حيث تحكم ثنائية طرفي النقيض: الجلاد والضحايا، السيد والعبيد، المستبد والمظلومين، يمكن افتراض أن الواحد شرط لوجود الثاني من هذه الثنائية القاهرة، وأن الفكاك منها يبدو صعب المنال إلا إن حدثت تحولات عميقة في الأفكار وتهذيبٌ متقدمٌ للغرائز، إضافةً إلى توفر لقاح حضاري لتخفيف الغباء البشري السائد بدرجات متفاوتة في المجتمعات منذ القدم…لكنه مستمر في عالمنا العربي على نطاق واسع.
افتراض تأسيسي: عن القرابين و”التضحية”
يُخشى أن تكون الغلبة والانسحاق والتسبّب بـ “الأضاحي” البشرية من سمات أو بذور الفطرة البشرية. ربما أنها لم تكن في الأصل الأوّل للبشر، إنما أصبحت لاحقًا، في وقت مبكر ما، جزءًا من تكوينهم، بمعنى أنها بدأت مع كائنات “بشرية” قد أحدثتها وطورتها، مما أصبح شاهدًا على إمكانية انحدار في الميول والطباع التي تلوث السمات الإنسانية عندما لا تتوافر شروط حصانة كافية. ذلك يلتقي مع الاحتمال الذي يقول به مؤرخون بأن “الإنسان” البدائي كان في الأصل ميالًا إلى الخير والتقدم، لكن ظهور “الشيطان” المبكر يعكس أيضًا أفكارًا وممارسات منذ القدم” كما يقول البعض، مثل “ليفي-بريل” في كتابه عن “العقلية البدائية” الذي وجد أن “جميع” الأقوام البدائية تعتقد أن الأمور تسير نحو الصلاح والخير دائمًا، إلى أن يبدأ “ساحر” بمعنى ما بالعبث وحرف الأمور عن مسارها الطبيعي، مشيرًا إلى تعدد مسميات وتمثلات السحرة، بين أرواح “وشياطين” تذكرها مختلف الديانات[1].
أكان “الانحراف عن الخير” قد وُجد في الأصل أو حدث بالانتقال وبتدخل “شيطاني”، فإن ظهور/ نشوء الطغيان بصورته الأولى لا يحجب عنّا ضرورة اقتران تحوّل ذلك “الإنسان” من حالة نقاء وصلاح إلى التعسّف والعدوان مع توافر ظروف وتحولات موضوعية، كأن ينتقل المرء إلى حالة الحاجة الماسة والفقر المدقع أو الدفاع عن الوجود، أو بالعكس: من حالة الحرمان والضحية إلى حالة اجتماعية أو منظومة مصالح متطوّرة وأكثر تعقيدًا كثيرًا من المجتمعات البدائية، أي يصبح أقل عفوية وتلقائية حتمًا، أي “أقل إنسانية”، مما يُملي عليه “التزامات” جديدة (غير أخلاقية!) قد تقوده مع نزعة الشر إلى ذلك التعسّف، ثم إلى الاعتياد على ممارسة قهر وظلم الآخرين، ولو من هويته الاجتماعية والطبقية نفسها التي كان ينتمي سابقًا إليها، بمن فيهم، أحيانًا، أقرب الأقربين إليه عبر صلة الذرية والدم. كثيرة أمثلة التاريخ والحاضر على ذلك أكانت عن الأفراد-الملوك السلاطين والخلفاء أم عن الجماعات التي سادت (ثم انهارت).
ولا غرابة مثلًا أن الأسرة أو العشيرة، في الهوية الاجتماعية/الجماعة الأولى، عندما كانت تقدّم الأضاحي للآلهة القديمة أو للملوك، من إنتاجها وممتلكاتها/ أو من حيازتها، أقدمت من ثم، مع نمو علاقات ومصالح جديدة، على “تقديم قرابين بشرية”، مما عكس نوعًا من سلوك وحشي، أي انحدارًا أكبر من كينونة الإنسان الأولى “النقيّة”. وتذكر الرواية البارزة في السياق أن بداية القربان البشري نشأت بسبب مواسم الجفاف وتعذر الرزق الطبيعي الذي كان يُقدم بعضٌ منه على سبيل الهدية إلى الآلهة أو السادة القدماء[2]. وتجلت تلك الوحشية أكثر مع إمكانية التنكر لـ “الآخر” بدرجة أكثر حدّة وعنفًا وتعسّفًا عندما أصبحت تلك الأضحية تقدّم “من بين أقرب المقربين”، كما في بعض العادات وما ذكر في كتب كثير من الديانات[3].
