جدل المجتمع المدني والحريّة في فكر جاد الكريم الجباعي

أوّلًا: مقدمة

إن مفهوم المجتمع المدني من المفهومات التي صيغت وامتُحنت –ولا تزال كذلك- في خِضَم التجربة البشريّة، ومن المحتمل أن ارتباطه بها أحد أسباب تنوّع رؤى الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ في النظر إليه، فالمجتمع المدني، كما يرى الأستاذ الجباعي، ما يتوسّط العلاقة بين الفرد والدولة، في أفق الإنسانية، وهو ما ينتج السياسة، والسلطات المختلفة، كما يشمل النشاط التطوعي الذي تنظمه الجماعة حول مصالح وقيم وأهداف مشتركة، إنه ناشئ عن مؤسسات ومنظمات تعمل على نحو مستقل عن الدولة، بصورة طوعيّة هدفها خدمة المجتمع على الصعد كافّة، ويعمل على تقويم تأثيره في الحياة العامة بصورة منتظمة، ومدى قدرته على إحداث التغيير، عبر نشر الوعي وتنمية القدرات في مجال التنمية المستدامة، وبهذا اقتضت طبيعة هذا البحث إلقاء نظرة تاريخيّة على صيرورة تشكُّل وتطور هذا المفهوم.

تنبع أهمية هذا البحث في توضيح مفهوم المجتمع المدني وكيف جرى تناوله فلسفيًا وسياسيًا وعمليًا عبر التاريخ، وتبيان علاقته مع مفهومات متل الحرية والديمقراطيّة، لدى المفكر السوري جاد الكريم الجباعي، ذلك المفكر الموسوعي والذي تسكنه هواجس معرفيّة وعلميّة وفلسفيّة، فقد كان له الدور المهم والمميز في الثقافة العربية، المعاصرة، ناقدًا ومبتكرًا للمفهومات الجديدة، طامحًا إلى الحرية والانعتاق، عبر النظر والعمل.

ثانيًا: ما المجتمع المدني (الإطار التاريخي)؟

يعد مفهوم المجتمع المدني من المفهومات الحديثة، في حقول العلوم الإنسانية والفلسفية وفي الحقوق بخاصّة، نشأ في سيرورة التاريخ السياسي والاجتماعي، يتسم في أحد جوانبه، بالاختلاف و تنوع وجهات النظر، قياسًا على منطق الدولة، المبني على الانسجام والوحدة، وربما نلمس الإرهاصات الأولية لتعيّنه السياسي والقانوني الأول في إعلان حقوق الإنسان والمواطن في عقب الثورة الفرنسيّة، “إذ تحول عمليًّا إلى فكرة المواطنة بمعناها الحديث”[1] وكانت الرؤى الليبرالية من مشجعات بروز فكرة المجتمع المدني، إنه الإطار الأكثر تميزًا الذي يحصل فيه التوتر بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، و يتّكىء على مكوّنات ومميزات اجتماعيّة ومدنية وروحية تُشكل بُنى مجتمع ما، وقد يكون هذا أحد أسباب التعامل مع مبادئ الحكم من وجهة نظر المحكومين، لا من وجهة نظر الحكام، بعد أن كانت الدولة المطلقة تاريخيًّا مهيمنة على أهم حقول الحياة المدنية، وتنبه أعضاء الجماعة الواحدة إلى أهمية انتزاع حقوقهم الطبيعيّة، ومن هنا بدأت تتكوّن البذور النظريّة للخيارات الديمقراطية، التي من المرجح أنها تساهم في التخفيف من سطوة الدولة واستبدادها وتدخلها السياسي بمفاصل الحياة برمّتها، وتتبلور دولة القانون عندما تصبح مهمتها الأساسية، صياغة العلاقات القانونية، وفسح المجال أمام المجتمع ليصبح طليقًا، انسجامًا مع النظرية الليبرالية الكلاسيكية، فالدولة الليبرالية أطلقت العنان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لمجتمع مدني يرنو إلى الحريّة والاستقلالية، انطلاقًا من مقولة (دعه يعمل، دعه يمر) و يرى بعض المفكرين أن الدولة قد تتخلص من عبء المجتمع. ومن الجدير ذكره، أن مفهوم المجتمع المدني، ليس مقولةً علميّةً بريئة من الأيديولوجيا، ومن وجود أهداف عملية سياسية واجتماعيّة، وقد يكون النموذج الذي طمحت إليه الليبراليّة الاقتصادية، والإنسان المدني الذي تخيله جون لوك هو الصورة التاريخية للمستثمر الصغير الذي لا يحتاج إلى غيره في سياق عملية الإنتاج، بقدر ما يحتاج إليه في أثناء التبادل البضاعي، لأن الإنتاج والعمل طبيعيان، بينما التبادل فإنه اجتماعي وثقافي، إنه مختلف الأبنية “السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والقانونية التي تنتظم في إطارها شبكة معقدة من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع، والتي تحدث بصورة دينامية ومستمرة من خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية التي تنشأ عن الدولة”[2]. إنه نمط من التنظيم بين الأفراد، من خلال علاقات في ما بينهم من حيث هم منتجون، لحياتهم المادية وأفكارهم ورموزهم ومقدساتهم، وبهذا المعنى يُطلق اسم مدني على “التنظيمات والبُنى وبالتالي على التضامنات النابعة منها والتي تختص بإنتاج حياة البشر الاقتصادية والأخلاقية والأسرية التي لا تخضع لتنظيم رسمي شامل وعام من قِبل السلطة المركزية”[3]،وهناك من عرفه بأنه مجموعة القوى المنظمة في المجتمع وهي مستقلة عن الدولة، وما يتأتى من تنظيمها، وهو ليس نقيض الدولة، وأنه لا يفصل بين الدولة والمجتمع في فهم العلاقات السياسية، “إن بين المجتمع المدني وبين قواه السياسية العقائدية والدولة علاقة جدلية هي أساس وواقع تنظيمه الشامل ويتضمن المجتمع المدني تجمعات نشأت عن التشكيلات الاقتصادية، كالنقابات والشركات والمؤسسات الاقتصادية، ونجد شكلًا من التنظيم العقائدي كالتنظيمات الدينية…..ونجد فيه أيضًا قوى لها ثقل سياسي في الواقع، الّا أنّها بظاهرها غير سياسية كوسائل الإعلام والمدارس والتنظيمات التربوية”[4]و في هذا السياق من الممكن الإشارة إلى تفسير آلتوسير لرؤية غرامشي للمجتمع المدني عندما عبّر عن الوقائع نظريًّا مشيرًا إلى تعيُّن بعض العناصر في مفهوم الدولة تنتمي إلى المجتمع المدني، وهذا يعني أن الدولة تتألف من مجتمع مدني ومجتمع سياسي، وبهذا المعنى ربما تؤدي رؤية غرامشي إلى وجود إرهاصات داخل نظرية الدولة، يمكن من خلالها استشفاف مآلات نمو الدولة، التي من المرجح أنها سوف تذوب شيئًا فشيئًا في المجتمع المدني، وعندها تتسع أدوار المجتمع المدني بينما تتقلص أدوار المجتمع السياسي، وتختفي أهم عناصر مكونات الدولة، وهي القمع والشدة.

في حين يرى هيغل أن المجتمع المدني عبارة عن مجموعة من المؤسسات التي تلبي حاجات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وتؤدي دورًا في الحكم بين المصالح الشخصيّة وتنظيم العلاقات بين الأفراد مدنيًّا بصورة مستقلة عن الدولة، فالعلاقات الاجتماعية لا تتموضع على نحو مستقر ومتوازن دومًا، بل إنها تأخذ طابع التنافس والتناحر الناجم عن صراع المصالح، ويستند هيغل في منظوره للمجتمع المدني، إلى عناصر ثلاثة: ماهيّة المجتمع المدني، ودوافع تشكيله، ووظيفته اجتماعيًّا، ولقد صف هيغل المجتمع المدني بأنه جزء من الحياة الأخلاقية التي تتألف من ثلاثة عناصر، “الأسرة، المجتمع المدني، الدولة”[5]، وللدولة الدور الأساسي عنده، بعد أن استوعبت المجتمع المدني في داخلها كنفي ديالكتيكي، بوصفه من مراحلها، و تجريدًا من التجريدات التي تُبنى في عينيتها الدولة الحديثة، التي تتضمن مكاسب المجتمع المدني برمّتها، “فالعلاقة بين المجتمع المدني والدولة، ليست مجرد علاقة نفي وإثبات مجردة، وإنما هي علاقة يتحول فيها كل من طرفيها إلى مركب مكوّن للطرف الآخر”[6].

أما ماركس فبالإمكان تكثيف رؤيته للمجتمع المدني، على أنه مجتمع الإنتاج والاقتصاد والطبقات الاجتماعية، إنه الواقع المتعيّن، وإن تدخُّل الدولة في هذا المجتمع وسيطرتها عليه، يُعدُّ استلابًا سياسيًّا لفاعليته، إذ انطلق ماركس من الأساس المادي لمفهوم المجتمع المدني، الذي يتضمن المعنى الاقتصادي والسياسي، وأهم سمات المجتمع المدني استقلاله عن الدولة، وإلّا أصبح جزءًا من مكوناتها وبهذا يفقد صفته المدنيّة، ولقد نُظر إلى المجتمع المدني على أنه ذلك المجتمع المتحضّر، على النقيض من المجتمع المتوحش أو الهمجي.

خلاصة القول، إن هذا المفهوم على درجة عالية من التعقيد، وإنه يتحدد من خلال رؤى متعددة، ومتباينة، منها ما هو سلبي، مقابل ما هو ديني، وكثيرًا ما تُستخدم لفظتا الديني والمدني كلفظتين متقابلتين، مثل “السلطة المدنية السلطة الدينية، الدولة الدينية، الدولة المدنية”[7]ويتبين أن معنى المدني يتطابق إلى حد كبير مع معنى الدنيوي، وكذلك يتميز المدني عن العسكري، حيث يُقال، السلك العسكري، والسلك المدني، حكومة عسكرية، حكومة مدنيّة، وهناك ضرورة عملية وسياسية في تميز المدني عن الديني والمدني عن العسكري، وهي محاولة الخروج من نظام سلطة محددة مقابل سلطة معينة، فالمجتمع المدني لا يقوم على سلطة محددة، بل يستند إلى مجموعة من المحددات العامة منها:

السوق وهو رمز للإنتاج والتبادل والاستهلاك، يؤدي دورًا في تكوين المجتمع المدني، حيث يكون الأفراد مباشرةً أمام نشاطهم ونتائجه، وفي سياق عملية العرض والطلب، التي تتخذ أشكالًا مختلفة بحسب الظروف التاريخية للمجتمعات، كذلك ظاهرة الجمعية أو المؤسسة أو التنظيم، فالجمعية هي أحد رموز التعاون والاستمرار، حيث يجري تجاوز النشاط الفردي ما يُمهّد لظهور العمل المنظّم المستمر مع الآخرين، من أجل تحقيق أهداف معيّنة في كنف تنظيمات تدافع عن نشاطه، أي نشاط الفرد، ومصالحه، انسجامًا مع مصالح الآخرين وفي اتجاه المجتمع الشامل، ومن الطبيعي ألاّ تقتصر فكرة المجتمع المدني في عصرنا على أفكار آدم سميث ومل وغيرهما، وقد يكون هناك نماذج أخرى مختلفة للمجتمع المدني، مثل نموذج مونتسكيو، وروسو وتوكفيل… ودركهايم وغيرهم، إذ انطلق معظمهم في تحليله لفكرة المجتمع المدني، من قدرة الأفراد على نسج علاقات اجتماعيّة خارج إطار الدولة، ولم تكن لديهم الأولوية للنشاط الاقتصادي، وهناك من يرى أنه ليس من الموضوعية في شيء البحث عن معاني المجتمع المدني في التاريخ، “فإذا كانت المرحلة الحالية تعني توطيد المبادرات الاجتماعية الذاتية، المنظمات غير الحكومية، والتنظيمات النسوية والبيئيّة، وغيرها من المؤسسات اللاّبرلمانية، فإنّ المطالبة بالبرلمانية وحرية التعبير والاجتماع وشمولية حق التصويت هي مرحلة أُخرى لتطور المجتمع المدني، ومن الخطأ البحث عن منظمات غير حكومية في أيّام الثورة الفرنسية مثلًا كأنماط سابقة للمجتمع المدني”[8].

ارتبط هذا المفهوم عربيًّا بالسياسة، لأنه ارتبط بنشاط الأحزاب –التي كانت من عوائق نمو المجتمع المدني في فترة من الفترات – والمثقفين، المُشبعين بالأفكار الحديثة، على الرغم من وجود بعض هيئات المجتمع المدني على شكل جمعيات ونواد أهليّة ومهنيّة وثقافيّة، يتميّز المجتمع المدني عن المجتمع السياسي، والمجتمع الأهلي، وهذا لا ينفي وجود قطاعات مشتركة ناتجة من تفاعل هذه المجتمعات الثلاثة، فالمجتمع السياسي يقوم على سلسلة من العلاقات المنظّمة، بين الحاكم والمحكومين، في إطار دولة معيّنة، إنه نظام قانوني تُنظّم فيه العلاقات بين الأفراد، ضمن ثنائيّة الحقوق والواجبات، كما يتحدد المجتمع الأهلي، ضمن سياق العلاقات القرابيّة، على اختلاف تدرجاته، بينما المجتمع المدني، فإنّه مجتمع مرتبط ، بنشوئه وتكوينه وتطوّره، بظاهرة المدنيّة بمعناها الوضعي العام، ويقوم على شبكة من العلاقات الاقتصادية الاجتماعية، والثقافية، الناجمة عن النشاط والمبادرات الفردية في تنظيمات تاريخية معيّنة مؤطرة لها، فالمجتمع المدني هو مجمل التنظيمات غير الحكومية، التي تنشأ من أجل خدمة المصالح المشتركة لأعضائها ، وينطوي على الجمعيات والتنظيمات التطوعيّة، ويمكن إجمال وظائف المجتمع المدني بالنسبة إلى الأفراد في تلبية الحاجة إلى الانتماء، وتنمية المهارات والقدرات، والحماية من استبداد الدولة في إساءة استخدام السلطات، وتدريب الأفراد على ممارسة حقوق المواطنة المدنية والسياسية، وتمثُّل قيمها.

