مفهومات الحداثة التنويرية واكتشاف حدود التجديد المعرفي عند المفكر السوري جاد الكريم الجباعي

مقدمة

كيف نقارب مشروع إحياء المجتمع المدني، في ضوء انقلاب بيروقراطية الدولة التسلطية على وعودها في تربية المجتمع على قيم العمل والإنتاج، ونقل الوعي الحديث إليه من الأعلى بوساطة سلطة الدولة، في حين كانت تأخذه في الواقع إلى نمط حياة استهلاكي أساسه التمويل الريعي، والتبعية، والهدر، والفساد، والمحسوبية، والطائفية، وبناء نظام سياسي تسلطي يحكم مجتمعًا جماهيريًا يعاني كابوسًا اسمه الخوف من الحرية؟ هذه الإشكالية كانت في أساس مقاربة المفكر جاد الكريم الجباعي لمشروع الحداثة التنويرية في مطلع الألفية الثالثة، حيث تطلب الأمر منه إعادة بناء مفهوم السياسة من جديد، منطلقًا من ضرورة كسر احتكارها من النخب السياسية، والتوقف عن حرمان الشعب منها، بحيث تغدو ثقافة مجتمعية، تساهم في تحديد شكل السلطة السياسية التي تحكم المجتمع وتقرر مصيره، وإنهاء حالة التخارج القائم بينهما، بالتوجه نحو المشاركة الإيجابية في الشأن العام. وهذا لن يحصل برأيه إلا بعد إعادة بناء مفهومي المجتمع المدني والدولة الحديثة ضمن وحدة جدلية أساسها التعاقد والتكامل لا التناقض والهيمنة، وإكسابهما مضمونًا سياسيًا مباشرًا في حقل التداول السوري بوساطة شبكة من المفهومات الحافة بهما مثل: الشعب، والثقافة، والأمة، والقومية، والاستلاب، وحقوق الإنسان. لأن البحث الجدي في السياسة برأيه (هو الذي يتعدى الشكل إلى المضمون أي إلى الوجود الاجتماعي المباشر، إلى المجتمع المدني أو الأمة)([1])

أما على صعيد المنهج فقد قام بعملية نقد مزدوج للماركسية والليبرالية معًا، حيث وظيفة الفكر عنده تقوم على (اكتشاف العنصر العقلي أو العناصر العقلية في الظاهرات الطبيعية منها والإنسانية، وفي التشكيلات والمنظومات الاجتماعية، والنماذج والأنساق الثقافية والخطابات السياسية) ([2])

لقد حاولت هذه الدراسة إلقاء الضوء على المعاني الجديدة في المفهومات التي أنتجها، واختبارها في ضوء مستجدات الواقع السوري من أجل اكتشاف قدرتها التفسيرية من خلال الحوار النقدي معها.

ذلك الواقع المأسوي لمجتمع فككت سنوات الحرب الأهلية التدميرية الطويلة، أوصاله وجففت شرايين الحياة فيه، وباتت تحكمه سلطات أمر واقع بلا دولة. ترى هل ما زال المجتمع المدني في زمن خيبة الثورات، وإخفاق الدول، وهجرة الشعب إلى المنافي مشروعًا قابلًا للحياة أم بات سلام المجتمع المدني حلمًا من أوهام الحداثة المكلومة، بظهور قوى الإرهاب والتطرف القومي والديني والمذهبي في العالم، على إيقاع صعود العولمة الليبرالية الجديدة المتوحشة؟

البدايات… في مخاض ربيع دمشق

أتت فرصة إطلاق مشروع تنويري جديد في سورية بين عامي (2000 و2003)، من حراك النخب السورية زمن ربيع دمشق، وتجاوب المجتمع السوري معه، الأمر الذي شكل وقتئذ الأرضية الملائمة لإطلاق حوارات تبدأ من الأسفل، تدعم النقاشات العلنية داخل المنتديات، وعمل لجان إحياء المجتمع المدني، حيث كان جاد الكريم من بين مؤسسي منتدى جمال الأتاسي للحوار الوطني، ومن بين الذين صاغوا بيان 99 مثقفًا، الذي طالب بأن تسبق الإصلاحات السياسية الإصلاحات الاقتصادية، والوثيقة التأسيسية للجان إحياء المجتمع المدني، وأحد المشرفين على إصدار نشرة (المواطن) الناطقة باسمها، والتي حددت وظيفتها، بأن تكون (الثقافة مدخلًا إلى السياسة، لإنتاج فضاء سياسي بين جميع المواطنين، وجميع قوى المجتمع، قوامه حرية الفرد وحقوق الإنسان وسيادة القانون)([3]).

قبل انطلاقة الحراك السياسي السوري في مطلع الألفية الثالثة، كان هناك مشروعان فلسفيان رئيسان يستظلان بالحداثة، ويتنافسان على تفسير التراث والاستثمار فيه أيديولوجيًا، بقصد التنوير والعقلانية، يجمع بينهما الميل إلى التوفيق بين الأصالة /المعاصرة، وتأسيس المعاصرة على التراث العربي الإسلامي، بدلًا من تراث الغرب. في محاولة من جانبهما لوقف الهرولة إلى فكر الماضي، في زمن انكسار أحلام الطبقة الوسطى والردة السلفية إلى التقليد.

المشروع الأول استخدم المنهج الماركسي في تقديم رؤية فلسفية مادية للتراث العربي الإسلامي، مستخدمًا نظرية أنماط الإنتاج في تفسير تحولات الفكر الإسلامي، بحثًا عن نزعات مادية داخله، تكون مرتكزًا لمجتمع علماني جديد، يعارض به دعوة التيار السلفي إلى مجتمع مسلم، هو في محتواه استمرار للتراث في الحاضر.

أما المشروع الثاني، فهو ذو طابع أركولوجي يستخدم المنهج الفلسفي البنيوي لميشيل فوكو، في الحفر بحثًا عن خصوصية تميز العقل العربي، هي في أسباب فواته، متحدثًا عن وجود إرهاصات عقلانية في التراث يمكن إحياؤها، لتكون أبستمية جديدة للعقل العربي وأساس مصالحة الفكر العربي مع فكر الحداثة. وغاية تلك الإستراتيجية كما يحددها صاحبها، هي (عملية التبيئة الثقافية، ومحاولة إرساء داخل ثقافتنا للمفاهيم التي تشكل قوام الحداثة، وذلك بربطها بما قد يكون لها من أشباه ونظائر في تراثنا، وإعادة بناء هذه بطريقة تجعل منها مرجعية للحداثة عندنا) ([4]).

بمواجهة هذه المشاريع، سوف يرفض جاد الكريم بحث مشكلة العلاقة مع التراث بمعزل عن التأخر والفوات الذي يعيشه المجتمع العربي حاليًا، أو الأخذ بقاعدة الخصوصية التي تعزز التقليد وتؤبده، وتكاد تكون السمة الأبرز لفكرنا العربي المعاصر([5])، متجهًا نحو تأسيس منظومة مفهوماته على المعاصرة وتراث عصر النهضة الأوروبي في القرن الثامن عشر، فنسق مفهومات فلسفة الأنوار من وجهة نظره ذات طابع كوني، ولا يمكن إدراجها تحت باب التراث الخاص بالفكر الأوروبي وحده، أو مقارنته بتراث أي شعب آخر، لذلك يمكن بناء منظومة معرفية جديدة عليه، تعالج قضايانا المعاصرة، من دون الحاجة إلى البحث عن أصول عقلانية له في التراث العربي تكسبه شرعية، بينما هي بالواقع تكرس التقليد!([6]).

ينتقد جاد الكريم الصيغة التوفيقية لليبرالية العربية، فالمرحلة التي تعدّها الحركة القومية العربية نهضة عربية، أنتجت الاستقلال وطردت الاستعمار، وأظهرت المصير العربي الواحد، ونهضت فيها الأمة بجناحيها العروبة والإسلام، يعدها (انتكاسة إلى أصولية عربية وإسلامية)، حين قبلت الليبرالية العربية التصالح مع السلفية من جديد، فتحولت إلى طوبى لدولة متخيلة، هي إما دولة سلطانية أو دولة مملوكية([7])، لتلتقي في موقفها هذا مع (الماركسية المعتقدية)، في أنهما معًا ضد سيرورة دولة حديثة ذات نظام عقلاني، فباتت نتيجة ذلك الموقف دولة مؤجلة أو موقوفة التنفيذ.

جاد الكريم هنا لا يسبح وحده ضد التيار، فقد سبقه ياسين الحافظ إلى اتخاذ موقف مشابه، حين انتقد أيديولوجيا اليسار الطبقاوي بسبب قفزه من فوق مسألة التأخر، طارحًا بديلًا منها الاشتراكية الحقة التي تحمل الحداثة والعصرية المرتكزة على قاعدة برجوازية في أيديولوجيتها وفي علاقاتها الإنتاجية، ومن دون هذه القاعدة البرجوازية بالمعنى الأوروبي برأيه، ليس ثمة اشتراكية في الوطن العربي([8]).

ويعد ذلك الموقف من جاد الكريم، انحيازًا صريحًا للتغريب، سبق أن اتخذه قبله مفكرون ليبراليون عرب كبار في منتصف القرن الماضي([9])، قبل أن يتراجعوا عنه تحت ضغط النقد والحصار والتكفير. لكن ذلك الانحياز للعقلانية لن يمنعه من إعلان القطيعة مع فكر الليبرالية المتوحشة، التي فرضت نفسها على المشهد العربي في عقب غزوها للعراق من خلال طرح مشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث أعلن براءة الليبرالية التنويرية التي يدعو إليها من التبشير بأيديولوجيا ذلك المشروع التدميري المعولم، بقوله: (وفي اعتقادي أن مفهوم المجتمع المدني يندرج اليوم في الخطاب المناهض للعولمة الاقتصادية المتوحشة ودكتاتورية السوق، وفي الخطاب المناهض للاستبداد)([10]) حيث عدّ ذلك الموقف مدخلًا ليرد به على التشكيك في ناشطي إحياء المجتمع المدني في سورية إبان ربيع دمشق، وعدم تمييز هؤلاء عن الشبكات والجمعيات غير الحكومية ذات الطابع العالمي، ويخص برده المفكر عزمي بشارة، على وجهة نظره المدرجة في كتابه (المجتمع المدني)، والتي تختزل المجتمع المدني بالسوق حين يقول: (يمكن أن تقوم السوق خارج الدولة). لأن بشارة بذلك يلغي فكرة الدولة، عندما يلقي بمسؤولية النظام العام على عاتق قانون السوق، ويختزل الحرية إلى حرية السوق([11]).

جدلية المنهج والتأخر…النقد المزدوج للماركسية والليبرالية

اتخذ جاد الكريم موقفًا إيجابيًا من تاريخانية عبد الله العروي وياسين الحافظ، ومن فرضية وجود أساس مشترك يجمع ما بين الليبرالية والماركسية في صيغة جدلية واحدة، حيث نفي الماركسية لليبرالية، هو تضمين لها بالوقت نفسه، فتصبح الماركسية بذلك، الوارث الشرعي لعقلانية عصر التنوير واستئنافًا لها. فإذا كان لعبد الله العروي فضل السبق في نقد ثلاثة نماذج أيديولوجية لفكر الداعية التي أعقبت حرب ١٩٦٧. ولياسين الحافظ ميزة نقد العقل السياسي العربي وتحولات المجتمع الشخبوطي في زمن الردة السلفية إلى التقليد خلال عقد السبعينيات. فقد وقع على جاد الكريم عبء تبيئة تلك الثنائية التناقضية التي جمعت ما بين الليبرالية والماركسية بصيغة نظرية واحدة، بإيجاد منظومة معرفية لها تساهم في تجديد المجتمع ولا تكتفي بتفسير الواقع ونقده.

ولكن قبل ذلك كان عليه أن يصفي حسابه أولًا مع المنهج الماركسي في ضوء أزمته الأخيرة، التي أعقبت انهيار التجربة الاشتراكية السوفياتية، وأطاحت جميع أحلام اليسار العربي. وقد ميز ماركسية ماركس التنويرية، التي تتلاءم مع واقع المجتمعات المتأخرة، عن (الماركسية الأيديولوجية)، التي سرعان ما تندمج في أي من الأيديولوجيات الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الإثنية([12])، وهي التي انتشرت وسادت في منطقتنا العربية.

وبعكس أغلبية الماركسيين العرب الذين ذهبوا في نقدهم للماركسية باتجاه جعل الخلل مقتصرًا على النظرية وحدها من دون المنهج، نجد جاد الكريم يخالف رأي هذه الأغلبية في نقده لأزمة الماركسية السائدة في الوطن العربي بالقول: إن (الأيديولوجية ثورجية ومادوية وطبقوية، والمنهج محافظ ومثالي، بالمعنى السيئ للكلمة)([13])، إذ هو جعل الخلل في مجمل الفكر الماركسي العربي العياني في شقيه النظري والمنهجي معًا، حيث يذهب في نقده لها إلى حد وصفها (بالمادية المبتذلة بما هي مادية ميكانيكية غير جدلية وغير تاريخية)([14])، والسبب في ذلك برأيه، أنها لم تحقق القطيعة مع التقليد العربي الإسلامي كآلية تفكير وإنتاج معرفي.

وقد وجد في المنهج الجدلي مدخلًا ملائمًا في تحليل إشكالات المجتمع المدني مبتعدًا في تفسيره قضايا المجتمع السياسي، عن مقولات المادية التاريخية والانعكاس والترابط بين البنية الفوقية والبنية الاقتصادية والاجتماعية التحتية، وانفتح بصورة كبيرة على كتابات ماركس الشاب الهيغلي، ومفهوماته حول علاقة الدولة السياسية بالمجتمع المدني والاستلاب الإنساني، والدولة الديمقراطية بالمجتمع المؤنسن.

جاء الموقف الإيجابي لجاد الكريم من المنهج الجدلي، لسياقه التفاؤلي القائم على مفهوم التقدم في التاريخ بشكل خطي يحقق التجانس الحضاري بعملية نفي، هي تضمين للإيجابي وتخلي عن السلبي، وتكرار التجارب، والاستمرارية التاريخية، ولانسجامه مع مادية فلسفة عصر الأنوار.

لذلك وجدناه يستبعد نظرية أنماط الإنتاج في تفسيره تناقضات الدولة السياسية وعملية تمرحلها في التاريخ، حيث يجدها تحدث بفعل المشتركات المتوافق عليها داخل المجتمع المدني، الذي ينتج دولته أو شكله السياسي عبر توسط الثقافة، تعبيرًا عن وحدتهما التناقضية الجدلية([15])، وعبر النفي الإيجابي يجري الانتقال على الصعيد السياسي من طور الدولة ما قبل السياسية إلى طور الدولة السياسية الحديثة، التي بدورها ستنفيها الدولة الديمقراطية. لذلك وجدناه يفضل اللجوء إلى تقسيم المجتمعات وفق معيار المستوى الإنتاجي، إلى مجتمعات زراعية، ومجتمعات صناعية، ومجتمعات ما بعد صناعية.

كما سوف تتراجع عنده أهمية مفهوم الصراع الطبقي داخل المجتمع المدني، لمصلحة مفهوم التعارضات، ويختفي دور الطبقة البرجوازية كطبقة اجتماعية عليا تقع على عاتقها وحدها مسؤولية التنوير وتدارك التأخر، فثقافتها الليبرالية التي عُممت سوف تنوب عنها في تحقيق ذلك الهدف، وقد باتت اليوم ذات طابع كوني تتجاوز دورها كطبقة مهيمنة، في حين سوف يركز في تحليله على دور الفئات الوسطى التي يعدها قاطرة التحديث في مرحلة صعودها الاجتماعي، قبل أن تصبح في وقتنا الراهن، طبقة رجعية داعمة للنظام التوتاليتاري.

وقد ميز في موقفه من تراث عصر التنوير بين سياقات الدولة الليبرالية في مرحلة المنافسة، التي تنسجم مع مفهوم المجتمع المدني والدولة الوطنية المرتبطين بنظرية العقد الاجتماعي عند روسو، وسياقات الدولة الليبرالية في مرحلة الاحتكار المنسجمة مع ظهور نظم الاستبداد.

متخذًا موقفًا نقديًا من التحولات العاصفة داخل الدولة الليبرالية المتطرفة، حيث وجد هناك (توترًا) في سيرورتها، أدخلت الحداثة التنويرية الغربية في مأزق فوضى الحروب، وتسببت في بتحطيم العقل وإعلاء شأن العلم والتقنية على حساب الظواهر الاجتماعية التي تم درسها وفق الطرق العلمية نفسها التي تدرس بها العلوم الطبيعية، مما أدى إلى حدوث تناقض بين فكرة الحرية وحتمية القوانين العلمية ([16]). وقد وجد السبب في حدوث ذلك الأمر، في الانقلاب المعرفي الذي أسس له المذهب الوضعي، والقطيعة المعرفية التي أحدثها في نسق كل من الفلسفتين الليبرالية والماركسية معًا، ما تسبب في تهميش دور الفلسفة والقطيعة مع تراث التنوير، الذي أساسه العقل والعقلانية وجوهره الإنسان. وقد وجد في إدخال مبدأ الاحتمال إلى العلوم الطبيعية الحديثة، إمكانية لتحرير العلوم الإنسانية من أسر منطق الحتمية المسيطر عليها، وإعادة الاعتبار للفلسفة والأخلاق والدين في دراسة المجتمع([17]).

لقد عارض المنهج الوضعي، الفلسفة بالعلم، وقزم مفهوم التقدم إلى امتلاك التكنولوجيا، واختزل الحداثة بالنمط الاستهلاكي، وأبخس قيمة الإنسان بتقديره بمستوى الاستهلاك السلعي للفرد، ما شكل عائقًا إضافيًا أمام مواصلة مشاريع التنوير في المنطقة العربية، كون نسق التنوير بات فكرًا خاصًا بفكر ماضي الغرب الذي انقضى زمانه، وفقد حضوره، وكف عن كونه فكرًا كونيًا يجري التبشير به للبشرية كلها، وبات التواصل معه أو استدعاؤه إلى الحاضر، بحاجة إلى من يعيد ربطه بقضايا الواقع الراهن من جديد.

وهذا كان من ضمن التحديات التي واجهت مشروع المفكر جاد الكريم، إذ كان عليه اختيار المنهج الذي يصلح في دراسة ملابسات نشوء المجتمع المدني في البلاد التي تحكمها أنظمة تسلطية ذات نظام شمولي، كما هو حاصل في منطقتنا العربية اليوم.

والمنهج الوحيد برأيه (الذي بوسعه أن يكشف النقاب عن اليد الخفية هو الجدل الديالكتيك، بوصفه منطق الصيرورة التاريخية…بخلاف سائر الطرق والمداخل الوضعية الإيجابية)([18])، لأنه ينسجم مع سياقات واقع المجتمعات الفعلي.

لقد قام الفيلسوف عبد الله العروي بتقديم قراءة جديدة لماركس وتحديدًا في الشق المتعلق بعلاقة الليبرالية بالماركسية عند معالجته مشكلة التأخر.

حيث أكد العروي مستندًا إلى ماركس إمكانية فصل الطبقة البرجوازية عن ثقافتها ذات الطابع الكوني والقابلة للتعميم بسبب خصائصها العصرية، وتجاهل نمط الإنسان البرجوازي وعاداته الخاصة، وهي من رواسب الماضي ([19]). وبذلك التحليل يغدو اللقاء بين الليبرالية والماركسية ممكنًا على قاعدة كونية فلسفة عصر الأنوار. وما قام به العروي برأينا، هو نوع من التأويل الليبرالي للماركسية هذا وإن أجرى تميزًا داخلها، بين الليبرالية كمضمون وهي فلسفة القرن 18 والليبرالية كنظرية ومنهج وسياسة، والتي أصبحت عقبة في طريق تقدم الشعوب([20]). واجتماع الليبرالية والماركسية هنا، هو اجتماع النقيضين في وحدة جدلية، تنفي فيه الثانية الأولى بعد تضمين ثقافتها([21]). هذه الرؤية تقودنا إلى رؤية تاريخانية لتطور المجتمعات، تضعها على خط واحد، ومستوى تطور واحد أو تتابع في درب واحد، وهو تصور برأيه، يرفضه مثقف العالم الثالث، لأنه ينتهي به إلى التصالح مع مستعمره السيد الإمبريالي([22])، لكن برأيه قد بات الآن ضرورة لتجاوز وضعية التأخر.

وفق منطقه التأويلي يكتسب ذلك التلاقي أهميته من انسجامه مع توقعات ماركس، بأن التوسع الرأسمالي سوف يقود بالضرورة إلى تجانس العالم([23])، في حين تجارب تاريخ الشعوب تشير إلى أن التوسع الرأسمالي، يميل نحو تعميق التفاوت بين مراكز النظام وأطرافه؟ ما يضع تحليلات العروي حول المسار الحضاري الواحد، وإمكانية تكرار التجارب التاريخية أمام تحدٍّ جدي!