وبمعنى ما، تعبّر ظاهرة “القرابين البشرية” الأولى في سياق التقديس لدى البشر الأوّلين أو حتى في الأساطير، عن إحدى سمات الغلبة من جهة والانسحاق من جهة ثانية، وتشير على نحو ما، إلى ميول حادة أو “أصيلة” لمصلحة “الأنا”، الشريرة أو المُتعالية، التي تقابل “الأنا” الدنيا، أي التي تتقبّل وتتحمّل القهر وتبعات الشر، بما في ذلك أن تكون هي نفسها الأضحية[4]. يفتح هذا الاحتمال المجال أيضًا أمام تساؤل لغوي يرتبط بالبعد الاجتماعي والاعتقادي لهذه الظاهرة من ناحية العلاقة/ والتلازم بين القرابين/ الأضاحي وبين معنى الإلزام المقدّس لـ “التضحيات” (بالمعنى والقدر اللذين تفرض سلطة الجماعة أو المعتقد كلا منهما) في بدايتها، وفي استمرارها راهنًا أحيانًا، أي حين “تُبذل” في بعض المجتمعات من دون حق الاختيار أو السؤال، كعادات الزواج القسري المبكّر، أو في إمكانية دفع بعض الشباب وتعبئتهم للانخراط في عمليات استشهاد (أو عمليات قتالية انغماسية)[5] لخدمة أغراض الجماعة ووجودها، وقد تحقّق نتائج قتالية مؤثرة في المواجهات غير المتكافئة بين الجماعات، مع تحريم مناقشة جدوى بعض التضحيات بما في ذلك انعكاساتها السلبية على مصير الجماعة نفسها.
حتى لو أن التضحيات والضحايا، بما فيها القرابين البشرية، نشأت من اعتقاد بالأساطير أو بالغيب، فلا بد أنها عكست علاقات قوة ومنفعة واستضعاف وراء من يكون/ أو يصبح قادرًا على تقديمها، وعلى تحديد نوعها ومقدارها وتحريرها وسوقها، ومن يطبّق طقوسها أو يقوم بدور خادم المذبح/الهيكل، وأين وكيف يتم التصرف أو الانتفاع بها، وما هو جزاء/ نتيجة ذلك كله، معنويًا وماديًا. والافتراض المنطقي هو أن يكون ذلك قد حصل مع نمو الجماعات وتداخل ونشوء تسلسل/ شبكة من مصالح دنيوية، حيث تطوّرت آلية/ نظام التضحيات والأضاحي وتعدّدت أشكالها ودرجاتها ونشأ لها معاونون” وكهنة، بفعل وقوة العادة والتكرار، والحاجة إلى منافع أو مصالح تذهب إلى أكثر من جهة، وتتحول في مرحلة ما إلى عادات أو “ثقافة”.
غير بعيد عن عصر “القرابين” البدائي، فإن ما وصلنا من روايات وتاريخ مدوّن لاحق وحديث عن نظام العبودية لدى مختلف الأمم والحضارات القديمة، يُعدّ أكثر تعبيرًا عن استعداد البشر -في ما بينهم- لتسخير الآخرين من جهة، أي ممارسة القهر والاستغلال، وتقبّل الخضوع أي القدرة على تحمّل سُخرة كهذه من جهة أخرى، أي للتحول إلى مستغلِّين ومستغَلِّين، قاهرين ومقهورين، ظالمين ومظلومين، جلادين وضحايا، الأمر الذي ينطوي في الوقت نفسه على استعدادهم أيضًا ليصيروا ما بين هذين الطرفين. ويعكس ذلك، بكلام آخر، قابلية ونوعًا من جاهزية، واعية أو كامنة، للتحكم ببشر آخرين وتحويلهم إلى ضحايا/ أضاحي، أكان ذلك عبر الإلزام والقوة، كما كان يحدث في أكثر حالات البدايات، أم بالإقناع–والتضليل كما يحدث في أغلب حالات العصر الحديث.
وكما “الطاغية” الأول الذي تشكَّل ببذرة الانحراف عن الإنسان الأوّل، كذلك لم يولد العبيد الأوائل خانعين بالفطرة. فالظروف المحيطة بـ نشأة “ظاهرة الرقيق” في الحضارات القديمة هي التي تفسّر إمكانية تحول الكائن البشري وإمكانية انتقاله إلى مرتبة آدمية أدنى، وتحلّل، وتوضح لنا (أكثر من حقبة “القرابين” وأقرب إلينا زمنيًا) ما “كانت” تعنيه، ثنائية الأسياد والعبيد وإمكانية تبدّل الأدوار، وخاصة بعد الغزوات والحروب، مثل انتقال المغلوبين إلى أسرى وخدم وعبيد، من نساء وأطفال، أو عند انتقال “سيّد” في روما القديمة إلى عبد في حال عجزه عن تسديد ديونه، أو في حالة عتق رقبة “عبد” وتحوّله إلى سيّد حر قادر بدوره على امتلاك عبيد، كما في حالة فوز المصارع في مباراة يقتل فيها أسيرًا/ عبدًا آخر. ومن المخزي أن تلك الثنائية، قد تطورت إلى تجارة مزدهرة في مراحل زمنية طويلة. وهي وإن شهدت عبر الزمن وبموازاة حركات التنوير الفكري، تراجعات نوعية وكمّيّة، إلا أنها استمرت فعليًا و”قانونيًا” إلى عهد قريب أي بدايات القرن الماضي. وهي لا تزال فعليًا تتجدّد بأشكال مختلفة أو “ناعمة” كما في عديدٍ من المجتمعات، وما يعرف بالرقيق الأبيض مثلًا، وأحيانًا تكون أكثر فظاعة من السابق في المجتمعات الأكثر فقرًا وجهلًا وتخلفًا واستغلالًا بين البشر.
وخلال مسار بشري طويل، وفي ظل تحوّلات الإنسان ما بين الولادة والموت، وما يتخلل ذلك من نمو وغرور ورغبات وكراهية ودهشة ومرض وعجز ومشاعر كثيرة متحرّكة وملتبِسة ومتقلّبة، ومع نشوء الكيانات البشرية المتضخمة وصراعاتها على السيطرة أحيانًا ودفاعًا عن البقاء أحيانًا أخرى، ومع ما أرسته حقبة الغزوات والاستعمار من إرث عنف ودهاء واستغباء[6]، معطوفة على هواجس الإنسان الأول بشأن الأمان والقلق على الوجود والخوف من قوى وكوارث الطبيعة، إلى جانب غريزة الانتقام، خلال ذلك كله ومعه استمر استعداد النفس البشرية لإقصاء أو إضعاف المنافسين لها من خلال نزعاتها العدوانية، الواعية واللاواعية، بحسب سيغموند فرويد[7] وجاهزيتها للغدر و للفساد والإفساد والانتقام ولو بعد الموت أحيانًا (كما في تماثيل الأموات الرومان مثلا!)[8]، كلما اقتضت حسابات السلطة والمكانة المعنوية والظروف المادية ذلك.
ومختلف هذه العناصر والعوامل المؤثرة، المترابطة والمتناقضة التي تحوم حول كل فرد، لا بد أنها تؤدي إلى ارتفاع فرص تغيّر نفسي وثقافي، بنسب مختلفة من حالة فرد إلى آخر. ولكن لا بد أن هذه المحدّدات، أدّت دورًا أيضًا في سمات الجماعات تبعًا للجرعة المتوافرة من كل عنصر.
ومع توافر شروط موضوعية مادية وثقافية لكل حالة، فإن غلو مشاعر البشر عند القدرة على التحكم والسيطرة والقدرة على نيل ما طاب لهم من شهوات ورغبات، تقود غالبًا إلى قهر وحرمان الآخرين والحط من قدرهم. كذلك ينطوي الإنسان المأسور-المغلوب–المكسور- القابل للاستغلال والاستغباء، على طباع من الخضوع والتكيّف مع قدر من المذلّة أحيانًا، يبلغ ذروته مع حد الإدمان، ولدرجة يخشى أن تبدو فيه ثنائية المُسيطِر والمُسيطَر عليه من جيل إلى جيل ناموسًا ثابتًا، وليست وضعًا طارئًا أو مكتسبًا عبر الزمن: أي لا بد من طاغية ولا بد من ضحايا، مع انقلاب في هويات وشخوص هذا وذاك، وما بينهما من درجات.
ولقد تكرّس التحوّل بين طرفي الثنائية القاهرة مع تزايد توالد التصورات وتسخير الأفكار والعواطف، بدءًا من الأساطير والأسحار، مرورًا باستدعاء وسيادة معتقدات ميتافيزيقية، ثم تأويل نصوص دينية وعصبيات قومية إثنية (وطبقية) تشرّع تفوق “الأنا” ثم “النحن” وامتيازاتها على حساب الآخرين (توهّم الانتساب) للجلاد كنوع ربما من تعايش مع الانكسار واليأس من تغير الواقع، أو لما ربما أصبح رغبة دفينة في محاكاة الجلاد. في الحياة والحقوق على السواء. إنها الآلية نفسها التي تتيح تزايد احتمال الانتقال، الحاد أو التدريجي، من النقيض إلى النقيض، من ضحية إلى جلاد، حيث إن خضوع الأول (عند التسليم والرضا والقبول بالمهانة أو الصبر عليها) سينتقل ذهنيًا إلى نوع من الإعجاب بالثاني لدرجة “الحلم” بالحلول مكانه. كما أن الخضوع المزمن قد يؤدي إلى نكران الضحية لذاتها لدرجة الانتساب الوهمي (أو توهّم الانتساب) للجلاد كنوع من الإعجاب به، أو أن الخضوع المزمن قد يؤدي إلى نكران الضحايا لذواتهم بحيث يتحملون موقعهم الأدنى أكثر، وقد يصل الأمر بهم إلى حالة ضحايا إلى الأبد، أي يقضون حياتهم كلها كذلك.
وقد كتب كثيرون أو عبروا، كلٌّ بطريقته ومن زاوية دراساته، عن حالات وآليات كهذه. خلص ابن خلدون مثلًا في ضوء تجاربه المعاصرة إلى القول: “.. ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتّخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله”[9]. ويقترب ذلك مما عرف في أواخر القرن العشرين بـ”متلازمة ستوكهولم” (stockholm syndrome) الشهيرة[10]. ويمكن ضمن السياق نفسه إدراج مقولة/ ظاهرة “سوريالية” أخرى قريبة تتمثل بحالات “احترام” الضحايا لجلاديهم، التي دفعت المفكر الوجودي جان بول سارتر في آخر أعماله المسرحية (1959) إلى إعلان ما ترجمته “أنا أكره الضحايا الذين يحترمون جلاديهم”[11].
ومن المرجح، إذًا، أن كل طاغية كان يومًا ضحية حرمان أو ظلم أو استبداد من نوع ما. ليس هذا فقط، بل يمكن التساؤل إن كانت الضحية” لا تلبث أحيانًا أن تتحوّل إلى نسخةٍ أسوأ من الجلاد. ولا يلبث الثائر أن يتحول إلى نسخةٍ أسوأ مما ثار عليه” (وفق تعبير منسوب إلى عبد الله القصيمي). أما في الجانب العقلي/ التأملي، وانطلاقًا من خطأ تقييد اتجاهات الإنسان، فإن الصواب يميل أكثر إلى تبني تحذير الفيلسوف الألماني نيتشه عندما نبّه من يقاتل الوحوش” إلى “أن يحرص على ألا يتحوّل إلى وحش”[12].
نماذج راهنة
تكثر الحالات في العالم المعاصر التي ترمز أو تحاكي التحوّل البغيض، ولو نسبيًا. وفي أحدث تجسيد لذاك الانتقال، ببعده الديني التاريخي/ المعاصر على السواء، تبرز مثلًا حالة الحركة الصهيونية وقدرتها المثيرة منذ أكثر من قرن، على توظيف مظلومية شتات اليهود حول العالم وتجميعهم، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك في استغلال منقطع النظير لرواية “الإبادة/ الجينوسايد” في أفران الغاز زمن النظام النازي في ألمانيا. لقد أدّى ذلك إلى تحوّل الضحايا المفترضين أنفسهم، وفي ظل تواطؤ قوى عظمى، وبتوظيف واستحضار معتقدات تاريخية ومزاعم ربانية، إلى عصابات استيطان وقتل وتهجير تُمعِن في ارتكاب مجازر جماعية وجرائم حرب موصوفة بحق أصحاب الأرض من الفلسطينيين، وذلك كله بغطاء ديني يتمحور حول “أرض الميعاد” التي وعدهم بها “التوراة” باسم الرب، حتى في حالة استجابة الآخر للصلح[13].
على أن العالم العربي يحفل كذلك، في ما بين مكوناته وجماعاته، بحالات كثيرة أخرى تجسّد دورة الضحية والجلاد، مع استدعاء عقائد/ أيديولوجيات تجيز استخدام الاستضعاف بغاية تحسين المكانة أو الوصول إلى سلطة ثم إلى الاستبداد “الداخلي” بآخرين. يرتكز هذا المسار أولًا على بعث وتعزيز وضعية الضحايا، واستساغة الشعور بالمظلومية، حتى لو كان ذلك عبر المبالغة في استخدام وتأويل واقعة خذلان تاريخية، وما يعتري ذلك من تعزيز روح الانتقام إلى حد إضفاء طابع مقدّس قد يحل مكان الدين “أصل الدين” أو الدعوة ويخالف سياقه. ثم يصار إلى توظيف ذلك بما يخدم -في نهاية المطاف – مشاريع هيمنة فئوية واستبدادًا بهوية وشخوص جديدة. وعادة ما يرافق هذه الظاهرة تضخّم في ميول رجال الدين والعقائد وسعيها لمزيدٍ من النفوذ والضغط على أرواح البشر، حتى لو اقتضى الأمر دفعهم إلى الفداء، واستغلال السرد والانتماء للجماعة، في مشاريع تمدّد وتوسّع وصولًا إلى هيمنة على فئات أخرى، بما يؤدّي شيئًا فشيئًا إلى توليد مظلوميات جديدة، وضحايا جدد بالجملة. وقد حصل ذلك كثيرًا في المنطقة في السنوات الأخيرة (كما في سورية ولبنان والعراق) حيث بلغ الأمر الانتقال من موقع المستضعفين والمحرومين إلى موقع مستبدّين وظالمين أو مناصرين للقمع والفساد والجور، وغيره مما كان سابقًا محط مظلوميتهم هم (وغيرهم) قبل أن يتقدّموا إلى موقع القوة والسلطة والنفوذ.
الجماعة/ الإنسان مشاعًا
أيضًا في العالم العربي-وفي أقاليم أخرى مشابهة – قد يحدث ذلك الانتقال والتحول بدرجة مأسوية تفوق كل تصور عاقل، وقد تصل نحو حافة الدمار الذاتي لجماعات السلطة نفسها- ولأتباعها و”جماهيرها” من دون استثناء (كما في الحرب الأهلية الراهنة في السودان)، حيث تنبثق مشاريع ضحايا/ قرابين جدد من ذات السلطة الشمولية ومن تحالفاتها العضوية، وذلك عندما تنقسم على نفسها وتتجه سريعًا إلى أزمات خانقة أو حروب أهلية دامية، حيث يجرّ كل طرف من داخل السلطة نفسها جمهورًا بقوة الأمر الواقع أو حرصًا على المنفعة الآنية والامتيازات العشائرية والمناطقية مثلًا، ليتحوّل الشعب كله، بكل معنى الكلمة، إلى مشاريع ضحايا مليونية رخيصة (بين قتلى وجرحى ومعتقلين ومعوقين وجوعى ومرضى ومهجرين وضحايا اغتصاب جماعي). بل يذهب العداء/ الغباء البشري، إلى التباهي الصريح بخطاب ينظّر للفناء الذاتي العام، الصريح، عبر الاستعداد للمضي في بذل “جميع الأرواح” حتى آخر نفس بكل معنى الكلمة، من المريدين ومن الشعب كله على السواء[14].
وعلى طريقة الثورات التي تأكل أبناءها، وفي الخط نفسه لمأساة استغلال محاولات الثورة الشعبية لتوليد أنواع جديدة من القهر والاستبداد، يمكن إدراج السلطات البديلة من النظام القمعي المستبد التي سرعان ما تصبح مرشّحة هي أيضًا لتوليد ضحايا جدد من بين الأتباع/ الناجين سابقًا من جور أنظمة كانوا قد ثاروا عليها مجتمعين في الأمس القريب. هكذا حصل مثلًا مؤخرًا-ولا يزال حتى تاريخه- في حالة “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ “هيئة تحرير الشام” في شمال سورية، حيث كان يفترض أن يجد “الضحايا” الجدد ملجأً آمنًا من قوات نظام آل الأسد وحلفائه[15].
إلى الأبد؟!
هذه الوقائع “العربية”، وحمولتها الخلفية، المعاصرة والقديمة، من شأنها أن تشير (مع مثيلاتها في مناطق أخرى مشابهة)، إلى آليات لتوليد طغيان وضحايا بوتيرة متواصلة، في ظل استمرار مكوّنات التفكير والمفاهيم والظروف الاقتصادية نفسها وتعذر تطوير التربية والثقافة، وتمظهرات ذلك، السياسية والإدارية، ولا سيما استحالة تداول السلطة والمحاسبة.
ويخشى أن هذه الدوامة، وما في داخلها من تبدّل أدوار، إضافة إلى انتقالها من جيل إلى آخر، قد تجذرت لحد كبير يفسر تعذر الفكاك منها حتى الآن. كما أنها أوجدت في نهاية المطاف، نوعًا من لامبالاة اجتماعية-سياسية -سلوكية، تجاه معاناة جموع الضحايا، أو نوعًا من تبرئة فعل القهر والظلم والاستبداد جنبًا إلى جنب نزع المسؤولية عن الضحايا وذلك تحت ستار الصبر و”حساب الآخرة”، حتى عندما يكون الطغيان في ذروة تجلياته الدموية (كما الحال في الحرب غير المسبوقة على غزة مثلًا)، وكذلك تجاه تعسف وجرائم الاستبداد الرسمي والموازي في داخل عديدٍ من الدول العربية والإقليم ودول الجوار، حيث سقط (ولا يزال) مئات آلاف الضحايا قتلى أو جرحى أو معتقلي سجون في أثناء انتفاضات وثورات ما عرف بـ”الربيع العربي”، وما تلاه من موجات قمع وردّات فعل الأنظمة والقوى الدموية المهيمنة.
في جانب منه، يتصل عمق هذه “اللامبالاة” تجاه مشاعية الإنسان والشعب/ الجموع، بالهويات المتوارثة، وصراعات العصبيات المزمنة على الغلبة والغنائم والنفوذ، والتي تحولت إلى نوع من “أيديولوجيات”، هجينة و”مغلقة” في آن واحد، قادرة على توظيف واستنساب شذرات من نصوص دينية وأيديولوجية وتفسيرها بما يساعد الاستبداد واستغلال الشعوب ويغطي التنصل من المسؤوليات المباشرة، والمسؤوليات غير المباشرة عن عدم حماية جموع الضحايا والضعفاء، وخاصة المدنيين من الأطفال والمرضى والعجز[16]. وفي سياق ذلك اعتادت مجتمعاتنا انتشار مفهوماتٍ مختلطة بين الفداء والاستشهاد، بحجة الدفاع عن وجود الجماعة/ الأمة و/ أو الدين، وبين التهاون المفرط إلى حد اللامبالاة تجاه مشاعية الإنسان وحقوقه الدنيا.
ويخشى أن هذه الآلية وما تتمتع به من حماية كامنة في التسطيح الديني والعقائدي، وكذلك في لا وعي تاريخي عام في منطقتنا، هي نفسها التي تُغري عصبيات مُستضعفة على الكفاح والجهاد حتى الموت من أجل تعديل موضعها في علاقات القوة وصولًا إلى التحكم في السلطة والموارد العامة، بما يولّد أنواع ضحايا جدد باستمرار، أكان على المستوى السياسي أم الاقتصادي أم الثقافي…. بوتيرة متواصلة. هذا من جهة.
ويخشى أيضًا أن فائض تكرار هذه الدوامة من جهة ثانية، قد أدى، بمرور الوقت، إلى ظاهرة سلبية وخطرة أخرى حيث تصبح مناصرة الضحايا وقضاياهم واستنكار الجرائم التي تحلّ بهم أمرًا روتينيًا غير ذي قيمة أو شأن، حتى لو كانوا من بني جلدتنا وبلدنا ومن الهوية الطائفية أو المذهبية ذاتها.
خلاصات
يعزز التعصب الحماسة والانفعالات العاطفية، ويؤدي إلى مراوحة (أصبحت مزمنة) لخطاب الغيبيات الموجه لحث الضحايا على مزيدٍ من التضحيات لمصلحة قوى الهيمنة، أو ليكونوا “شهداء مدنيين” بالجملة بغير إرادتهم، من دون أي محاسبة أو مساءلة عن الجدوى من ذلك. وهو ما يحول في العمق دون تداول السلطة السلمي ومن التحول الديمقراطي/ التشاركي الحقيقي ويعيق تجديد الطاقات والأفكار..
ومن البديهي أيضًا أن تعدد و”تنافس” الخطابات الغيبية في مجتمعاتنا، إضافة إلى ما ينشأ حولها من روايات أخرى مسكنة للجموع، يعززان أكثر فأكثر العجز عن فهم العالم – والعلم، على السواء، أو ما يسمى “الكسل العلمي الحضاري” واستمرار الغرق في أحضان الخرافة ونكران أنّ لكل حادثة سببًا[17]. ومن البديهي أن العامليْن نفسيهما يزيدان أيضًا زخم تبرير السقوط اليومي المتواصل للضحايا وحمى ظهور الاستبداد والطغيان بأسماء وأشكال ودرجات مختلفة.
وما يمكن استنتاجه هو أن الخروج من هذه الدوامة، ولو نسبيًا، كان ولا يزال متعذرًا ضمن المعطيات الراهنة. وما يعزز تعذره أكثر فأكثر هو تطور أدوات التحكم والسيطرة في مجتمعات مفرطة في القدرية والاتكالية وإلقاء مسؤوليات إنقاذها و”إسعاف” ضحاياها (والحد من حروب الإبادة والجوع والأوبئة…) على الآخر (المجتمع الدولي والمنظمات الأممية خاصة)، على الرغم من أنها هي نفسها تتهم هذا الآخر بأنه السبب الرئيس في جميع أزماتنا (المؤامرات)، هذا عدا عن اتهامه بعداء مطلق معطوف على كراهية دينية أيضًا.
ومؤدى ذلك أننا أمام تحدٍ متعدّد أو مختلط الأبعاد، غير واضح في أفق التعامل معه، مما يرجح أن المسار الحالي طويل ومضن، يتخلله مزيد من الصدمات، ويصعب توقع ميقات نتائجه، ولكن يمكن تلمس أركانه أو مبادئه أو المفاتيح الأساسية له، وأبرزها إنضاج نظريات/ قوانين وقواعد أخلاقية صارمة، تلغي سيادة علاقة الزعيم/ السلطة الفوقية بالناس وتستبدل دونية الرعايا والطاعة العمياء بكرامة الإنسان/ الفرد..
ولعل أفضل ما يمكن أن يحصل نتيجة الفائض الحالي والمنتظر من الصدمات والويلات والاحتراب العصبي والاصطفافات المشوّهة في الثقافة والانتماء، هو إمكانية حلول أو تقدّم ثنائيات/ مكونات “تفكير” بديلة من ثنائية الضحايا والجلاد، الأسياد والعبيد/ الرعايا، التي تنطوي في جميع حالاتها على شر وشؤم. ولعل أهم ما يمكن أن يحصل من قبيل البدائل النظرية إرساء ثنائيات: الحرية والعبودية، العدل والظلم، المجرم والعقاب، الحب والكراهية … الوحش والإنسان.