وإن هذا الموضوع من الموضوعات الضرورية، والمرتبطة بالجدل في الفكر العربي، وفي الفكر السياسي، وتطلعات الشرائح من المجتمع العربي، وهو تعبير عن حاجات تاريخية وسياسية وثقافية، والتغيُّرات التي حملتها “انفجارات2011، في معظم المجتمعات العربية، تنطوي على مظاهر الوعي الجديد بالمواطنة، وفي شعارات مواجهة الاستبداد والفساد، إعلانٌ مُفصحٌ عن ميلاد المنزع الفردي في مجتمعاتنا، ومحاولة تروم إلى تمثُّل القيم الحديثة الموصولة به، وعلى رأسها قيم المواطنة”[9].

ثالثًا: العلاقة الجدليّة بين الحرية والمجتمع المدني

من المنطقي، عند البحث في هذه العلاقة ودراستها، الانطلاق من بدهيّة، وهي أن التاريخ صناعة بشريّة بامتياز، إنه من صنع البشر، والبشرية لا تكلف نفسها مهمات تعجز عن تحقيقها، والحرية بنت التاريخ ونتاج التقدم، الذي هو قدرة الإنسان على الارتقاء بجوهره، وبالطبيعة وتسخيرها لخدمته، فالتقدم يفضي إلى الحرية، وحرية الإنسان قادرة على الإبداع، والإرهاصات الأولى للمجتمع المدني، وُجدت في أواسط القرن السابع عشر، والمجتمعات البشرية من صنع البشر، والتاريخ ما هو إلاّ “تاريخ للبشر وبالبشر”[10] فهو إما تاريخ بشري مقنع، أو خاضع لمنطق آخر، منطق الملاحظة “الطبيعيّات أو الكشف، (الغيبيات) هذه الفكرة تبناها كل من ديلتاي الألماني، وكروتشه الإيطالي، ومارو الفرنسي، الكون في تقادم والمعرفة في تقدم”[11]وينتج أيضًا أن السلطات السياسيّة من أصل مجتمعي دنيوي، فالمجتمعات البشريّة تتشكل تاريخيًّا بفعل إرادة البشر وطموحاتهم، وليس من خلال أي إرادة خارجيّة، وهي “ليست حالة طبيعيّة ولا تجليًّا لروح كونية، مفارقة أو لاهوتية، إن الاجتماع البشري هو ابن التاريخ، واجتماع الحيوان ابن الطبيعة”[12]، ولقد بُني هذا التميّز استنادًا إلى بدهيّة أرسطيّة، وهي أن الإنسان يتميز عن سائر الكائنات الأُخرى بامتلاكه العقل، والوعي والإرادة، ويسعى إلى السيطرة على الطبيعة عبر فهم قوانينها، يسعى إلى إنتاج ذاته في العالم والتاريخ، إن رؤية الأستاذ المفكر الجباعي هذه، على تضاد مع الرؤية الطبيعيّة من جهة، والرؤية اللاهوتية من جهةٍ ثانية، اللتين تلتقيان في نفي إرادة البشر وحريّتهم، الأمر الذي يدعو إلى الاستنتاج “أن فكرة المجتمع المدني مؤسسة على فكرة الحرية، وفي معارضة الحتمية الطبيعية والقدرية اللاهوتية على السواء وفكرة الدنيويّة (العلمانية) تُقيم فكرة المجتمع والدولة على فكرة العقل، وفكرة التاريخ بوصفه حركة انبثاق الأشياء والظاهرات، من القوة (الإمكان) إلى الفعل (الواقع)….”[13]، ومنذ ذلك التاريخ ارتبطت فكرة المجتمع المدني بفكرة الدولة الدنيوية، العلمانيّة، والتي هي من صنع الإنسان، مثلها مثل المجتمع، وإذا أردنا أن نبحث عن الجذور الأساسية لبزوغ فكرة المجتمع المدني، لا بد من العودة إلى تلك البدايات حيث كان المجتمع المدني على تضاد مع المجتمع (الطبيعي) والآخر (اللاهوتي) في الوقت ذاته، وعندما تقوم كما يرى الأستاذ الجباعي “دعوة المجتمع المدني في معارضته المجتمع التقليدي أو ما يسميه بعضهم المجتمع الأهلي، وفي معارضته الشمولية (التوتاليتارية) والاستبداد”[14]، كما أشار إلى مسألة التزامن بين فكرة المجتمع المدني والدولة المدنية العلمانية في الغرب، والدعوة إلى الملكية المطلقة التي نادى بها مؤسسون تركوا أثرًا في الفكر السياسي العالمي متل: هوبز وبودان وبوسويه وغيرهم، عبر النظر إلى المسألة في سياق الانتقال من العصور الوسطى الإقطاعية إلى العصر الحديث، والخروج من الانحطاط إلى النهضة، فإذا كانت المسألة السياسية تتعلق بمصدر السلطة، ومصدر الشرعية والسيادة، ففكرة المجتمع المدني والدولة العلمانية، وهما وجهان لعملة واحدة، أو مدخلان نظريان وواقعيان، تاريخيان يفضي كل منهما إلى الآخر بالضرورة، هي فكرة مرتبطة بفكرة النهضة التي قامت على مبدأ الإنسان بصفته معيارًا للقيم جميعها، إن عملية الانتقال تلك كانت انتقالًا من التشظي إلى الوحدة، مع الدول الكبرى، فرنسا إسبانيا إنكلترا، وبهذا تغدو فكرة المجتمع المدني معادلًا واقعيًّا لفكرة الأمة الحديثة، وتعبيرًا مكثفًا عن الحاجة إلى المركزة والتوحيد، إنها نقيض التفتت الإقطاعي ولكنها لا تعني الاستبداد والطغيان، إنها إطلاقية بسبب أزمات اقتصادية وسياسية ودينية، مهدت لتغييرات في الحياة الأوروبية، والرأسمالية التي هيمنت في القرن السابع عشر، وأدت إلى الرأسمالية الصناعية الحديثة، حيث التقت مصالح التجار الكبار مع مصالح الدولة الطامحة إلى المركزية، وبسط سيطرتها على سكان إقليمها.

شهد القرن السابع عشر ثورات علمية استنادًا إلى رؤى فلسفية جديدة، على يد فرانسيس بيكون وكبلر وغاليليه وديكات وباسكال ونيوتن وغيرهم وفي هذا السياق، أُسست الجمعيات العلمية والأكاديمية، وحدثت المراسلات بين العلماء من بلد إلى آخر بالتزامن مع انبثاق رؤى حقوقية، مستمدة من قانون الحق الطبيعي، كما تضافر تحرير العلم والسياسة من اللاهوت مع تحرير الإنسان، أي تحرير المجتمع والدولة، من هيمنة الكنيسة، صاحبة السيادة المطلقة على الأرض والسماء، وكان الإصلاح الديني مقدمة لتحرير الدولة من براثن الدين، وبفضل ذلك الإصلاح عززت الكنائس الوطنية مبدأ الدولة الوطنية/ القومية، وبهذا تموضع الدين في المجتمع المدني تحت مظلة الدولة القومية، “عاد الدين إلى طبيعته الأولى، دينًا للبشر، ومبدأ للمعرفة، معرفة الخير والشر، والخير هو ما ينفع البشر ويفيدهم ويُصلح شؤون دنياهم، ويفتح أمامهم سبل السعادة، ومبدأ للعمل والكسب الحلال ومبدأ الجهاد النفسي، تحت أسماء شتى”[15]وربما يكون من المهم الإشارة إلى أن الإرهاصات الأولية للرؤى النهضوية قد نشأت من التعارضات المتعددة بين الحرية والنظام، والحرية والحرية والقانون، والعشوائية والانتظام، فقد ذهب هوبز إلى أن الدولة وعلمانيتها تنشآن من المجتمع المدني بالتوافق والتعاقد، وهذا يؤكد أن الدولة صناعة بشرية، صانعها هو المجتمع المدني، وهذا ما يمكن تقصيه في مخطوطات 1844 لماركس، إذ رأى أن المجتمع المدني إنسانٌ مموضعٌ، والدولة شكله السياسي وتحديده الذاتي، مادة هذا الإنسان الصنعي وصانعه هما الإنسان ذاته، فالإنسان الفرد الطبيعي الواقعي هو أساس الدولة، وقد جرى الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية، بوساطة (العقد الاجتماعي)، أي من المشاعية إلى الإقطاعية إلى المجتمع الحديث، انتقال من الحالة الذئبية عندما كان الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان، إلى الحالة الإنسانية، حيث التعاون والطموح لصناعة حياة مشتركة عمادها المحبة.

ويشير الأستاذ الجباعي إلى وجود علاقة ضرورية بين المساواة والحرية، “حرية الفرد وحقوق الإنسان بوصفهما مقدمتين ضروريتين للمجتمع المدني، وهما مشروطتان بالمساواة…”[16] فالمساوة والحرية شرطان لإمكان المجتمع المدني، وشرطان لإمكان المواطنة المتساوية وشرطان لإمكان العدالة، وهذه مجتمعة شروط لازمة لتحول ديمقراطي جذري إلى جانب شروط أُخرى لعل أهمها ما سماه ماركس الانعتاق السياسي، أي إلغاء الملكية الخاصة والدين سياسيًّا فقط، لأن مفهوم الحرية عند ماركس، يكاد يكون مرادفًا لمفهوم الإنسان، الإنسان الصرف غير المقيّد بالملكيّة والتقاليد والأعراف، إن ذلك الإنسان هو مضمون وضامن حرية الفرد، وعندما يحوز الإنسان العلوم الموضوعيّة، ويتحكم في الطبيعة، وبالقضاء على الملكيّة الخاصّة يتحرر من تحكم الاستلابين، المادي والمعنوي وبامتلاك العلوم يتحرر من تحكم قوى الطبيعة “وعلى أنقاض المجتمع القديم البرجوازي بطبقاته وتناقضاته الطبقيّة يبرز مجتمع جديد تكون حريّة التطور والتقدم لكل عضو فيه شرطًا لحرية التطور والتقدم لجميع الأعضاء…”[17] ولا تتمثل الحرية بالاستقلال الوهمي عن قوانين الطبيعة، بل بمعرفة هذه القوانين وتسخيرها لأهداف بشرية، لأن الضرورة تتحكم في الطبيعة وحياتنا العضوية والنفسية فضلًا عن الاجتماعية، وتتجلى الحرية في السيطرة على أنفسنا وعلى العالم الخارجي، لأنه لا يمكن الفصل بين قوانين الطبيعة الخارجيّة والقوانين التي تنظم الوجود البدني والروحي للإنسان، إلا في تصوراتنا، وليس في الواقع، ومن ثم فإن حرية الإرادة ما هي إلا القدرة على اتخاذ القرار المؤسس على معرفتنا بأنفسنا ومعرفة ضرورات الطبيعة، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا في وجود مجتمع منظم لأن النظام هو أحد ثمرات تطور المجتمع، في سيرورة إنتاجه لقوانينه الخاصة وحياته السياسية ووجوده الاجتماعي، ومما لا شك فيه أن أوائل البشر الذين انفصلوا عن مملكة الحيوان كانوا غير أحرار في كل ما هو جوهري مثل الحيوانات نفسها، لكن كل خطوة إلى الأمام على طريق التمدن كانت خطوة نحو الحرية، و حيازة الإنسان لحقوقه ضمن إطار القانون الذي هو الضمانة الأساسية للمساوة السياسية المضادة لواقع عدم المساواة الاجتماعية، التي هي أبرز سمات المجتمع المدني القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والمؤدية إلى اغتراب الإنسان، وهي ما تجعل منه مجتمعا عبوديًّا من طراز جديد، هنا تبدو العلاقة الضرورية بين الديمقراطية والحرية، أي تطابق النظام العام مع الحرية، ويصبح القانون هو المعبر الأساسي عن جوهر الإنسان، بعد أن يكون قد استعاد ذاته الضائعة، عبر سعيه المستمر في اكتشاف قوانين الطبيعة “إن مشاركة الإنسان في الوجود هي مشاركة خلاقة، عند استقلاله عن الطبيعة، وهذا الاستقلال هو المؤسس للحرية المدنية والمسؤولية الاجتماعية والقانونية والأخلاقية….”[18].

هل يكفي استقلال الإنسان عن الطبيعة كي يصبح حرًّا؟ إنه وبفضل ابتكاراته الكثيرة أصبح مُستلبًا لما صنعه بيديه، على الرغم من أنه يسعى دومًا لاكتشاف أسرار الطبيعة وقوانينها، وإنه بقدر ما يكتشف من أسرار تتسع مساحة حريته أكثر وتضيق مساحة عبوديته، لكنه من جهة ثانية سرعان ما يقع ضحية لما صنعه، ويقع في شباك اغتراب جديد لا بد من التخلص منه.

رابعًا: جدل المجتمع المدني والديمقراطية

من الصعوبة وضع تعريف جامع مانع حتمي للديمقراطية، لأنها ليست من المفهومات العلمية الطبيعيّة، إذا افترضنا أن للمفهومات العلمية تعريفًا محددًا ونهائيًّا، إنها مفهوم ينتمي إلى العلوم الإنسانية المتغيرة دومًا مع تطور مناهج البحث، وهي مفهوم سياسي نشأ مؤخرًا في تاريخ البشرية، بالتزامن مع وجود بذور فلسفية وعلمية، تسعى لإقامة قطيعة مع الفكر الأسطوري عبر نقده والانطلاق في تفسير العالم مما هو أرضي لأن أسباب وجود الكون في الكون نفسه وليس في عالم آخر، وهكذا اقترن مفهوم الديمقراطية بمفهوم السياسة والدولة وإشكاليات بنائها وتنظيمها، وبهذا فهي مفهوم مدني، ومن المرجح أن أول تجسيد لها في المدن اليونانية، ولا يمكن تجاهل العلاقة العضوية بينها وبين مفهومات مثل: العقلانية، والتقدم، والسياسة، والعلم…، لأنها لا يمكن أن تنمو إلا عندما يكون للعقل حضوره اللافت والفاعل “مملكة الديمقراطية هي مملكة العقل والعقلانية”[19] وينتج من هذا الرباط بين العقل والديمقراطية، أن هناك اتجاهات متباينة ومتناقضة، بحسب الزمان والمكان، لأن البشر متباينون في رؤاهم وأيديولوجياتهم، كما تنطوي الديمقراطية بوصفها أحد أشكال ممارسة الحرية التي هي أهم سمات العقل، على إشكاليّات تنبع من ماهيتها بوصفها وعي الضرورة.

صفوة القول، إن العلاقة بين الديمقراطية ومفهوم الإنسان، علاقة وثيقة ودينامية، والديمقراطية لا يمكن أن تتبلور إلا بوجود الإنسان، حامل القيم والماهيات ومبتكرها، وهو الكائن الوحيد الذي يطمح إلى فهم قوانين الطبيعة وأنسنتها، وإنه كلما اكتشف قانونًا من قوانينها، فإنه يوسع مساحة حريته، إنه الصانع والمصنوع، إنسان الحضارة والثقافة والتمدن، وتتشكل ماهيته في التاريخ، وبهذا يتحدد مفهوم الديمقراطية من خلال مشاركة الناس مشاركة فعّالة وحرة في صنع حاضرهم ومستقبلهم، لأن المستقبل ليس ما سيكون وإنما ما يجب صناعته بإرادة البشر، عبر بناء أنماط حياتهم، والسعي لتحقيق أحلامهم التي لا حدود لها، وبناء أنظمة حكمهم، من خلال العلاقات المعقدة و الغنية في ما بينهم، إنهم يرتبون العالم ويبنون الحضارات، ولا يطرحون على أنفسهم مهمات لا يستطيعون إنجازها، كما رأى ماركس، وبهذا فإن مفهوم الديمقراطية ينشأ ويتعزز ويتطور في سياق شروط تاريخية، واجتماعية اقتصادية ملائمة، تكسبه مضامين متجددة دومًا، تجعله مفهومًا غنيًّا، بممكنات التطور وقابلًا للانفتاح، إضافة إلى “التمدّن وتطور الممارسة السياسية مع تطوّر مؤسسة الدولة بوصفها نتاج الصراعات الاجتماعية وجدليّة التقدم التاريخي، التي كانت تدفع إلى رفض استئثار الأقليّة بالحكم، فالديمقراطية مرادفة لحكم الأكثريّة ورفض استئثار أي أقلية به والتصرف بمقادير الجماعة”[20].

ونخلص إلى أن الديمقراطية من الشروط الأساسية للتقدم، الذي هو الرافعة الأساسية لتجذرها ونموها، فالصراع التاريخي بين القوى المستبدة والمحافظة والظلامية، إنّما هو صراع بين كتلتين هما الـتأخر والتقدم، وربما كان أحد العوامل الحاسمة، في انتصار قوى التقدم، هو حيازتها وعيًا بالديمقراطية وأسسها، بوصفها نقيض الاستبداد وقوى التخلف بجميع تجسيداته واقعيًّا، ويستدعي مفهوم الديمقراطيّة مفهوم الشعب بأكثريته وأقلياته، على المستوى التاريخي، ويُقر بوجود المعارضة بمشاريعها النظرية والعمليّة، وتغدو الديمقراطية ضرورية في مجتمع العمل والإنتاج والوعي والتقدم والحضارة.

المصادر والمراجع

أ– المصادر:

1- الجباعي. جاد الكريم، المجتمع المدني اليوم، دراسة نقديّة، ط1(مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، 2024).
2- ____، المجتمع المدني، هويّة الاختلاف، ط1 (النايا للدراسات والنشر والتوزيع، 2011).
3- ____، حرية الآخر، نحو رؤية ديمقراطية للمسألة القومية، ط1 (دار حوران للدراسات والترجمة والطباعة والنشر والتوزيع، 1995).

ب- المراجع:

1- بشارة. عزمي، المجتمع المدني، دراسة نقديّة، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998).
2- هنا. غانم، بناء المجتمع، ط4 (منشورات جامعة دمشق، 1993).
3- مان. ميشيل، موسوعة العلوم الاجتماعية (الكويت: مكتبة الفلاح، 1994).
4- نصار. ناصيف، حول مفهوم المجتمع المدني، ط1 (دمشق: أبحاث الأسبوع الثقافي الثاني لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية، 1995).
5- عبد اللطيف. كمال، المواطنة والتربية على قيمها، ط1(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012).
6- العروي. عبد الله، مفهوم التاريخ، ط1 (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1992).
7- ماركس، أنجلس، بيان الحزب الشيوعي (موسكو: دار التقدم، 1986).

1- عزمي بشارة، المجتمع المدني، دراسة نقديّة، ط1(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998)، ص43.
2- حسين علوان البيج، “الديمقراطية وأشكال التعاقب على السلطة”، المستقبل العربي، العدد 236، بيروت (1998)، ص 98.
3- برهان غليون، بناء المجتمع المدني: “دور العوامل الداخلية والخارجية”، المستقبل العربي، العدد 158/4، بيروت (1992)، ص 108.
4- غانم هنا، بناء المجتمع، ط4 (منشورات جامعة دمشق، 1993)، ص 103-104.
5- ميشيل مان، موسوعة العلوم الاجتماعية (الكويت: مكتبة الفلاح، 1994)، ص 113.
6- بشارة، ص46.
7- ناصيف نصار، حول مفهوم المجتمع المدني، ط1 (دمشق: أبحاث الأسبوع الثقافي الثاني لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية، 1995)، ص337.
8- بشارة، ص44.
9- كمال عبداللطيف، المواطنة والتربية على قيمها، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012)، ص8.
10- عبدالله العروي، مفهوم التاريخ، ط1 (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1992)، ص 34.
11- المرجع نفسه، ص 34.
12- جاد الكريم الجباعي، المجتمع المدني، هويّة الاختلاف، ط1 (النايا للدراسات والنشر والتوزيع، 2011)، ص 76.
13- المرجع نفسه، ص 77.
14- المرجع نفسه، ص 77.
15- الجباعي، المجتمع المدني، ص 83.
16- الجباعي، المجتمع المدني، ص 201.
17- ماركس وأنجلس، بيان الحزب الشيوعي (موسكو: دار التقدم، 1968)، ص 67.
18- جاد الكريم الجباعي، المجتمع المدني اليوم، دراسة نقديّة، (مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، 2024)، ص 24.
19- جاد الكريم الجباعي، حرية الآخر، نحو رؤية ديمقراطية للمسألة القومية، ط1 (دار حوران للدراسات والترجمة والطباعة والنشر والتوزيع، 1995)، ص 242.
20- الجباعي، حريّة الآخر، ص 244.

  • كاتب سوري، دكتوراه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة 202، ماجستير في الفلسفة الحديثة (الحرية والتقدم عند ماركس) 2016، إجازة في الفلسفة (1991) كلية الآداب-جامعة دمشق، حائز على جائزة المزرعة للإبداع الثقافي عام 1998، مدرس لمادة الفلسفة، وعضو مشارك في لجان التأليف في وزارة التربية لتغيير المناهج للمرحلة الثانوية في مادة الفلسفة، محاضر في جامعة دمشق-كلية التربية (إشراف علمي)، عضو هيئة فنية في جامعة الرشيد الخاصة. من أبحاثه المنشورة: إشكالية النقد التاريخي عند ابن خلدون (بحث محكم في مجلة جامعة تشرين، 2015)؛ الماركسية في منظور إلياس مرقص النقدي (بحث محكم في مجلة جامعة دمشق، 2017)؛ الشك الفلسفي بين المذهب والمنهج (بحث محكم في مجلة جامعة تشرين، 2018)؛ تطور مفهوم الصيرورة من هيراقليطس إلى ماركس (بحث محكم في مجلة بيت الحكمة - العراق، 2018)؛ كتاب بعنوان (آلتوسير قارئاً ماركس؛ رؤية نقديّة معاصرة) ميسلون للثقافة والترجمة والنشر 2022، كتاب بعنوان (كارل ماركس – قراءة معاصرة في اشكالية العلاقة بين الحرية والتقدم)، الهيئة السورية للكتاب، 2020.

مشاركة المقال: