القضاء عليها وليس الإخاء معها – لا مصالحة مع الأصنام.
وجوابي: إن إخاء الأديان بالفعل غير موجود، ولكن علينا أن نصنعه، وثقافات الأديان قائمة على تبادل المحبة مع المؤمنين والكراهية مع الكافرين، وهذه الكراهية صنعت الحروب في الماضي وهي تصنع البغضاء في الحاضر. ولكن الدين يبقى أقوى غرائز المجتمع، وهو حاضر بقوة ومستمر، وهناك 87 في المئة من الناس يؤمنون بدين ما (وفق مراكز الإحصاء العالمية) ويمكن القول إن نصف سكان الكوكب يقادون من معابدهم!! لا رجاء في سلام إنساني إلا بإخاء الأديان، ولا أمل في مجتمعات مستقرة إلا بإخاء الأديان، وتغيير الصورة النمطية التي تأمر بمحبة المؤمنين وبغض اللامؤمنين.
ويجب القول: إنّ ثقافة الكراهية لم تقف عند حدود المختلف في الدين، بل دخلت أيضًا إلى المختلف في المذهب، واتخذت شكلًا أشد ضراوة وعنفًا، ويمكن القول: إنّ أكثر من عشرة حروب حقيقية في الشرق الأوسط قامت في العقود القريبة على أساس طائفي، أو كان البعد المذهبي جزءًا رئيسًا في إيقاظ نوازع الحرب وتبرير الكراهية. وتمضي عقيدة احتكار الخلاص إلى الغاية في نصّ مشهور رواه الترمذي وأحمد: افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة. وعلى الرغم من الجهود التأويلية الكثيرة التي قدّمها الفقهاء، وكذلك الجهود النقدية التي قدّمها الرواة، ظلت هذه الروايات أهم دوافع الإقصاء والكراهية، ونشأت تيارات كثيرة تتبنّى البغض في الله بين التيارات المنقسمة، سُنّة وشيعة وصوفية وسلفيّة وظاهرية ومؤوّلة وإسلاميّين وعلمانيّين.
وبات التساؤل مطروحًا: هل الأصل في علاقات الأديان الكراهية والعداوة، وهل تعبدنا الله تعالى ببغض المخالفين في الدين، وهل انتمى المولى سبحانه لهذه الأمّة الناجية فبات لا يرى في الأمم كلها إلاّ الجهل والخيبة والضلال، ومنح شفاعته لهذه الأمّة دون سواها، وأسئلة كثيرة باتت تدفع المسلم الملتزم إلى غياهب الحيرة والضياع، وتكرّس واقعًا مضطربًا يفترض التآمر بين الأنبياء والأمم والآلهة، وأنّ الخير والفضيلة والمحبّة مجرّد أوهام يستخدمها الإكليروس في سيطرته على الإنسان.
هذا القلق وهذه الحيرة دفع بجيل كامل من الشباب إلى أفق حائر مرتاب، وبات يضطرب في وعيه بين اتجاهين اثنين: التنكّر لدينه أو التنكّر لعقله، وبين أن يمضي موغلًا في الماضي ويخرج من الحاضر، أو يعيش الحاضر ويحتقر الماضي، ولا شك في أنّ هذه الخيارات كلّها لا تنمّ عن سلوك سليم ولا تنتج جيلًا منسجمًا مع نفسه ومع محيطه. ومع أنني لست متفائلًا بفرص النجاح السريعة لمبدأ إخاء الأديان ولكنني أشعر أننا سياق من الأمم، وأنّ الأمم التي حققت نجاحًا حضاريًا حققت من ثم تقدمًا جيدًا نحو إخاء الأديان، فإنّ الفائض الحضاري ينتج فائضًا أخلاقيًا، وقناعتي أنّ كل خطوة نخطوها صوب المجتمع المتحضّر الذي تسود فيه العدالة والقانون هي من ثم خطوة نحو إخاء الأديان، وما ترسمه هذا الغاية النبيلة من بناء مجتمع آمن ومستقرّ وسعيد.
وتجدر الإشارة أنّنا حين نقاوم بشدة احتكار الخلاص فليس ذلك بدافع من مسؤوليتنا في تنظيم الدار الآخرة، أو مشاركة الله في الحساب وتحديد منازل الناس فيها، فالحساب بيد الله، والخلاف في شكل الدينونة وتفاصيلها بالغ التعقيد والتفاوت بين الأديان، ومن الحماقة أن ننصب أنفسنا فيها قضاة وجلاّدين، وربما لا تكون لدى الناس قناعة أصلًا بتفاصيل العالم السماوي، ولكن ما نبحث عنه بدقة هو خطاب الكراهية الناشئ أصلًا من توعد الآخر بنار جهنّم، وتحديدًا في تصور المسلم أنّ البشرية ذاهبة إلى نار جهنم، وهو اعتقاد بالغ الأذى في تربية الجيل، حيث تتأسس التربية، هنا، على احتقار الناس وازدرائهم، وسوء الظن بالخالق الذي يخلق الناس إلى جهنّم ولا يبالي.
وتصر هذه الدراسة على أن جوهر العقيدة الدينية يمكن أن يتأسس على الإخاء بين أتباع الأديان، ووقف كل أشكال الاشتباك القائم على الكراهية، على الرغم من وجود نصوص رافضة لذلك، وهنا يتم التعامل مع هذه النصوص بأدوات أصول الفقه الإسلامي المرنة والشاملة والتي تكرس في كل أصولها وفروعها مبدأ اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان، وحق الفقيه بالقول بالتقييد والتحصيص والنسخ والتشابه في كثير من نصوص القرآن.
حسام الدين درويش: يبدو (لي) أنك تنسب دورًا سلبيًّا مبالغًا به لثقافة الكراهية السائدة ولغياب حالة إخاء الأديان. فأنت تتحدث عن أن الحروب الدينية التي صبغت التاريخ على شاطئي المتوسط وفي العمق الأوروبي والإسلامي كانت نتيجة حتمية لغياب مشاعر الإخاء والاحترام بين أتباع الأديان، وعن أنه “لا رجاء في سلام إنساني إلا بإخاء الأديان، ولا أمل في مجتمعات مستقرة إلا بإخاء الأديان، وتغيير الصورة النمطية التي تأمر بمحبة المؤمنين وبغض اللامؤمنين”، وترى أن أكثر من عشرة حروب حقيقية في الشرق الأوسط قد قامت في العقود القريبة على أساس طائفي، أو كان البعد المذهبي جزءًا رئيسًا في إيقاظ نوازع الحرب وتبرير الكراهية. ألا ترى أنك تفرط في تضخيم الدور السلبي للأديان عمومًا ولثقافة الكراهية الدينية خصوصًا؟ وفي هذا الإفراط أو التضخيم، ألا ترى أنك تغيِّب دور العوامل السياسية والاقتصادية خصوصًا؟ فحتى إذا كانت ثقافة الكراهية الدينية تمارس ذلك الدور السلبي الكبير، ما سبب وجود أو شيوع هذه الثقافة وما أو من الذي جعلها تسود؟ ألا تتحمل الدولة والسلطة الحاكمة (جزءًا من) المسؤولية عن ذلك؟ أفهم أنك مختصٌّ بالأمور الدينية، وأنك تتحدث عن الموضوع من زاوية هذا الاختصاص، لكن ألا ترى ضرورة الإشارة إلى وجود عوامل أخرى غير دينية، لا تقل أهمية عن العوامل الدينية، بل قد تفوقها أهمية؟
محمد حبش: لا شك أن هناك عوامل أخرى وراء قيام الصراعات، وبشكل أساسي الخطط السياسية للحكام والملوك وإرادات التوسع والهيمنة، وربما كان علي أن أوضح ذلك، ولكنني أكتب من زاوية اختصاصي، وأؤكد هنا أن مسؤولية الدولة كبيرة في مواجهة ثقافة الكراهية، ويجب القول إن الأنظمة العربية الثورية وجدت في هذه الثقافة السوداء صدى طبيعيًا لمشروعها الثوري في المقاومة والممانعة، ومواجهة الغرب، فالتكفير هنا ضرورة مكملة، حيث يتولى النظام الثوري اتهام العالم الغربي بالتآمر والعدوان والاستعمار، ويتولى الخطاب التقليدي وصف العالم الغربي بالكفر وانحطاط الأخلاق، وبذلك فإن التعصب في شقه الديني والقومي يؤدي وظيفة واحدة في خدمة الاستبداد، ومنع قدوم الديمقراطية والمحاسبة وحقوق الإنسان.
وفي الواقع فلا يمكن التقليل من دور التعصب الديني في نشر الكراهية، لقد قامت الحروب الصليبية تحت عنوان صارخ لا يحتمل أي تأويل وهو الصليب، وعلى أطرافه حشدت الجيوش الأوروبية الغازية، وأعلنت الحرب التي استمرت مئتي عام في كنيسة مجمع كليرمونت على يد البابا أوربان الثاني 1095م، وعلى الرغم من أن المؤرخ المسلم كان ذكيًا ولم يقبل تسمية الحروب الصليبية واختار اسم حروب الفرنجة، ولكن ذلك ليس إلا لياقة دبلوماسية، كانت تهدف إلى عدم إحراج مسيحيي الشرق الذين وقف كثير منهم ضد الحروب الصليبية، ومع ذلك فقد كان الدافع الديني والصليب والبابا وبطرس الناسك وفرسان الهيكل والقدس وكنيسة القيامة هي العناوين الواضحة الجلية لهذه الحروب المشؤومة.
وتقتضي الأمانة العلمية أن أشير إلى أن هذه الدوافع نفسها كانت وراء حملات كثيرة من حروب الفتوحات الإسلامية، في الفترات الأموية والعباسية والعثمانية، وقد انطلقت الجيوش الغازية بشعارات دينية واضحة من الجهاد في سبيل الله، قائمة على الاعتقاد الأساسي في محاربة الكفر ونشر التوحيد، وكانت هذه الحروب الضارية تحظى بدعم وعاظ الإسلام وفقهائه وخلفائه، باستثناء فترات صحوة عقلانية قليلة أبرزها صحوة عمر بن عبد العزيز الذي عاش قبل عصره بألف عام، وأمر بوقف هذه الحروب وسحب الجيوش فورًا وكتب إلى الأندلس والقسطنطينية وبلاد ما وراء النهر، بل إنه أمر في الشرق بسحب الجيوش ومحاكمة الفاتحين!
أما في الواقع الحالي فإن ثقافة صراع الأديان وتكفيرها لا زالت تؤدي دورًا سلبيًا أسود في هدم ثقة المسلم بالعالم من حوله، والتعامل مع الأمم والشعوب الأخرى بوصفها شعوب كفر وضلالة، وتحميلها أوزار ما جرى في التاريخ من حروب صليبية واستعمار، ومن الطبيعي أن يكون في الجانب الآخر من يحمل الأفكار نفسها، وقبل أشهر صرح رئيس الكونغرس الأميركي الجديد مايك جونسون بقوله: كمسيحي فإن موقفي يرسمه الكتاب المقدس وهو صريح في وجوب الدفاع عن إسرائيل ضد أعدائها، هذا موقف ديني غير قابل للنقاش!! ومن المدهش أن كلًا من الطرفين المتعصبين يشتد في حربه على الاعتدال والإخاء، ويبدي إعجابًا بالصلابة والوضوح الذي يظهر في الطرف الآخر، وهو ما يمكن اختصاره بتحالف المتطرفين!!
حسام الدين درويش: ماذا عن موقف غير المسلمين من إخاء الأديان؟
محمد حبش: لقد قدمت في الكتاب طرفًا من خبرتي وإخفاقاتي ونجاحاتي في حقل إخاء الأديان، وهي خبرة تتراكم كل يوم وتزداد وضوحًا ونجاحًا، وتسير كما آمل لها من توفيق، ولا شك أنها خبرة ضرورية لمن سيستأنف هذه الرسالة ويكتب فيها في ما يأتي من الأيام.
لقد قسمت الكتاب إلى أربعة فصول:
الأول: في موقف الشريعة الإسلامية من إخاء الأديان، حيث تناولت الأمر بالاستنباط العميق من أدلة الشرع العشرة في الكتاب والسنة والقياس والإجماع والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب والعرف والذرائع وشرع من قبلنا.
الثاني: في مواقف الرواد من الأئمة والخلفاء والفلاسفة والصوفية الذين سبقوا إلى القول بإخاء الأديان وحققت مقالاتهم في ذلك.
الثالث: في موقف الديانات الأخرى من مسألة إخاء الأديان، حيث قمت باستعراض مواقف الأديان من هذا الأمر، وأشرت بحياد إلى الموقف الإيجابي والسلبي، وركزت بالطبع على أهم الاتجاهات المؤثرة في الأديان العشرة الرئيسية في العالم التي تؤمن بإخاء الأديان، وقد استعرضتها دينًا دينًا، خاصة في المسيحية والبوذية وديانات الشرق الأقصى، وشرحت بعض تجاربي في ذلك.
الرابع: وهو فصل خصصته لبيان جهود فلاسفة عصر التنوير الأوروبي في مواجهة ثقافة الكراهية التي روجتها الكنيسة في العصور الوسطى والتي انفجرت حروب محاكم تفتيش ضارية، وبينت الدور الإيجابي النبيل لفلاسفة التنوير، واستعرضت موقف عددٍ بارزٍ منهم في تقديم أرقى أشكال الاحترام والتقدير للرسالة والرسول، مما يمكن أن يكون منصة إنسانية جامعة في الإخاء.
بكل تأكيد فإن إخاء الأديان موقف فلسفي، ينوس بين الأديان، وسيجد له في كل دين من يقبله، وسيجد من يرفضه بشدة، وأحسب أن هذه الدراسة قد نجحت في التعريف بمواقف واضحة وحقيقية لرواد إخاء الأديان في كل دين وملة، وربما تمهد لقيام منصات تعاون وتواصل وتكامل بين هذه الشخصيات الرائدة في إخاء الأديان.
حسام الدين درويش: من الواضح أن ثقافة الكراهية (الدينية) ليست مجرد رؤية دينية أو لاهوتية مستندة إلى فهمٍ أو تأويلٍ ما لنصوصٍ دينيةٍ، وإنما هي، أيضًا وخصوصًا، حصيلة تاريخٍ طويلٍ من الصراع بين الأطراف المختلفة، ليس بين متديني الأديان المختلفة فقط، بل بين المختلفين مذهبيًّا وطائفيًّا في إطار الدين الواحد أيضًا. وفي هذا التاريخ ثمة سرديات مختلفة ومتناقضة لدى كل طرفٍ من أطراف الصراع، وغالبًا ما تشيطن كل سردية الأطراف الأخرى وتقوم بملأكة ذاتها وتصويرها على أنها كانت دائمًا أو غالبًا ضحية إجرام فعليٍّ أو مرغوبٍ من الأطراف الأخرى. كيف تتعامل أطروحة إخاء الأديان مع هذا “التاريخ الأسود والنشأة المشبوهة” لكل طرفٍ، من منظور الأطراف الأخرى. هل يتطلب الإخاء طي صفحة “التاريخ الأسود أو السلبي” أو الماضي، بكل مآسيه، وعدم الخوض فيه وفيها، أم يتطلب الكشف عما حصل فيه والحسم المنصف معرفيًّا وأخلاقيًّا في مسألة المظلوميات والضحايا؟ وهل ثمة علاقة إيجابية أو سلبية ما بين أطروحة إخاء الأديان والسعي إلى تحقيقها من جهةٍ، ودراسات الضحية والتظلّم من جهةٍ أخرى؟
محمد حبش: إن أطروحة شيطنة الآخر وملأكة الذات هي نتاج التخلف أكثر مما هي نتاج التدين، ويجب الاعتراف أن هذا ما يمارسه الكهنة باستمرار في المجتمعات المتخلفة، في حين نجحت المجتمعات الأكثر تحضرًا وثقافة أن تدعو إلى قراءات أخرى من جوهر النص الديني تأذن بالاحتفاء بالآخر المختلف وملأكة مقاصده وغاياته. وإن الموقف الذي يتأسس عليه الكد السياسي هو شيطنة الجميع، وقد قال فولتير مؤلم أنك لن تعتبر متدينًا إلا إذا قبلت بضلال الجميع ومصيرهم في الجحيم، ولن تكون وطنيًا إلا إذا قبلت بتخوين الجميع، وفي المقابل فإن الكد الديني يجب أن يتجه إلى ملأكة الجميع، لقد فعلت الأديان في قيامها هذا الشيء تمامًا، ففي اليهودية تحترم الأديان السابقة على موسى، وفي المسيحية تحترم النبوات السابقة على المسيح، وفي الإسلام المعنى أوضح إذ يتأسس الإيمان على الإيمان بالكتب والرسل، ويتكرر النص بأن الإسلام جاء مصدقًا لما بين يديه أربع عشرة مرة في القرآن الكريم.
هذا الأمر محسوم في النص الديني في ما يتصل بما سبقه من الرسالات، ولكنه للأسف يتجه عكسًا في ما يتصل بالرسالات الآتية، وقناعتي أن الإصلاح الديني قادر أن يعالج هذه المسألة، والنص التصديقي المتكرر في القرآن يستوعب تصديق النبوات السابقة والحكمة اللاحقة، وستجد من النص الديني ألف ظهير لهذه الفكرة المتنورة. ومن هنا فإن الإسلام مثلًا لا ينظر أبدًا إلى نشأة مشبوهة للأديان ولا إلى تاريخ أسود، ويروي تراث الأنبياء بحياد ويفرض تقديسهم على الرغم من غموض الدافع الأخلاقي، ويروي عن أنبياء حاولوا ذبح أطفالهم، وألقوا بزوجاتهم وأطفالهم في الصحراء لأسباب غامضة، وآخرين أهلكوا شعوبهم وأغرقوهم وخسفوا بهم وعصفوهم بريح صرصر عاتية ومع ذلك فإنه لا يغض أبدًا من قدر هؤلاء الأنبياء ويدعو إلى افتراض الباعث النبيل وراء ذلك كله، ويؤكد في الوقت نفسه على وجود أنبياء ورسل لم يقصصهم علينا، وفي اعتقادي فإن المنصة التي توفرها النبوات في النص التأسيسي هي منصة قائمة على ملأكة الجميع وهي حرية أن تستمر لو نهض التنوير الديني بدوره النبيل.
إن المسألة في النهاية هي اختلاف نزعات اللقاء والفراق، فالناس وفاقيون وفروقيون، وقد حملوا نزعاتهم وميولهم إلى أديانهم، وفي هذه النقطة بالذات يتركز نضال الإخاء الديني، ويمكن التعبير عنه معرفيًا بأنه نقل ما أسبغه الوحي على الرسالات السابقة من قداسة وقبول إلى الرسالات اللاحقة، ورسم غاياتها ومقاصدها بقلم وفاقي تصالحي، يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.
إن تناول التاريخ من منصة إخاء الأديان يفترض حسن الظن في ما جرى في التاريخ وتبرئة الجميع، والأمر نفسه كذلك في إخاء المذاهب والطوائف والعقائد، وذلك استنادًا إلى الرصيد الثري والعميق لرسالة الغفران وقيم التسامح التي هي جوهر الأديان، إضافة إلى حضور ثقافة الحساب الأخروي الذي لا يضل ولا ينسى، والذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، مع التأكيد باستمرار أن طبيعة المولى سبحانه قائمة على الرحمة والغفران والتسامح. أما الحسم المعرفي والوصول إلى نتائج علمية مبرهنة حول الأثر الإيجابي والسلبي الذي حققته الحركات الروحية في التاريخ فهذا شان البحث العلمي الموضوعي في مراكزه الأكاديمية ولا أعتقد أن الإكليروس بكل أشكاله مؤهل ولا هو مطالب أن يحسم في هذه المسائل.
حسام الدين درويش: يبدو الكتاب معياريًّا من حيث إنه يحاجج بضرورة إخاء الأديان، وبالنتائج الإيجابية لهذا الإخاء، وبضرورة اختيار (تأويلات) النصوص الدينية التي تؤيد هذا الإخاء وتجنب التأويلات أو النصوص الأخرى. لكن الكتاب لا يبحث في مدى تناسب تلك الأطروحة مع الواقع ومدى إمكانية تبنيها والنجاح في تطبيقها. وبهذا هو تعبيرٌ عن رغبةٍ وفشة خلقٍ معرفيةٍ، رصينةٍ، وأخلاقيةٍ، راقيةٍ، أكثر من كونه تأسيسًا معرفيًّا لحلولٍ عمليةٍ وممكنةٍ. ما رأيك؟
وفي أفق آخر وهو الاعتبار بالمآلات فهل ستجدي هذه الأطروحة إذا برهنت علميًا على صحة فرضياتها، أم أن رجال الدين لا زالوا قادرين على نسف المقولة بدعاوى الردة والزندقة وبالتالي تكون هذه الأفكار مجرد أحلام وردية لا حظ لها من الواقع ولا رجاء بها أو منها في المستقبل؟
محمد حبش: قناعتي أن التحول إلى منطق الإخاء الديني له ظهيره في العقل وظهيره في الواقع، حين تتوفر الإرادة السياسية ولا نقصد بالطبع القمع بل نقصد الفرص المتساوية فإن الأمور ستتغير بكل تأكيد، قبل عشرين عامًا كانت منابر الجمعة في العالم الإسلامي لا تخلو من دعاء على اليهود والنصارى يتفنن فيه الخطباء في هلاكهم واستئصالهم وإبادتهم، وكان ذلك شائعًا في الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر، بما في ذلك حرم مكة والمدينة، ولكن مع صعود الإرهاب وما نتج عنه من إسلاموفوبيا وجدت الحكومات الإسلامية نفسها أمام مسؤولية حقيقية، وأصبح هذا التحقير للآخر الديني على المنابر ممنوعًا، وقام الأزهر ورابطة العالم الإسلامي والمؤسسات الإسلامية الرئيسية بخطوات متسارعة لوقف ثقافة التحقير، واليوم لن تسمع في الجزيرة العربية مثلًا أي خطبة تنتهي بدعاء كهذا، وبات هذا اللون من التحقير ممنوعًا، وأصبح الخطاب المطلوب من المساجد هو التسامح والغفران، ويمكن القول إن ثمانين في المئة من الخطاب الديني قد تحول في هذا الاتجاه.
إنه ليس سحرًا ولا عجائبية، فما نشرحه في هذا الشرق هو ما حققه القانون في الغرب المتحضر، حيث كفل للناس حرية تدينهم ولا تدينهم، وقام بحماية الأقليات في اعتقادها واحترام تقاليدها، وباتت مشاريع الإخاء الديني أكثر فاعلية وانتشارًا، مع وجوب التنبيه إلى الصراع المحتدم باستمرار في الغرب بين تيارات الحرية التي تطالب بحق إهانة المقدس الديني وبين التيارات المحافظة المطالبة بفرض قيود على إهانة المقدس. ويعتقد كاتب هذه السطور أن قوانين معاداة السامية التي أنجزها اليهود قابلة أن تتكرر وأن ينجز المسلمون حقوقيًا شيئًا مثل ذلك لحماية مقدساتهم، وستكون كل هذه الإنجازات فرصًا جديدة لإخاء الأديان، وستنحسر مصارعة الأديان وتناحرها وتحقيرها إلى ركن مظلم وستعتبر ممارسات مناهضة للقانون.
حسام الدين درويش: قد (لا) تبدو الإشارة إلى اليهود وإلى قوانين معاداة السامية التي أنجزوها أو أسهموا مناسبةً في السياق العربي والإسلامي عمومًا، وفي السياق الراهن خصوصًا. فمن ناحيةٍ أولى، هي مناسبةٌ لأن التوظيف السلبي للدين في الصراع السياسي مع الاحتلال الإسرائيلي/ اليهودي لفلسطين يبلغ ذروته في هذه الأيام. ولهذا السبب فإن الاحتقان كبيرٌ في هذا الخصوص. إضافةً إلى ذلك، إن التوسيع غير المعقول لمفهوم معاداة السامية وتوظيفاته السياسية وتطبيقاته العملية، أصبح أكثر حضورًا وأكثر سلبيةً وأكثر إثارةً للاستهجان في السنوات الأخيرة عمومًا، وفي الفترة التالية على هجمات السابع من أكتوبر، خصوصًا. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، لا تبدو تلك الإشارة مناسبةً، لأن طرح أطروحة إخاء الأديان في هذا السياق يمكن أن يعطي الانطباع أنك تعتقد أن المشاكل (الأساسية) تكمن في الأديان، في نصوصها وفهمها وتطبيقها، وليس في الاحتلال والاستبداد والظلم وما شابه. ولهذا السبب ولغيره، يُرجَّح أن تصطدم تلك الأطروحة، في الأجواء الحالية، بردود فعلٍ متشنجةٍ ومتوترةٍ وغير مستعدةٍ للفهم والاستيعاب والحوار. يضاف إلى ذلك، إن. ما رأيك في ذلك؟
محمد حبش: أنت على حق، ويبدو أنني لم أنتبه إلى مآلات طرح هذا المثال، فأنا غير معجب أبدًا بقوانين معاداة السامية التي اتخذت شكلًا قمعيًا، وتحولت إلى أداة بطش سياسي، وقد كتبت في ذلك طويلًا إبان محاكمات روجيه غارودي قبل عقدين، ولا بأس من هذا الاعتراف لأنه سيزيد الفكرة توهجًا وتوضيحًا. وما قصدته هنا كان فكرة النضال الحقوقي التي طالبت بها في غمار حملات الغضب الهائجة التي انطلقت بعد فتوى الخميني ضد سلمان رشدي ثم شارلي أبيدو والرسام الدانمركي وغيرها حيث اجتاحت العالم الإسلامي مظاهرات مليونية غاضبة اصطدمت بالأنظمة وسقط فيها مئات الضحايا في بلاد عربية وفي باكستان وأفغانستان وإندونيسيا وإيران من دون أن يتعرض المسيء لأي أذى، حيث يحميه في أوروبا قانون الحريات، وهنا طالبت بالنضال الحقوقي ليقوم المسلمون بحماية حقوقهم عبر التغيير القانوني وليس عبر الهتاف والتظاهرات التي كانت تطالب الحكومات الغربية بالقيام بعمل غير قانوني، وهو ما جعل الحكومات الغربية في مواجهة مع الغضب الإسلامي.
أما الجزء الأخير من السؤال فإنني لا أنكر أن جوهر الصراع الدموي اليوم ليس شقاق الأديان، بل هو مشاريع الهيمنة والمحاور في المقام الأول، وحتى في الحربين العالميتين والحرب الباردة لم يكن الشقاق الديني جوهر الصراع، وقد تضاءلت إلى حد كبير مبررات حروب العصور الوسطى في الحروب الحديثة. ولكن ذلك إنما تحقق بفضل ما أنجزه فلاسفة التنوير في الغرب ضد التعصب الديني وضد سلطة الكنيسة وصولًا إلى الثورة الفرنسية وما أفرزته من قيم فصل الدين عن الدولة، ولكننا في هذا الشرق لا زلنا نعيش على تخوم القرن الثامن عشر، والصراع في فلسطين مثلًا يتخذ في الأرثوذكسية اليهودية والإسلامية منصات متقابلة، وتجادل إسرائيل اليوم لتأكيد وجودها كدولة دينية يهودية، وفي المقابل فإن الجهاد المسلح ضد إسرائيل لا يزال يلهب المجاهدين بنصوص الكراهية لليهود، وتتخافت في الجانبين أصوات العقلانية والشراكة الديمقراطية، كما أن شقاق الأديان ظهر في الحرب العراقية الإيرانية وضحاياها المليونين بشكل أشد سوءًا على أساس صراع المذهب والمذهب، ولا شك أن ما أنتجه الصراع من ثقافة الكراهية تفاعل بشكل مرعب في بلاد الربيع العربي في سوريا والعراق ولا يزال، وهو أمر يفرض المزيد من الجهود للدعوة إلى إخاء الأديان وإخاء المذاهب.
حسام الدين درويش: يمكن لأطروحة إخاء الأديان أن تتشابك، تكاملًا أو تعارضًا، مع الهيمنة المتزايدة لرؤية الصوابية السياسية، والتي تمنع التناول الحر ومتعدد المنظورات لمسائل الصراع بين أطرافٍ ما بحجة عدم ملاءمة وجهات النظر تلك من المنظور الأخلاقي بالإضافة إلى عدم صحته المعرفية. فمن منظور الصوابية السياسية، ينبغي عدم الحديث عن الآخر بوصفه كافرًا، رغم أن منظوراتٍ دينيةً مختلفةً تتبنى تلك الرؤية وتراها معبرة عن عقيدتها والحق المعرفي والأخلاقي الذي تؤمن به. وبذلك يتحول تنفيذ إخاء الأديان إلى مجرد شكليات فارغة في أحسن الأحوال شبيهة باللقاءات البروتوكولية بين أتباع الأديان، أو تتحول إلى عمليات نفاقٍ وخداعٍ متبادلةٍ، في أسوأ الأحوال. السؤال هنا هو هل على الدولة أو القوى المسيطرة أن تنتصر لأطروحة إخاء الأديان وتفرضها قانونيًّا واجتماعيًّا وتعليميًّا وإعلاميًّا، حتى إن كان الأساس المعرفي السائد والقبول الشعبي لها ضعيفٌ عمومًا؟
محمد حبش: لم تعد مسؤولية الدولة تستطيع الانتظار، لقد أقرت قيم الدولة الحديثة، ولم يعد بوسع أي فريق سياسي أن يبقى خارج التاريخ، وعليه أن يستجيب لإعلان حقوق الإنسان وإلا فإنه لن تبقى دولة محترمة في العالم، ولعل أول إسقاطات إعلان حقوق الإنسان هو تقرير حق الإنسان في اختيار الدين وواجب المجتمع في احترام خياره، وهذا يعني أننا قطعنا أكثر من ثمانين في المئة من مشروع إخاء الأديان على المستوى الحقوقي. ولا أعتقد أن دعاة إخاء الأديان يحتاجون إلى حركة مأمونية اعتزالية متنورة تستخدم فيها أدوات الدولة، وتعرض المتشددين على السيف، لقد كانت ممارسات الخلفاء العباسيين المستنيرين الثلاثة ضارة جدًا على المستوى البعيد، وقدمت التنوير بصفة عميل للاستبداد، سرعان ما خضع المتوكل لرأي العامة ومارس البطش نفسه ضد فريق التنوير. كان ذلك قبل اثني عشر قرنًا، ولقد أصبحنا اليوم في عصر آخر، لقد باتت الدولة الوطنية تقوم بذلك بشكل تلقائي وفي البلدان الإسلامية كما أشرنا تحقق ذلك في 52 دولة وما تبقى في الدول الحقيقية هو مسألة وقت، ولن يبقى خارج ذلك إلا أشباه الدولة.
إن الأفق مؤات تمامًا لدعوة إخاء الأديان، وسيكون ترخيص أي جمعية بهذا العنوان أمرًا سهلًا من الجهة القانونية، ولكن هذا لا يعني أن المواجهة سهلة، لقد تم الأمر على المستوى السياسي ولكن لا زال الشارع يغلي بغضب رجال الدين الذين يرون أن الإخاء والتقارب تمييع لثوابت الدين، وإنهاء لرسالة الدعوة والتبشير الإسلامي. وإن المنصات متاحة تمامًا لبرامج حيوية وفعالة في إطار إخاء الأديان، وهي لا تحتاج من السلطة السياسية إلا الحماية في ظل القانون، وبالتأكيد لن يكون مفيدًا أن تتحول السلطة إلى مبشر بإخاء الأديان، إن تدخلًا فجًا كهذا سيجعل المشروع مبادرة حكومية أو حزبية، وهو ما يفقده احترامه في الشارع الثقافي والروحاني، وعلى دعاة الإخاء بين الأديان أن يراقصوا التنين من دون أن يحرقهم لهيبه.
حسام الدين درويش: مشكلة الكراهية والتباغض بين الأديان وضمنها، بين الطوائف والمذاهب، مشكلةٌ عالميةٌ أو عابرةٌ للدول، ومرتبطة بمشكلاتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافيةٍ أخرى. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن حل هذه المشكلة يتطلب، من جهةٍ أولى، أن يكون عالميًّا أيضًا، وليس محليًّا، ومن جهةٍ ثانيةٍ، أن يتكامل مع السعي إلى حل المشكلات الأخرى المتداخلة مع مشكلة ثقافة الكراهية الدينية. ما تقييمك لعالمية ولشمولية الجهود الساعية إلى الإسهام في تحقيق الحل المذكور، في الوقت الراهن؟
محمد حبش: لقد أشرت في الحوار إلى عدد من الحروب في الشرق الأوسط اندلعت بمشاعر دينية أو مذهبية كما هو الحال في الحرب الإيرانية العراقية وكذلك الحروب الداخلية في سوريا واليمن والعراق ولبنان، وبالطبع الحروب اليهودية الإسلامية. ولا شك أن وقف التحريض الديني هو مسألة وطنية سياسية بامتياز، تقوم بها الدولة وتحوكم عليها، ولكن ذلك لا يقلل من مسؤولية المثقف والقيادات الدينية الرشيدة في مواجهة ثقافة الكراهية، فمشكلة الكراهية في رأيي باتت مشكلة داخلية في المقام الأول، هي شيء يصنعه الكاهن عن عمد وإتقان، وعبارة السادة السلفية إن الله تعبّدنا بالبغض للكافرين والمشركين، إنها ثقافة كاملة تدرس تحت باب كبير اسمه الولاء والبراء يكرس على وجه عقدي ولاهوتي خالص ثقافة كراهية الآخرين مهما بدت منهم عناصر الإحسان.
ولهذا الدور السلبي نظائره في الديانة اليهودية في فلسطين والهندوسية في شمال الهند والبوذية في بورما، وهو ينمو بشكل مرعب في مناطق الصراع، ولكنها في النهاية دور الكهنة الأسود، فيما تتبرّأ الحكومات باستمرار من هذه المشاعر الطائفية. نعم لقد شهد التاريخ حروبًا دينية ماحقة، ولكنها أصبحت من الماضي، حيث انتهت بالكامل الحروب الصليبية والغزوات الإسلامية، ولا يوجد دولة في العالم اليوم تكرس الاختلاف الديني سببًا في صراعاتها، حيث تندلع دومًا تحت اعتبارات الحرية والسيادة الوطنية، وبات المجاهدون أو فرسان الهيكل حين ينخرطون في هذه الحروب يتعسفون في تقديم مبرر لاهوتي للحرب، ولكن الخطاب الرسمي ظل دومًا يتحدث عن حقوق الإنسان والسيادة الوطنية، حتى في حروب البلقان الطائفية المقيتة وعلى الرغم من وجهها الطائفي القبيح ولكن ظل الخطاب الرسمي للدول المتحاربة يتحدث عن حقوق وأراضٍ وسيادات وطنية وليس عن إيديولوجيات دينية، وبناء على ذلك انتهت الحرب ولا يزال التداخل الديني على أشده.
ربما يتعين هنا استثناء الصراع الإسلامي الإسرائيلي، حيث يتمسك الجمهور الإسرائيلي بالمعنى الديني للصراع، وقد استقدموا مهاجريهم من أطراف الأرض تحت الوعود الدينية والواجبات الشعائرية، وهو أمر يتصاعد باستمرار مع وصول اليمين المتطرف إلى الحكومة، وتبني حكومة نتنياهو رسميًا مشروع الدولة اليهودية. ويمكن القول إن الجانب العربي بات هنا أكثر انحيازًا لقيم الحضارة، وتخلى في خطابه الرسمي عن الصراع اللاهوتي، ولدينا الآن 24 دولة محيطة بإسرائيل وهي البلاد العربية وتركيا وإيران، ودون أي مبالغة فقد اختارت 23 دولة منها الحديث عن صراع سياسي على الأرض والحقوق والكرامة، ولكن بلدًا واحدًا لا يزال يتمسك بطبيعة الصراع الديني وهو إيران تحديدًا، ومن يدور في فلكها في لبنان واليمن والعراق وفلسطين، ولا أشك أنها الذريعة الجوهرية وراء وصول التطرف اليهودي إلى الحكم، واكتساحه الحياة السياسية في إسرائيل.
إنني أقول بصراحة ووضوح إن مسؤولية المثقفين وخاصة أولئك الذين يؤمنون بإخاء الأديان وكرامة الإنسان كبيرة ومباشرة، ولا يجوز أن يبقى هذا الصراع إسلاميًا يهوديًا، ولا يجوز أن يبقى الخلاف السياسي في العراق ولبنان وسوريا واليمن صراعًا بين النواصب والروافض، إنها مسؤولية المثقف أن يتوقف عن السردية القائمة على شياطين وملائكة، وأن يتحول الوعي الشعبي إلى فهم طبيعة الصراع بين حقوق متقابلة، يحكمها القانون الدولي، وأن يقوم الدين بدور إيجابي في هذا الصراع باتجاه وقف الحرب وبناء السلام، بعد أن مارس دورًا سلبيًا مدمرًا على المستوى اليهودي أساسًا وعلى المستوى الإسلامي أيضًا. ومن جانب آخر يتعين الإشارة إلى الإسلاموبيا والسامية فوبيا وربما في مكان آخر الصليب فوبيا، ولكن خطاب إخاء الأديان مدعو إلى مواجهة كل أشكال الكراهية ونزع فتيلها من الجذور، وسيجد بكل تأكيد حلفاء له في كل مكان في العالم.