أثر الهيمنة الناعمة في إعادة إنتاج العنف الرمزي عند جاد الكريم الجباعي

تحولات سريعة ومتنامية تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، والمجتمعات العربية بصورة خاصة، تتجلى في تدهور الأوضاع المعيشية، وتأكُّل النسيج الاجتماعي، وتعمق الأزمة في بنيتها السياسية والاجتماعية، تظهر في انتشار العنف والفساد وتراجع الحقوق والحريات.

هذه الأوضاع المحتدمة كانت محل معالجة وقراءة من المفكرين العرب، بهدف البحث عن أصولها وجذورها، في محاولة لطرح الرؤى التجديدية للخروج من المأزق، وضمن هذا السياق يأتي مشروع المفكر السوري جاد الكريم الجباعي، الذي سعى من خلال كتاباته لفك شفرة العنف المتصاعد والسلطة الغاشمة، وتلك هي الصورة الأبرز للواقع العربي المعاصر، محاولًا عبر تحليلاته الفلسفية والنقدية، تقديم قراءة عميقة لمفهوم “الهيمنة الناعمة”، وعلاقته بالسلطة والعنف في المجتمعات العربية.

يشكل مفهوما السلطة والعنف محورًا أساسيًا في الفلسفة السياسية، إذ يتداخلان ويتفاعلان بطرائق معقدة. ويختلف التعريف الدقيق لكليهما باختلاف السياق الفلسفي والتيارات الفكرية والمفكرين. وعلى نحو مُبسط، يمكن تعريف العنف بأنه استخدام القوة الجسدية أو النفسية لإلحاق الأذى بالآخرين، أكان هذا الأذى مباشرًا أم غير مباشر. أما السلطة، فهي القدرة على التأثير في سلوك الأفراد والجماعات وتحقيق الأهداف المرغوبة، وذلك باستخدام مجموعة متنوعة من الأدوات والأساليب، بما في ذلك القوة والإقناع. ولذلك يرتبط العنف بالسلطة ارتباطًا وثيقًا، حيث يمكن استخدامه كأداة للحفاظ على السلطة، أو وسيلة للحصول عليها، ما يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة العلاقة بينهما.

قدَّم جاد الكريم الجباعي، انطلاقًا من تجربته مع المجتمع السوري والعربي، تحليلًا عميقًا للعلاقة المعقدة بين السلطة والعنف. مُركزًا بصورة خاصة على مفهوم “الهيمنة الناعمة”، الذي تناوله باستفاضة في كتابه “فخ المساواة”، حيث يرى أن “الهيمنة الناعمة” هي شكل من أشكال العنف الذي يمارَس بطرائق خفية ودقيقة، ما يزيد من صعوبة اكتشافه ومقاومته. لذلك اتجه للكشف عن آليات عمل هذه الهيمنة وكيفية تغلغلها في الأنسجة الاجتماعية والثقافية. والكشف عن الارتباط الوثيق بين العنف الناعم والسلطة الناعمة، وكيف يؤثر هذا الارتباط في وعي الأفراد والشعوب العربية، مستهدفًا تسليط الضوء على أهمية مقاومة هذه الهيمنة، وتطوير إستراتيجيات الخلاص منها.

مفهوم العنف

يمثل مفهوم العنف لدى الجباعي تجاوزًا للتصورات التقليدية التي تحصر العنف في الإطار المادي. ففي رؤيته الشمولية، يتعدى العنف إلى الأبعاد النفسية والرمزية والاجتماعية، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بممارسة السلطة وبنية المجتمع. إذ رأى أن العنف يتجسد في مختلف مظاهر الحياة اليومية، متسللًا إلى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فالتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، والتمييز، وحتى أساليب التربية والتعليم، يمكن أن تحمل في طياتها أشكالًا خفية من العنف. ومن ثم، فإن العنف، وفقًا للجباعي، هو محاولة للهيمنة والسيطرة على الآخر، أكانت هذه الهيمنة مباشرة من خلال القوة الجسدية أم غير مباشرة من خلال آليات اجتماعية وسياسية معقدة.

قدَّم الجباعي تصنيفًا متعدد الأبعاد للعنف، فهو لا يقتصر على العنف الجسدي الملموس، كالحروب والمعارك، بل يتجاوز ذلك إلى أشكال أكثر خفية وعمقًا، مثل العنف الرمزي الذي يتجسد في الآليات الثقافية والأيديولوجية التي تساهم في استدامة الهيمنة. ويعدّ الجباعي “الهيمنة الذكورية” نموذجًا واضحًا للعنف الرمزي والهيمنة الناعمة، حيث تعمل هذه الهيمنة على ترسيخ علاقات قوة غير متكافئة بين الجنسين من خلال آليات نفسية واجتماعية خفية. ويستغل النظام السياسي هذه الهيمنة لتبرير سلطته عبر خطابات أيديولوجية تستند إلى مفهومات “الطبيعة” و”الفطرة”.

يتوافق هذا التحليل مع أفكار عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو الذي رأى أن الهيمنة الذكورية هي نتيجة لعملية اجتماعية طويلة الأمد، تنتج من التفاعل بين البُنى الاجتماعية والفاعلين الاجتماعيين. والجباعي يعتقد في النهاية أن “العنف هو العنف، واقعيًا كان أم رمزيًا، تمتد جذوره إلى مركزية إثنية أو مذهبية هي مركزية ذكورية تولد أشكالًا شتى من العنصرية” بحسب ما ذكره في كتابه “فخ المساواة”.

وبحسب رؤيته، يؤدي العنف الاقتصادي دورًا حاسمًا في الاستغلال، ويظهر في أشكال الاستغلال المنهجي للطبقات الفقيرة، وتكريس الهوة بين الأغنياء والفقراء من خلال آليات السوق الرأسمالية. وبذلك يقدم الجباعي تحليلًا شاملًا للعنف، يربط بين أبعاده المختلفة مثل الثقافية والاقتصادية، ويسلط الضوء على أثرها على المجتمعات.

تتجذر أسباب العنف في بنية المجتمع، وعنده ترتبط بعوامل هيكلية متشابكة، إذ يرى أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية، مثل الفقر والبطالة، تخلق بيئة خصبة لانتشار العنف، وتدفع الأفراد إلى التصرف بطرائق عنيفة بحثًا عن سبل البقاء أو تحقيق العدالة، وأنه “من المهم توكيد حقيقة تاريخية مفادها أن الدولة الليبرالية ارتبطت بالتنافس، وأن الدولة الاستبدادية ارتبطت ولا تزال ترتبط بالاحتكار. وإذ يرتبط التنافس بالتوازن النسبي بين القوى الاجتماعية والسياسية يرتبط الاحتكار باختلال التوازن، وينتج التطرف والعنف ويقود إلى الحرب”؛ وهو ما ذهب إليه في كتابه “المجتمع المدني هوية الاختلاف”.

سلَّط الجباعي الضوء على دور التوترات الدينية والعرقية في تغذية الصراعات، حيث تُساهم هذه التوترات في تعميق الانقسامات الاجتماعية وتشجيع الخطاب المتطرف. إضافة إلى ذلك، شدد على دور التعصب الفكري والسياسي في تأجيج العنف، حيث يؤدي تهميش الأفكار المعارضة وقمع الحريات إلى تراكم الاحتقان والغضب، ومن ثم قد ينفجران في شكل أعمال عنف.

لذلك تتعدى عواقب العنف عند الجباعي الأضرار المادية والمعنوية المباشرة، لتشمل آثارًا عميقة وطويلة الأمد على بنية المجتمع وهويته، فمن أبرز هذه العواقب تشويه العلاقات الإنسانية وتعميق الانقسامات الاجتماعية، ما يؤدي إلى تأكل الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع. ويُساهم العنف في ترسيخ أنظمة استبدادية، حيث يُستغلّ كأداة للحفاظ على السلطة وقمع المعارضة. ومن ثم فإن العنف يهدد بتفكك النسيج الاجتماعي، ويؤثر سلبًا في التماسك المجتمعي والهوية الوطنية.

وهو ما تنتجه الهيمنة الناعمة التي تؤدي دورًا حاسمًا في انشطار الذات الإنسانية، وتفتيت هويتها، فمن خلال آلياتها المختلفة، تسعى هذه الهيمنة لخلق تناقضات عميقة داخل الفرد، ما يؤدي إلى فقدان التوازن النفسي والشعور بالانتماء، وأبرز نتاج لها هو العنصرية.

في كتابه “فخ المساواة” شرح الجباعي رؤيته لهذه الآفة، حيث ذكر أن “العنصرية، بما تنطوي عليه من تطرف وأصولية، وما تنتجه من عنف سافر أو مكبوت، هي التعبير الجلي عن هوية فردية أو جماعية مأزومة، أو شكل من أشكال انشطار الذات. تتجلى أزمة الهوية الفردية في اضطراب الهوية الجنسية، للذكور والإناث، وتشوشها، وفي التعبيرات الكاريكاتورية والسلوكيات التعويضية، وتتجلى أزمة الهوية الجماعية في الشوفينية القومية والأصولية الدينية المصنعتين إيديولوجيًا على نحو تغدو معه كل منهما عنوانًا لثقافة جماهيرية عامة، واللتين تمنح كل منهما نفسها حق وضع المبادئ والمعايير وفرضها على المجتمع بالحديد والنار، إن لم يفلح الإقناع”.

ربطًا بمولدات التناقض والعنصرية لدى الأفراد، نظر الجباعي باهتمام إلى التأثيرات المتراكمة للهيمنة الناعمة وظهور هويات متصارعة داخل الفرد الواحد. فمن جهة، هناك الهوية الأصيلة التي ترتبط بالجذور الثقافية والتاريخية، والتي تحمل في طياتها القيم والمعتقدات التي تشكل هوية الفرد. ومن جهة أخرى، هناك الهوية المفروضة من الخارج، والتي تسعى لطمس الهوية الأصيلة واستبدالها بهوية جديدة تتوافق مع مصالح القوى المهيمنة.

هذا التصادم بين الهويتين يؤدي إلى ما يسميه الجباعي “ازدواجية الهوية أو الانشطار” فالفرد يجد نفسه محاصرًا بين هويته الأصيلة وهويته المفروضة، الأمر الذي يولد لديه شعورًا بالغربة والاغتراب. فإنه لا ينتمي على نحو كامل إلى أي من الهويتين، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الشعور بالاستقرار والانتماء، ويولد لديه صراعًا داخليًا مستمرًا. نتيجة لهذا الانشطار، يعاني الأفراد صعوبة في تحديد هويتهم، ويجدون صعوبة في بناء مشروع حياة متماسك. كما أن هذا الانشطار يضعف قدرتهم على المقاومة، ويجعلهم أكثر عرضة للتلاعب والسيطرة.

مفهوم السلطة

مادية ومعنوية، هكذا طرح الجباعي تحليلًا شاملًا لمفهوم السلطة، تتجاوز كونها مجرد أداة سياسية محددة، فهناك أيضًا سلطة رمزية تشمل بنية اجتماعية وثقافية أوسع. حيث يصفها الجباعي بأنها شبكة معقدة من العلاقات والقوى التي تشكل وتوجه سلوك الأفراد والمجموعات، وتتميز هذه السلطة بكونها تعمل بصورة غير مباشرة عبر آليات مثل التربية والتعليم والأيديولوجيا، لتشكل وعي الأفراد وتوجهاتهم. ومن ثم، فإن السلطة في فهم الجباعي ليست مجرد قسر أو إكراه، بل هي نظام متكامل يهدف إلى تنظيم وتنسيق الحياة الاجتماعية من دون وعي الأفراد بذلك.

تظهر السلطة دائمًا في فكر الجباعي كعلاقة جدلية بين نقيضين قويين، لذلك يقرر في كتابه “فخ المساواة” أنه “لما كانت السلطة، المادية والمعنوية، أو الرمزية، علاقات قوة، خشنة وناعمة، فمن غير المنطقي تصور سلطة لا تقابلها معارضة ومقاومة، (هي سلطة مضادة)، أو قوة لا تقابلها قوة مكافئة أو غير مكافئة. فلا يتأتى عنف إلا من فائض القوة، الذي يتعدى حدود التكافؤ، ومن شروط إمكانه، المادية والمعنوية، في المجتمع المعني. فإذا كانت السلطة المادية تتركز في الأمر والنهي والسيطرة والإخضاع والتصنيف والتوزيع والمراقبة والعقاب وكل ما من شأنه أن يدرأ عنها الموت والفناء، فإن السلطة المعنوية ناعمة ورهيفة، تسري في الجسد المذكر والمؤنث من دون أن يشعر بها”.

ويمكن تحليل رؤية الجباعي حول السلطة في النص السابق في نقاط عدة كالآتي:

  1. السلطة بوصفها علاقات قوة: تبدأ الفقرة بتعريف السلطة كعلاقات قوة، أكانت هذه القوة مادية (قوة السلاح، القوانين) أم معنوية (الأفكار، القيم، الثقافة). هذا التعريف يشير إلى أن السلطة ليست حالة ثابتة، بل هي نتيجة لتفاعل مستمر بين القوى المختلفة في المجتمع.
  2. السلطة والمقاومة: تؤكد الفقرة أن السلطة لا يمكن أن توجد بمعزل عن المقاومة، أي سلطة، مهما كانت قوية، ستواجه حتمًا مقاومة من الأفراد أو الجماعات الذين يشعرون بالظلم أو الاستغلال. هذه المقاومة قد تكون صريحة أو ضمنية، سلمية أو عنيفة.
  3. فائض القوة والعنف: تربط الفقرة بين العنف وفائض القوة. فحينما تتجاوز قوة طرف ما حدود التكافؤ مع قوة الطرف الآخر، فإن هذا الفائض يؤدي إلى العنف. وهذا العنف يمكن أن يكون ماديًا أو رمزيًا، مباشرًا أو غير مباشر.
  4. السلطة المادية والمعنوية: تميز الفقرة بين نوعين من السلطة، السلطة المادية والسلطة المعنوية. السلطة المادية هي السلطة التي تستند إلى القوة المباشرة، مثل القوة العسكرية أو الاقتصادية. أما السلطة المعنوية فهي أكثر دهاءً، فهي تعمل على مستوى الأفكار والقيم والمعتقدات، وتسعى لتوجيه سلوك الأفراد من دون اللجوء إلى القوة المباشرة.
  5. السلطة المعنوية ووعي الأفراد: تشير الفقرة إلى أن السلطة المعنوية تعمل بصورة خفية، حيث تسري في أذهان الأفراد من دون أن يشعروا بها. هذا النوع من السلطة يعتمد على تكوين وعي معين لدى الأفراد، يجعلهم يقبلون بوضعهم الحالي من دون مقاومة.

جدلية العلاقة بين السلطة والعنف

يرى الجباعي أن العلاقة بين السلطة والعنف علاقة جدلية متداخلة، تؤثر كل منهما في الأخرى على نحو كبير، فمن ناحية، تسعى السلطة المثالية إلى تحقيق شرعيتها من خلال رضا المحكومين وتوافقهم، ومن ثم تقلل من الحاجة إلى العنف المباشر. وتتجلى هذه السلطة في النظم الديمقراطية التي تستند إلى مبدأ التوافق المجتمعي. ومع ذلك، يشير الجباعي إلى أن السلطة غالبًا ما تستخدم العنف كأداة للحفاظ على نفسها وتوسيع نفوذها. ففي الأنظمة غير الديمقراطية، يصبح العنف أداة أساسية للحكم والقمع، أكان هذا العنف مباشرًا كما في حالات القمع والإرهاب، أم غير مباشر من خلال خلق ظروف اجتماعية واقتصادية تفرز العنف الهيكلي والتهميش، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أن العنف ليس مجرد وسيلة لقمع المعارضة، بل هو أيضًا أداة لبناء الهوية الجماعية للسلطة الحاكمة. فمن خلال خلق “عدو خارجي” أو “داخلي”، يتمكن الحكام من حشد الدعم الشعبي، وتوجيه الانتباه بعيدًا من المشكلات الداخلية، ومن ثم تعزيز شرعيتهم. وبهذا المعنى، فإن العنف ليس مجرد نتيجة لإخفاق السلطة، بل هو أداة أساسية في ممارسة السلطة نفسها، وهو جزء لا يتجزأ من بنية المجتمعات التي تسودها أنظمة غير ديمقراطية.

بصورة عامة، تمارس السلطة دورها من خلال مجموعة من الأدوات القمعية، أكانت أجهزة أمنية أو قوانين تمييزية، الأمر الذي يؤدي إلى خلق بيئة من العنف والاستبداد، تؤثر في جميع نواحي الحياة، وبذلك فإن الأنظمة السياسية العربية تؤدي دورًا محوريًا في إنتاج وإعادة إنتاج العنف، فهو يشير إلى أن سياسات القمع التي تمارسها هذه الأنظمة، والتي تتجسد في قمع الأفراد، وانتهاك حقوق الإنسان، واستخدام القوة المفرطة، تساهم بصورة كبيرة في تعميق الهوة بين الحاكم والمحكوم، الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز الشعور بالظلم والإحباط لدى فئات واسعة من المجتمع.

تُعد الردود العنيفة التي تظهر في كثير من الأحيان -في رأيه- نتيجة لهذه السياسات القمعية ليست إلا ردة فعل طبيعية على الظلم الذي يعانيه الناس. فبدلًا من معالجة الأسباب الجذرية للعنف، تُساهم هذه السياسات في تغذية دائرة العنف، حيث يؤدي القمع إلى مزيد من المقاومة، والمقاومة بدورها تؤدي إلى مزيد من القمع. ويذهب الجباعي إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أن الأنظمة السياسية لا تكتفي بممارسة العنف القمعي، بل تستخدم أيضًا العنف الرمزي، من خلال الترويج لأيديولوجيات قومية أو دينية متطرفة، والتي تعمل على تقسيم المجتمع وتشجيع الصراع بين مختلف الفئات الاجتماعية.

السلطة الرمزية “الهيمنة الناعمة” بوصفها شكلًا من أشكال العنف

على الرغم من طابعها المرن وغير المباشر، تمثل السلطة الرمزية أو الهيمنة الناعمة في حقيقتها شكلًا من أشكال العنف. ووفقًا لكتابات الجباعي فهي تستخدم أدوات ثقافية وإعلامية للتأثير في الأفكار والمعتقدات والسلوكيات، الأمر الذي يُمكّنها من إعادة إنتاج الهياكل الاجتماعية والسياسية الاستبدادية من دون الحاجة إلى اللجوء إلى القوة المادية المباشرة.

وتعدّ “الهيمنة الثقافية” أبرز أدوات الهيمنة الناعمة، حيث تعمل على فرض قيم ومعايير معينة على المجتمع، وتقويض أي تحدٍ لهذه القيم، وبحسب كتابه “فخ المساواة” فإنه “إذا كان المجتمع بنية علائقية، فإن العلاقات المتبادلة، التي هي النسيج الحي للمجتمع، تتضمن دلالات رمزية متفق عليها اجتماعيًا. هذه الدلالات هي القوة السحرية التي تستدخل الهيمنة على أنها أمر طبيعي ومنطقي خالٍ من أي إكراه خارجي، ذلك لأن هذه الدلالات الرمزية تستثير استعدادات كانت قد تشكلت بالتلقين وممارسة الطقوس، واستحوذت على اعتراف عام بأهميتها ومشروعيتها. وقد يشار إليها على أنها هوية الجماعة المعنية وخصائصها (أو خصوصيتها) التي تميزها من غيرها من الجماعات”؛ ومن ثم فإن الهيمنة الثقافية تساعد في الحفاظ على الوضع القائم، وتمنع أي تغيير جذري في النظام الاجتماعي.

من هنا، يشترك الجباعي مع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في رؤية السلطة كشبكة معقدة من العلاقات والقوى التي تخترق جميع جوانب الحياة الاجتماعية، وكما يرى فوكو أن السلطة لا تقتصر على الدولة أو المؤسسات الرسمية، بل تتغلغل في جميع مؤسسات المجتمع، يرى الجباعي أيضًا أن السلطة تتجاوز الأشكال التقليدية للسلطة السياسية لتشمل أشكالًا أكثر دهاءً مثل السلطة الثقافية والإعلامية. ومع ذلك يبرز الجباعي خصوصية السياق العربي من أن العنف المادي يؤدي دورًا أكثر وضوحًا في ممارسة السلطة مقارنة بالغرب. ففي حين ركز فوكو على العنف الرمزي والسلطة المعنوية، رأى الجباعي أن العنف المباشر هو أداة أساسية للحفاظ على الأنظمة الاستبدادية عربيًا.

بينما يظهر اختلافه مع رؤية الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت في مسألة العلاقة بين السلطة والعنف. فبينما ترى آرندت أن السلطة الحقيقية لا تحتاج إلى العنف، بل تستند إلى التوافق والتراضي، وأنه من غير الممكن أن يلتقي العنف والمفهومات السياسية مثل السلطة، يرى الجباعي أن العنف هو جزء لا يتجزأ من ممارسة السلطة في عديد من السياقات، خاصة في السياقات القمعية. ويرى أيضًا أن العنف ليس مجرد انحراف عن السلطة، بل هو أداة أساسية للحفاظ عليها وتوسيع نطاقها. ففي الأنظمة الاستبدادية، يصبح العنف أداة روتينية لترهيب الأفراد.

نحو تفكيك الهيمنة الناعمة

عرض مشروع الجباعي رؤية شاملة لأبعاد الهيمنة الناعمة وكيفية تفكيكها، فهو يدعو إلى تغيير جذري في البنى التي تنتج هذه الهيمنة، بدءًا من المؤسسات التعليمية والإعلامية وصولًا إلى الأطر القانونية، كما شدد على أهمية الوعي النقدي لدى الأفراد كأداة لتحريرهم من هذه الهيمنة.

بدأ الجباعي بتفكيك البُنى الأيديولوجية المتمثلة بالنظام التعليمي الذي يؤدي دورًا حاسمًا في إنتاج الهيمنة، حيث يلقّن الأجيال المقبلة قيمًا ومعتقدات معينة. لذلك تجب إعادة هيكلة النظام التعليمي بحيث يشجع على التفكير النقدي والإبداع، ويوفر للأفراد الأدوات اللازمة لتحليل الواقع وتحدي الأفكار المهيمنة. ومن ثم الانتقال إلى المؤسسات الإعلامية فهي تعدّ أداة قوية لنشر الأفكار والتأثير في الرأي العام.

داخل الإطار، يجب العمل على تنويع مصادر الإعلام، وتشجيع الإعلام المستقل، ومحاربة الأخبار الكاذبة والشائعات. وأخيرًا القوانين التي تؤدي دورًا مهمًا في ترسيخ الهيمنة، حيث يمكن استخدامها لتعزيز مصالح فئة معينة على حساب فئات أخرى. لذلك تجب مراجعة القوانين القائمة وإلغاء تلك التي تتعارض مع مبادئ العدل والمساواة.

وفي النهاية، يؤكد الجباعي أهمية الوعي النقدي كأداة لتحرير الأفراد من الهيمنة. فمن خلال الوعي النقدي، يمكن أن يكتشف الأفراد الآليات التي تستخدمها السلطة للسيطرة عليهم، وأن يرفضوا الأفكار والمعتقدات التي لا تتوافق مع قيمهم.

  • باحثة ومترجمة مصرية، معيدة بقسم الفلسفة كلية الآداب بجامعة سوهاج، باحثة ماجستير في تخصص فلسفة التاريخ والحضارة، نشرت عددًا من المقالات والدراسات المترجمة في مجلات ودوريات عربية.

مشاركة المقال: