يجوز القول إن سردية المؤامرة هي محاولة للتفسير، وليست فحسب آلية للتعبير عن مواقف الذات تجاه العالم. كما أنها سردية شعبوية، وعلموية. فهي من ناحية تجتذب العواطف والمشاعر العامة لجلب الاهتمام، بالتصوير المنحاز للذات وتشويه صورة الآخر. ومن ناحية أخرى تعتمد على بعض الحجج التي تبدو منطقية، حتى يمكنها المنافسة مع بقية السرديات التي تحاول إقناع المتلقين بأحقيتها في الوجود. ولذلك لا عجب أن يشبّه بعض الباحثين سردية المؤامرة بالدين، بسبب طابعها الميتافيزيقي، ورهانها على العاطفة والمشاعر، من دون التأكيد على الحجج الدامغة، وحرصها على الاستفادة من كاريزما المنشئين لها.
إن سردية المؤامرة لا تنشأ في لحظة زمنية وتتوقف، لكنها ظاهرة شفوية، تمتاز بطوابع الاستمرارية والامتداد عبر التاريخ، والجماعية حيث يتشارك فيها أفراد عديدون في بنائها وتطويرها وتحويرها ونقلها عبر الأزمنة والأمكنة، كما أنها عبارة عن صيغ وقوالب تنتقل من جماعة إلى أخرى. ولذلك لا ينبغي النظر إليها كظاهرة من صنع فرد بعينه على الأقل في السياقات الاجتماعية التي تعتمد على الشفوية كمنطلق من منطلقات التفكير. علاوة على ذلك فإن السردية الواحدة لا تظهر في صورة واحدة، بل تتعدد، مع تغير عناصرها، بإدخال عناصر ومكونات جديدة إليها. وإن عملية الإدخال والحذف للأطراف المشاركة فيها أكانوا من المخططين للمؤامرة أم العملاء المنفذين للخطط، هي عملية محكومة بموقف الفاعلين ووضعيتهم داخل السياق الاجتماعي ورؤيتهم للعالم.
وسوف يحاول البحث الحالي النظر في سردية المؤامرة من خلال بحثها داخل الخطاب الديني الرسمي، وبالتحديد كما تتجلى في كلمات ومحاضرات شيخ الأزهر، رئيس أكبر مؤسسة دينية تاريخية في مصر والعالم العربي والإسلامي، والمنشورة في كتاب “القول الطيب” في جزأيه. وينطلق التحليل من عدة منطلقات مستفيدة من المقاربة السيميائية والسيكولوجية والسردية، بوصف خطاب هذه السردية مكونًا من عدة طبقات تترجم رؤية عالم المؤسسة الدينية التقليدية.
أولًا: المقاربة
هناك مقاربات أساسية ساهمت في تحليل نظرية المؤامرة تحليلًا لخطابها، أهمها المقاربة السيميائية، والمقاربة السردية. حيث من جهة تعدّ نظرية المؤامرة نظرية علامات لأنها تعتمد على افتراض أن ثمة علامات تدل على وجود مؤامرة تحاك سرًا، ومن جهة أخرى فإن هناك حكاية أو سردية تحكي قصة المؤامرة وأطرافها. ومن جهة ثالثة فإن الإيمان بالنظرية مسألة محكومة بدوافع حاولت الدراسات النفسية الوقوف عليها. ولهذا يمكن استعراض ثلاث مقاربات أساسية والخروج بأهم المنطلقات التي يمكن الاعتماد عليها في المقاربة الحالية:
• المقاربة السيميائية
من المستغرب أن تركز دراسات سيميائية قليلة نسبيًا على تفسير نظريات المؤامرة، في ضوء حقيقة أن نظريات المؤامرة هي بطبيعتها ظواهر سيميائية (حيث تتوسط دائمًا عبر العلامات). حيث يعتمد صنع المعنى في نظريات المؤامرة إلى حد كبير على البحث عن علامات سرية للتآمر وعلى إظهار أهمية هذه العلامات. فمن منظور سيميائي، تُعرّف نظرية المؤامرة على أنها تمثيل يشرح سلسلة من الحوادث من خلال افتراض مؤامرة كسبب لها؛ أي أن الحوادث تعدّ “نتيجة لمجموعة من الأشخاص الذين يتصرفون ًاسرًا لتحقيق غاية شائنة”[1].
عمومًا، يتمثل التركيز الرئيسي للسيميائية بشرح النماذج القائمة على العلامات التي يبنيها الناس لرسم خريطة للواقع. وتميل في معظم الحالات هذه النظريات إلى التبسيط. ومن ثمّ، لا يستطيع النهج السيميائي تحديد ما إذا كانت المؤامرة موجودة أم لا ولا تقويم مدى كفاية وصلاحية نظرية المؤامرة. ولا يقوّم النهج السيميائي ما إذا كانت ظاهرة ثقافية مفيدة أم ضارة؛ بل يركز بدلًا من ذلك على العمليات المحددة لصنع المعنى المرتبطة بنظريات المؤامرة. وتميز الرؤية السيميائية بين ثلاثة مستويات مترابطة في تحليل نظريات المؤامرة. يتعلق المستوى الأول بالنمذجة من خلال مرشح محدد للتفسير يفترض وجود مؤامرة. يتيح لنا تحليل هذا المستوى التأكد من آليات بناء المعاني التآمرية. يركز المستوى الثاني على نظريات المؤامرة بوصفها تمثيلات لفظية و/أو بصرية – تُحلّل نظريات المؤامرة بوصفها نصًا له حدوده الخاصة. يرتبط هذا المستوى الثاني أيضًا ارتباطًا وثيقًا بجمهور محدد ومواقف اتصالية تستهدفها تمثيلات المؤامرات. يبني المتلقون هنا تفسيرات معينة على مستوى ما، أو بعبارة أخرى، تفسيرات لنظرية المؤامرة. ويركز المستوى الثالث على تحليل بناء الهوية والوصف الذاتي للجماهير المتأثرة بنظريات المؤامرة[2].
فعلى مستوى عملية التواصل، يصور منطق نظرية المؤامرة التواصل في شكلين: التواصل المخترق الذي يمتزج وينصهر فيه طرفا التفاعل. ونتيجة لهذه العملية، يصبح أحد الطرفين موصومًا بآثار الطرف الآخر. ومن ثمّ فإن التواصل من خلال الاتصال المخترق يعمل وفقًا للمنطق المجازي للتجاور – يكفي ببساطة أن يكون المرء موجودًا بالقرب من مصدر الشر حتى يتأثر به. والشكل الثاني من التواصل يقوم على التشابه ــ فكلما كانت الأشياء أكثر تشابهًا، كان من المتصور أنها متصلة. ووفقًا لما ذكره م. لوتمان، فإن نظريات المؤامرة تتسم بالمنطق المجازي للاتصال المخترق والمنطق المجازي القائم على التشابه[3].
وعلى مستوى التعبير، نجد أنه مع تحول الوسائط عبر الإنترنت ووسائل التعبير الرقمي إلى عنصر أساسي في سرديات المؤامرة، فإن وظيفة العناصر المرئية ومتعددة الوسائط في تمثيلات المؤامرة تحتاج إلى استجواب. من ناحية أخرى، تدرس الدراسات السيميائية المجازات والرموز المرئية المستخدمة لتوضيح المؤامرات (على سبيل المثال، الهرم، والأخطبوط، وسيد الدمى، والدمية المتحركة من بين أكثرها انتشارًا). من ناحية أخرى، تشرح أطر علم العلامات كيف تعمل نظريات المؤامرة على تضخيم أفكارها الأساسية من خلال وسائل التعبير المرئية (على سبيل المثال، التسطير، والتقديم، واستخدام المخططات والرسوم البيانية) ومن ثمّ حقنها بقيمة عاطفية. تُبنى تمثيلات المؤامرة دائمًا في ضوء المخاطبين الملموسين ومواقف الاتصال، ولهذا السبب من المهم تحليل كيفية ارتباط هذه التمثيلات بالسياق الاجتماعي الاتصالي الأوسع[4].
أما على مستوى دراسة الهوية، تعدّ بحوث الهوية مجالًا بحثيًا مهمًا في التقليد السيميائي عند دو سوسير. فالملاحظ على منطق نظرية المؤامرة سعيها لبناء تصور قطبي بين طرفين لبناء مفهوم بعينه للهوية يهيمن عليه افتراض تعارض بين “نحن” و”هم”. ويمكن النظر إلى النموذج “المتناقض” للثقافة (الثقافة المضادة) بوصفه نوعًا من خلق الهوية المحصور في وجهة النظر “الداخلية” للثقافات التي تفرض مبدأً صارمًا من المعايير (الصائبة) على أنظمة تعبيرها الخاصة، وتنظر إلى الانحرافات في مستوى التعبير على أنها تعطل ترتيب المعنى، وليست بلا معنى[5].
• المقاربة السردية
إن المقاربة السردية في جوهرها تركز بالأساس على الحدث والفعل، كما أنها معنية بالفاعل وأثر الفعل. كما أن المحكيات والروايات في جوهرها عبارة عن تنظيم للبيانات، وتأليفها أو قراءتها أو مشاهدتها هو نشاط إدراكي؛ طريقة لتنظيم البيانات المكانية والزمانية في سلسلة من الحوادث السببية ذات البداية والوسط والنهاية التي تجسد حكمًا حول طبيعة الحوادث فضلًا عن إظهار كيف يمكن معرفة الحوادث، ومن ثمّ سردها. إضافةً إلى ذلك، فإن السرديات نفسها مقيدة بالسياق الذي يتم إنتاجها وتلقيها فيه – فنحن نفهم الماضي بصورة مختلفة في أوقات مختلفة، في العلاقة المتغيرة بين الماضي مع تراجعه وحاضرنا المتغير باستمرار. تحكي نظرية المؤامرة، إذًا، قصصًا عن الماضي والحاضر والمستقبل، وتقدم حجة في شكل سردي لجمهور معاصر حول كيفية عمل السلطة[6].
• المقاربة النفسية
هناك مجموعة كبيرة من الأبحاث من مجال علم النفس تستكشف نظريات المؤامرة والتي لها أهمية كبيرة في السياق الحالي. حيث يقدم دوغلاس وسوتون وسيشوكا نظرة عامة شاملة على هذا العمل، الذي يستكشف الأسباب والدوافع والاستعدادات التي تجعل الناس ينجذبون نحو تفسيرات نظريات المؤامرة، من دون غيرها من التفسيرات. ويرونها تُقسم إلى ثلاث فئات عريضة: الدوافع المعرفية للاعتقاد بالمؤامرة، أملًا في الفهم والدقة واليقين. كما أن الشعور بأن لدينا تفسيرًا سببيًا آمنًا لحدث ما يمكن أن يخدم عديدًا من الأغراض، بما في ذلك إخماد الفضول عندما تكون المعلومات غير متاحة، وتقليل عدم اليقين والحيرة عندما تكون المعلومات متضاربة، وإيجاد المعنى عندما تبدو الحوادث عشوائية والدفاع عن المعتقدات أمام التشكيك فيها[7]. وإلى جوار الدوافع المعرفية، توجد الدوافع الوجودية، حيث تساعد نظرية المؤامرة في تلبية احتياج الأفراد إلى قدرتهم على السيطرة على بيئتهم، وأن ثمة مصدر أمان، وتفسيرات يمكنهم الركون إليها. فعند الشعور بالقلق والعجز عن السيطرة يلجأ الناس لنظريات المؤامرة. كما تؤكد الدراسات النفسية في هذا الجانب أن ذلك ينعكس في عزوف الناس عن المشاركة وفي ابتعادهم عن المجال العام. أما الدوافع الاجتماعية فتتمثل بالرغبة في الحفاظ على صورة الذات والجماعة برسمها بطريقة تضفي قدرًا من الدعم بحيث تبدو ذات جدارة وأخلاقية فيما تتعرض للهجوم والإساءة من الأقوياء وعديمي الضمير. فالذات عظيمة ولكن الآخرين لا يقدرونها حق قدرها[8].
وفي ضوء هذه المقاربات الثلاث، يمكن الخروج بعدد من المنطلقات الأساسية:
• تعتمد المؤامرة على سردية لها أطراف يمثلونها: المخطط، والعملاء الذي ينفذون خطط المخطط، والمستهدفون من التخطيط. هذه السردية ذات طابع تاريخي. فهي ليست ابنة اللحظة الحالية بل ممتدة عبر الزمن، ومتكررة، يرددها جيل فجيل.
• لنظرية المؤامرة أبعاد سيميائية يمكن البحث عنها في العلامات التي تؤكد حدوث المؤامرة وتوضحها، وتدلل على مواضعها، عبر الحوادث المتكررة، ومحاولات التفسير الممكنة بالإحالة لتلك العلامات الممكنة.
• تعتمد المؤامرة على ثنائية نحن في مقابل هم، بغية إنشاء صورة للذات والآخر، الذات البريئة الطاهرة، في مقابل الآخر المعتدي القوي. صورة تجسد استقطابًا تبدو فيها الأنا مكتملة لكنها تتعرض للأذى والألم من الآخر الذي يخطط لها ويدبر المكائد.
• إن عملية تفسير نظرية المؤامرة لا ينبغي أن تتجاهل الدوافع النفسية والاجتماعية التي تقف من وراء ظهورها، بالنظر إلى السياق الاجتماعي والتاريخي.
ثانيًا: المؤامرة في الخطاب الإسلاموي
يحرص الخطاب الإسلاموي في عمومه في شقيه الرسمي ممثلًا بالأزهر، وغير الرسمي ممثلًا بالإخوان والسلفيين وما يشتق عنهما، على التأكيد على قضية التآمر على الإسلام، وتُرسم نظرية مؤامرة محورها الغرب الذي يوصف بالغرب الاستعماري مصدر الخراب والتخريب، وفروعها العملاء من المثقفين المدنيين الذي يجسدون مطامع الغرب ثقافيًا بتبني قضاياه والتشكيك في الإسلام واتخاذ القيم الغربية نبراسًا، ولا يخلو الأمر من تشكيك في النيات واتهامات بالتمويل والتطبيع مع الغرب والكيان الصهيوني. تضيف السردية الأزهرية عنصرًا أساسيًا للصورة، مدمجة الإسلاميين الراديكاليين ضمن العملاء باعتمادهم على التمويل والتسليح الغربي للقيام بأعمال تهدد أمن الأمة الإسلامية وتفتت عضدها. وبالطبع قد تضاف عناصر أخرى؛ كالكيان الصهيوني والماسونية، لكن في المجمل الغرب عنصر أساسي والعملاء هم المثقفون المدنيون الذي يشككون في القيم الأساسية التي يدعو إليها الإسلاميون في المؤسسة الرسمية أو خارجها. بيد أن هناك إشارات إلى أن هذه المؤامرة مصوبة في الأساس إلى الأزهر، بحيث تكون المؤامرة على الأزهر مؤامرة على الإسلام ككل.
إن تصوير المؤامرة يصل إلى أقصى مداه بالتأكيد على إمكانية أن تزيح الأفكار المغايرة الدين نفسه، فقد يصل مبلغ الدفاع حدود الدين نفسه، بحمايته من الأفكار التي تزيحه وتحل محله قيم الانحلال والتفكك: “إن الكنيسة الأوروبية والمذاهب المسيحية أصبحت عاجزة عن صد التيارات اللادينية والإباحية في المحيط الأوروبي وفي البلدان المتأثرة به، كما أن رجال المسيحية قد أصبحوا خاضعين للصهيونية والماسونية وعاجزين في الوقت نفسه عن إقامة جسور التعاون مع الإسلام والمسلمين من أجل الاحتفاظ للدين والأخلاق بوجودهما وتأثيرهما”([9]).
إن المؤامرة في الجانب الوطني، وهو ما تشير إليه كتابات بعض الإسلاميين تُبنى على شقين: شق يتصل بتهديد البناء القيمي والأخلاقي الإسلاموي المحافظ من خلال طرح أفكار أو تفسيرات مغايرة أو الدراسة العلمية للتراث بمناهج غربية، وشق يتعلق بتهديد الأزهر والحديث عن تجديده وإصلاحه.
في ما يتصل بالجانب الأول، فإن ذلك يتم بحسب أحد الإسلاميين عبر مسارين بحثيين في التراث، يقول موضحًا مراده: :”وفي هذا العصر الذي نعيش فيه … نجد محاولات جديدة تحاول إحياء مؤامرات قديمة تحت أسماء جديدة … وتتمثل هذه المؤامرات في خطين متوازيين: خط يختفي تحت اسم العقلانية ويرمي إلى إحياء مفهوم الاعتزال بدعوى أن تجديد الإسلام ينطلق من هذا الطريق خداعًا وتضليلًا عن مفهوم الإسلام الجامع … وخط يختفي وراء التفكير الفلسفي والصوفي بهدف إحياء مفاهيم الوثنية والغنوصية والفكر المجوسي …”([10]) هذه إشارة إلى جهد التجديد الذي قادته أطراف عديدة في الفلسفة الإسلامية، أكان ذلك بالبحث في علم العقائد وعلوم القرآن أم علم الكلام والتصوف، والغاية من ذلك توسيع مجال الفكر الإسلامي فلا يقف عند الحدود التي رسمها الإسلاميون بل يتسع مداه، وهو أمر يضيف إلى الإسلام ولا ينقص منه كما يصور الإسلاميون.
على هذا النحو نكون بين اتجاه المحافظة ممثلًا بالقوى الإسلامية التقليدية المكونة للأزهر أو المكونة للتيارات غير الرسمية. فيما يقدم أحد الأزاهرة، وهو الشيخ محمد البهي، الذي يتخذ الإمام الطيب منه مرجعًا له في ما يطرحه فضيلته من أفكار، منظورًا مختلفًا، فالصراع على الأزهر يأتي من اتجاهين: اتجاه يعتمد أطروحات الغرب، وآخر يصلح الأزهر من داخله، حيث يرى أن التفكير الإسلامي شهد اتجاهين منذ منتصف القرن التاسع عشر: اتجاه الممالأة للاستعمار الغربي في تقريب الإسلام من المسيحية أو في تبديله لتوجه يرضى عنه المستعمر ويقلد الدراسات الاستشراقية في منهجها وأسلوبها، في المقابل يوجد اتجاه المقاومة الذي يسعى للإصلاح. وهنا يفرق البهي بين مصطلحين مهمين، يفسران الكثير في ردّات فعل الأزهر تجاه مطلب تجديد الخطاب الديني([11]). حيث يرى أن الاتجاه الأول المساند للاستعمار حمل في القرن العشرين اسم “التجديد”، بينما عرف الاتجاه المقاوم باسم “الاتجاه الإصلاحي” أو اتجاه تجديد المفاهيم الدينية الذي مثلته برأيه أسماء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده([12]). بالطبع هذا يبين لنا أننا أمام روايتين: الرواية الأزهرية التي ترى ضرورة الإصلاح، والرواية المقبلة من خارج الأزهر من أفراد محسوبين على الإخوان والسلفيين.
كذلك يتحدث أحد الإسلاميين عن المخطط الذي يستهدف الأزهر من خلال التحكم في مناهجه، والحديث عن تطويره، الأمر الذي ظل هاجسًا أساسيًا في علاقة الدولة بالأزهر، يقول متحدثًا عن هذا المخطط:” وقد لا يكون المخطط قد نجح تمامًا- بلطف الله ورحمته بالمسلمين وبالأزهر ثم برجال عمالقة من أمثال الشيخ عبد الحليم محمود والشيخ جاد الحق علي جاد الحق وغيرهما- لكن المعركة مستمرة، وكتائب التغريب ماضية في طريقها تقفز من معسكر الماركسية إلى معسكر الليبرالية العلمانية بسرعة هائلة، وتركب أي موجة تقترب بها من هدفها وهو فرض التغريب والقضاء على إسلامية مصر، بعد أن قامت بتغريب تركيا بطريقة جنونية بواسطة رجلها الشاذ مصطفى كمال !!([13]).
ولعلنا، أخيرًا، نستشهد بمثال كلاسيكي، بعيدًا من المثال المعاصر ممثلًا بكتابات نصر حامد أبو زيد أو علي مبروك، تلامذة حسن حنفي، وهو حالة طه حسين المثقف المدني الذي خرج من عباءة الأزهر. لنرى فيه مثالًا على تشخيص الإسلاميين لمعنى المؤامرة في معاركهم مع طه حسين حتى بعد مماته. فلقد وصل الحال بأحد الإسلاميين وهو محمد عمارة أن شيطن طه حسين، حين حكى محاولات علي عبد الرازق نفي اقتصار رسالة الإسلام على الجانب الروحي فقط، فيقول إن الرجل: “أكد فيه أن عبارة “إن رسالة الإسلام روحانية فقط” لم تكن رأيه يوم نشر كتاب (الإسلام وأصول الحكم) وأنها “عبارة قد ألقاها الشيطان على لسانه”! … ولم يفصح عن من هو هذا الشيطان .. وهل هو من شياطين الإنس أم من شياطين الجن؟“([14]) ثم يقول في موضع تالٍ يؤكد من هو هذا الشيطان: “لكننا قرأنا في مراسلات علي عبد الرازق إلى طه حسين عن محاولات الأخير دفع صديقه علي عبد الرازق إلى دائرة الضوء والشهرة … وعن إباء علي عبد الرازق الاستجابة “لوسوسة” طه حسين!”([15]).
ثالثًا: المؤامرة في خطاب الإمام
سيركز التحليل هنا على عدد من الكلمات التي ألقاها شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، وهي في الغالب كلمات ألقاها في مناسبات عامة.
1- المؤامرة وأبعادها
تتردّد مفردة المؤامرة في خطاب الإمام، وبصورة محددة في الكلمات التي وجهها لجمهور عربي، لكن قلما بل نادرًا ما حضرت الكلمة في إطار كلماته الموجهة لحضور غربي، بل إنه أمام هذا الحضور لا يستحضر خطاب المؤامرة بعناصره المنددة بالآخر كافة. هذه المسألة مهمة، إذ إن أعراف الخطاب تجعل كلمة المؤامرة ومشتقاتها: التخطيط والتدبير السري والمعلن والمكر والخداع والتربص، والكيل المزدوج، حاضرة في سياق بعينه، سياق يمكنه قبول وارتضاء هذه المقولة وتدشينها وتسويغها وترديدها واستحضارها.
والكلمة تحضر مرتبطة بالعناصر المشار إليها سلفًا نفسها: الغرب، العرب والمسلمون، والقوى الفكرية (المادية والإلحادية إلخ)، والإرهابيون، والكيان الصهيوني. يقول فضيلته:” إن ما نعانيه اليوم إن هو إلا مؤامرة من مؤامرات الأعداء على الشرق العربي، لصالح الكيان الصهيوني ومصالحه، وبقائه الدولة الأقوى والأغنى في المنطقة… والشيء نفسه يقال على سوريا، وعلى اليمن، وعلى ليبيا، حيث تلعب المؤامرة على التوتر المذهبي، والعرقي، والطائفي، مع إمداد المتوترين بالسلاح لتندلع الحرائق…”([16]). ويقول في موضع آخر: “تعلمون أننا نواجه مخططات دولية كبرى تستهدف العرب والمسلمين، وتريد أن تصوغهم صياغة أخرى، وتشتتهم في بلادهم بما يتفق وأحلام المستعمر الجديد المتحالف مع الصهيونية العالمية يدًا بيد وكتفًا بكتف.. وتعلمون – أيضًا- أن الوسيلة الوحيدة التي يستخدمها هذا الاستعمار الجديد الآن، هي الوسيلة ذاتها التي كان يستخدمها هذا الاستعمار في القرن الماضي، وهي مقولته القاتلة: “فرق تسد” والتي تلعب هذه المرة على بؤر التوتر والخلاف الطائفي والمذهبي…”([17]).
ويمكننا في إيجاز أن نشير إلى ثلاث قوى أساسية يتكرر حضورها في خطاب الإمام، كمكونات ثلاث لسردية المؤامرة التي يصوغها ويحكي حوادثها القديمة والحديثة:
• الغرب الاستعماري: يدرك الإمام خطورة تديين الغرب، على الرغم من تلميحه إلى انحياز الدول الكبرى في أوقات الأزمات إلى الديانتين المسيحية واليهودية على وجه الخصوص، مع إهمال الإسلام والعداء له. ويصوغ مفهومه للغرب من دون تحديد للحدود الجغرافية، بل هو مجموع الدول الغربية القوية التي تتحكم في زمام العالم، الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، التي تمثل الاستعمار الجديد بتعبيره. هذا الغرب الاستعماري يقود الحروب ويشعلها على حساب فقراء المسلمين ودمائهم. ولكنه لا يغفل التمييز بين القادة الطغاة والمحكومين في الدول الغربية. ويصف الغرب بصفات ناكر الجميل، والمتجبر والمتغطرس، والظالم، وغيرها من الصفات المقيتة.
• الاستشراق والقوى الفكرية الملحدة: حيث يرى أن غالبية الدراسات الإسلامية التي تأتي من جامعات غربية تستهدف الإسلام وتجور عليه، يصور الإمام هذه الدراسات بلغة حربية تؤكد اعتداءها وعدم إنصافها في تناول الإسلام وقضاياه. في الآن ذاته، يوضح أن هناك قوى تتبنى المذاهب الفلسفية الإلحادية التي تسعى لتفتيت قوة المجتمعات الإسلامية. ويخصص لغرض الدفاع كتابًا مستقلًا يحاجج فيه أحد ممثلي التجديد وهو المفكر حسن حنفي، مشيرًا في مقدمة الكتاب إلى ما شهدته الفترة الناصرية من ترويج للمذاهب الماركسية والمادية([18]).
• الإرهابيون: وهم يمثلون الضلع الثالث المهدد لوحدة الأمة الإسلامية، عبر ما يقدمه منظروها من فتاوى أو ما يقوم به أعضاء التنظيمات من أعمال سفك الدماء، مشيرًا فضيلته إلى أن الغرب هو صانع هذه القوى وأساس وجودها.
1- البعد السيميائي للمؤامرة
يحرص الإمام على استعمال الحجج التي يؤكد بها نكران الحضارة الغربية للحضارة الإسلامية، ويستدل بعلامات على التخطيط التآمري الملحوظ في الراهن. وتتمثل هذه العلامات بصورة عامة بـ: أولًا: التغافل عن التعامل المنصف مع الحضارة الإسلامية رغم جديتها في التعامل مع غيرها من الديانات والملل الأخرى. حيث يبين الإمام أن كتابات المستشرقين الغربيين كانت ولا تزال لا تقدم صورة منصفة للإسلام. وإن كان الإمام يشير في إنصاف إلى محاولات بعض ما يسميهم بلغته الأنيقة “حكماء الغرب”، ممن يقدرون تلك الصورة الموضوعية. ثانيًا: إصرار الإعلام الغربي على تشويه صورة الإسلام والتغافل عن أعمال العنف التي يمارسها أفراد متدينون بديانات أخرى. ويشير الإمام إلى مواقف عديدة ارتكب فيها أفراد من الديانة المسيحية على وجه الخصوص، ولا يتناولها الإعلام بالحديث عن تطرف أديان أصحابها مثلما يفعل مع الحوادث التي يرتكبها مسلمون. وثالث العلامات ممارسة الغرب ومؤسساته لمساعي التبشير، وهو ما يجعل الإمام متشككًا من محاولات الحوار. هذه العلامات الثلاث دليل سوء النية والتخطيط المسبق المعكر للتقارب([19]).
يبرز الإمام هذا البعد العلاماتي ليستدل به على طوابع المؤامرة. ولعل أبرز الأمثلة في هذا الصدد ما يشير إليه من استبدال دلالي، يذكرنا بالمصطلح الذي صاغه الروائي الإنجليزي جورج أورويل صاحب رواية 1984، وهو المعنى المزدوج، حيث تعني الكلمة نقيض معناها ومن ذلك قوله عن سياسة قلب المعاني: “فالمقاومة إرهاب، والتدمير والإبادة حق مشروع، وسحق الحضارات تنوير، والتمسك بالدين أصولية وظلامية، وتدمير الأخلاق والشذوذ حرية وحق من حقوق الإنسان، والبذاءة حرية في الرأي”([20]).
جدير بالذكر أن آلية الكشف عن العلامات لها وسيلة بلاغية تساعدها، وهي آلية السؤال. والسؤال مركزي في خطاب الإمام، ولكنه السؤال الذي لا يسعى لإجابة، ومن ذلك قوله بالتشكيك في مؤتمرات حوار الأديان، بالتنبيه إلى احتمالية أن تكون أداة من أدوات التبشير: “ولست أدري كيف يمكن للمؤسسات الدينية للغرب أن تدير حوارًا مع المسلمين قبل أن تحدد موقفها تحديدًا حاسمًا من هذا الخطاب العدائي المعلن رسميًا في مجتمعاتهم؟!، اللهم إلا إذا كان هذا الحوار أداة تبشير جديد بهدف المزيد من السيطرة على بلاد المسلمين واستغلال ثرواتهم!!”([21]).
1- تكوين الهوية: نحن في مقابل هم
وتبدو هذه الصيغة واضحة في خطاب الإمام، نجدها أوضح في عديد من كلماته وبخاصة إذا تعلق الأمر بالحديث عن الغرب يقول الإمام في كلمة من كلماته في الاحتفال بالمولد النبوي: “وهو [أي القرآن] الذي يقيها الآن [الحضارة الإسلامية] ضربات الانتقام التي توجهها إليها اليوم حضارات أخرى معاصرة، أدارت ظهورها لهدى الأديان، واتخذت من صراع الحضارات وصداماتها المسلحة مذهبًا وفلسفة وعقيدة، وقد أعلن شاعرهم القديم جوزيف كيبلنج … “الشرق شرق والغرب غرب، وأبدًا لن يلتقيا”، وقد سرت مقولته هذه في سياسات الغرب مسرى المبدأ والقاعدة في تكييف علاقة الغرب بالشرق، بل عبرت منذ أكثر من قرن عن أخص وصف للثقافة الغربية الرافضة للشرق الإسلامي، والمناهضة لحضارته وتراثه في القرن الماضي وما قبله أيضًا”([22]). والشاعر المقصود هنا هو روديارد كيبلنج، وليس جوزيف كيبلينج، والقصيدة منشورة في 1892، وليس 1890، والغاية منها هي إمكانية الالتقاء رغم الاختلاف بين الشرق والغرب. يجدر الإشارة إلى أن الشاعر هندي المولد والشرق المقصود فيها الشرق الآسيوي، وليس الشرق الإسلامي بحسب وصف الإمام الأكبر. وقد عدل الإمام خطأه في موضع آخر([23]).
والواقع أن الإمام يقلل كثيرًا من استعمال ضمير المتكلم “أنا”، وكثيرًا ما يستعين بالضمير “نحن”، ربما لأسباب تتعلق بكونه ممثلًا لمؤسسة الأزهر، فنحن تعني علماء الأزهر، أو بوصفه ممثلًا للمسلمين كافة، فخطابه يمثلهم ويعبر عنهم. ولكنه حال استعماله للغة السرد الداخلي الذاتية، مستعينًا بضمير المتكلم “أنا” في خطاب أشبه بالسيرة الذاتية، مستدعيًا ذكرياته القديمة، فإنه يفعل ذلك أيضًا لا ليحكي شيئًا شخصيًا، بل ليسرد مأساة مؤسسته. ولعل اللجوء للسرد الذاتي بما فيه من طابع عاطفي وتقرب من القارئ، هو محاولة للاقتراب من القراء الذين يتماهون مع السرد الذاتي. ليس هذا فحسب بل إن هذا الاستدعاء يتم للحظة زمنية محددة وهي لحظة الشباب، في محاولة ضمنية لمخاطبة شبان المؤسسة الدينية من ناحية والشباب في عمومه من ناحية أخرى. والسرد هنا يعول على تلك الفترة المفعمة بمشاهد دموية عديدة، وهي الفترة الناصرية. الوصف هنا يستعيض عن وصف سقوط الدماء بلغة قتالية تصف دخول الأفكار الجديدة وصفًا لا يغفل الطابع السجالي والقتالي.
إن استعمال الضمير نحن يصاحبه عن قصد استعمال التنكير، في محاولة للتأكيد على يقين المعرفة بما لا يمكن من التشكيك أو التعريض بالأفكار المعروضة، ومن أمثلة ذلك حول خطة غربية تتقصد المسلمين والعرب:”إنها حرب غامضة تشن على عدو غامض، ولا يعرف متى ولا أين تتوقف رحاها، وقد ضاعف من هذه الفوضى ما تقوم به المراكز الأمريكية – الخاصة بالأبحاث والتطوير- من إعداد “خطة استراتيجية محكمة لتعديل الأوضاع الاجتماعية للمواطن العربي” ومحاولة خلق بيئة عربية جديدة تتوافق كليًا مع المصالح الأمريكية، ولا تشكل عقبة أو تهديدًا لهيمنة الكيان الصهيوني وأهدافه الاستعمارية”([24]). فلا يُعرَّف بهذه المراكز ولا توجد إحالة في الهامش أو في المتن إلى تلك الإستراتيجية، حتى يتمكن المتلقي من العودة إليها، وكأنها معروفة سلفًا.
وبقدر ما يحرص الخطاب على تمييز الذات بصفات البراءة واليقين المعرفي والتفخيم، يبدو الآخر المغاير في صورة الدخيل، في وضعية منكورة، غريب لا يجب أن يكون جزءًا من الجسد الاجتماعي. لعل هذا ما يجعل الخطاب يلجأ في مواضع ظهور الآخر إلى تكثير الجمل الاعتراضية القطعية، والاستبعاد المسبق، يقول الإمام متحدثًا عن العنف الموجه من الدولة للمعتقلين السياسيين: “فإن الجماعات الإسلامية لم تكن وحدها التي صدمها [كذا] هذا اللون من العنف والأذى البدني والنفسي، بل صُدم به كثيرون ممن ينتمون إلى مذاهب سياسية إلحادية نذرت نفسها لنشر الشيوعية والإلحاد والتبشير بتيارات سياسية لا تعرفها بلاد المسلمين وتنكرها أشد الإنكار، ومع ذلك لم يتحولوا – في غالبهم- إلى جماعات مسلحة تفرض رأيها بقوة السلاح”([25]). فاللغة في حالة وصف الإسلاميين لا تسهب، لكنها في حال ورود المغاير تتضاعف جملها الاعتراضية وتمتد.
محاولة للتفسير: المؤسسة ووجودها
إن الموقع الذي يحتله الفاعل داخل بنية من البنى العامة، لا يستطيع هذا الفاعل أن يراوغه فهو محكوم به وبمقتضياته، تقيده حدوده، وتحدد له مساراته، بل ويحقق فاعليته بحسب مراده، أن يكون التحقق بتأكيد الموقع أو العمل على نقضه والهروب منه ومراوغته، أو أن يقف في وضعية سائلة بين الموقفين. قد يكون الفاعل هنا فردًا أو يكون جماعة من الناس، أو يكون غير ذلك من العناصر القادرة على الفاعلية وإثبات كينونتها. والموقع لا يتحدد رسوخه أو تحوله إلا بالتغييرات التي تلحق بغيره من المواقع وبطبيعة الحقول التي يشغل فيه موضعه. كما أن طبيعته ذاتها وماهيته ليس طبيعية فيزيائية، ولا ميتافيزيقية، لكنها تجسد موضوعي، له أبعاده الرمزية والموضوعية.
وبناء على ما سبق، يمكن القول إن الحقل الديني في مصر، مقيد بحدود محددة مؤخرًا تشكلت مع الزمن. ففي ما مضى كان الأزهر هو المؤسسة الأم التي تنطلق منها الفاعلية الدينية وهي المرجع. وفي ظل مقتضيات الأحوال، ومحاولات التجاوب مع المستجدات والتغيرات، حدث تحول كبير ليس فقط في ما يتصل بالأزهر بل بموقعه أيضًا. فقد الأزهر كثيرًا من وظائفه التي تؤمن الوظيفة الأساس وهي حراسة الدين، فخرج من بين يديه عديد من الأدوار. كان الأزهر هو المرجع للأفراد والجماعات يلجؤون إلى مشايخه طلبًا للنجدة لظلم وقع أو شكوى، فتراجعت هذه الوظيفة بخروج مؤسسات بديلة يلجأ لها الأفراد طلبًا للنجدة والشكوى. وكان هو مصدر الفتوى الأساس، فأصبحت هناك دار للإفتاء تابعة للدولة تبعية مطلقة، ومشايخ لديهم قنوات التواصل التي وظفوها لبث آرائهم وأفكارهم وفتاويهم. كما كان هو المصدر الأول للتعليم، فاستُحدث التعليم المدني الذي امتد من التعليم الأساسي إلى التعليم الجامعي. كما كان هو المتحكم في المحاكم الشرعية، فألغيت الأخيرة، وأصبح الاحتكام للمحاكم المدنية.
والحال كذلك فإن الأزهر قد حدد لنفسه في خريطة المواقع المحددة داخل الحقل الديني، موقعًا أسماه ” الوسطية”. وهو موقع له تجلياته المتعددة. فمن ناحية سياسية، لا يبتعد عن السلطة بل هو جزء منها ومعبر عن رؤاها، وفي الآن نفسه مستقل عنها، الأمر ذاته ينطبق على علاقته بالجماهير، فهو جزء منها ويدور معها، لكنه في الوقت نفسه ينفصل عنها في بعض قضاياها، مؤثرًا وضعية التوجيه والإرشاد، لا الانخراط الكامل. والأزهر يتخذ وضعية مزدوجة كذلك تجاه السياسة، فهو من ناحية لديه مواقف واضحة في السياسة العالمية، ولكنه يقف مكتوف الأيدي أمام القضايا السياسية الملحة في الشأن المحلي. ويمكن التدليل على ذلك من موقف الإمام من معنى السياسة. ففي مؤتمر صحفي سئل الإمام عن الموقف السياسي للأزهر من القضايا المحلية، فأبدى تحفظًا من اتخاذ الأزهر موقفًا سياسيًا، وبحسب ما ورد في أحد التقارير الصحفية، كان رد الإمام كالآتي: “إن الأزهر منذ تأسيسه لا يتدخل في السياسة بل يتمثل دوره في نشر الفكر المستنير البعيد عن التطرف الديني والسياسي” ثم أردف فضيلته “الأزهر يجمع ولا يفرق على النقيض من السياسة التي تعمل على التفريق والتشتت”. ثم حين سئل عن ضرورة أن يكون للأزهر دور سياسي معلن عن الوضع في سوريا من خلال شجب التدخلات الإيرانية هناك، فأجاب فضيلته بأن الأزهر دان التدخل الإيراني([26]).
وعلى مستوى الخارطة الدينية، فإن الأزهر مؤسسة رسمية ملتزمة لا تحيد أنملة عن التقيد بالأصول، لكن هذا لا يبعدها عن المؤسسات غير الرسمية في تبنيها لبعض قضاياها والزود عنها، خاصة إذا جاء التحالف على أرضية الدفاع عن القيم المحافظة أو الوقوف خلف ثنائية الإيمان في مقابل الإلحاد، أو الحرية في مقابل الفوضى([27]). فهي ليست في وضعية مؤسسة دينية رسمية كاملة التبعية، ولا هي مؤسسة غير رسمية راديكالية في طروحاتها، وأدواتها في التعبير.
أنثروبولوجيًا، الأزهر مؤسسة تتحرك في هذه الوضعية البينية، ما بين التراث والمعاصرة، وفي داخله توجد أصوات ترجح التجديد، ولكنها على الهامش، وأصوات أخرى تؤيد الاستقرار، وتؤبد الماضي، ولكن في جميع الأحوال فالمنهج هو التجديد في ظل الأصول واحترامها.
وأيديولوجيًا وأنطولوجيًا، يفضل الأزاهرة وضعية الوسط الذهبي، لتدل الوسطية استعاريًا على معنى العدل، بالسعي لخلق التوازن، وباتخاذ وضعية الفقيه/القاضي، فلا يلبث سعي الفاعل الأزهري إلا للعمل على التوفيق بين ثنائيات لا تتفق، والجمع بينها، انطلاقًا من تصور بعينه للإسلام كدين وسطي، يعدل بين التناقضات الكونية: الرجل والمرأة، الإنسان والطبيعة، إلخ. وهو ما يعبر عنه الإمام أحمد الطيب بقوله: “يمكن أن يقال الكثير في وسطية الخطاب القرآني من حيث الاعتقاد والأخلاق والتشريع، والرؤية المتوازنة للثنائيات الكبرى، كعالم الغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والجبر والاختيار، والفكر والمادة، والدين والدولة، والرجل والمرأة، وحرمة الاعتداء مع وجوب الدفاع عن النفس، إلى ثنائيات أخرى يصعب حصرها”([28]).
يمكن القول إن ادعاء المؤامرة، في الماضي وقت الاستعمار القديم، والاستعمار الجديد هو استجابة لتزعزع المكانة غير المعترف به من المؤسسة التقليدية. فقد حدث ما يمكن وصفه بتفكيك المركزية الدينية للمؤسسة الدينية الكبرى. لم يعد هناك مركز ومرجعية يمكن العودة إليها. هذا التفكك كان من محصلاته ادعاء التآمر والزعم بوجود مؤامرة تحول دون استمرار الهيمنة. يبدو الغرب في هذه الصورة هو القوة القادرة متسلحة بالمال والأفكار على القيام بذلك أكان ذلك في الداخل بتمويل المتآمرين، أم في الخارج بالهجوم الرمزي والعملي على الإسلام وممثليه. لا يخلو الخطاب الأزهري لقياداته ورجاله من هذه الدعاوى التي تتطلب تحقيق الوظيفة التي وهب الأزهر نفسه لها، وهي وظيفة تاريخية ممتدة وليست وليدة اللحظة: الحراسة. ويمكن الحديث عن أشكال عديدة من التهديدات التي يراها الإمام ضمنًا مهددة للمركزية الأزهرية:
• تهديد التدخل الدولي بدعوى إصلاح الأزهر.
• تهديد القوى غير الرسمية من الجماعات الإسلامية المتعددة الراديكالية وغير الراديكالية.
• تهديد القوى المدنية الداعية إلى التنوير والحداثة والمناوشة للخطاب الديني الأزهري والمطالبة بإصلاحه.
وهو ما يعني أن هذه المهددات لها أبعاد سياسية ومعرفية /تاريخية واجتماعية. فمن الناحية السياسية يُهدَّد ميزان القوى المؤسس للأزهر كأكبر قوة دينية ممتدة عبر العالم والأقدم تاريخيًا، وعلى المستوى المعرفي/التاريخي يؤسَّس الصراع حول التراث ودوره في الحياة العامة وتأويله وفهمه. وعلى المستوى الاجتماعي تعاد هيكلة المجتمع في ضوء هذه المعطيات، ما بين داع التثوير أو الإصلاح أو الاستقرار.