ولعل ذلك التفاوت بالتطور بين الأمم، هو ما جعل جاد الكريم يبني على فرضية (ميشال مياي) بعدم اقتران شكل الدولة الليبرالية بنمط الإنتاج الرأسمالي أو بأنماط الإنتاج لأن (مفهوم الدولة لا يقوم ولا يستقيم، بغير مفهوم العمومية والكلية، وبغير مفهوم القانون بصفته العامة والمجردة)([24]). وبذلك الفصل بات متاحًا له تفسير تحولات الدولة السياسية بالبنية الفوقية وحدها، من دون ربطها بالبنية التحتية.

لدى العروي همّ أيديولوجي بتجاوز التأخر وتحقيق التجانس الحضاري ويسعى ليبرهن على صحة رأيه، بالاستعانة بموقف ماركس الذي شجع قيام ثورة برجوازية في ألمانيا عام 1848، حتى وإن امتنعت الطبقة البرجوازية الألمانية عن القيام بها، والاعتراف بإمكانية تجاوزها، نتيجة تعميم ثقافتها بين جميع فئات الشعب، وذلك من أجل تحقيق التقدم العلمي والتصنيع السريع وتجاوز التأخر. وبذلك يكون ماركس قدم برأيه حلًا تاريخيًا لوضعية السيد البرجوازي، الذي تخلى عن رسالته بالتنوير وتمدين الشعوب المستعمرة، وبات انعزاليًا، كل همه ذاته الأنانية كطبقة([25]).

لكن في الوقت نفسه سوف يختلف موقف جاد الكريم عن موقف العروي من النهضة العربية في طوريها الأول والثاني، ومن الصيغة التوفيقية عند مفكري عصر النهضة العربية والقائمة على المصالحة بين العروبة والإسلام، وهي الصيغة التي أسست لعصرنة المجتمعات العربية في فترة ما بين الحربين وفي عقب الحرب العالمية الثانية، حيث سيحاول العروي إيجاد مبرر لها من دون تبني موقفها التوفيقي بقوله: (إن تلك الحركات كانت تستعير مفاهيمها من مدارس مختلفة أوروبية وعربية وإسلامية….قيمة تلك الحركات تكمن في فعاليتها الإصلاحية لا من عمقها الفكري)([26]). وسوف ينتقد ياسين الحافظ، هذه الصيغة التوفيقية الخلاسية المسؤولة عن تراجع المجتمعات عن الحداثة، والإسهام في تشكيل المجتمع الشخبوطي العربي، عندما تخلت الحركة القومية العربية برأيه عن مبدأ العلمانية وتصالحت مع الدين([27]). أما جاد الكريم فسوف ينحاز لرؤية ياسين الحافظ([28]) في القطيعة المعرفية مع فكر الماضي، والابتعاد عن الفكر التوفيقي([29])، منحازًا لفكر الحداثة، لاعتقاده بتعارض مفهومي المجتمع المدني والأمة الحديثة مع التقليد.

علاقة الدولة بالمجتمع المدني

يسجل جاد الكريم انحيازه إلى موقف فلاسفة التنوير كما فعل من قبله ماركس، بقلب معادلة هيغل حول الدولة والانطلاق من الواقع أو الفاعلين أي من المجتمع المدني، بدل الانطلاق من الدولة أو الفكرة أو الصفة، حيث المجتمع المدني هو من ينتج الدولة بوساطة الإرادة العامة أو العقد الاجتماعي (روسو)، ما يؤكد تبعية الدولة للمجتمع لا العكس. تلك النظرية التي انتقدها هيغل محاولًا دحضها، مبينًا أن الدولة هي من ينتج المجتمع المدني. ولكن ما طبيعة تلك العلاقة التي تربط المجتمع المدني بالدولة، هل هي علاقة اتصال أم علاقة انفصال؟

يعترف الأستاذ جاد بانفصال الدولة الحديثة عن المجتمع المدني، والسياسة عن الاقتصاد، ما يسبب التعارض بينهما أي بين الإرادات الجزئية والإرادة العامة أو الكلية للدولة، ولكنه يرفض على الرغم من ذلك أن تكون بينهما علاقة تناقض، لأن الدولة التي ينتجها المجتمع المدني هي دولة وطنية وهذه هي القاعدة الطبيعية، في حين الدولة التسلطية التي تتخارج إرادتها مع المجتمع، تبقى حالة استثنائية.

ويفسر عدم تحول التعارض بين الطرفين إلى تناقض أو تخارج، بتوسط الثقافة التي ينتجها المجتمع المدني بينهما، حيث تكون بمنزلة الغراء الذي يوحد الجميع. أي هو يقلب معادلة هيغل حول التوسط والدور الذي تقوم به البيروقراطية لمصلحة الملك لتبقي إرادته هي المهيمنة. بينما معادلة جاد تقوم على مشاركة المواطنين في السلطة التشريعية من خلال الانتخابات، وهي السلطة المسؤولة عن إصدار القوانين الكلية التي تجمع بين مصلحة الأفراد والمصلحة العامة، فتزيل بذلك التناقضات وتنجز التسويات الأخيرة بينهما، وانفصالها عن السلطة التنفيذية يعد ضمانة عدم تحول تلك التعارضات إلى تناقض، ما يؤكد تبعية الدولة للمجتمع. ولكن هل يعد هذا إنكارًا منه لوجود التناقضات بين السلطات الثلاث داخل الدولة أيضًا؟

يكرر جاد الكريم موقف ماركس بأن الدولة السياسية الحديثة، هي مرحلة من مراحل التطور، وستنفيها الدولة الديمقراطية في المستقبل، بفعل التعارض بينها وبين المجتمع المدني من ناحية، وبسبب التعارضات بين السلطات داخل الدولة الوطنية من ناحية أخرى. حيث يضيف إلى ما سبق، وجود تعارض وتمايز واختلاف بين السلطة التنفيذية بصورة خاصة وأجهزة الدولة إذ (حين تتماهى السلطة والدولة أو تتطابق حدود السلطة والدولة ويغلب الخاص على العام، وذلك هو مبدأ الاستبداد وعلته)([30]). هذا التمييز أو التعارض الأخير يسبب إشكالية للباحث ورجل السياسة معًا، لأنه يجعلنا نستنتج أن التعارض والصراع داخل الدولة وعليها، بين سلطتها الطبقية التي تضمر الهيمنة عليها، وأجهزتها التي تتمسك بحيادها، يظل قائمًا ومستمرًا! الأمر الذي يعرض الحياة السياسية في حال اشتداد الصراع بينهما، لتعطيل دور الدولة. يحاول تبرير استقلال الدولة عن سلطتها السياسية بقوله: إن المجتمع السياسي (الدولة (هي الصيغة السياسية الذاتية التي ينتجها المجتمع المدني لنفسه، وهي تجريد العمومية وليس لها أي مضمون طبقي لأنها ميدان الوحدة، في حين المجتمع المدني هو ميدان الموضوعية للمجتمع السياسي، وميدان التعارض والاختلاف([31]).

هنا يحضرنا سؤال، عن فرص تحقق هذه الرؤية الراديكالية التي تتحدث عن تبعية الدولة للمجتمع المدني واستقلالها عن سلطتها السياسية، في ضوء واقع مجتمعاتنا التاريخي؟

تجسد هذه الرؤية حالة ثورة شعب منتصر لديه القدرة على فرض إرادته على نظام مهزوم، فتعيد بناء الدولة على أساس عقد صاغه الشعب بنفسه لنفسه، فيصبح بمنزلة عقد إذعان فرضه الشعب من جانب واحد على الحاكم. ولكن في حال كان يوجد توازن في القوى بين الحاكم والمحكوم، أو دلست السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، ولم تنفذ القوانين بحيادية تامة، وفسرتها بما يخالف إرادة المشرع منها وانحازت لطرف اجتماعي دون آخر فماذا تكون النتيجة؟ من المرجح في الحالة الأولى حدوث تسوية أو يذهب الطرفان إلى صراع ويخفق التعاقد على الدولة. وفي الحالة الثانية، سوف تفقد الدولة ضمنًا حيادها الطبقي وإن حافظت عليه شكلًا، وتختل التوازنات داخل المجتمع، لمصلحة طرف يمارس الهيمنة على جميع الطبقات والفئات الأخرى. لذلك من الصعب من وجهة نظرنا تصور الفصل التام بين السلطات الثلاث، حيث يكون لحزب السلطة أو تحالفه بالحد الأدنى نصف عدد ممثلي السلطة التشريعية. كما من الصعوبة بمكان وضع حدود واضحة تفصل بين مؤسسات وأجهزة الدولة والسلطة التنفيذية إلا على المستوى النظري فقط، لأن الأجهزة هي أدوات هذه السلطة في الإشراف على إنفاذ القوانين وسريانها داخل المجتمع، وهي الجهة المخولة دستوريًا باستخدامها ورعايتها والنطق باسمها، وأي شقاق بينهما يحدث ازدواج في السلطة، لذلك خضوع أجهزة الدولة للسلطة السياسية أمر حتمي عملًا بمبدأ سد الذرائع.

انتقد هيغل مبدأ فصل السلطات الذي أتى به مونتسكيو كضمانة للتوازن بينها ومنعًا لإساءة استعمال السلطة، يرى هيغل عكس ذلك تمامًا؛ أنه يؤدي إلى تصدع الدولة، حيث تنظر كل سلطة إلى السلطة الأخرى على أنها شر، يجب مواجهته فتدمر بذلك وحدة الدولة([32]). لذلك يرى أن هذه السلطات يجب أن تكون متمايزة وظيفيًا، ولكن ليست مستقلة عن بعضها بعضًا، بل هي تتكامل داخليًا في ما بينها.

وقد حاول هيغل نقد فلسفة التنوير منطلقًا من واقع الدولة في ألمانيا التي يتشابه حالها مع عموم حال الدول المتأخرة خارج أوروبا، حيث تقوم الدولة بالتحديث في غياب البرجوازية كطبقة ثورية، وقد وجد في انفصال الدولة عن المجتمع ناقضًا في المصالح، يعطي الدولة الحق لإعادة إنتاج المجتمع المدني وتحويله إلى مجتمع برجوازي، بانغماس الدولة مجددًا في المجتمع وإلغاء انفصالها عنه. في حين سوف يسعى أصحاب التجمعات المهنية لتحولهم إلى دولة تفرض مصالحها وإرادتها الجزئية عليها. ويعبر ماركس عن التخارج في العلاقة بين الفرد المنتج والدولة الجوهرية الهيغلية بقوله: (كيان الدولة كامل بدونه، وكيانه هو داخل المجتمع المدني كامل بلا دولة)([33]). ونصبح هنا بحسب تعبير ماركس أمام ما يشبه دولتين: دولة إدارة وإنتاج التي يعيش فيها الفرد (الاقتصاد…المجتمع المدني)، ودولة سياسية تحاول أن تخضع الأولى لقانونها على الرغم من أنها غير محتاجة إليها -(موقف هيغل)- بينما الأولى تريد أن تتحرر من الدولة السياسية لأنها غير محتاجة إليها -(موقف فلسفة الأنوار)-([34]). دولة الحاجة هي المضمون، والدولة السياسية هي الشكل، وهيغل يسعى لإخضاع المضمون إلى الشكل، بحذف التناقض بين الدولة التي رمزها إرادة الملك والمجتمع المدني بوساطة مفهوم التوسط الذي ينتقده ماركس، أي توسط الموظفين أو البيروقراطية، وهذا التوسط ليس بين إرادتين متساويتين أو تسوية بينهما، بل الحرية الفردية تحقق مصالحها الخاصة وحقوقها باندماجها بالمصلحة العامة…. حين ترهن معرفتها وإرادتها للكلي، باعتباره روحها الجوهرية وغايتها النهاية([35]). ومن ثم ذلك التعارض بين السلطتين لا يغير علاقة المجتمع مع الدولة، حيث تبقى هي الطرف المهيمن.

يعيد هيغل خلخلة مرتكزات فلسفة التنوير بنقده نظرية العقد الاجتماعي وفق تلك الرؤية، حيث تكون الدولة هي من يعيد إنتاج المجتمع المدني، لأنها هي الحرية المطلقة المتعينة في التاريخ، صحيح أنه يمكن التلاقي بينهما في الدولة، هذا على مستوى الروح أو الفكر، إلا أنه في الواقع يبقى ذلك التعارض بينهما قائمًا، ما يؤكد صحة موقف ماركس بأنه تناقض، وليس مجرد تعارض بسيط يمكن حذفه بالنقد أو التوسط. أما من سوف يفكر في حل ذلك التناقض في الواقع الملموس، فهو ماركس حيث وجد تأخر ألمانيا غير كافٍ التعبير عنه بوساطة فلسفة الحق التأملية، إنما هو بحاجة إلى دور الإنسان الفعلي في الثورة لأن (سلاح النقد لا يستطيع بالطبع أن يحل محل نقد السلاح، والقوة المادية يجب أن تقابلها قوة مادية أيضًا)([36])، جاعلًا من الدولة منتجًا اجتماعيًا.

ومع أن نقد هيغل من الناحية التاريخية هو أقرب لواقع تجربة الدولة في البلدان المتأخرة ونقده لطوبى التنوير يكشف محدودية تفاؤلها، إلا أنه يضع الشعب من الناحية الفعلية في علاقة تخارج مع الدولة، ويحول علاقته معها إلى علاقة سيد بعبد، وملك برعية، ومضمونها الفعلي هو العبودية، لا كما يدعي بلوغ الحرية الفردية حريتها المطلقة من خلال الدولة.

وبحسب واقع مجتمعاتنا العربية المتأخرة، رأينا في ظل رأسمالية الدولة كيف تضخمت البيروقراطية ونما دورها، وتمكنت من التحول إلى برجوازية دولة أو طبقة برجوازية جديدة، أخذت شيئًا فشيئًا تؤدي دور شريحة المثقفين، الذين اضطلعوا بمشروع التنوير، ثم انحسر دورهم تدريجًا مع تصلب الدولة واتساع دور الطبقة الوسطى.

فدولة بيروقراطية الطبقة الوسطى نجحت في كثير من الحالات أن تكون دولة تحديث لا دولة حديثة، ولكن في واقع مجتمعاتنا العربية على سبيل المثال، قد ثبت إخفاقها في التحول إلى مملكة القانون.

على الرغم من اعتراف جاد الكريم، بعدم وجود التطابق التام بين إرادة المجتمع المدني وإرادة الدولة الوطنية ([37])، إلا أنه لا يرى في الأفق مجالًا لحدوث ذلك إلا بنفي الدولة السياسية الليبرالية من قبل الدولة الديمقراطية التي هي أفقها وتجاوزها الجدلي([38]). والإشكالية تكمن هنا بأن نفي أحد الطرفين للآخر، كما ذكر ماركس، هو إلغاء لنفسه في الوقت ذاته، فالدولة الوطنية والمجتمع المدني، إما يبقيان معًا أو يزولان معًا. وجاد الكريم يبني على تصور ماركس الذي يقول، بأن نفي الدولة السياسية مستقبلًا بوساطة الدولة الديمقراطية، سوف يفضي على نحو أو آخر إلى نفي المجتمع المدني لنفسه، ليظهر بصورة مجتمع مغاير له تمامًا، هو المجتمع المؤنسن، والفارق الجوهري بين المجتمع التقليدي والمجتمع المدني هو العلمانية، في حين الفارق بين المجتمع المدني والمجتمع المؤنسن هو الحرية([39]). حيث يفترض جاد الكريم أن هذا المجتمع الجديد سيأخذ نظامه السياسي مفهومًا جديدًا للديمقراطية، يرقى بها إلى مستوى حذف الاستلاب السياسي الكلي والناجز([40]). وكما نرى هذا التصور لأفق تطور المجتمع المدني ما زال طوبى مستقبلية، ويتعارض على طول الخط مع واقع المجتمع الرأسمالي الراهن، حيث البرجوازية الإمبريالية والدولة تتقاسم السيطرة عليه، إلا أنه على الرغم من ذلك يبقى طموح مشروع من أجل مستقبل إنساني أفضل.

يميز جاد الكريم بين المجتمع المدني الذي أساسه العائلة ومجتمع آخر مختلف عنه هو المجتمع البرجوازي، قام النظام الرأسمالي بإحداث تغيير فيه بفصله الملكية الخاصة عن العائلة وعن المجتمع، وجعل من السلطة السياسية والقانون تعبيرًا عن الملكية الخاصة والمنافسة الاقتصادية في السوق، معيارًا وحيدًا للحرية([41]). مؤكدًا على تعارض مفهوم المجتمع المدني بصفته تجسيدًا عيانيًا للأمة وحامل بذور المجتمع الديمقراطي المؤنسن، مع محاولات النظام الرأسمالي أو الليبرالية الجديدة، المطابقة بينهما وجعلهما هوية واحدة([42]). لذلك هو ينتقد الخلط الذي يقوم به البعض بين الليبرالية والديمقراطية([43])، على نحو يرضي تطلعات وأطماع الليبرالية الجديدة المتوحشة، في حين السياق المعرفي والتاريخي بينهما مختلف، أما الديمقراطية كماهية، فهي الجوهر الإنساني للنظام الحكم وحقيقة أي نظام حكم عرفه التاريخ([44])، فنظام الدولة يبرز هنا وكما قال ماركس “كنتاج حر للإنسان”، حيث العائلة والمجتمع المدني والدولة تبقى من وجهة نظره، أشكالًا اجتماعية وسياسية لوجود الإنسان.

الدولة الوطنية بين الطوبى والواقع

يؤكد جاد الكريم ارتباط إحياء المجتمع المدني بوجود الدولة الحديثة، وهي الدولة الوطنية أو دولة الأمة والشكل السياسي للمجتمع المدني، وما يميزها، هو سيرورة تشكلها من المجتمع المدني وآليات عملها، المختلفة عن آليات عمل الدولة التسلطية، أكان ذلك في ما تنتجه أو تنفذه من قوانين، وما تحدده من واجبات أو تحميه من حقوق، فهي دولة الكل الاجتماعي، تقف خارج الصراعات الطبقية، بحيث تحمي التنوع والتعددية داخل المجتمع المدني، وعلى نحو متخارج مع الدور الذي تقوم به بيروقراطية الدولة التسلطية، التي (قتلت جنين المجتمع المدني في سورية، وامتصت قوة المجتمع الأهلي وهمشته وأمعنت في تفكيكه وتفتيته وبسطت سلطتها على جميع مجالات حياته)([45]). يحاول أن يفسر الاختلاف بين سيرورة الدولتين من خلال إلقاء الضوء على مواقف الطبقة الوسطى (فبعد أن حملت مشروع النهوض القومي في الوطن العربي وكانت من أشد أنصار الحرية، صارت من ألد أعدائها)([46]).

حيث يكتفي في تفسير ذلك التحول عند حدود القول، بانشغال الفكر السياسي العربي عن قضية الحرية، بقضية التحرر من الاستعمار ومن السيطرة الطبقية([47]) من دون الذهاب في تحليله لمستوى أعمق لدولة الواقع، ليس عن عجز منه، بل لأن واقع الدولة التسلطية، هو على النقيض تمامًا من طوبى الدولة الوطنية المنشودة، لذلك هو يبقي تركيزه على مفهوم الدولة الوطنية.

لكن يبقى السؤال عن سر ذلك التحول في موقف الفئات الوسطى، وتقديمها هدف التحرر من الاستعمار على هدف الحرية، متروكًا من دون إجابة؟

نشأت بيروقراطية الدولة في سورية في ظل السلطنة العثمانية، وعند قيام الدولة العربية عام 2018 لم يقم الملك فيصل بأي إصلاح لهيكل السلطة العثمانية، ولكنه صرف البيروقراطية القديمة من أبناء دمشق، واستبدل بهم حاشيته وأعوانه الأمر الذي أحدث شرخًا بين الجهاز الجديد وأهل دمشق. وعند مجيء الاستعمار الفرنسي، جرى تصفية النخب العربية الموالية للملك فيصل والمجيء بموظفين موالين للانتداب لإدارة السلطة بالتشارك مع الفرنسيين، الأمر الذي أعاد حالة عدم ثقة الشعب بالدولة. أما في عقب الاستقلال فقد نشأت طبقة وسطى جديدة من أبناء الأسر التقليدية، تميزت عن سابقتها بميولها العصرية وانتشار التعليم بين صفوفها، وباتت طبقة صاعدة بثقافتها وقيمها الأخلاقية ورمزًا للمجتمع السوري الحديث، وقد تضاعف الجهاز البيروقراطي للدولة ثلاث مرات([48]). تولت هذه البيروقراطية مهمة بناء الدولة الحديثة، وقد شد أزرها وجود برجوازية وطنية ذات أصول تجارية مدنية وتمتلك نزعة عقلانية، ولديها الرغبة في حماية السوق الوطنية من المنافسة الاقتصادية الخارجية. وكان من الطبيعي أن يتقدم لديها هدف التحرر والانفكاك من التبعية للغرب على الصعيدين السياسي والاقتصادي على هدف الحرية، مع بقائها ملتزمة بالنظام السياسي البرلماني الهش الذي ورثته عن فرنسا بجميع عيوبه ونواقصه. حدث تغيير في بنية الطبقة الوسطى وبيروقراطية الدولة، بفعل سياسات تصفية الموظفين والتسريح التعسفي من الجيش في زمن الوحدة، وفي مرحلة استيلاء البعث على السلطة، فالبيروقراطية التي أتت إلى السلطة بعد مضيّ عقد ونصف من تاريخ الاستقلال، اختلفت في أيديولوجيتها وتربيتها وأصولها الاجتماعية الريفية، عن سابقتها ذات الأصول المدنية وارثة دولة الاستقلال، بأن لديها مصالح طبقية في إزاحة تحالف برجوازية المدن ورجال الإقطاع في الأرياف السورية عن سدة الحكم، حيث كان ينظر إليه كوارث للتراتبية الاجتماعية التي خلقها الاستعمار. وقد ساهم دور هذه الفئات في صعود الحركة الجماهيرية الموالية للتوتاليتارية آنذاك. وهذه الخلفية ربما تفسر لنا تلك الانعطافة الحادة التي حدثت داخل الأنظمة الراديكالية باتجاه التأميم والمصادرة، وأدت إلى ضرب البرجوازية الوطنية في سورية، والتسبب بانتكاس التنمية الاقتصادية فيها، ونشوء برجوازية الدولة الريعية، المفتقرة لثقافة العمل والإنتاج والعقلانية. وبذلك نجد أن نهج تصفية الموظفين لأسباب سياسية، كان سلوكًا متبعًا في الدولة على مدار عقود القرن العشرين، باستبعاد الكفاءات داخل البيروقراطية المدنية والعسكرية، الأمر الذي منع تراكم الخبرات في إدارة العمل والإنتاج بصورة عقلانية، وخلق تلك الفجوة بين الدولة والمجتمع، وتسبب بتلك الردة السلفية المجتمعية نحو التراث خلال عقد السبعينيات. وقد أكمل ذلك المسار تراجعه بتفكيك الإنتليجنسيا الوطنية، واستبدالها من النظام السوري على خلفية المواجهة مع الإخوان، بنخب جديدة موالية من أصحاب المهن العلمية والتكنوقراط، جرى تفريغها من العقلانية، وتنشئة المجتمع من خلالها على ثقافة الهدر والفساد والاستهلاك. وبتدمير جناحي النهوض الوطني البرجوازية الوطنية والإنتلجنسيا التنويرية، سُدّ الأفق التاريخي للحداثة في سورية. وهذا المسار التاريخي والاجتماعي لبيروقراطية الدولة، يوضح برأينا جانبًا من ألغاز التحولات التي حدثت بمواقف الطبقة الوسطى وانكفائها عن مشروع التحديث على الصعيد السوري الداخلي.

فإذا كان هذا واقع الدولة في سورية وفي معظم دول المشرق العربي مع اختلافات بسيطة بينها، فما هو واقع الدولة الليبرالية الرأسمالية اليوم؟

يجري الأستاذ جاد الكريم مقاربة نظرية للدولة الحديثة من أجل تمييزها عن سواها. عند حديثه عن دور التنافس، والاحتكار، والتبعية في حدوث (توتر) في سيرورة الدولة الليبرالية الحديثة، نتيجة تخليها عن سياسة المنافسة الاقتصادية، والانتقال لأتباع سياسة الاحتكار، فإذا كانت المنافسة سمة الدولة الليبرالية، فإن الاحتكار سمة الدولة الاستبدادية([49])، إلا أنه يرجع في فقرة أخرى ويعترف بأنهما لحظتان في سيرورة دولة واحدة لا في دولتين منفصلتين، وبأن الاحتكار بات جزءًا من سيرورة تشكل بنية الليبرالية المعاصرة إلا أنه يعدّه مجرد (توتر) عارض ناشئ عن صعود الليبرالية الجديدة واليمين الجديد في الغرب، حيث يمكن تصحيحه من المجتمع المدني([50]). والتنافس والاحتكار برأيه (يستندان إلى رؤيتين متباينتين عن الحرية)([51]). بينما من وجهة نظرنا، يعد تخليًا فعليًا منها عن الحداثة التنويرية، ويحمل في طياته نكوصًا عن الحرية عمومًا، وخارج حدود دولها (ظاهرة الإمبريالية) خصوصًا، لأن الحرية واحدة لا يمكن تجزئتها بين داخل وخارج.

ويستنتج جاد الكريم من انفصال الدولة عن المجتمع المدني، استقلالها وانفصالها عن المصالح الطبقية الفئوية والمحلوية وحيادها إزاءها([52])، كحياد الدولة العلمانية عن الأديان، حيث يرى ذلك الحياد يمكنها أن تكون أداة تنظيم التعارضات الاجتماعية والصراعات الطبقية التي ينظمها العقد الاجتماعي([53]). يحاول تقديم تبرير منطقي للطابع الطبقي الذي ينسب إلى الدولة، بأنه طابع سلطتها السياسية فحسب، ولهذه السلطة طابعها الطبقي الخاص الذي يميزها عن الدولة وأجهزتها في التزامها الحياد، وعندما تتماهى الدولة مع سلطتها أو تتخلى عن حيادها، فهذا يعني تحولها إلى دولة استبدادية([54]).

يحاول جاد في الفقرات السابقة تقديم تفسيرات منطقية تقوي مكانة الدولة الوطنية، وتؤكد حيادها وانسجامها مع واقع التعددية والاختلاف داخل المجتمع المدني، بصورة تميزها عن ممارسة السلطة السياسية المنحازة.

وبمقارنة رأي جاد الكريم في حياد الدولة مع نظرية الدولة الحديثة أو الدولة الرأسمالية، التي قدمها على سبيل المثال نيكوس بولانتزاس نجد هناك تفسيرًا مختلفًا لمسألة الحياد الطبقي في الدولة الرأسمالية المعاصرة، حين بيّن أن ذلك الحياد الخادع، جاء نتيجة انفصال الدولة عن المجتمع المدني، حيث مكنها من إخفاء تأثرها وتأثيرها في الصراع الطبقي، وبحسب رأيه الذي يرسم حدود علاقة الدولة الرأسمالية بميدان الصراع الطبقي، هو ارتباطها بعلاقات الإنتاج، مبينًا أن تأثر الدولة الرأسمالية بالصراع الطبقي ليس مجرد ظاهرة ولدتها أبنيتها أو أنها محكومة بتلك الأبنية وحدها، وإنما معناه أن للصراع الطبقي، تأثيرات أساسية في الدولة([55]).

وبحسب وجهة النظر هذه، تصبح أجهزة الدولة مجرد أداة بيد السلطة السياسية من أجل تأمين سيطرتها الطبقية، بحيث يصعب الفصل بينهما إلا على المستوى الإجرائي.

و ما يميز الدولة الرأسمالية هو أن السيطرة السياسية الطبقية لا تظهر في أي مؤسسة من مؤسساتها، كعلاقة سياسية بين طبقات حاكمة وطبقات محكومة. فالأمور تسير في هذه المؤسسات كما لو لم يكن للصراع الطبقي وجود. فهذه الدولة معدة لتكون تعبيرًا عن الوحدة السياسية لمجتمع المصالح الاقتصادية فيه لا باعتبارها مصالح طبقية، وإنما باعتبارها مصالح أفراد خاصين([56]).

ويوضح بولانتزاس دور الدولة في الصراع الطبقي وشكل تدخلها في المجتمع بقوله: وظيفة الدولة في مواجهة الطبقات المحكومة، هي الحيلولة دون تنظيمها سياسيًا والحيلولة دون التغلب على تفتتها. أما الطبقة الحاكمة فتعمل الدولة الرأسمالية دائمًا على تنظيمها على المستوى السياسي بالقضاء على تفتتها الاقتصادي([57]).

ولعل العرض السابق يفسر لنا التحول الذي حدث داخل الدولة الليبرالية بالانتقال من دعم اقتصاد المنافسة إلى دعم الاحتكار وبروز ظاهرة العولمة، والتي هي شكل من أشكال إعادة تمركز الرأسمال، حيث يأتي صعودها في إطار السعي لوحدة السوق العالمية، وتعظيم ربح الشركات متعددة الجنسيات من خلال الاحتكار.

في الدولة الرأسمالية يعد إخفاء الدولة لدورها الاقتصادي بفصله عن السياسة مسألة ضرورية، فيأخذ تدخلها شكل الحياد عن الصراع. وقد تتخلى الدولة عن قناع حيادها، ويُكشف زيف ادعائها بالعمومية، عندما تضطر إلى الدفاع عن بقاء سلطتها باستخدام أجهزتها القمعية، وقد تنهار تلك الأجهزة وتدمر في مجرى الصراع، بينما تبقى السلطة موجودة وتعمل في غياب مؤسسات الدولة الرسمية أو ضعفها، كحال الدول المخفقة في المنطقة العربية، في حين تعجز الدولة عن البقاء من دون سلطة، ما ينفي أي تصور عن استقلال أجهزتها عنها.

قدم ميشيل فوكو مفهومًا جديدًا حول السلطة يختلف إلى حد كبير عن المنظور السابق لسلطة الدولة، حيث يرفض فكرة وجود سلطة مركزية مستقرة تمثل الدولة، وتكون السلطة من وجهة نظره، داخل المجتمع الليبرالي في كل مكان([58]).

هنا يصبح المجتمع هو من يحدد النظام الاجتماعي، فالمجتمع قادر أن ينظم ويعقلن نفسه بنفسه. ولكن عاد ثانية وعدل في وجهة نظره السابقة في كتابه (المراقبة والعقاب)، ليوضح من جديد أن المجتمع في نهاية المطاف بخدمة طبقة حاكمة تعمل من أجل التعبئة العامة([59]). وبذلك هو يعود ليتقاطع مع نظرية بولانتزاس حول مسألة الطابع الطبقي لجهاز الدولة.

ولكن أي منظور من المنظورين المتعارضين، يخدم نشوء المجتمع المدني في الوطن العربي؟

بنى جاد الكريم رؤيته لمفهوم الدولة الوطنية بصفتها دولة الكل الاجتماعي، الملبية لحاجات نمو المجتمع المدني في وقتنا الراهن. حيث نجده يخالف المفهوم الماركسي الطبقي للدولة، الذي استقرت حوله الآراء، ويعارضه بمفهوم هيغل وماركس الشاب للدولة، حيث رأى هيغل في الدولة تجسيدًا للحرية الموضوعية والأخلاق الموضوعية. ورأى فيها ماركس تجريدًا للمجتمع المدني وتحديدًا ذاتيًا للشعب. وهما من وجهة نظره رؤيتان متقاربتان، بل متشابهتان([60]).

لذلك هو حريص على (تميز الدولة من السلطة لأنه، ضروري في موضوعنا، وفي أوضاعنا على السواء)([61]). هو يقول ذلك من دون التوقف عند باقي الاحتمالات، لأنه يدرك عمق الفجوة بين تجربة الدولة ونظرية الدولة (وتحتاج سيرورة إعادتها لحياة الشعب إلى كفاح طويل)([62]).

وبذلك التمييز الذي يجريه داخل مفهوم الدولة، إنما يؤكد حيادية الدولة وانفصالها عن برامج السلطة السياسية، واقتصاد المجتمع المدني في الوقت ذاته، وذلك بما يتلاءم مع ظروف بلاد ما زالت فكرة الدولة فيها ملتبسة وهشة، لذلك من الضروري عندها (وقف التشكيك بدور الدولة أو التقليل من شأنها، فهو يخفي في طياته نزعة متطرفة)([63]) أو نزعة فوضوية معادية للدولة، وذلك بانتظار أن يتصالح العرب مع مشروع الدولة في المستقبل.

إن المنظور الطبقي في بناء مفهوم الدولة من وجهة نظر جاد الكريم، يظهرها كقوة مضادة للحرية ومفتقرة للعقلانية، كما يجسدها اليوم واقع الدولة العربية الشمولية، وهي الصورة الراسخة في أذهان الشعوب العربية عن الدولة، كقوة قمع ونهب وهدر وفساد، ولأنها بهذا الشكل، فهي تفتقر بنظرهم إلى الشرعية، وينظرون إليها كامتداد للدولة السلطانية العثمانية، والدولة المملوكية، وجميعها دول ضد الأمة. حيث جاءت الدولة التسلطية في وقتنا الراهن لتعمق الفجوة بين الدولة والمجتمع، لم تستطع هذه الدولة أن تنقل إلى المجتمع من الحداثة والعقلنة، إلا قشرتها الخارجية، في حين أخفقت في الدخول لوجدان الشعب، ليتفاعل معها إيجابيًا كقوة عقلنة وتنظيم، لأنه لم يرَ فيها إلا وجه القمع وحده، لذلك كانت في تخارج كامل مع المجتمع. ولأن الدولة لم تدخل وجدان العرب، باتوا يفتقرون لآلة تنظيم تنقل لهم العقلانية من الخارج إلى الداخل، لذلك ما زالوا إلى اليوم خارج الحداثة. وهو عندما ينتقد تجربة الدولة لا يدعي امتلاكه نظرية عن الدولة التي يرى بها حاجة ضرورية، لأنه ليس لدينا بحسب رأيه، سوى أدلوجة وآراء وتصورات ذاتية عن الدولة([64]).

لذلك نجده يعود في تنظيراته عن الدولة، فيحذر من فكرة انفصال السلطة والدولة عن المجتمع المدني عندما يقول: (إذ لا يجوز أن تكون السلطة السياسية شيئًا مستقلًا عن الوظائف الاجتماعية، سواء تلك التي يقوم بها المجتمع بنفسه، أو التي يقوم بها المجتمع عن طريق الدولة، أي عن طريق مندوبيه ومفوضيه وموظفيه)([65]). ومرد ذلك الإرباك النظري برأينا يعود إلى صعوبة تمييز اللحظات التي تكون فيها الدولة مستقلة عن السلطة السياسية، ودولة الكل الاجتماعي وهناك وحدة جدلية بين الحق الخاص والإرادة العامة، واللحظات التي تكون فيها الدولة منحازة اجتماعيًا؟ فالدولة يمكن أن تمر بإحدى الحالتين بحسب ظروف الصراع، مرة تنجح في إظهار انفصالها عنه، ومرة أخرى تخفق في أوضاع الأزمات فتجد نفسها مضطرة إلى أن تظهر تدخلها وتتطابق إرادتها مع سلطتها السياسية. وكلا اللحظتين تشكلان حقيقتها الملتبسة، في حين هو يتمسك بلحظة حيادها ويبني عليها مقاربته.

يحاول جاد الكريم إعادة تعريف السلطة لإزالة التعارض بين المجتمع المدني وسلطة الدولة، مستعينًا برؤية ميشيل فوكو لها، والذي يرى السلطات تنبع من كل شيء، فيعتبرها جاد الكريم أقرب إلى مفهوم المجتمع المدني([66]). ظنًا منه أن توسعة مفهوم السلطة بهذا الشكل الذي تحدث عنه ميشيل فوكو ونفيه حصرها بسلطة الدولة وحدها، يطمس الممارسة الطبقية للدولة، ويبقيها داخل المجتمع، فيزيل التناقض بينهما. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، وربما هو الذي جعل ميشيل فوكو في ما بعد يعدل في رؤيته السابقة، هل يوجد سلطة من هذه السلطات الفئوية الموجودة داخل المجتمع، يمكن أن تكون مستقلة تمامًا عن سلطة الدولة؟

إن قدرة الدولة على إدارة وتنظيم شؤون المجتمع، يحول سلطتها إلى شبكة عنكبوتية، تربط جميع السلطات بسلطتها المركزية، ويجعل من الاستقلال مسألة نسبية، فإذا زادت مساحة سلطات فئات المجتمع، تقلصت سلطتها. وإذا تراجعت وتقلصت هذه السلطات، زادت سلطتها واتضحت هيمنتها على المجتمع المدني، وشيئًا فشيئًا يتبين أن هناك حرب مواقع بين الطرفين من أجل الهيمنة، بحسب تعبير غرامشي.

نظرية العقد الاجتماعي…واكتشاف حدود الحرية

لا يوجد اتفاق على حدود ليبرالية المجتمع المدني، فبينما يرى البعض أن صون الحقوق هو محور فكرته ومن ثم أن تنظيمها يتطلب إبرام عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، يرى البعض الآخر أن صون المنافع هو محور حركته. فبينما يرى البعض جوهره الحرية الشخصية، يرى البعض الآخر أن المساواة هي جوهره. وبينما يرى البعض أن ليبراليته تقود إلى تعددية ثقافية، يرى البعض الآخر أن ليبراليته تقود بالضرورة إلى ثقافة مشتركة، هي نوع من تجانس الهوية الوطنية.

يرى جاد الكريم في العقد الاجتماعي الشكل العقلي للحق والأخلاق، فهو من المبادئ الناظمة للحياة الاجتماعية والضامنة لوحدة الجماعة وازدهارها وبه فقط ترتقي الجماعة المعنية إلى جماعة سياسية أي أمة حديثة([67])، وهو ينسجم مع تعريفه السابق للمجتمع المدني بأنه فضاء الحرية، وبأنه مجتمع العمل والإنتاج أي المتمحور حول الحقوق والواجبات وحرية التعاقد، وقد رسخت لدى شعبه فكرة احترام القانون. لذلك وجدناه قد تبنى نظرية جان جاك روسو في العقد الاجتماعي، ويعارض بها نظرية هوبز حين يصفها بالسوداوية([68]). حيث الاجتماع البشري عند هوبز قائم على الضرورة، في حين الاجتماع البشري عند روسو مؤسس على حرية الأفراد في التعاقد الطوعي الحر. وبحسب رأيه، نجحت نظرية روسو في المقاربة النقدية لجدلية السيد والعبد عند هيغل غير المتلائمة مع تعريف المجتمع المدني بصفته فضاء للحرية.

أمام مغريات الرغبة في الحرية الناجزة، نجده ينحاز إلى جانب نظرية روسو في العقد الاجتماعي، لأنها تعكس ظروف شعب أنجز ثورته الديمقراطية، وانتصر على الملكية المطلقة وهزم نظام الاستبداد، وبات قادرًا على تأسيس الجمهورية، وفرض عقد اجتماعي يرجح كفة المحكوم على الحاكم، ما يرفع صفة القداسة عن الحاكم، ويحوله إلى مجرد موظف لدى الشعب.

ولكن أمام اختلاف ظروف واقع المجتمعات تتراجع المفاضلة النظرية السابقة لحساب الضرورة. حيث يقدم لنا هوبز صورة أخرى للتعاقد الاجتماعي تحتاج إليها المجتمعات المنقسمة دينيًا وعرقيًا، وما زالت تخوض حروبها الأهلية والدينية، حيث الكل يخوض حربه ضد الكل، عندها يتراجع واقع المجتمع من الحالة المدنية إلى الحالة الطبيعية. وذلك ليس خيارًا حرًا كما يحلو للبعض تفسير فكر هوبز، بل تحول يمليه واقع الحال على شعب ما، ويكون بمنزلة الضرورة، عندها تتقدم مسألة حفظ السلم الأهلي كأولوية على مسألة الحقوق الفردية. وكان تصور هوبز للحل بالتعاقد مع تمتع الحاكم بصلاحيات واسعة، يحقق من خلالها سلام المجتمع المدني. هنا الاستبداد يكون مستنيرًا لأن الحاكم سلطته مقيدة بقانون وغاية، وهو ليس عدوًا للمجتمع المدني، إنما لمن يهدد سلامه الداخلي.

لقد صاغ جاد الكريم موقفه في سنوات السلم الأهلي، أي قبل اندلاع ثورات الربيع العربي، وتحولها إلى سلسلة من الحروب الأهلية المديدة، وأصبحنا إزاء مجتمعات منقسمة طائفيًا وعرقيًا ومناطقيًا وباتت شعوبها شتات. الأمر الذي يجعلنا نتسأل في ما إذا كان سيعيد النظر في موقفه من نظرية هوبز في ضوء مستجدات الواقع الراهن أم يبقى رهانه قائمًا على طوبى الثورة المنتصرة عند روسو؟

وعلى الرغم من ذلك هو يستدرك ما فاته ويستلهم دروس الغزو الأميركي للعراق، فنجده يرفض (الديمقراطية التوافقية)، كأساس للتعاقد الاجتماعي، فهي ديمقراطية المذاهب والطوائف والإثنيات، والتي لا تعدو أن تكون محاصصة على السلطة وهدنة بين حربين أهليتين. وكذلك الأمر يعلن رفضه (الديمقراطية العددية) التي قوامها صندوق الاقتراع لا حكم الشعب، فهي تخفي في ثناياها نزعة مذهبية سنية أو شيعية([69]). ويعارضهما بالتعاقد على دولة نظامها ديمقراطي علماني، يفصل ما بين الدين والدولة، والحكم فيها خاضع لاختيار الشعب.

جدل الدولة الوطنية والأمة الحديثة

طرح جاد الكريم مفهومًا جديدًا للأمة بمواجهة النظرة السائدة في الفكر القومي التقليدي والرومانسي عن الأمة العربية، باشتقاقه المفهوم من وجود الأمة الفعلي وشكل وجودها السياسي، ومن الشعب الفعلي وتحديده الذاتي أي الدولة القائمة بالفعل([70]). وبموجب ذلك التعريف الذي يطابق بين المجتمع المدني والأمة، تصبح الدولة الوطنية الشكل السياسي لوجود الأمة الحديثة، ومن دونها ينتفي وجودها أو تنعدم فرص تكونها في التاريخ، فهي القادرة على عقلنة المجتمع وإنماء المشتركات بين أفراده، فبدلالة البعد السياسي للمفهوم تكون عبارات، الدولة السورية والدولة العراقية…الخ، مرادفة لوجود أمم عربية عدة في الواقع، هي الأمة السورية، والأمة العراقية، والأمة اللبنانية… إلخ

وكما نرى مفهوم الأمة الجديد، يعارض تمامًا سردية الفكر القومي التقليدي عن نفسه حين يؤكد في أدبياته، أن (القومية العربية تمر بأزمة حادة ناشئة عن تخلف الفكر عن العمل)([71])، وليس بسبب أنها وهم أو طوبى، وأن للأمة العربية جذورًا تاريخية، تعود لما قبل ظهور الإسلام، وقد تبلورت مع مجيء الإسلام. وباعتقاد أصحابه (مفهوم الأمة العربية لا يستند إلى العنصر أو النسب، وإنما تكون حول اللغة والتعريب والتراث الثقافي([72]). ليأخذ ذلك المفهوم طابعًا ثقافيًا وليس تحديدًا سياسيًا كما يفترض أن يكون. ويؤكد ذلك الفكر أن انتشار الوعي القومي بين صفوف الشعب، لم يأتِ نتيجة تبشير أيديولوجي، وإنما انتشر في فترة ما بين الحربين، والحرب العالمية الثانية بالكفاح ضد الاستعمار وبانتشار الثقافة. أما عن صلة القومية بالتراث، فهو يميز (بين العودة للماضي، وبين النظرة التي تجعل من الماضي حافزًا ونقطة انطلاق للأمام)([73]). ليخلص إلى النتيجة التي تقول: (لا سبيل للقضاء على الكيانات الفاسدة إلا بثورة كلية لا تأتي من فوق، بل يجب أن تبدأ من القاعدة، وتمثل الشعب)([74]).

طبعًا جاد الكريم لا ينكر أهمية اللغة العربية كفضاء ثقافي لشعوب المنطقة، كما لا يعارض أو يقلل من أهمية الوحدة العربية وضرورتها من حيث المبدأ، ولكنه ينتقد أوهام الفكر القومي، التي قادته إلى معاداة الدولة القطرية كما مر معنا بالفقرة السابقة، ولتصل به في ما بعد إلى معادة فكرة الدولة الحديثة([75])، ليمنع بموقفه السلبي هذا، استثمار وجودها الفعلي في إدخال العقلانية إلى المجتمع وإنتاج الأمة الحديثة.

ليستنتج من ذلك كله، أن الدولة الوطنية هي الشكل السياسي للأمة وللحداثة معًا.

وقد وجدناه في ذلك الموقف يتقاطع مع نظرية الأمة الحديثة التي بلورها عالم الاجتماع (أرنست غلنر) الذي عرف الأمة: بأنها (الصلة بين وحدة سياسية وثقافية)([76]). لأن من وجهة نظره، المجتمعات الصناعية بحاجة إلى ثقافة قومية تنتجها الأمة، فتكون بدلًا من ثقافة التراث. حيث ينفي غلنر وجود ثقافة قومية تؤسس الأمة، والصحيح عنده، أن الدولة القومية هي التي تنتج بوساطة المدرسة، ثقافة قومية وتخلق الأمة. يحصر غلنر نظريته بالأمم الحديثة، ناقدًا مفهوم النهضة القومية، وبرأيه الأمر يتعلق بميلاد أمة، وليس بنهضة أمة([77])، لأننا بصدد أمم حديثة التكوين. وبذلك هو يرى أن بناء الأمة يأتي من الأعلى وليس من الأسفل، فالشكل السياسي هو الذي يحدد هوية الأمة وليس العكس، لذلك هو يتطابق في رؤيته لمفهوم الأمة، مع أطروحة جاد الكريم الجباعي في بناء الأمم العربية الحديثة، ويؤسس لها على الصعيد النظري.

يفترق موقف أرنست غلنر عن موقف جاد الكريم في اعتراف الأول بوجود أمم قديمة إلى جانب الأمم الحديثة لا تنطبق عليها أطروحته، حيث يعدّ تحقيق القطيعة الثقافية مع التراث، شرطًا أساسيًا في وجود الأمة الحديثة. هذا في حين يعدّ جاد الكريم الأمة والدولة، كلتيهما ظاهرة حديثة.

ولكن نظرية غلنر لم تسلم بدورها من النقد، حيث وجه إليها ألان تورين نقدًا تاريخيًا نافذًا، مستلهمًا تجارب دول عدة مثل: ألمانيا وإيطاليا واليابان في التحديث والحداثة، هو لا ينكر فيه دور الدولة في التعبئة وفي صناعة القومية من الأعلى، ولكنه في الوقت نفسه، يرفض أن تكون الأمة وحدها هي الشكل السياسي للحداثة، حيث تبقى مجرد فاعل أساسي في التحديث، ويشاركها في لعب ذلك الدور، تراث الأمة([78]). والذي يربط بموقفه هذا، وجود الأمة بتوافر شرطين هما: وجود الدولة السياسية الحديثة والحفاظ على الثقافة القومية أو إحياؤها من جديد.

تقوم فرضية جاد الكريم الجباعي على أن الأمة السورية واللبنانية…الخ، هي أمم حديثة التكوين، نشأت في ظل الدولة القطرية غير المعترف بشرعية وجودها من الخطاب القومي السائد، كونها (وضيعة ودنسة)، في حين هي أمم قائمة بالفعل وباتت حقيقة موضوعية تثبت ذاتها بذاتها، ولا تحتاج إلى براهين على وجودها من خارج شروط وجودها([79]).

لذلك نجده ينتقد نظرية (العروبة الثقافية) كجوهر للأمة عند ساطع الحصري وعبد العزيز الدوري، كونها فصلت مفهوم الأمة العربية عن مفهوم الدولة([80]).

كما ينتقد جاد الكريم مجددًا التعبئة السياسية التي تقوم بها تنظيمات الإسلام السياسي الجهادية باسم الأمة مستخدمة الدين والتراث في تسويق مشروعها السياسي لتدارك تأخر الأمة ومدخلًا لتجديد نهضتها، فيجدها: (ظاهرة رعاعية فاشية، تعبر عن سقوط العقل والضمير، فالدين منفتح، ولكن تحويله إلى عقيدة دينية أو عقيدة قومية، يقطع صلته بالحياة، وينحرف به لتسويغ العنف والعسف والاستبداد والإرهاب والفوضى والاعتباط)([81])، وذلك كله يحدث برأيه، باسم دين مفترى عليه في الواقع.

لقد تنبه جاد الكريم باكرًا لخطر هذه الميليشيات الجهادية الطائفية على مشروع الدولة الوطنية، حيث كان بروزها مؤشرًا على بدء انحلال الدولة وإخفاقها في منطقتنا العربية، بفقدها حق احتكار العنف، ونقل سلطة رعاية القانون من أجهزتها إلى خارج أبنيتها الرسمية.

على سبيل الخاتمة:

مداخل نقدية للحوار حول أفق المشروع الإحيائي

المدخل الأول: حول تحديات قيام الدولة الوطنية

الإشكالية التي قام عليها المشروع هي التحدي الذي تشكله الأنظمة التسلطية ذات الطابع الشمولي لإحياء المجتمع المدني وإقامة دولة الحق والقانون، وهي رؤية سيادية تنادي بأن الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطات. بينما من وجهة نظرنا يجب إعادة التفكير في المشروع بمواجهة ثلاثة تحديات متكاملة تحتجز تطوره، وليس بمواجهة تحدي قوة واحدة. التحدي الأول، هو ممانعة الأنظمة التسلطية في الداخل لقيام دولة الحق والقانون. والتحدي الثاني، يتمثل بمسار العولمة الراهنة، الذاهب باتجاه بناء دول رخوة السيادة في الجنوب، الأمر الذي يوجب التفكير في تحسين شروط الانخراط فيها مستقبلًا بأقل الخسائر. والتحدي الثالث، يتمثل بخطر الميليشيات الطائفية الجهادية، التي أعلنت نفسها كوارث للدولة العربية المخفقة، وتحويلها المنطقة إلى ساحة حرب مفتوحة بين محوري السنة والشيعة؟

المدخل الثاني: حول شكل دولة التعاقد العربية

في عقب حرب أهلية مديدة، وإخفاق الدول، وهزيمة الثورات، نرجح نشوء المجتمع المدني تحت إدارة حكم دستوري مقيد أو نظام تدخلي لدولة مستبدة عادلة، وهو الذي تحدث عنه هوبز في تبرير سلطة الحكم المطلق المستنير لما بعد الحرب الأهلية في إنكلترا بين عامي (1642 و1651).

ومثل هذا التصور أو الاحتمال، يسقط تلك الفرضية التي تتحدث عن شكل وحيد ناجز للديمقراطية هي الديمقراطية الليبرالية تساهم في نشوء المجتمع المدني. فالنظام الديمقراطي لمجتمع مفتوح على المنافسة الحرة في المجالين الاقتصادي والسياسي، هو مسار من التسويات بين النخب السياسية والشعب، قد تتسع أو تضيق خطواته باتجاه بلوغ هدفه، بحسب التوازنات داخل وخارج المجتمع، وهذه الرؤية تعطي رجحان لروحية ومثالية هيغل، على حساب موقف ماركس ومادية فلسفة الأنوار.

المدخل الثالث: حول مسؤولية إخفاق تأسيس الدولة

هناك ظلم بتحميل الليبرالية العربية مسؤولية إخفاق التأسيس للدولة العربية الناجزة، بسبب قبولها التصالح مع السلفية بصيغة توفيقية مشتركة جمعت ما بين العروبة والإسلام، بينما من دعم بروز أحزاب إسلامية وشجع على نمو النزعة السلفية في المشرق العربي إبان مرحلة الانتداب الاستعماري في حقيقة الأمر، هي الدول المنتدبة نفسها، وذلك من أجل مواجهة المد الشيوعي في المنطقة. صحيح أنها قامت بهيكلة دولة ليبرالية تعطي أهمية للأفراد في مستعمراتها غير أنها من جهة ثانية قامت باختيار الزعمات التقليدية الموالية لها، وتجاهلت قيادات المجتمع الفعلية، وفرضت عليها ما تريده بالقوة([82])، مسببة شرخًا في العلاقة بين الدولة والمجتمع زاد فيه عدم الاعتماد على معايير الكفاءة في تشكيل البيروقراطية، واستبدالها بالمحاصصات الدينية والطائفية والعرقية، ما أجهض مأسسة الدولة، وحولها إلى هياكل مؤسسات برلمانية فارغة من حب الوطن والكفاءة والعقلانية والسلطة الشرعية، وتسبب بإضعاف فكرة الدولة في وجدان الشعوب العربية.

المدخل الرابع: حول غياب الحامل الاجتماعي

إن الصيغة الإحيائية التي قام عليها المشروع، تراهن على دور الطبقة الوسطى، هذا في وقت بدأت فيه هذه الطبقة بالتفكك والأفول منذ مطلع عقد سبعينيات القرن الماضي، ليس في منطقتنا العربية فحسب، بل على مستوى العالم بأسره، وذلك مع توسع سلطة الشركات متعددة الجنسية، حيث شاهدنا تفكك دولة الرعاية الاجتماعية في الشرق والغرب والمراكز والأطراف، وكيف بدأت مكتسبات الطبقة الوسطى تتبخر وتزول. يعرض (جويل كوتكين) لهذه العملية الجارية من الاضمحلال والتفكك قائلًا: (في الولايات المتحدة، المعقل التاريخي لتطلعات الطبقة الوسطى، تراجعت فرص أصحاب الدخل المتوسط في الارتقاء إلى الدرجات العليا لسلم الدخل بمعدل 20 في المئة تقريبًا منذ مطلع ثمانينيات القرن العشرين. لكن تراجع الارتقاء الاجتماعي بات ظاهرة عالمية. فهو يحدث أيضًا في أفريقيا جنوب الصحراء وروسيا، وكذلك في أميركا اللاتينية والهند)([83]).

أما في منطقتنا العربية فقد جرى تفكيك الطبقة الوسطى، والذهاب بكل ما راكمته من إنجازات مادية وأخلاقية واجتماعية طوال عقود، وخصوصًا في زمن الربيع العربي.

والسؤال الذي يمكن طرحه هنا:

من هي الفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة بحمل عبء المشروع في زمن الحروب الأهلية المديدة وتدمير المدن وثقافة المدينة، وعودة الاستعمار إلى منطقتنا العربية؟

مراجع البحث

1- الجباعي. جاد الكريم، وردة في صليب الحاضر (بيروت: دار الفرات، 2008).
2- ____، المجتمع المدني وهوية الاختلاف (دمشق: دار ترقيا، 2003).
3- ____، قضايا النهضة (دمشق: دار علاء الدين، 2003).
4- الجابري. محمد عابد، المثقفون في الحضارة العربية: محنة أبن حنبل ونكبة ابن رشد (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1995).
5- الحافظ. ياسين، اللاعقلانية في السياسة العربية، ط2 (دمشق: دار الحصاد، 1997).
6- ____، الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، ط1 (بيروت، دار الطليعة، 1979).
7- العروي. عبد الله، العرب والفكر التاريخي (بيروت: دار الحقيقة، 1998).
8- ____، في مفهوم الحرية، ط2 (بيروت: دار التنوير، 1983).
9- ____، في مفهوم الدولة، ط2 (بيروت، دار التنوير، 1983).
10- خليفة. فريال، نقد فلسفة هيجل (بيروت: دار التنوير، 2006).
11- الأتاسي. نشوان، تطور المجتمع السوري 1831-2011 (بيروت: دار أطلس، 2015).
12- الدوري. عبد العزيز، الجذور التاريخية للقومية العربية (دمشق: مطابع دار البعث، 1978).
13- البيان الشيوعي، مختارات لماركس وأنجلس، البيان الشيوعي، المجلد الأول، (موسكو: دار التقدم، د.ت).
14- ماركس أنجلس، بصدد الدولة (موسكو: دار التقدم، 1986).
15- بولانتزاس. نيكوس، السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1989).
16- تورين. ألان، نقد الحداثة (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1997).
17- كوتكين. جويل، قدوم الإقطاع الجديد تحذير إلى الطبقة الوسطى العالمية (دمشق: وزارة الثقافة، 2023).
18- مرقص. إلياس، نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن (بيروت: دار الحقيقة، 1970)..

1- جاد الكريم الجباعي، واقع السياسة وآفاقها، نشرة المواطن، العدد 1 (2002).
2- جاد الكريم الجباعي، وردة في صليب الحاضر (بيروت: دار الفرات، 2008)، ص 160.
3- الجباعي، نشرة المواطن.
4- محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1995)، ص 16.
5- جاد الكريم الجباعي، المجتمع المدني هوية الاختلاف (دمشق: دار ترقيا للطباعة والنشر، 2003)، ص 207.
وهو بذلك الموقف ينسجم إلى حد بعيد مع موقف ياسين الحافظ الذي يجد (في الأيديولوجيا السائدة في المجتمع العربي مفوتة ومتيبسة ليس لأنها أيديولوجيا رجعية فحسب، بل هي أيديولوجيا متأخرة أيضًا)
6- ياسين الحافظ، اللاعقلانية في السياسة العربية، ط2 (دمشق: دار الحصاد، 1997)، ص 99.
7- الجباعي، وردة في صليب الحاضر، ص 85.
8- الحافظ، اللاعقلانية، ص 99-100.
9- نذكر من بين هؤلاء طه حسين، وخالد محمد خالد
10- الجباعي، المجتمع المدني، ص 60.
11- المرجع نفسه، ص 64.
12- الجباعي، وردة في صليب الحاضر، ص 43.
13- جاد الكريم الجباعي، قضايا النهضة (دمشق: دار علاء الدين، 2003)، ص 230.
14- المرجع نفسه، ص 233.
15- الجباعي، المجتمع المدني، ص 68.
16- المرجع نفسه، ص 16.
17- المرجع نفسه، ص 17.
18- المرجع نفسه، ص 14.
19- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي (بيروت: دار الحقيقة، 1980)، ص 166.
20- المرجع نفسه، ص 166.
21-وهو القانون ذاته تقريبًا الذي استخلصه إلياس مرقص من تجربة ثورة أكتوبر الروسية وهو (قانون الاجتماع والتحول، اجتماع الثورتين الديمقراطية والاشتراكية، إذ تتحول فيه مهمات الأولى إلى الثانية)، والذي عده قانون الثورة الدائمة في زمن الإمبريالية. راجع:
إلياس مرقص، نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن (بيروت: دار الحقيقة، 1970)، ص 57.
22- العروي، العرب والفكر، ص 167.
23- ورد ذلك التوقع في البيان الشيوعي، الذي صاغه ماركس قبل أسابيع من ثورة فرنسا سنة 1848، والذي عدّه ماركس نفسه: (قد شاخ في بعض نقاطه) في مقدمة للطبعة الألمانية 1872.
24- الجباعي، المجتمع المدني، ص 38.
25- العروي، العرب والفكر، ص 166.
26- عبد الله العروي، في مفهوم الحرية، ط2 (بيروت: دار التنوير، 1983)، ص 36.
27- راجع نقده للوعي المفوت التقليدوي أو التقليدوي الجديد للإنتلجنسيا العربية بوجه عام، والنخب السياسية العربية بوجه خاص التي تصالحت مع الدين في: ياسين الحافظ، الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، ط1 (بيروت: دار الطليعة، 1979)، ص 182 وما بعد.
28- (راجع اعترافه بالتأثر بفكر ياسين الحافظ وإلياس مرقص وعبد الله العروي وتفضيله ياسين عليهما في (الجباعي، وردة في صليب الحاضر، ص 19).
29- الجباعي، وردة في صليب الحاضر، ص 84-85.
30- الجباعي، المجتمع المدني، ص 28.
31- المرجع نفسه، ص 27.
32- د. فريال خليفة، نقد فلسفة هيجل (بيروت: دار التنوير، 2006)، ص 263.
33- عبدالله العروي، مفهوم الدولة، ط2 (بيروت: دار التنوير، 1983)، ص 41.
34- المرجع نفسه، ص 42+ ماركس، أنجلس، بصدد الدولة (موسكو: دار التقدم، 1986)، ص 49.
35- خليفة، نقد فلسفة هيجل، ص 262.
36- ماركس، ص 92.
37- الجباعي، المجتمع المدني، ص 43.
38- المرجع نفسه، ص 48.
39- المرجع نفسه، ص 49.
40- المرجع نفسه، ص 48.
41- المرجع نفسه، ص 236.
42- المرجع نفسه، ص 237.
43- المرجع نفسه، ص 263.
44- المرجع نفسه، ص 273.
45- المرجع نفسه، ص 205.
46- المرجع نفسه، ص 206.
47- المرجع نفسه، ص 207.
48- نشوان الأتاسي، تطور المجتمع السوري 1831-2011 (بيروت: دار أطلس، 2015)، ص 208.
49- الجباعي، المجتمع المدني، ص 46.
50- المرجع نفسه، ص 34.
51- المرجع نفسه، ص 46.
52- المرجع نفسه، ص 42.
53- المرجع نفسه، ص 42.
54- المرجع نفسه، ص 28.
55- نيكوس بولانتزاس، السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية (القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1989)، ص 252.
56- المرجع نفسه، ص 252.
57- المرجع نفسه، ص 252-253.
58- ألان تورين، نقد الحداثة (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1997)، ص 223.
59- المرجع نفسه، ص 225.
60- الجباعي، وردة في صليب الحاضر، ص 72.
61- الجباعي، المجتمع المدني، ص 23.
62- المرجع نفسه، ص 24.
63- المرجع نفسه، ص 138.
64- الجباعي، وردة في صليب الحاضر، ص 73.
65- المرجع نفسه، ص 76.
66- المرجع نفسه، ص 76.
67- المرجع نفسه، ص 34.
68- الجباعي، المجتمع المدني، ص 139.
69- الجباعي، وردة في صليب الحاضر، ص 110.
70- المرجع نفسه، ص 59.
71- عبد العزيز الدوري، الجذور التاريخية للقومية العربية (دمشق: مطابع دار البعث، 1978)، ص 8.
72- المرجع نفسه، ص 91.
73المرجع نفسه، 103.
74- المرجع نفسه، ص 104.
75- الجباعي، وردة في صليب الحاضر، ص 15.
76- تورين، ص 186.
77- المرجع نفسه، ص 187.
78- المرجع نفسه، ص 188.
79- الجباعي، وردة في صليب الحاضر، ص 56.
80- المرجع نفسه، ص 91.
81- المرجع نفسه، ص 143.
82- الأتاسي، ص 62 وما بعد.
83- جويل كوتكين، قدوم الإقطاع الجديد، تحذير إلى الطبقة الوسطى العالمية (دمشق: وزارة الثقافة، 2023)، ص 119.

  • كاتب سوري، يحمل إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، صدر له كتاب بعنوان (نقد الفكر السياسي) عن دار الينابيع بدمشق 2002، وشارك في كتاب بعنوان (عبد العزيز الخير) من إصدارة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر. كتب عشرات الدراسات في الدوريات العربية.

مشاركة المقال: