ندوة حوارية بعنوان:
فكر جاد الكريم الجباعي من منظورات مختلفة
المشاركون:
أحمد مظهر سعدو جبر الشوفي حسام الدين درويش
ميادة كيالي ميّة الرحبي هنادي أبو حميدة
في إطار الاحتفاء بالمفكر السوري جاد الكريم الجباعي، نظَّم منتدى تفاكر ومؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر ندوةً حواريةً بعنوان “فكر جاد الكريم الجباعي من منظورات مختلفة”، وذلك يوم السبت 28 أيلول/ سبتمبر 2024، الساعة 18:00 بتوقيت برلين، عبر منصة زوم:
جبر الشوفي: جاد الكريم الجباعي في مفاصل من (فخ المساواة؛ تأنيث الذكر وتذكير الأنثى)
ميادة الكيالي: المجتمع المدني وهوية الاختلاف في تجربة جاد الكريم الجباعي
أحمد مظهر سعدو: جاد الكريم الجباعي وفكره الديمقراطي
مي الرحبي: المرأة في فكر جاد الكريم الجباعي
الدكتور حسام الدين درويش: بغض النظر عن أي موقف سياسي يمكن أن يمتلكه الشخص، لكن بالفعل، هذه اللحظات وهذه الأيام استثنائية ومؤثرة (سلبًا) في حياة كثيرين، مع استمرار الهجوم الوحشي الإسرائيلي على قطاع غزة، وبدء القصف الإسرائيلي للبنان. ويبدو أن القادم مجهول أكثر. ولهذا السبب، كان هناك تفكير بأن تؤجل هذه الندوة، لأن الناس منشغلون ومشغولون، وليسوا في أجواء أو أمزجة مناسبة للدخول والنقاش والاستماع لمثل هذه المسائل. ولكن، من ناحية أخرى، هناك مقاومة وممانعة لهذا التأجيل، ولعدة أسباب؛ أولًا: يبدو أنه لا وجود لأفق واضح لأن يكون هذا الحدث استثنائيًّا ولفترةٍ قصيرةٍ فقط؛ لأنه من الممكن أن يستمر إلى الغد أو حتى بعد الغد، أو بعد أسبوع أو أكثر. فالحالة الاستثنائية هي الحالة العادية بمعنى ما. ثانيًا: في بعض الأحيان، نحتاج إلى مسافة من هذه المتابعة ومن هذا الانشغال، وإذا استطعنا إيجاد شيء ننشغل به عن ذلك، أعتقد أن ذلك ليس سيّئًا، حتى “نفسيًّا وفكريًّا”. ولهذه الأسباب، اتُخِذ القرار بأن نستمر في هذه الندوة، على الرغم من كل شيء، وسيتم توثيقها وتسجيلها، ومن ثم تفريغ وتسجيل الحوار، وبعدها سينشر بشكل صوتي ومكتوب؛ أي إن الناس حتى لو لم يستطيعوا المتابعة حاليًّا، سيكون لديهم المجال للمتابعة لاحقًا. سأتوقف أنا هنا لأسلّم الراية موقتًا للعزيزة “هنادي أبو حميدة”؛ تفضلي هنادي.
أ. هنادي أبو حميدة: شكرًا دكتور حسام على هذه اللفتة اللطيفة للأحداث الراهنة، نرحب بالضيوف، أهلًا وسهلًا بكم ضيوفنا الأكارم، نرحب بكم جميعًا في هذه الندوة الثالثة من الندوات الفكرية الاحتفائية، والتي ينظمها منتدى “تفاكر” بالتعاون مع مؤسسة “ميسلون”، تكريمًا للمفكر السوري الكبير “جاد الكريم الجباعي”، واليوم الندوة ستكون بعنوان “فكر جاد الجباعي من منظورات مختلفة”، نرحب بالدكاترة والأساتذة المشاركين معنا في الندوة، سيكون معنا الدكتورة “ميادة كيالي” والأستاذ “جبر الشوفي” والدكتورة “ميّة الرحبي” ومعنا أيضًا الدكتور “حسام الدين درويش” والأستاذ “أحمد مظهر سعدو”، سنبدأ مع الدكتورة “ميادة كيالي” وهي باحثة وكاتبة سورية، تحمل شهادة الدكتوراه في الحضارات القديمة. تشغل حاليًّا منصب المدير العام لمؤسسة مؤمنون بلا حدود في بيروت والشارقة. كما أنها تدير مؤسسة سراج للأبحاث والدراسات في هيئة أبو ظبي للإعلام. ساهمت الدكتورة ميادة في إنتاج ونشر أكثر من 400 إصدار، شملت كتبًا وأبحاثًا متميزة في مجالات الفلسفة والفكر والدراسات الدينية. تفضلي دكتورة “ميادة”.
الدكتورة ميادة كيالي: مساء الخير وشكرًا على هذا التقديم، وبالتأكيد أضمّ صوتي إلى صوت الدكتور “حسام”، وأشير إلى أن أهمية فكر جاد الكريم الجباعي تتناسب مع المرحلة التي نعيشها، وتسعدني المشاركة في ملف العدد السادس عشر من مجلة “رواق ميسلون”، والذي يحتفي بالمفكر السوري “جاد الكريم الجباعي”، وهو أحد أبرز الشخصيات الفكرية في العالم العربي المعاصر، والذي كان لي الشرف أن أصدر واحدًا من مؤلفاته المهمة، وهو “فخ المساواة: تأنيث الرجل وتذكير المرأة”، من خلال مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” التي أشرف عليها، وهو الضيف العزيز في المؤسسة من خلال مقالاته وأبحاثه العديدة المنشورة على الموقع.
تكريمه اليوم ليس مجرد احتفاءٍ بشخصه، بل هو اعتراف بقيمة الأفكار التي قدّمها، والتي ساهمت وتساهم بصورة كبيرة في تطوير الوعي الاجتماعي والسياسي في العالم العربي، في وقت تحتاج فيه المجتمعات العربية إلى مراجعة عميقة لأسسها الفكرية والثقافية.
يعدّ الأستاذ جاد الكريم الجباعي واحدًا من الكتاب السوريين الذين احتلّوا مكانة بارزة في مجال الفكر والثقافة والنقد؛ فقد ارتبطت تجربته الثقافية بتجربة سياسية غنية، وإنتاج معرفي كبير بين كتب وأبحاث ومقالات، إضافة إلى مشاركات واسعة في عديد من الندوات الفكرية والمؤتمرات العلمية. ولن أسرد هذه المنجزات، ومؤسسة ميسلون ومنتدى تفاكر، قاما، في الحقيقة، بإنجاز كبير في تسليط الضوء عليها. ويكفيني أن أؤكد على مساهمة جاد الجباعي، من خلال هذا الإنتاج المعرفي، في نشر الأفكار والنقاشات حول القضايا الفكرية والسياسية المعاصرة، مما يعكس التزامه بالمساهمة في الحوار الفكري العربي قصد ملامسة قضايا المجتمع المدني والهوية والحرية.
تعكس تجربة الجباعي تداخل الفكر السياسي مع القضايا الاجتماعية والثقافية، مما جعله شخصية بارزة في الساحة الفكرية العربية، تناهض الأيديولوجيات المستلبة التي تهيمن على الفكر العربي، وتدعو إلى وعي نقدي يمكّن الأفراد من التفكير على نحو مستقلّ بعيدًا من الأنساق المغلقة مثل المذهبية والأقوامية.
ويختلف نصُّ الجباعي عن النصوص التي يكتبها كثيرٌ من الأكاديميين والباحثين في ميدان الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة؛ إذ لا مسافة تفصل بين روح الجباعي ونصّه المكتوب، فهو لا يكتب بروحية المثقف الموظف أو الأستاذ الجامعي المأسور ظاهريًا بالأكاديميا، بل بروحية المفكِّر المهموم بقضايا مجتمعه، وبالرغبة في النهوض، ولذلك سيشعر القارئ للجباعي، كما يقول الدكتور حازم نهار: “بروحه دائمًا بين الكلمات أو سيكتشف بسهولة أن كلماته معجونة بدمه ولحمه وأعصابه”.
• الحرّية: قيمة أساسية
شكلت الحرية، بالنسبة إلى الجباعي، الأساس الذي يجب أن يقوم عليه أيّ مشروع نهضوي؛ فهو يرى أن غياب الحرية يؤدي إلى استبداد الأنظمة وإضعاف المجتمع المدني. ومن خلال كتاباته، أبرز الجباعي كيف أن الحرية ليست مجرد شعار، بل هي عملية مستمرة من التحرر من القيود الفكرية والاجتماعية والسياسية. لقد أرسى مفهوم الحرية بشقّيها “حرية التفكير، وحرية التعبير”، بوصفها مفتاحًا لفهم كلٍّ من الديمقراطية والمجتمع المدني. ورَبَطَ مفهوم الحرية بمفهوم السياسة التي أعاد تعريفها بكونها تشاركًا حرًّا ومبدعًا في الحياة العامة وحياة الدولة، وإدارة الشؤون العامة، وإدارة الاختلاف. يكتب، في هذا الصدد:
“لا معنى لحرية التفكير من دون حرية التعبير … إنّ كلّ قيدٍ على حرية التعبير يترجم اجتماعيًّا وأخلاقيًّا إلى قيد على السلوك، وعلى مبادئ العمل ومبادئ الإنتاج الاجتماعي. هذه العلاقة بين حرية التعبير وبين مبادئ السلوك ومبادئ العمل والإنتاج الاجتماعي هي التي تفسّر العادات والتقاليد والأعراف والشرائع الكابحة للحرية من جهة، وتكشف القناع الأخير الذي يقنِّع الاستبداد من الجهة المقابلة”.
لقد تضمنت أفكاره دعوة لإعادة تأسيس السياسة كحقل عام يتجاوز الأيديولوجيات الضيقة؛ هذا التأسيس يكون حين نتعلم النظر إلى السياسة والحياة السياسية على أنّها “أرقى أشكال الحياة الاجتماعيّة، التي تمثلها الدولة الوطنية الديمقراطية”، مؤكدًا أنَّ دور السياسة هو “نزع العنف والتعصب والكراهية من العلاقات الاجتماعية، التي تنسج البنى الاجتماعية وتعين قواعد إنتاج السلطة، وفقًا لقواعد إنتاج المعرفة والقيم الحاكمة”. لقد قدم توصيفًا مهمًّا للسياسة بوصفها: “تشاركًا حرًّا ومبدعًا في الحياة العامة وحياة الدولة، وإدارة الاختلاف، بمقتضى العقل والحكمة، ومبادئ العدالة (المساواة والحرية وتكافؤ الفرص وتساوي الشروط)، وحل التعارضات الاجتماعية الملازمة بطرائق وأساليب وأدوات سلمية”.
• الديمقراطية وبناء المجتمع المدني
تناول الجباعي، من خلال كتاباته، قضايا الهوية، والديمقراطية، والمجتمع المدني وهوية الاختلاف، بأسلوبه التحليلي والنقدي، حيث تمحورت رؤيته التحليلية حول فهم الديناميات الاجتماعية والسياسية، في السياقات العربية، مع التركيز على دور المجتمع المدني، الذي شكل في فكره حجر الزاوية لبناء دولة حديثة، بوصفها الفضاء الذي يتمكن فيه الأفراد من تحقيق ذواتهم والمشاركة في الشأن العام. وقد عارض، بمفهومه هذا، الخطابات الأيديولوجية التي تسعى إلى إلغاء التنوع وتوحيد الهوية بطريقة قسرية. فالجباعي يرى أن المجتمع المدني يجب أن يقوم على التعددية والاعتراف بالاختلاف؛ لأنهما المصدر الأغنى للمجتمع.
ويشير الجباعي إلى الالتباسات الكثيرة التي تحيط بمفهوم المجتمع المدني، في الكتابات العربية، ولا سيما في البلدان التي عانت من التسلط والاستبداد، وعانت من أنظمة وأدَت جنين الدولة الوطنية الحديثة على حد تعبيره، وهو يعزو هذه الالتباسات إلى “سديمية مفهوم الدولة، في ثقافتنا، والتباس مفهوم الأمة، ومفهومي “الدولة القومية”، و”الدولة الإسلامية”، وغياب مفهوم الشعب ومفهوم المجتمع، حتى القرن التاسع عشر، إضافة إلى الغبار الأيديولوجي، الذي غطى عملية أو سيرورة الإجهاز على جنين الدولة الوطنية الحديثة الاستقلال…”.
وإذ يرى الجباعي أن المجتمع المدني عنصر أساسي في بناء الهوية الوطنية والديمقراطية، فإنه يؤكد، في الوقت ذاته، أنّ النظم الاستبدادية غالبًا ما تسعى إلى تقويض المجتمع المدني. وقد نظَّر لذلك من خلال دراسة ورصد لكيفية تأثير هذه الأنظمة في العلاقات الاجتماعية، وكيفية قدرة المجتمع المدني على إعادة تشكيل هذه العلاقات من خلال تعزيز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. لذا، شكلت كتاباته مرجعًا مهمًّا لفهم التغيرات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي من جهةٍ، وتشديدًا على ضرورة تجاوز الأزمات التاريخية من خلال بناء مجتمع مدني قويّ قادر على مواجهة التحديات من جهةٍ أخرى، مع التنبيه إلى أنَّ الاختلاف والتنوع عناصر ضرورية لتكوين مجتمع متماسك. فالهوية ليست ثابتة، بل تتطور عبر التاريخ، وتحتاج إلى بيئة ديمقراطية تسمح بالتفاعل الحرّ بين الأفراد والمجموعات المختلفة، وهو ما تناوله بالدرس الواسع في كتابه المهم “المجتمع المدني هوية الاختلاف”، الذي ناقش فيه كيفية تشكل الهوية في سياق المجتمع.
ويعد هذا الكتاب من أهم إسهامات الأستاذ جاد الجباعي، بوصفه يتناول بالدرس المجتمع المدني من منظور فكري عميق، ويقدّم تحليلًا لمفهومات الحداثة والواقع العربي، وهو يتساءل عن طبيعة المجتمع: هل هو مجرد مجموعة من الأفراد المرتبطين بإرادة العيش المشترك، أم هو تفاعلات معقدة بين الأفراد والجماعات؟ كما يناقش مفهوم العمل ودوره في تشكيل المجتمع، بوصف العمل ركيزة أساسية لنشوء المجتمعات.
وبدلًا من الصراع الطبقي، يمكن أن يحقق المجتمع المدني اندماجًا أعمق للأفراد في بيئتهم الاجتماعية؛ إذ من المستحيل أن يجمع الفرد بين الطائفية والوطنية في آن واحد، لتبقى السلطة التشريعية ممثلًا رئيسًا لإرادة الشعب، وحق المواطنين في الثورة ضد الحكام الفاسدين. ويرى الجباعي، من جهة أخرى، أن الاختلاف لا يقتصر على الجوانب السطحية، بل يتعمق في القيم والمعتقدات، مما يعكس تنوع التجربة الإنسانية.
لقد أكد جاد الكريم الجباعي على العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، حيث “لا يوجد أحدهما إلا بوجود الآخر ولا ينتفي إلا بانتفائه، … وهذه العلاقة الجدلية بينهما هي التي تجعل المجتمع يتحول شيئًا فشيئًا إلى مجتمع ديمقراطي، أركانه الأمن والسلام والرفاهية، فلا ينمو المجتمع المدني ولا يتطور إلا في ظلال الأمن والسلام، ونفي الحروب والنزاعات”.
وما انفك يؤكد أنًّ الحديث عن المجتمع المدني هو حديث عن مستقبل ممكن وواجب، ولكن عن أيّ مجتمع مدنيّ يتحدث؟ إنَّه يتحدث عن مجتمع لا يسوده الحزب الواحد، أو الأقليات الأوليغارشية، أو المؤسسات الدينية، بل هو مجتمع يصفه الجباعي بأنَّه “الحالة الاجتماعية التي تحقق للأفراد اندماجًا أعمق في وسطهم الطبيعي والاجتماعي؛ فمن المستحيل اندماج الفرد في المجتمع وبقائه أسير الروابط الأولية؛ أي لا يمكن أن يكون الفرد طائفيًّا ووطنيًّا في آن معًا”.
وعليه، يجسد المجتمع المدني تعاقدًا قانونيًّا بين حرائر ومستقلات، وأحرار ومستقلين. هذا حدٌّ فارق بين التقليد والحداثة، بل هو حدٌّ فارق بين الحضارة والمدنية، وهو حد فارق بين مبدأين مختلفين جذريًّا من مبادئ إنتاج السلطة؛ أحدهما هو تقاسم السلطة وفق نسبة القوى، (المحاصصة)، بحسب الاعتبارات المعروفة للقوة، (قوة الشوكة وقوة العصب وقوة المال والقوة المعنوية…وقوة ظهير إقليمي أو دولي)، والثاني هو الانتخابات الصحيحة، وفق قانون انتخاب عادل، وهي الطريق الفضلى إلى سيادة الشعب.
• قضية الهوية والاختلاف
قدم الجباعي، من خلال أعماله، رؤيةً شاملةً حول دور الاختلاف في تشكيل الهوية المجتمعية، ورأى في المجتمع المدني عنصرًا أساسيًّا، في هذا السياق؛ فهوية المجتمع المدني تتشكل من خلال الاختلاف والتنوع. وقد أكد في كتابه “المجتمع المدني هوية الاختلاف”، على أهمية التنوع والاختلاف كمحرك أساسي للتطور والتقدم في المجتمع؛ فالتنوع يساهم في بناء هوية المجتمع المدني وتعزيز الاندماج الاجتماعي، وأشار إلى “أنَّ الهوية ليست ثابتة، بل تتطور عبر التاريخ من خلال التفاعل الاجتماعي والتنوع. فالاختلاف هو شكل تعين الحرية في الواقع، ليس فقط على الصعيد المادي، بل أيضًا على صعيد الأفكار والقيم والتصورات والآراء والعقائد والتوقعات والمطالب”.
وتكمن أهمية التنوع والاختلاف في تشكيل هوية المجتمع المدني، من منظور الجباعي، في كون التنوع محركًا مهمًّا في التطور، وليس عامل تفرقة وصراع، بل هو جزء أساسي من الوجود الإنساني. فالاختلاف ليس مجرد ظاهرة سطحية، بل هو عنصر حيوي في تشكيل الهوية الفردية والجماعية. وتأتي الأفكار الرئيسة التي قدمها عن الاختلاف، كالآتي:
– الاختلاف وجود؛ فالاختلاف في نظره “معطى وجودي” لا يحتاج إلى إثبات، بل يمكن إدراكه من خلال الحواس والعقل، وهذا يعني أن الاختلاف جزءٌ لا يتجزأ من طبيعة الحياة.
– الحرية والتنوع: يرى أن الاختلاف تجسيد للحرية، حيث يتيح للأفراد التعبير عن أنفسهم وأفكارهم وقيمهم. وهذا التنوع يعزز من قدرة المجتمع على التطور والتقدم.
– الهوية: يشدد على أن الهوية ليست ثابتة، بل تتشكل وتتطور من خلال التفاعل بين الأفراد المختلفين. وهذا التفاعل هو الذي يثري المجتمع ويعزز وحدته.
– المجتمع المدني: يربط الاختلاف بالمجتمع المدني، ويرى أن المجتمع المدني يلعب دورًا حاسمًا في تعزيز التنوع وحماية حقوق الأقليات؛ فمن خلال دعم الاختلاف، يمكن تحقيق التوافق بين مختلف فئات المجتمع.
وفق ما تقدم، يُعدّ الاختلاف عند الجباعي عنصرًا أساسيّا في بناء مجتمع ديمقراطي ومتعدد الثقافات، حيث يُعزز من الحرية، ويُساهم في تشكيل هويات متنوعة.
في ختام القول، لا يمكنني أن أقرأ أفكار الأستاذ جاد الكريم الجباعي حول المجتمع الوطني، الهوية، والاختلاف من دون أن أبحث انعكاسها المباشر على الحالة السورية الراهنة. لقد عانت سورية لعقود من الاستبداد والانقسامات الطائفية والقومية، مما أضعف النسيج الاجتماعي، وأفقد المجتمع أسباب نهوضه.
في هذا السياق، تبرز أفكار الجباعي كخريطة طريق، ربما لإعادة بناء المجتمع السوري على أسس جديدة.
إنَّ المجتمع المدني، كما نظّر له الجباعي، يمكن أن يكون نقطة البداية لإعادة النهوض بسورية؛ فبدلًا من الاستمرار في الصراعات والانقسامات التي مزقت الوطن، يمكن أن يستعيد المجتمع السوري حيويته من خلال تبني قيم التنوع والاختلاف التي تحدث عنها الجباعي. فهذه القيم هي التي تجعل المجتمع قويًّا وقادرًا على مواجهة التحديات، حيث إنَّ قبول التنوع واحترام الاختلاف يعززان من تماسك المجتمع، ويمنعان انزلاقه نحو مزيد من العنف والاضطهاد.
تعدّ الهوية السورية، كما وصفها الجباعي، هوية مركبة ومعقدة تتأثر بالتنوع الثقافي والديني والعرقي، وهو تنوع يجب أن يُنظر إليه كعنصر قوة وليس ضعفًا. إن إحياء مفهوم الهوية الوطنية الجامعة، التي تتسع للجميع، وتُعلي من شأن المواطنة المتساوية، هو ما يمكن أن يشكل الأساس لبناء سورية جديدة، تتجاوز جراح الماضي، وتتطلع إلى مستقبل أكثر إشراقًا.
إن تطبيق أفكار الجباعي على الحالة السورية يتطلب من الجميع، مؤسسات وأفرادًا، العمل معًا لتعزيز المجتمع المدني، وتشكيل هويات جديدة تقوم على أساس التعددية والعدالة. يجب أن يكون الهدف بناء دولة وطنية ديمقراطية، تكون فيها السياسة جهدًا مستمرًّا لتحسين ظروف الحياة الاجتماعية، وتحقيق مصالح جميع فئات المجتمع، كما يجب إعادة التفكير في مفهوماتنا حول الهوية والسياسة بطريقة تتجاوز الأيديولوجيات الضيقة والتوجهات السلطوية، لنبني مجتمعًا مدنيًّا قويًّا يضمن الحقوق والحريات للجميع.
أتوقف للمرة الثانية مع ما قاله الدكتور حازم نهار عن الجباعي: “إنّه من المفكرين الذين رفعوا راية الفكر النقدي، وأبرزوا أهميته في تحليل تفكيرنا … ولمّا كان التفكير النقدي رحلة طويلة ومستمرة من العراك مع الفكر والواقع، فقد كان يتجاوز نفسه ووعيه دائمًا، فلم يحد نفسه بأسقف أيديولوجية أو شعاراتية أو سياسية، ولذلك كانت آفاقه الفكرية مفتوحة دومًا على التطور”.
لذا، فإنَني أعيد وأكرر أنّ تكريم فكر جاد الكريم الجباعي اليوم، ليس مجرد احتفاءٍ بشخصه، بل هو دعوة ملحّة لنا جميعًا لاستثمار أفكاره في بناء مجتمع سوري جديد قادر على النهوض والتقدم، مجتمع يقوم على أسس الحرية والديمقراطية والتعددية، ويستفيد من تنوعه كعنصر قوة لا ضعف.
إن تكريم جاد الكريم الجباعي اليوم، هو تكريم للفكر الحرّ والتنويري الذي يهدف إلى بناء مجتمعات تقوم على أسس الحرية والديمقراطية والتعددية. فأفكاره تشكل دعوة مستمرة للمجتمعات العربية لتجاوز الأيديولوجيات المغلقة والاتجاه نحو مستقبل أكثر إشراقًا وعدلًا.
إنني أشدّ على أيديكم جميعًا كمؤسسات ومهتمّين أن نخرج، بعد هذه الندوة، ببعض التوصيات التي قد نسعى إلى تحقيقها معًا:
1. نشر أعمال الجباعي على نطاق أوسع: فمن الضروري العمل على نشر أعماله، وترجمتها إلى لغات أخرى لتعميم الفائدة منها.
2. تنظيم مزيد من الندوات والحوارات حول فكره: لتعميق الفهم وإثراء النقاش حول القضايا التي تناولها وطرحها.
3. تشجيع البحث الأكاديمي في فكره: تقديم منح دراسية وأكاديمية لدراسة وتحليل أفكاره وتطبيقها في مجالات متعددة.
وأختم بذلك، شكرًا لكم.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا لكِ
أ. هنادي أبو حميدة: شكرًا لك دكتورة “ميادة كيالي”، والآن نرحب بالأستاذ “أحمد مظهر سعدو” وهو كاتب صحفي سوري، ومحلل سياسي في العديد من المحطات الفضائية، يكتب في المواقع الإلكترونية “السورية والعربية”، الأستاذ “أحمد” سيناقش معنا اليوم “فكر جاد الجباعي الديمقراطي”، تفضل أستاذ.
الأستاذ أحمد مظهر سعدو: مساء الخير للجميع، وأسعدتم مساءً كل الذين يشاركونا والذين تحملوا عناء القدوم إلى هذه اللقاءات المفيدة، أنا باعتقادي أن الإطلالة اليوم من خلال ورقتي هذه على فكر العزيز “جاد الكريم الجباعي” وفكره الديمقراطي، تعدّ محطات وإضاءات على بعض القضايا المطروحة في هذا السياق. يعدّ الأستاذ جاد الكريم الجباعي من الشخصيات الفكرية السورية ذات الطابع العقلاني والديمقراطي. بل من القلائل الذين حاولوا وما زالوا يحاولون التنقيب عميقًا في أتون الاشتغال على إعادة صوغ فكر عربي ديمقراطي عقلاني، ينتج حالة متجددة من الفكر السياسي والفلسفي، التي تتماهى جديًا مع ضرورات المرحلة، وتعيد إنتاج متطلبات الواقع السوري والعربي وفق رؤية منفتحة ومتنورة، لا تؤمن بالجمود، ولا تقبل البقاء رهن أسوار الأيديولوجيا، من دون العمل بصورة حثيثة على إعادة بناء صرح الفكر العقلاني الخارج من رحم النظرية ومن ثم التطبيق على حد سواء. كما أنه يمكن النظر إلى النتاجات الفكرية لجاد الكريم الجباعي بوصفها محاولة حقيقية وجادة تدخل في أتون ممكنات واحتمالات التغيير الفكري، وكذلك أساسات التفكير السياسي وفق أسس جديدة ومختلفة، تواكب الحالة المتغيرة في الواقع السوري والعربي، ضمن معطى الاتكاء والاستيعاب لما أنتجه الجيل السابق في سورية والوطن العربي، حيث استوعب جاد الكريم الجباعي مكتسباته، وغاص عميقًا في جوانية وكنه العقل السياسي لديه، وخاصة على يد الراحلين الكبار ذوي الفكر المستنير والعقلاني الديمقراطي، الذين قرأهم وحاورهم جيدًا (أبو حيان) وهم إلياس مرقص، جمال الأتاسي، وياسين الحافظ الذين أسسوا لفكرة (التجمع الوطني الديمقراطي) وعملوا عليه حتى رأى النور.
والحقيقة الناصعة تقول إن المفكر السوري (أبو حيان) قد تمكن عبر اشتغاله الدؤوب، وجهده الدائم، من الإمساك بناصية الفكر الديمقراطي العقلاني، فأنتج لجيلنا وللأجيال التي تليه، الكثير من الكتب والمؤلفات المتميزة، والتي يشعر المرء بينما يتناول بعضها، أنه أمام قامة فكرية قل نظيرها، واضحة وصريحة في تعاطيها، مع أدوات الفكر السياسي والفلسفي، كما أنها متمكنة ورصينة، في تعاطيها مع منتجات الواقع العربي. وهذا ما أعطى جاد الكريم الكثير من مبررات الوجود المعرفي، الواثق والمتمكن من أدواته، على طريق إعادة بناء صرح الفكر العربي، وفق أسس جديدة، ساهمت وما زالت تساهم بصورة لافتة، في إعادة صياغة جدية، لمسارات تطور الفكر الحديث، كما اعتمدت في سياق اشتغالاتها على موضوعات آنية ومستقبلية، عبر إنتاج فكر نقدي قل نظيره، ووعي عقلاني غاية الصراحة والوضوح، متخطيًا بذلك كل التابوات المفترضة، وقادرًا عبر أطروحاته الفكرية، أن يتساوق مع الفكر العالمي الحديث، وهو الدارس لمعطيات وتطور الفكر العالمي في عصرنا الحديث والمتغير.
في إطلالتنا اليوم على بعض محطات الفكر الديمقراطي المعرفي لدى المفكر جاد الكريم الجباعي يمكن أن نقف معه عند بعضها ومنها:
في المواطنة:
يرى جاد الكريم الجباعي أن “المواطنة مشاركة في الماهية والوجود، ومشاركة في الحياة النوعية العامة، أو الحياة العامة، وفي إنتاج المجتمع والدولة وإعادة إنتاجهما، لا مجرد انتماء، قد يكون باردًا وهامدًا، ويغلب أن يكون انتماء إلى عصبية مغلقة، نافية للحرية ونابذة للآخر المختلف والأخرى المختلفة، كالهوية الإثنية أو الدينية أو المذهبية، أو الجهوية أو الأيديولوجية بوجه عام.” وهذا ما يؤسس برأيه إلى ماهية بناء دولة المواطنة الديمقراطية.
في ضرورة العقد الاجتماعي:
ولعل مفكرنا قد لامس عميقًا جل المسائل التي تبنى عليها مسألة (العقد الاجتماعي) المرتجى ضمن أساسات بناء الدولة الديمقراطية، وعبر التلاقي في منتصف الطريق مع متغيرات الواقع المنتج من خلال ثورات الربيع العربي الصاعدة خلال العقد المنصرم من تاريخنا الحديث فيقول في ذلك: “يتطلع السوريون والسوريات، منذ وقت طويل، إلى (عقد اجتماعي جديد) يمهّد الطريق لتحولات ديمقراطية وحياة إنسانية لائقة. ولطالما عدّ الكتّاب والمفكرون مسألة العقد الاجتماعي مسألة مفتاحية، وهي كذلك بالفعل. ولكن ما آل إليه المجتمع السوري من تفكك وتنثر، وما تركته الحرب، التي لا تزال مفتوحة من نتائج كارثية على الاجتماع السوري والحياة الإنسانية و(العمران)، يطرح معنيين متداخلين من معاني العقد الاجتماعي الممكن، الذي يعبّر عنه الدستور، ورؤيتين مختلفتين لطبيعته: المعنى الأول هو ضرورة الانتقال من حالة التناثر والنزاع، التي تشبه (الحالة الطبيعية)، كما وصفها هوبز، أي (حرب الكل على الكل)، إلى الحالة المدنية؛ أو الانتقال من (حالة اللا عقل)، أي حالة الغرائز والعصبيات المنفلتة من أي عقال، إلى (حالة العقل)، بتعبير كانط. والمعنى الثاني يتعلق بالمبادئ التي تؤسس إمكانية التشارك الحر والمبدع في عملية/ عمليات التشكل الاجتماعي وبناء الدولة، وهذه عمليات مستمرة لا تتوقف ولا تنتهي، تتجه نحو تشكل مجتمع مدني حديث، ودولة ديمقراطية حديثة. ويفترض أن تكون هذه المبادئ مبادئ عامة، يقبل بها جميع السوريات والسوريين قبولًا صريحًا أو ضمنيًا؛ ولهذا يُطرح مشروع الدستور للنقاش العام، ثم يستفتى فيه الشعب. ومن البديهي أن القبول العام تعبير مباشر عن حرية الاختيار.”.
كيف يتأسَّس الدستور الديمقراطي؟
يحاول جاد الكريم الجباعي أن يرسم ملامح القاعدة التي يمكن أن يتأسس عليها الدستور المطلوب ضمن حيثيات الاشتغال على بناء دولة ديمقراطية في سياق رسم محددات الدولة السورية الحديثة اذ يقول: “إن القاعدة التي يتأسس عليها الدستور العادل هي العمومية؛ فكل ما ليس عامًا ومشتركًا بين جميع المواطنين والمواطنات لا يصلح أن يكون مبدأ لدستور يتسق مع مبادئ العدالة، ويلبي الحاجة إليها. إذ الدستور هو الذي يعين ماهية الدولة، ونظام الحكم، والذي تشتق منه جميع القوانين، التي تنظم العلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، وعلاقات الدولة بغيرها من الدول. العمومية هي جوهر الدولة، ومعنى الوطنية، التي تعبر عنها المطالبة المتواترة بـ “دولة لجميع مواطنيها ومواطناتها بالتساوي”. أجل، العمومية هي ماهية الدولة الوطنية الحديثة، بخلاف الممالك والإمارات والإمبراطوريات القديمة الوسيطة، وبخلاف دولة الحزب الواحد أو الحزب القائد، كدولة البعث، وبخلاف دولة العائلة أو العشيرة أو الطغمة. وهي، أي العمومية، الصفة الجوهرية للدستور والقانون، التي تجعل المساواة في الحريات الأساسية والحقوق ممكنة. ثمة علاقة تضايف بين العمومية والمساواة، لا تتحقق إلا على جسر الحرية الرابط بينهما؛ العمومية بدون الحرية عماء، والمساواة بدون الحرية عماء؛ الحرية هي التي تجعل من المتضايفين نسقين ديناميكيين، ولذلك تتسق عمومية الدولة مع خصوصيات المجتمع المدني، التي لا يمكن إلغاؤها بدون ثورة على الطبيعة البشرية، وتتواءم المساواة مع اختلاف الأفراد، الذي لا يمكن حذفه إلا بثورة على الطبيعة عمومًا، وعلى الطبيعة البشرية خصوصًا”.
في مفهوم الحرية:
يخط الأستاذ جاد الكريم الجباعي أساسات وأنساق ضرورية من خلال حديثه عن مفهوم الحرية وهي الموضوعة التي كان مشغولًا بها على طول المدى، ولم يترك أي جهد إلا وحاول فيه وعبره معالجتها والتعاطي معها، ورسم محدداتها، وهي بناءات وأسس كانت مختلفة عن كثير مما فعله سواه من المفكرين الذين تعاطوا معها اشتغالًا فكريًا وبحثًا وإنتاجًا معرفيًا. وهو الذي قال فيها: “اختلاف الأشياء والأحياء معطى وجودي، لا يحتاج إلى البرهنة عليه بغير شهادة الحواس وتصديق العقل؛ نفيه هو نفي للوجود العياني؛ ومحاولة السيطرة عليه اعتداء على الوجود. وهو نسبي، في جميع الأحوال، في نطاق الأنواع والأجناس، ومنها الجنس البشري؛ والتجانس المطلق هو الموت. وقد عبر المعري عن ذلك أبلغ تعبير بقوله: رُبّ قبر قد صار قبرًا مرارًا ضاحكٍ من تزاحم الأضداد.” والحرية لديه ” ليست مجرد “مشكلة فلسفية”، وليست مجرد قيمة أخلاقية أو مقولة ميتافيزيقية، بل هي معطى وجودي (أنطولوجي) يتعلق بالطبيعة الإنسانية. الحرية هي ماهية الفرد الإنساني وجوهره؛ هي إنسانيته؛ وعامل تحسُّنه الذاتي؛ إذا تجرَّد منها ينتكس إلى ماضيه الحيواني، وإذا جُرِّد منها، بأي صورة من صور التجريد، يتحول في نظر من يجرده إلى موضوع لسلطته ومادة لإظهار صلفه وغطرسته، ووسيلة لغاياته”.
والجباعي يختلف كثيرًا عن سواه في تعاطيه مع مسألة الحرية ومفهومها إذ يقول: “بخلاف التعريف الشائع للحرية بصفتها “وعي الضرورة”؛ نعتقد أن الحرية هي التي تضع الضرورة أو تنتجها، وتتعيَّن فيها، أي إن الحرية تنتج نفسها في صيغة ضرورة، وتعمل، بلا كلل، على تفكيك هذه الضرورة، من داخلها، ومن خارجها، فتعيد إنتاجها مرة تلو مرة؛ ومن ثم، يجوز القول إن الضرورة هي الحرية مموضعة أو متعيِّنة، وكل تعيُّن هو سلب أو نفي، حسب اسبينوزا، ولذلك رأى هيغل في الدولة حرية موضوعية أو تجليًا للروح الموضوعية، وكان على حق، وإن قلب مقولة اسبينوزا لتصير: كل سلب هو تعين، وفقًا لمذهبه المثالي”.
حول النقد والنخب:
في سياق غوصه ضمن مسائل النقد وحالة النخب والهاجس الديمقراطي المستمر، كان يريد دائمًا أن يقول ضمن تساؤلاته الموضوعية والملحة هذه:” لماذا نغسل وجوهنا كل صباح، ولا نغسل نفوسنا كل مساء، حين يمكن أن نؤوب إلى ذواتنا ونثوب إليها، ولو لمامًا؟ هل لأن الواحد/ة منا مظهرٌ بلا جوهر، أو شبحٌ بلا روح، ليس لديه ما يثوب إليه، على شاكلة “الرجال الجوف”، في قصيدة ت. س، إليوت، والنساء الجوفاوات كذلك؟ هل لأننا، من ثم، (هويات بلا ذوات)، بتعبير فتحي المسكيني، أم لأن كلًا منا غارق في صورته المرآتية، بتعبير مصطفى حجازي، فلا يستطيع أن يرى ذاته في الآخر والأخرى، وهما أساس كينونته الإنسانية؟ ربما لأننا لا نغسل نفوسنا كل مساء، ولا نثوب إلى ذواتنا، ولا نتواصل مع أنفسنا – ضمائرنا، ولا ننقِّي سرائرنا، ولا نسائلها، ولا نفحص معاييرنا المعرفية والأخلاقية، عند اختلاف الظروف وتغير الشروط، ولا نستعمل عقولنا استعمالًا عموميًا، لشدة الأنانية والولع بالخصوصية، ولأننا جميعًا هويات بلا ذوات، ولا سيما “العارفين والعارفات” منا، و(أولي الأمر والنهي) و(أهل الحل والعقد)، ممن يوصفون بالنخبة، وربما لأسباب أخرى كثيرة، يأتي النقد متأخرًا جدًا، إذا أتى، وقد لا يأتي، والله غالب على أمره”.
في معرفة الانسان:
يتحدث جاد الكريم الجباعي كثيرًا عن الإنسان ومعرفة هذا الإنسان، وكيف يتم الخلط بين الإنسان الفرد، والمجتمع الكبير، في إطار المعطى الذي ينتمي إليه الفرد وهو الذي يقول في ذلك: “كنا نظن أننا نعرف الإنسان، الفرد الإنساني، (الأنثى والذكر)، من خلال ما يقوله، وما يفعله، بصفته فردًا مستقلًا، وكائنًا فريدًا، فتبيّن أن ما نعرفه من خلال الأقوال والأفعال يتعلق بالمجتمع الصغير والمجتمع الكبير، الذي ينتمي إليه الفرد، أكثر مما يتعلق بالفرد نفسه/ـا. ذلكم، بحكم الطابع الجمعي والاجتماعي للغة، والمعرفة والثقافة، والطابع الجمعي والاجتماعي للعمل وإنتاج الخيرات (والشرور) المادية والمعنوية. ومن ثم، تكون معرفة المجتمع هي أحد السبل الممكنة لمعرفة الإنسان بصورة موضوعية.” ثم يقول: “المجتمع والدولة مرآتان للطبيعة البشرية، التي تختلف أحوالها من حين إلى آخر ومن مكان إلى آخر، من حيث التبدِّي (من البداوة) والتحضُّر والتمدُّن. البداوة والحضارة والمدنية ثلاث حقب تاريخية، وثلاثة معايير، أو ثلاثة أطر مرجعية، أو “جمل مرجعية” لوصف ما هي عليه الطبيعة البشرية، هنا أو هناك، الطبيعة، التي من خصائصها أنها تنمو وتتطور”.
في الأخلاق والفلسفة والدين:
المفكر الجباعي يشير إلى أن الأخلاق هي موضوعة فلسفية، وليس مسألة دينية بحت، كما يريد بعض المتدينين أن يقولوا في هذا الأمر، لذلك كان لا بد من تفكيكها ومحاولة فهم كينونتها بعمق ووضوح في الآن نفسه وضمن المآلات نفسها. لذلك هو يقول: “الأخلاق موضوع فلسفي وليس دينيًّا فحسب، ولذا فإن من يقصر الأخلاق الإنسانية على الدين يهمل نصف الحقيقة، وكذلك من يقصرها في الفلسفة يهمل الجانب اللاأخلاقي فيها ويدفع بها إلى القدسية. بين المسارات التي انتهجتها الأديان والنظريات التي قدمها الفلاسفة على مر التاريخ يمكننا أن نبني فكرة أكثر توازنًا للأخلاق”.
لا يزال الإيمان الديني يشكل وجدان المؤمنين بأي دين من الأديان أو مذهب من المذاهب أو عقيدة من العقائد الدينية، ويحدد قيمهم الأخلاقية، لا يزال الإيمان الروحي وازعًا أخلاقيًّا، (مع أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). فما الذي يشكل وجدان اللادينيين أو الملحدين، ويحدد قيمهم الأخلاقية، ومن الحيف والغلو أن يفترض أحد تجرد هؤلاء جملة من الأخلاق؟ هل العقل أو العلم أو الفلسفة هو أو هي ما يشكل وجدان اللادينيين والملحدين، كما يمكن أن يدعي بعضهم أو بعضنا؟” ويجيب فيقول: “نشك في ذلك، لأن (العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس)، كما وصفه ديكارت، ولأن ادعاء اللادينيين أو الملحدين أن العقل هو مصدر أخلاقهم ينطوي على إنكار ضمني بأن المؤمنين والمتدينين يشاركونهم هذه الصفة النوعية للكائن الإنساني. وحين يطعن المتعصبون دينيًّا أو مذهبيًّا بأخلاق اللادينيين والملحدين، إنما يجردونهم من إنسانيتهم، ويحلون دماءهم وأموالهم، وينكرون من ثمة أن الإنسان كائن عاقل وأخلاقي، (على صورة الله ومثاله). فتجريد الكائن الإنساني من الأخلاق هو تجريده من العقل، وتجريده من الحرية، ومن ثمة، تجريده من إنسانيته. و(الحاكم محكوم بما يحكم فيه)، بتعبير الشيخ محي الدين بن عربي، ومحكوم بمن يحكم فيه أو له أو عليه”.
خاتمة:
هذه الإطلالة السريعة على بعض محطات في محددات فكر جاد الكريم الجباعي الديمقراطي تلامس أنساقًا مهمة في منعرجات الفكر الفلسفي لدى الجباعي، وتسلط الضوء قليلًا على جزء يسير من انبثاقات فكرية لديه اتسمت دائمًا بالمتعة والفائدة، فمن يقرأ الجباعي يعيش لحظات من المتعة في أثناء ارتشاف المعرفة من تلافيف جمله وأطروحاته، قد لا تتوافر دائمًا في كتب أخرى لمفكرين آخرين. وأكنا اتفقنا معه في استنتاجاته وخلاصات فكره أم اختلفنا، فلا شك أنه قام وما زال يقوم بعمل مهم وضروري بطريقة لا أعتقد أن هناك من سبقه إليها.
ولعل استعادة التفكير العقلاني العربي التي كان قد فقدها العقل العربي منذ عقود، يعني بصراحة محاولة لاستعادة المدرسة الابن رشدية، وهذا يضمر بالضرورة ليس استعادة مكانة الفلسفة بديلًا عن الدين، ولكن من الممكن أن تكون إلى جانبه وبالتساوق معه عقلانيًا ونقديًا. على أساس أن النقد المزدوج طريق للاستيعاب كما يقول جمال الأتاسي.
أ. هنادي أبو حميدة: أشكرك أستاذ “أحمد مظهر سعدو” على المداخلة، ونرحب الآن بالأستاذ “جبر الشوفي” وهو كاتب وناشط سياسي سوري، يكتب مقالات سياسية وأدبية في النقد الأدبي وغيره، وهو مدرس لغة عربية سابقًا، الأستاذ “جبر الشوفي” كان منتميًا إلى الحزب الشيوعي، وعضو في مجلس أمناء الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، وهو من محافظة السويداء، ويعيش حاليًّا في مدينة “ستراسبورغ” في فرنسا، تفضل أستاذ “جبر”.
الأستاذ جبر الشوفي: مساء الخير للجميع وشكرًا على التقديم للقائمين على هذه الندوة، وشكرًا لصاحب الندوة على دعوته لنا لهذه “الندوة” من أجل التفاكر في موضوعات مهمة وذات حساسية خاصة في حياتنا ومستقبلنا. وبعد التحية والتقدير لجهدكم جميعًا أعتذر عن عدم تمكني من تحقيق ما أردت تقديمه بالشكل الوافي في مناسبة تكريم الباحث الصديق جاد الكريم الجباعي وذلك لمجموعة من الإرباكات قبيل سفر طويل وبلا كمبيوتر، لذا أرجو قبول اعتذاري أو الاكتفاء بما قدرت أن أدونه، ضمن هذه الظروف الضاغطة وهو عبارة عن عناوين مختارة من كتاب ضخم واسع وكثيف ويحتاج إلى زمن طويل وجهد يفوق طاقتي وصحتي. وشكرًا يا أصدقاء.
جاد الكريم الجباعي في مفاصل من “فخ المساواة: تأنيث الرجل وتذكير المرأة”
تمهيد:
في كتابه “فخ المساواة: تأنيث الرجل وتذكير المرأة” الصادر 2019 في 449 صفحة من ضمنها تقديم تشريحي ونقدي للدكتور مازن أكثم سليمان، يعمد الباحث جاد الكريم الجباعي إلى قلب نمط المفهومات السائدة في المستويين الاجتماعي والسياسي وتحريرها من الالتباسات والتزييف وصولًا إلى تحقيق جدلية الحرية و الاختلاف، ونقض مفهوم (الذكورة والأنوثة) التقليدي السائد في الوعي العام والمتجاوز على أشكال الطبيعة الإنسانية، على حين يذهب الباحث إلى التأكيد أن (الفروق الجنسية البيولوجية) وفروق الجنوسة (الاجتماعية والسلوكية) كلها فروق نسبية وقابلة للملاحظة والقياس (بنية ووظيفة) باستثناء شكل الجهاز التناسلي الذي لا تتحقق وظيفته إلا بتضافر الأنوثة والذكورة، وإثبات (هوية جدلية) تقوم على (المطابقة والاختلاف) عبر رفض مقولة وجود فوارق وراثية وهرمونية أثرت في تطور أجزاء من المخ وتجلت بفروق جنسية وسلوكية وفي قدرات إدراكية نوعية مطلقة، وهي التي قادته إلى البحث في القاع الإبستيمولوجي للكشف عن هذا الشطط وعبرها يدحض مقولة (الجنس الآخر) وكل ميل نحو الكلية والشمول والتجريد والتعميم والجمع والتوحد ليصوّب مفهومات عديدة، تخص الذات والذات الجمعية ومفهوم الهوية وغيرها، وسأقتصر في هذه الورقة على مسألتين أساسيتين تأخذان موضع البؤرة البحثية وتشكلان حيزًا كبيرًا في الثقافة السائدة، هما قضية المرأة والسياسة السورية.
1ـ جدل الأنوثة والذكورة:
يبني المفكر الجباعي بحثه منطلقًا من مقولة محورية: “الذات الطاردة للاختلاف طاردة للحرية ومناهضة لها، لأن الحرية علة الاختلاف ولا تظهر (العلة) إلا في معلولها” و”الاختلاف هو الشكل الواقعي لتجلي الحرية” وأنا أرى أن هذه الخلاصة هي قاعدة بحثية أو (بؤرة) استنارة، ينطلق منها الباحث ويبني على معطياتها وتفرعاتها معادلة عقلانية، تبدو حدية ومباشرة وتربط موضوعيًّا وفكريًّا بين ضرورة الاعتراف بالاختلاف وإقراره وعيًا وسلوكًا وتجليه في استقلال الشخصية وحريتها في مختلف مجالاتها. وتقودنا هذه الفكرة أيضًا إلى الكشف عن مظاهر الاستبداد شتى التي عاينها المؤلف بوصفها تجليات لخلط المفهومات والتجاوز على مسألة الاختلاف وتزويرها وحيث جرى الارتكاز عليها لإقامة أسس الاستبداد بينما مهمة الباحث تتجلى في الكشف عن جذرها في مسألة المساواة الجندرية المطروحة والمتداولة وعبر سعيه إلى نقل المسألة إلى جدلية (الاختلاف /الحرية) بوصفها تمثل الحبل الشوكي المغذي للشبكة العصبية البحثية في هذا المجال وتأكيده أنّ ” لا حرية بلا الاختلاف”.
وحيث أن هذه المقولة ليست مجرد خلاصة لمحاكمة عقلية، بل هي نتيجة منطقية لنمو ديناميات بحثية جدلية حفزته للحفر عميقًا عن جذور الاستبداد بالمرأة والذي قام على نسيان أو تجاهل العلاقة الأصيلة بين جدلية (الفرد النوع) و”الذكورة والأنوثة” بوصف الفرد “أنثى أو ذكرًا” من جهة و”تعينًا للنوع الإنساني” من جهة أخرى، بل هو النوع متعينًا” ويرى الباحث أن الانزياح عن هاتين الجدليتين شكل حجابًا مركبًا لصالح هيمنة مركزية تسلطية بطريركية (ذكورية) مارست سطوتها وعيًا ووجودًا على طبقات البنية الحياتية السورية بوصفها انعكاسًا لمركزية أوسع، سادت في الفكر و السلوك العالميين، وأدت إلى حجب العلاقات الجدلية البناءة التي تؤدي إلى الاستقلال الذاتي للفرد ( ذكرًا أو أنثى) وتمنع إعادة إنتاج مركزية مقلوبة تحت شعار المساواة أو ما يسميه الكاتب (فخ المساواة) المؤدية إلى (تذكير المرأة وتأنيث الرجل).
من هنا يكتسب عنوان الكتاب (فخ المساواة) مشروعيته بكشف التزوير والاستدراج وعودته إلى تأكيد أن “الذات الطاردة للاختلاف طاردة للحرية” وردّ الأفكار المتجلية في الوعي والسلوك إلى جذورها العميقة وحيث لا ينسيه تعدد الظواهر وتشعبها حقيقة انتمائها إلى جذر واحد، تتمثل بؤرته بأعماق وعي المجتمع البطريريكي (الأبوي) الذكوري منذ انقلابه على مجتمع (الأمومة).
وفي اختراقه لكل التابوهات والمحظورات ومواجهته لكل أشكال التنميط والتشيؤ، يرى الباحث أن تحرير المرأة، يتطلب تمردها على تذكيرها، الذي يمرر عبر إدماجها بالبنية النضالية اللفظية، ولتكون (ابنة حكومة) وتساهم بغير دراية في إعادة إنتاج مركزية الرجل التراتبية ونفوذ الأقوى، وحيث تغدو هذه المسألة أهم العقبات أمام التحول الديمقراطي. ويؤكد الباحث أن حضور المرأة في الفضاء العام الذي ابتلعه (المجتمع الحكومي) غدا أشبه بقناع يخفي غياب المجتمع المدني، ويبرز (الأنا الطبيعية) التي رسختها السلطة المركزية على حساب (الأنا المدنية) المطاردة، لأنها تشكل قطيعة واعية مع “الأنا الطبيعية” أو مع (الأنانية) المضادة (للغيرية) المعتدلة التي تذيب الفرد بالجماعة والتابع بالمتبوع والحاكم بالمحكوم، وتجدد التفاضل الهوياتي والعصبيات.
وفي خلاصة تبدو ذات وجهة واحدة، يقول “إن امتياز شخصية المرأة واستقلالها الروحي معيار لامتياز شخصية الرجل واستقلاله الروحي” ولا أدري لماذا لا يكون كلاهما معيار للآخر بالتساوي؟ . وهو يعدّ أن الاستقلال الذاتي مرادف للفردية والفرادة والتفرّد، أما الاختلاف فهو الشكل الواقعي الذي تتجلى فيه الحرية ماديًّا وروحيًّا وفكريًّا، ولذا تشعر السلطة بالخطر فتعمل على ملاحقة الفردية بوصفها تجليًا للحرية. لذا يكون منطلق تحقيق الذات هو (نفي اغترابها عن ذاتها) وتحريرها من سديم الجماعة. ولا أدري إلى أي حدّ تخدم مفردة (الفردية) التي بخلاف الفرادة والتفرد، تتشمم معنى تسلطيًّا وأنانيًّا هذه الفكرة؟
هنا تكمن خطورة وأهمية ما قدمه المفكر الحرّ جاد الكريم الجباعي في كتابه هذا، وعبر قلبه لأنماط التفكير السائدة والوعي الزائف المؤسس لظاهرة الاستبداد، والذي يعود في جذوره العميقة إلى تقويض مجتمع (الأمومة) وتشييد مجتمع الذكورة البطريركي وعبر تزييف جدلية الفرد (أنثى وذكر) التي يفترض أنها تدل على النوع الإنساني بالتساوي وحيث الفرد كيان لشخص (أنثى أو ذكر) من جهة وهو تعين لنوعه الإنساني، بينما شكّل انزياح هاتين الجدليتين وتزييفهما (حجابًا وسندًا مركبًا لمركزية بطريركية تسلطية، مارست تسلطها وعيًا ووجودًا) على كامل البنية الحياتية التي سادت في سورية، على الرغم من كونها انعكاسًا لمركزية أوسع، سادت طويلًا في الفكر والممارسة العالميين، وانتزعت فعاليات العلاقات الجدلية البناءة، التي يُفترض أن تحافظ على استقلالية الفرد وتحريره من الاستلاب عبر تأكيده على المختلف والمساوي بالحقوق والواجبات، وليس بوصفه إعادة إنتاج لمركزية مقلوبة تحت شعار المساواة. أي بوصفه انفتاحًا على الممكن والمختلف والحر في الوجود البشري.
وبناء على مقدمات بحثية منطقية وعلى جدلية الحقائق ونسبيتها، والإقرار بموضوعية الاختلاف وإمكانية إدراكه بالحدس كما هو في الطبيعية الأولية، ندرك مع الباحث أن المساواة ليست كذلك، لأن المتشابهين موضوعيًّا ليسا متساويين. وحيث لا توجد مساواة في الطبيعة والكون الطبيعي، وبذا يقرر الباحث أن المساواة هي (رؤية وثقافة) تأريخية وذات مغزى وهدف، وهي ترتبط بمبرراتها وسبل تطبيقها في مجالات إدارة المجتمعات والدول وعلاقات الأفراد بعضهم ببعض وطبيعة علاقتهم بالسلطة الحاكمة.
وفي حقيقة علمية يرى الباحث الجباعي، إنّ المطابقة الخاطئة بين معنى الأنوثة والمرأة ومعنى الذكورة والرجل، تستبعد التداخل النسبي لكل منهما في بنية الآخر الفيزيولوجية والسيكولوجية وكيفيتها، وتتجاهل تداخل الهرمونات الذكرية والأنثوية في كل منهما وإن بنسب متباينة، إذ إن كل رجل ذكر بنسبة وكل امرأة أنثى بنسبة، وقد نجد امرأة ما بحكم ظروف خاصة أكثر تمثيلًا للذكورة والعكس ممكن أيضًا.
وفي الهوية الجنسية
وفي أبعاد الهوية الجنسية للفرد، يذكر الباحث ثلاثة أبعاد تتعايش مع البعد الرابع (الزمن) عبر الحديث عن عملية تشكّل مستمرة، وعبر مجموعة أحداث مترابطة متناسقة ومتنامية ومتتالية، تفصل بينها فواصل (المسافة. المكان والسرعة في الزمان) بوصف هذه الأبعاد هي: “1- هوية الجنوسة المركزية، 2- الميول الجنسية، 3- السلوك الجنسي”.
وحيث تتوافق هذه الأبعاد الثلاثة في الذكور والإناث، على الرغم من الاستقلالية النسبية التي تظهر بمظاهر مختلفة من العلاقات بين الجينات والهرمونات، التي قد تفسر الهوية الجنسية، ولا سيما الميول المثلية وثنائي الجنس ومبدليه، مع ملاحظة أن البيئة الاجتماعية هي الأساس في تحديد الهوية الجنسية، وبوسع هذه البيئة، أن تنقض العوامل الوراثية والهرمونية أو تعدلها. وفي كل الأحوال، تبدي الهوية الجنسية قدرًا من المرونة التي تُظهر من خلالها أثر البيئة والتنشئة في تحديدها، كما يمكن ذلك في ضوء معالجة طبية وتربية ملائمين.
ويقرر الباحث الجباعي في محصلة بحثه فكرة مركزية مهمة، مفادها: (لا تتوازن شخصية الفرد ذكرًا كان أو أنثى إلا بتعادل نسبي للأنوثة والذكورة في شخصه). وبالاعتماد على حقائق البيولوجيا، يرفض الباحث فكرة (الفروق النوعية المطلقة ويعدّها فروقًا بالدرجة) بين الرجل والمرأة، وعبر رفضه لفكرة الهرمون الذي يساهم في تطور أجزاء من الدماغ وينعكس فروقًا جنسية وسلوكية وقدرات إدراكية مطلقة، يصل إلى رفض مقولة الجنس الآخر، ويقرر أنّ مصطلحات “فرق جنسي” و”تمايز جنسي” و”فرق جنوسة” يمكن استعمالها بالتبادل لوصف سمات (جسمانية) وخصائص نفسية وسلوكية، تختلف في المتوسط بين الإناث والذكور، كمتوسط الطول مثلًا، بينما قياس الفروق النفسية عمل بالغ الصعوبة، لأنه لا يستدلّ عليها إلا بالسلوك كالميل إلى العنف أو إلى التابعية وغير ذلك.
ويؤكد الجباعي على قول فرويد “إنّ مفهوم المذكر والمؤنث من أشدّ المفاهيم تعقيدًا، فاللفظان يستعملان بثلاثة معان مختلفة أي يمكن أن يعنيا (الإيجاب والسلب) ويمكن أن يؤخذ المعنى البيولوجي والسوسيولوجي، ففي السلب، يربط الوعي التقليدي بين نقص القضيب عند المرأة ونقص العقل والدين. ويرى أنه كلما طرقت أسماعنا كلمة إنسان أو توقفت أنظارنا عليها، نستحضر صورة الذكر (الرجل) ويرد الباحث هذه الحالة إلى أبرز عيوب الحداثة الكارهة للاختلاف والمتناقضة مع مبدأ الكمال والقوة والتجانس والنقاء والاتساق المزعومة، للذات الفردية والجماعية الطاردة لمظاهر الاختلاف وكل معانيه وصولا إلى مقولاته المؤسسة ﮐ “الذات الطاردة للاختلاف طاردة للحرية ومناهضة لها” “لأن الحرية علة الاختلاف ولا تظهر إلا في معلولها”.
وفي المحصلة يرى الجباعي أن خطاب تحرير المرأة ومساواتها بالرجل في ظل الاستبداد، لم يأت إلا ليرسخ التحالف بين البنى السلطوية التقليدية والإثنية والمذهبية ومركزية السلطة الأمنية العسكرية عبر حركة عبثية عمقت تزييف الحداثة والعلمانية وأفرغتهما من مضمونهما وسوقت للمرأة السلعة وعدّتها وسيلة تبادل اجتماعي، على حين أخذت المرأة بمظاهر التمدن والتحرر والمساواة الشكلية بالرجل، الذي أخذ موقع المثال لقياس مدى تمتع المرأة بالحرية، والعودة بخطاب التحرر والمساواة بالرجل إلى جذوره المتمثلة بـ (الهوية الجنسية) وما يعني أن التعريف بالسلب هو من أبرز تجليات الثقافة الذكورية وحيث أنّ نرجسية الذكر المركزية هي التي تحدد مدى حريتها انطلاقًا من نفي الآخر المختلف الحر، ونفيها أيضًا عبر التعارض بين القانون وموقف المجتمع، الذي يسلبها حقوقها ويحرمها من الإرث كليًّا أو جزئيًّا ويفرض قوامة الرجل وقوانين جائرة وعديدة تدخل في استتباع المرأة. هكذا تأسس (فخ المساواة) في الحقل القانوني ليموه انعدام التكافؤ واستتباع المرأة وحيث المساواة لا تكون إلا بين شبيهين أو قيمتين مجردتين، أما مقولة مساواة المرأة بالرجل فهي مجرد مقولة ذكورية مطلقة، تنفي خصائص المرأة وتتنكر لاختلافها (أي تطردها من الحرية)
وينطوي الكتاب على رؤية ثاقبة وكثيفة ومتقدمة، تزودنا بمفاتيح نظرية قادرة على تفكيك بنية التخلف والكشف عن سبل ممارستها في البنى المركزية البطريركية المهيمنة، وعبر رؤى تستضيء بمفهومات الحداثة والحرية المؤكدة على خصائص الفرد المختلف ومستقل الشخصية. وبها يفكك نظريًّا ثقافات تأنيث الرجل تذكير المرأة بوصفها ثقافات صناعة الاستبداد المركزي البطريركي وبوصف هذه الممارسات تتمظهر في إشكال إدارة القوى المتسلطة، التي ينبغي مواجهتها ومقاومتها على الصعد كلها مع ملاحظة (أن هذه الصعد كلها قد لا نجد لها تحرزًا وتدقيقًا في مجالاتها الواقعية، يمنعها من أن تنقلب أو تشتط من موقع الأنوثة إلى موقع الذكورة أو من موقع المظلوم إلى موقع الظالم).
2ـ تجليات السياسة السورية في (فخ المساواة)
وفي بناء الشيء على مقتضاه، يعالج الباحث مسألة (تأنيث المجتمع) المقابلة لـ (ذكورة السلطة) ومنع الحرية برفض الاعتراف بالمختلف سياسيًا وتخوينه من سلطات، تتماهى مع الدولة وتزيف المفهومات، ليغدو التسلط من أهم مقومات السيادة وتحريف الحداثة والعلمنة والمعرفة لترسيخ الفكر المركزي الجوهراني المناهض لحرية الفرد وتعميم تراتبية (فوق وتحت) وحيث تتواشج الهيمنة على الآخر وتأنيثه الرمزي بخطاب السلطة “المجنّس” والذي تشكل “الجنسانية” قاعه وعمقه اللاواعي. وحيث تتشكل ذاتية الرجل عبر سلبه لخصائص المرأة ونفيها، ولذا كان من الضروري قضم وتفتيت تلك المركزيات الجوهرانية الطاغية، وتفكيك علاقات القوة التي ينطوي عليها الخطاب القاهر المجنّس، للوصول إلى الحرية والكشف عن النسق المضمر والمنسي للوجود الفردي الأصيل للذكور والإناث على حدّ سواء.
وفي الربط المنهجي بين الخطاب القائم على تأنيث الرعايا، يرى الباحث أن استقلال سورية، قد أنتج كيانًا ناقصًا، لم يحقق صفة الدولة، ولم يفسح للسوريين في المجال، ليبنوا مجتمعًا مدنيًّا وليصيروا أمة أو شعبًا في ظل ضخّهم بمفهومات، تخلط الدولة بالسلطة وتلبس السيادة بالسيطرة عبر ما يسميه الباحث “المجمع الحكومي” الذي غدا آلية تغوّل، ابتلعت الفضاء الاجتماعي وتوسعت لتشمل جميع مفاصل الحياة السياسة وعززت سيطرتها على (الفضاء الاجتماعي) الرازح تحت ضغط الأمية والفقر والجهل والخوف وأمام طموح عام إلى الاندماج بخطاب السلطة الوطني والقومي والتحرري وخطابها الديني.
وبذا أخفقت السلطات المتعاقبة في بناء “دولة حضرية معاصرة” وانتكست التجربة الديمقراطية في الخمسينيات وتحوّلت إلى سلطة مركزية شمولية، تعلي من شأن العسكر والكفاح المسلح، لتبرير قبضتهم على عنق البلاد وتهميشهم للسياسة، علمًا بأن السياسة هي التي حققت الاستقلال، بينما ظلت حركات المقاومة المسلحة محدودة المساحة والتأثير. ولا يخرج عن هذا الغرض رفع شعارات التحرير عبر العسكر، الذي مهد الطريق لانقلابات عسكرية، احتلت الفضاء السياسي العام واتخذت منه (شرعية زائفة) أفضت إلى إخصاء الاختلاف المجتمعي وتعميم أو تعويم عناوين شعبوية عريضة، تستقطب العامة وتحيي النزعات والخصومات المذهبية والسياسية والأقوامية. وفي هذا المناخ المتشابك والمزدحم بالتناقضات بات صعبًا قيام معارضة فاعلة ومؤثرة، وظلت السلطة جاهزة للانقضاض على أي ظهور للمعارضة والاختلاف المخل بالهيمنة الشمولية وزعزعتها. وفي السياق نفسه، أدى تسيس العروبة والدين إلى مصادرة الفضاء الاجتماعي المستند في وعيه التقليدي إلى ثنائية زائفة (المعرفة/ السلطة) التي أعادت إنتاج (المجتمع البطريركي) وبدت معها الحداثة والعلمنة قشرتين، لا تنعكسان في الوعي ولا في السلوك وظل مضموناهما (المفهومي والحركي) منفصلين وغابت المواطنة وحلّ (مجتمع الدولة) محل (دولة المجتمع) و(شعب الدولة) محل (دولة الشعب) وعبر هذه الانقلابات المتتالية، اكتست الحداثة والعلمنة بطابع حكومي تلفيقي هجين ومتسلط وحلّ (المناضل) محل (المواطن) والامتيازات محل الحقوق وضمرت الروح الإنسانية وتآكلت سبل الحياة الكريمة.
وفي ظل توجسه من قيام معارضة قوية ومؤثرة، مضى الاستبداد في تحريك النزعات المذهبية والسياسية للحفاظ على الوحدة الوطنية، وحدة كتلة السلطة والدولة والمجتمع وإخضاع الجميع لشمولية مطلقة، أعاقت قيام مجتمع مدني وكبحت تحول السوريين إلى (أمة أو شعب) فظلوا أسرى اختلاط المفهومات وخاضعين لمركز سلطوي ابتلع (الفضاء الاجتماعي) السلبي والذي تماهى مع خطاب وطني “تحرري” زائف في ظل سيطرة الفقر والجهل والأمية والخوف أو من خلال طموح العامة إلى الالتحاق والاندماج بخطاب السلطة وآليات عملها. ويشير إلى انتكاس التجربة الديمقراطية والتحول إلى سلطة شمولية، والفشل في سدّ الفجوة بين حركة الواقع والشعارات التحررية الشفوية للقبض على الشرعية المفقودة، عبر (إخصاء الاختلاف المجتمعي وتعميم شعارات شعبوية عريضة) عروبية وإسلامية وتحررية بهدف استقطاب الشارع وتفريغ قوته وأي فعالية له.
وفي تعميم منهجي للفكرة المركزية وحيث أن التمايز الجنسي والتمايز الثقافي، ليسا منفصلين في تمثيل الاختلاف، بل متواشجان وظيفيًّا في جهاز السلطة المركزية، غدا (الشرق هو المرأة والرجل هو الغرب) في كذبة فلسفية دنيئة تشكل أكبر إهانة للفرد والروح الإنسانية) وبه يُنصّب المستبد عقلًا كليًّا مقدسًا يظهر في الاستشراق وفي لغة الاستغراب المعاكسة عند العرب. وهنا لا بد من ملاحظة عابرة لا تغيب عن بال الباحث وهي أن التابعية، كثيرًا ما تبدو حاجة نفسية للتابعين، وتتمثل بتقليد التابع للمتبوع واعتياده على الانقياد لمركز القوة أو صعوبة انفكاكه عنها، وذلك لأن السيطرة على أمة هامدة أسهل من قيادتها نحو الحرية.
هذا ما فعله تيار ثوري انقلابي عقائدي ما فوق وطني وأحزاب ريفية الطابع ومحافظة وعابرة للحدود الوطنية، في مواجهة تيار ليبرالي نافذ في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتخترقه عصبيات جهوية وعشائرية ومذهبية وأقوامية وبذا ظلت الوطنية السورية، التي بني قوامها في مرحلة النضال الوطني ومرحلة الليبرالية التالية عائمة ولم تتجذر، وحصلنا على دولة ناقصة (قطر) أو دولة (ما تبقّى) تتمدد في فضائها السياسي أحزاب عقائدية في مجتمع انتقالي حديث النشأة وبادي الهشاشة، عبرت سلطاته العسكرية عن نفسها بالهروب إلى الوحدة مع مصر عبد الناصر، ثم فك عراها بالانفصال، ولكنه ظل عاجزًا عن إقناع (الفضاء العام) بقبول الحرية بديلًا من الوحدة، ومهد هذا الفراغ لانقلاب البعث 1963 وتحكم الحزب الواحد الشعبوي الذي سرعان ما ألغى كل مؤسسات المجتمع المدني الحديثة وأعاد تنسيق المجتمع في منظمات حزبية بيروقراطية، أدمجت المجتمع بسلطة أحادية مركزية، تموه الاختلافات ويمهد لانتقال الاستبداد من الحزب القائد إلى الرئيس القائد، الذي ابتلع الحزب والدولة والمجتمع وهيأ للتوريث.
ولكن المجتمع السوري أخذ يستعيد بعضًا من قوته السياسية أو رأسماله الاجتماعي الرمزي (أي خروجه من التأنيث الرمزي) بعد وفاة حافظ الأسد، الذي أخضع الرجل لعملية استتباع وإمحاء وتأنيث للمعارضة وتذكير المرأة عبر مساواتها بالرجل الهامد (المؤنث) وفق عملية مساواة قانونية صورية ومنحها امتيازات، لا تمس امتيازات الرجل ولا تحد من سيادته. ليبدو هنا أن خوف الرجل من المرأة الحرة هو الجذر السيكولوجي لإنكار إنسانيتها وأنسنة المجتمع.
إن صدور وثيقة 99 عام 2000 ثم وثيقة لجان إحياء المجتمع المدني 2001 ونشوء المنتديات وجمعيات حقوق الإنسان وتمكين المرأة وكل أنواع النشاط السياسي بما فيها الاعتصامات والتظاهرات وصولًا إلى ربيع دمشق، كلها أشارت إلى حالة نهوض عامة، رافقتها ملامح تجاوز المرأة النسبي، لحالات تسيسها عبر تذكيرها وتابعيتها لبنية ذكورية عامة، تدّعي التقدمية وقد تمثل أحد أركانها.
في منهج البحث وسماته
ربما وجدنا في أبحاث المفكر الأستاذ جاد الكريم الجباعي في مختلف شؤون البحث صرامة عقلية، تعبر عن نفسها كما عبرت عند المعري (لا إمام سوى العقل مشيرًا في صبحه والمساء) وعند طه حسين ولكن ما يخفف من وقعها اعتماده الجدل الديالكتيكي، وتشديد رسالته على التحذير من المرور إلى المستقبل أو الانتقال إليه من دون امتلاك المعرفة والتمكن من سبل المعالجة الفكرية والمحاكمات العقلية وصحة الاستنتاجات المبنية على مقدمات علمية وواقعية مأخوذة عبر التتبع الزمني التاريخي والتاريخاني للعبور إلى نقد التجارب الإنسانية، ولا سيما حصيلة التثاقف بين الغرب والشرق وصولًا إلى نقد الاستشراق المتعالي وصورته المنعكسة بالاستغراب العربي الإسلامي.
إلى تلك الرحابة الفكرية والعمق الوجداني والتحوط من كل زيف أو اعتداء، ينتمي مفكر عصرنا القريب من قلوبنا والماثل أمام عيوننا جاد الكريم الجباعي، إنه الباحث المفكر الذي شرّع أبواب البحث كلها واقتحمها بجرأة وثقة وحاور أعلام الفكر والفلسفة واستشرف أفكارًا ريادية مبتكرة.
وعودًا على بدء ربما نواجه أسئلة إشكالية: هل كان العرب المسلمون يستعلون على أوروبا أيام كانوا هم مركز الحضارة والعلوم؟ وإلى أي حد يرتبط هذا الاستعلاء الحالي بخصائص سيكولوجية وفكرية للبشر عامة؟ ثم هل يمكن أن نطلب من المتقدم علينا بقرون أن يتواضع، لنتساوى على الرغم من المسافة الشاسعة بيننا؟ ثمّ ما دور الدونية التي يحس بها المتخلف والضعيف بحضور المتقدم، ونرى أشكالها عند معظم الحكام العرب المترامين على أقدام الأقوياء طلبًا للحماية والتعلم المباشر منه أو من يغالون بالعداوة ويعبرون بردّات فعل، لا تخرج بدورها عن الشعور بالدونية المأزومة! ثم هل يمكن أن نعمم هذه المسألة على أهل الثقافة والمفكرين بالدرجة ذاتها التي نعممها على النخب السياسية المسؤولة؟
وفي الختام أقول:
أعلم أن ما قدمته واقتطفته من هذا الكتاب الغزير والكثيف، لا يفي الموضوعات حقها، لكنه قد يقدم عينة عن نمط تفكير مفكر حر، يحفر عميقًا في جذور القضايا، ويكشف عن التباساتها ويصحح أخطاءها برؤية عصرية متحررة، تضعه في صفوف المفكرين التنويريين ويتجلّى قابضًا على شعلة الحرية المتقدة ويثبتها كبؤرة للاستنارة والإنارة وملاحقة كل مظاهر الاستبداد في الفكر وطبيعة العلاقات ومنظومة القيم المتحكمة في المجالين السياسي والمجتمعي وهو مؤمن شديد الإيمان والثقة بمشروعه لوضع لبنات أولية وركائز بحثية لقضية النهضة السورية والعامة.
أ. هنادي أبو حميدة: شكرًا لك أستاذ “جبر الشوفي” معنا الآن الدكتورة “ميّة الرحبي” وهي طبيبة، وكاتبة وباحثة وناشطة سياسية ونسوية، مديرة منظمة “مساواة/ مركز دراسات المرأة”، وخبيرة في النوع الاجتماعي وفي قضايا العنف القائم على الجندر، وقضايا المرأة والسلام والأمن، عضوة في مجموعة مناصرة الجندر لمناهضة العنف ضد النساء، وشاركت في تأسيس عدد من منظمات المجتمع المدني، وكانت عضوًا في اللجنة التنسيقية للجان إحياء المجتمع المدني. الدكتورة “مية” سوف تقدم بحثًا في موضوع المرأة في فكر “الجباعي” تفضلي دكتورة “مية”.
الدكتورة ميّة الرحبي: شكرًا جزيلًا وشكرًا ﻟ “تفاكر” وﻟ “رواق ميسلون” على الاحتفاء بمفكر نعتز فيه جميعًا وهو الأستاذ “جاد الكريم الجباعي” والذي تربطني به علاقة شخصية تمتد إلى ربيع دمشق وحتى اليوم، سأركز على “فخ المساواة: تأنيث المرأة.. تذكير الرجل” الصادر عن مؤمنين بلا حدود للدراسات والأبحاث عام 2018.
وهو كتاب مهم غني بالأفكار الخلاقة، والتحليل العميق لجذور قضية المرأة عمومًا، مع إسقاط لتلك الأفكار على واقع المرأة السورية على نحو خاص.
تظهر من خلال الكتاب بوضوح الثقافة الموسوعية لدى الأستاذ الجباعي، فقد لجأ ليس فقط إلى العلوم الإنسانية كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، بل تعداها إلى الطب وعلم الوراثة والفيزياء كي يثبت وجهة نظره بأن المجتمع الإنساني لا يمكن أن يكون مجتمعًا إنسانيًّا بالمعنى الحق لكلمة إنسانية، ولن يساهم في الارتقاء بالحضارة الإنسانية، إن لم يكن مؤلفًا من ذوات حرة مستقلة تتمتع بحقوقها في العيش الكريم، بعلاقات سوية بين تلك الذوات الحرة المستقلة التي تجتمع في المجتمع المدني، لتعين بوعي وحرية شكل النظام الاجتماعي الذي يمكن أن ينظم العلاقات بينها، متعمدًا في نهاية طرحه لكل فكرة إسقاطها على الوضع السوري بكل تعقيداته والمالآت البائسة التي وصل إليها.
وأنا أتفق مع الأفكار الأساسية التي طرحها الأستاذ الجباعي في كتابه، والتي تمثل صدى لما طرحته الموجة النسوية الثالثة، التي يحلو للبعض تسميتها بما بعد النسوية، تيمنًا بتيار ما بعد الحداثة، ففي تلك الموجة استلهمت منظّرات نسويات الأفكار التي طرحها فلاسفة ومفكرو ما بعد الحداثة كفوكو ودريدا، ليطوّرن ما أنتجته الموجة النسوية الثانية، وليؤسسن لتيارات نسوية جديدة، لعل أهمها ما طرحته جوديث بتلر في كتابها المهم Gender trouble والذي ترجم إلى العربية بمشكلة أو معضلة أو قلق الجندر[1].
يحلل الجباعي تحليلًا عميقًا جذور النظام والعلاقات الاجتماعية القائمة الموسومة بعلاقات الاستبداد والاستتباع، مُرجعًا أسباب ذلك إلى المركزية الذكورية التي شكلت عماد هذه السلطة، مذ تحول النظام الاجتماعي إلى نظام هيمنة سلطة مركزية تسلطية بطركية، تستتبع النساء أولًا، والرجال ثانيًا، ماحية بذلك كل استقلالية وحرية وفردية تميّز الوجود الإنساني، وتميّز الإنسان العاقل المفكر عن الكائن البيولوجي الذي يتحول إليه، عند تجريده من كل ما ذكر.
وإن كان الجباعي يسبغ هذا التوصيف على المجتمع السوري، الذي نزع الاستبداد وسلطته المركزية كل أشكال العلاقات الجدلية البناءة فيه، والتي يفترض أن تحافظ على الاستقلال الذاتي للفرد، ذكرًا كان أم أنثى، فأنا أسمح لنفسي بتعميم هذا التوصيف على جميع المجتمعات البشرية الموجودة في عصرنا الحاضر، متفقة مع آراء نسويات ما بعد الحداثة اللاتي لم يكتفين بالتحليل الجندري لطبيعة العلاقة بين الذكور والإناث، ونقد الثنائيات التي سادت التحليل الجندري لمفكرات الموجة النسوية الثانية، بل احتفين بالاختلاف، وأكّدن في تحليلهن الجندري ما أتت به الموجة النسوية الثانية من تحليل علاقات السلطة القائمة، وتأثيرها في استتباع الأفراد، وخاصة النساء، بدرجات متفاوتة، تزداد في الدول النامية، التي أعاقت الدول “المتقدمة” نماءها وتطورها الحضاري.
يبدأ الجباعي كتابه بمساءلة بعض المفهومات وأولها الفرق والاختلاف، وهنا أستغرب أنه عند حديثه عن مفهوم الجندر يورد عرضًا ما ورد في كتاب “الجنس الآخر” لسيمون دي بوفوار، باختصاره كل النتاج المهم لسيمون دي بوفوار بمقولة إنها عندما تحدثت عن “الجنس الآخر” تحدثت عنه بتوصيف سلبي بوصف الرجل هو “الأنا” والمرأة هي “الآخر”، من دون ذكر فتوحاتها المعرفية التي نقضت النتاج المعرفي الذكوري المتعلق بقضية المرأة وتأسيسها لمفهوم الجندر، وتشكّل الهوية الجندرية، ودور السلطات المركزية، وتأثير علاقات الاستتباع التي تولدها في استقلالية وحرية الفرد، وهي الأفكار نفسها التي أكّدها الأستاذ الجباعي في كتابه[2].
كما أستغرب استشهاد الأستاذ الجباعي المتكرر بمقولات فرويد بما يتعلق بقضية المرأة ومنها رؤيته لمفهومي المذكر والمؤنث، من دون أن يتطرق إلى نظرية فرويد “حسد القضيب”.
فقد طال تلك النظرية الكثير من النقد النسوي، على يد سيمون دي بوفوار، التي رأت في كتابها “الجنس الآخر” أن حسد النساء للرجال ليس بيولوجيًا، بل يرجع إلى السلطة والامتيازات الاجتماعية الممنوحة للرجال، واتهمت فرويد بإعادة إحياء التحيزات القديمة ضد النساء. بالمثل، رفضت عالمة النفس النسوية كارين هورني نظرية فرويد وعدّت أن دونية المرأة ليست طبيعية أو بيولوجية، بل نتاج تنشئة اجتماعية تكرس التفوق الذكوري. وأضافت كيت ميليت أن تفوق الذكورة الذي يتحدث عنه فرويد هو تفوق رمزي، وليس مقتصرًا على جنس من دون آخر، مشيرةً إلى فشل فرويد في فهم ما تريده المرأة. أما جيرمين غرير فقد انتقدت التوجيه البطركي في التحليل النفسي الفرويدي، معتبرةً أن هذا الإرشاد يعكس تحيزًا ذكوريًا يُفرض على المرأة، ما يجعلها مضطرة للتكيف مع نظام لا يفهم طبيعتها الحقيقية.
يدخل الجباعي في مقدمة كتابه فضاء النقاش الذي ما زال دائرًا عن تأثير الجينات، وخاصة الجينات المؤنثة والمذكرة، في بعضها بعضًا، وتأثير الجينات والبيئة المحيطة في سلوك الفرد. فلا أحد يعرف بالضبط متى تنتج الأحداث الخارجية من بواعث داخلية ومتى يحدث العكس. كما أنه يرغب بالتأكيد على استخدام الأيديولوجيات للأبحاث والتجارب العلمية غير النهائية لتأكيد تعميماتها التعسفية كالداروينية الاجتماعية مثلًا، وهنا يقوم التمييز الجنسي على عدّ الفروق الجنسية فروقًا نوعية ومطلقة، لا فروقًا كميّة ونسبية، ما يفضي إلى جميع الاستيهامات والتأويلات الاجتماعية والثقافية والنفسية.
وهو يتفق هنا مع نسويات الموجة الثانية والثالثة في أن أغلب الصفات التي ألصقت بالأنوثة والذكورة هي صفات اجتماعية، لا بيولوجية، من صنع الإنسان لا الطبيعة، كوصف النساء بالضعف ونقص العقل والرجال بالعدوانية، وأن التربية تؤدي دورًا كبيرًا في تنشئة الفرد على هذه الصفات، ذكرًا كان أم أنثى، وهذا في الحقيقة هو مفهوم الجندر، وأسّ العلوم الجندرية، وهو ما لخصته دي بوفوار بعبارتها الشهيرة “On ne naît pas femme: on le devient” أي أن المرأة لا تولد امرأة، ولكن المجتمع هو الذي يعلمها أن تكون امرأة.
لتأتي الموجة النسوية الثالثة وتطور علوم الجندر خاصة على يد جوديث بتلر برفض الثنائيات المتقابلة والاحتفاء بالاختلاف، والتأكيد على تأثير السلطة المهيمنة على العلاقات بين الأفراد، ومحو حريتهم، وفردانيتهم، واستقلاليتهم.
يؤكد جباعي أنّ المساواة غير موجودة في الطبيعة البشرية، وأن الاختلاف هو أساس الكائنات، وأنّ الفرد الإنساني يتفاعل مع الآخرين بصفات فردية ونوعية، ما ينتج مجتمعات وأنظمة مدنية وسياسية، وأن المجتمع البطركي يتميز بالتبعية والسيطرة المركزية الذكورية التي ترفض المعارضة، وتعدّها ضد الحقيقة.
يحث الجباعي على تفكيك هذه السلطة وإعادة بنائها على أسس الحرية والمساواة، مع تعزيز مفهوم اللامركزية.
ويشير الجباعي إلى أن المقاومة، خاصة النسائية، تُعدّ ردًا على السلطة الذكورية المتأصلة، وأنّ بناء مجتمع متساوٍ يتطلب تجاوز الحدود الاجتماعية التقليدية، فالمساواة القانونية والسياسية التي يطرحها إعلان حقوق الإنسان تبقى صورية ومثالية، لا تعكس التفاوت الاجتماعي والاقتصادي الحقيقي، فالمجتمع الحالي لا يحقق المساواة الفعلية بسبب التمييز والقوة، ويحتاج النظام الاجتماعي إلى تغييرات جذرية لتحقيق العدالة والمساواة الحقيقية.
يلخص الجباعي بنية السلطة في المجتمع السوري، بتمييزه بين مجتمع الدولة الحديثة والمجتمع الحكومي في سورية، الذي يتمحور حول السلطة. هذه السلطة تنتج أفرادًا خاضعين لها، وتخترق المجتمع عبر مؤسسات ومنظمات تابعة لها، من دون إتاحة تطور المجتمع المدني الحقيقي. يعزو الجباعي ضعف المجتمع المدني إلى تحكم المؤسستين الأمنية والعسكرية، مما يعزز الانقسامات الاجتماعية العمودية، ويمنع نشوء هوية وطنية جامعة.
يتناول الجباعي قضية التعصب والوعي العصبوي، وتأثيرهما في المجتمع والسياسة، مع التركيز على الحالة السورية، ويشير إلى أن التعصب، خاصة الذكوري، أدى إلى تدهور أخلاقي وسياسي في سورية، ونتج منه استهداف النساء رمزيًّا وواقعيًّا. والتعصب يهدد التماسك الاجتماعي والشخصي، ويختلف في مظاهره بحسب الظروف الاجتماعية والسياسية. ولا يعني التعصب التطرف دائمًا، ولكنه قد يتحول إليه، وخاصة عندما يُستغل من السلطة. كما يتطرق إلى “القوة الرمزية والهيمنة الناعمة”، موضحًا أن السلطة إما تكون قمعية أو تعتمد على القوة الناعمة، وكلاهما يؤثر في العلاقات بين الجنسين.
في ما يتعلق بالمرأة، يشير الجباعي إلى أن السلطة في سورية استغلت قضية “تحرير المرأة” كوسيلة دعائية، بينما تبقى المرأة في المجتمعين التقليدي والحكومي مهمشة، فقد سعى المجتمع الحكومي لدمج النساء في نظامه، ولكن ليس لتحقيق المساواة، بل للحفاظ على الهيمنة الذكورية ولأغراض سياسية. النساء اللواتي يُقدَّمن كمتحررات، بحسب الجباعي، يمثلن واجهة خادعة لمظاهر الحداثة والتقدم.
عمومًا، ينتقد الجباعي غياب المساواة والحرية والمشاركة في سورية، محملًا السلطة مسؤولية تدمير المجتمع المدني وإفشال مشاريع الإصلاح.
يتناول الجباعي أيضًا دور الأيديولوجيا والإعلام في تثبيت سلطة الفرد المستبد. فالسلطة في سورية تحولت إلى بنية تسلطية، تستند إلى الولاء الشخصي، حيث تُغيّب دور القانون والدولة الدستورية. كما يبرز انحصار النشاط السياسي في مظاهر دعائية لا تحمل مضمونًا ديمقراطيًا حقيقيًا.
يطرح الجباعي فكرة “تأنيث الرجل” معتبرًا أن السلطة الذكورية تؤنث الرجال وتجعلهم في حالة خضوع تشابه خضوع النساء، ويشير إلى أن المساواة بين الجنسين لا تتحقق إلا بتفكيك التبعية والذهاب نحو الحرية، وينتقد السلطة الأبوية التي تقوم على الإخضاع، ويرى أن السلطة الشخصية تميل إلى الشمولية وتعمل على قمع المعارضة وتأنيثها.
بالنسبة إلى موضوع “تذكير المرأة”، يوضح الجباعي أن الرجل عمد إلى إنكار إنسانية المرأة وتذكيرها رمزيًّا، مما أدى إلى تقليص معنى المساواة بين الجنسين إلى مجرد تكافؤ في القدرات الجسدية والعقلية من دون الاهتمام بالكرامة الإنسانية، وهنا ينتقد الجباعي المساواة القانونية بين الجنسين ويعدّها فخًا للنساء، حيث تظل النساء تحت وطأة النظام البطركي، على الرغم من الحقوق القانونية الممنوحة لهن. وهنا أسأل الأستاذ الجباعي أي حقوق قانونية منحت للنساء في سورية، فالدستور مميز ضد النساء، وقوانين الأحوال الشخصية، والجنسية، والعقوبات، والعمل، والتأمينات الاجتماعية، والعلاقات الزراعية، كلها تحوي مواد مميزة ضد النساء.
وإذا سمح لي الأستاذ الجباعي فأنا لم أتقبل توصيف الاستتباع بالتأنيث، على الرغم من قناعتي بأن ذلك التوصيف رمزي، فلا بد أن أذكر هنا اعتزازي بأنوثتي، والتي أعدّها هبة من الطبيعة خصت بها أي أنثى، ومن الظلم استخدامها لتوصيف علاقات مشوهة ابتدعها الإنسان، مذ سيطر النظام البطركي على العالم.
كما لم أتقبل بعض الصور النمطية للنساء التي وردت في كتاب يدافع عن حقوق المرأة وحريتها واستقلالها، حتى ولو كانت بهدف مديح النساء، مثل “ما يتناقض على طول الخط مع الروح الأنثوية، التي تعنى بشؤون الحياة الواقعية، لأنها منتجة للحياة، تقرن التفكير بالتدبير، والغاية بالجدوى واختيار الأفضل، وتعنى بأدق التفاصيل، مثل الحياة نفسها”. أو إشارته إلى أن النساء يربين المجتمع كله، فبرأيي أن التربية هي شأن يخص الرجال والنساء معًا، وهي وظيفة لا يجب أن تقتصر على النساء، بل تخص المجتمع السليم المعافى بأكمله.
يتناول الجباعي موضوع المرأة واللغة، ويشير إلى أن اللغة تعكس هيمنة النظام البطركي الذي سيطر فيه الرجل على الفكر والثقافة. وهو ما أكده تيار واسع بدأ في الموجة النسوية الأولى وتطور في الموجتين الثانية والثالثة، فتم الاهتمام بتجديد اللغات وإيجاد صيغ لغوية محايدة وحذف كل الصيغ المميّزة، والاهتمام بالتاريخ الشفوي، وتجارب النساء.
كما يدعو جباعي إلى تجديد اللغة العربية وتضييق الهوة بين الفصحى والمحكية، وذلك ما دعونا له في الحركة النسوية السورية عندما وضعنا تصورًا لجندرة لغة الدستور.
يطرح الجباعي فكرة أن الصراع الطبقي وحده غير كافٍ لتحرير المرأة، مشيرًا إلى أن التقسيم الجنسي للعمل هو من أولى أشكال السيطرة الاجتماعية. كما يشير إلى أن حرية المرأة تتطلب معالجة العقبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو ما أكدته الموجه النسوية الثانية بنقدها للنسوية الماركسية في عديد من المؤلفات.
في النهاية، يرى الجباعي أن التحرر الحقيقي لا يتحقق إلا بتغيير بنية المجتمع، وخلق مساواة حقيقية تقوم على الكرامة الإنسانية، مما يتطلب تفكيك السلطة البطركية، وتجريدها من سيطرتها على الرجال والنساء على حد سواء، ويؤكّد على أهمية الانتقال إلى عقد اجتماعي جديد يحقق المساواة والحرية، ويرى أن من الواجب تفكيك العلاقات التي تحافظ على النظام البطركي، لتحقيق تحرر كامل للجنسين.
يتناول الجباعي فكرة الدستور الحساس للنوع الاجتماعي الذي يعترف بحرية المرأة ومواطنتها الكاملة، ويضمن حمايتها القانونية والعدالة الاجتماعية، ويربط بين العلمانية وحرية المرأة، موضحًا أن العلمانية تعدّ أساسًا لتحقيق المساواة والكرامة الإنسانية، وتعارض القوى المحافظة التي تقلل من شأن المرأة. كما على أهمية التربية والتعليم في تحقيق الحرية والاستقلال، وأن المساواة من دون مشاركة فعلية للمرأة تبقى غير مكتملة. كما يشير إلى ضرورة تحرير المؤسسات التعليمية والثقافية من التحيزات القديمة وتبني سياسات تدعم هذه المعرفة في المجتمع.
يؤكد الجباعي أن التنكر لإنسانية الأنثى هو أساس جميع أشكال التنكر والإنكار، وأساس التسلط والاستبداد، فهو ضرب من تنكر الذكور أنفسهم لإنسانيتهم، أو تعبير عن إنسانيتهم المبتورة كنتيجة للانشقاق الجنسي عميق الغور في حياة الجماعة البشرية.
يتحدث الجباعي عن “مأزق الحركة النسوية”، وهنا أعتقد أن من وقع في الفخ ليست الحركة النسوية العالمية أو الحركة النسوية السورية، فهي عندما نادت بالمساواة، أكدت أنها مساواة بين المواطنين الأحرار المستقلين، أصحاب الذوات الحرة المستقلة، والمتمتعين بحرياتهم وحقوقهم، وأهليتهم الكاملة للمشاركة في بناء مجتمعاتهم، عن طريق مشاركتهم في الفضاء العام، والفضاء المدني الذي يتيح تنظيم العلاقات الاجتماعية.
وهنا أسمح لنفسي مشفوعة بما دعا إليه الأستاذ الجباعي من ضرورة الحوار، وتقبل الاختلاف، لأقول إن من وقع في الفخ ليست الحركة النسوية، بل المفكرون المتنورون المؤمنون بحقوق الإنسان وحريته، وذلك بتبنيهم الفصل الفكري التام بين نتاجهم المعرفي والنتاج المعرفي للحركة النسوية العالمية، أو المحلية.
ولا ينطبق ذلك على الأستاذ الجباعي وحده، بل على جميع هؤلاء المفكرين الذين حاولتُ دراسة رأيهم في قضية المرأة.
لقد تجاهل الأستاذ الجباعي مجمل الإنتاج الفكري النسوي، الذي أنتج آلافًا من الكتب والمقالات، التي أحدثت انقلابًا جذريًّا في العلوم الإنسانية، وهو لم يكن الوحيد بين مفكرينا المتنورين المعاصرين، الذين بحثوا في هذه القضية من منطلق إيمانهم بالعدالة والحرية وحقوق الإنسان، ووقوفهم ضدّ الظلم والقمع، كالأساتذة بوعلي ياسين وصادق جلال العظم وجورج طرابيشي وحسين عودات وخضر زكريا وغيرهم، فقد غاب النتاج الفكري النسوي عن مراجعهم واستشهاداتهم، إلا في ما ندر.
ولكن بالطبع لا يمكن أن نوجه نقدنا لذلك التجاهل لمفكر كـ “بوعلي ياسين”، والذي كتب عن قضية المرأة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فالعلوم النسوية والجندرية علوم حديثة نسبيًّا، بدأت مسيرتها في الموجة النسوية الأولى في منتصف القرن التاسع عشر، واكتفت بالمطالبة بحقوق المرأة في التعليم والملكية وحضانة الأطفال، وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالحركة العمالية، إلا أنها تطورت وازدهرت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ضمن الموجة النسوية الثانية، التي أُسست فيها وتطورت العلوم الجندرية، والتي حللت أوضاع المرأة تحليلًا عميقًا، ونسفت جميع المقولات السابقة التي نادى بها المفكرون الذكور، وأثبتت أن الاختلاف في طبائع وعلاقات النساء والرجال ليس له أساس بيولوجي، وإنما يرجع إلى العلاقات الاجتماعية التي ثبتتها السلطة البطركية القائمة، كما تناولت تحليل أوضاع النساء من زوايا متعددة وظهرت فيها تيارات نسوية عديدة كالنسوية الماركسية، والنسوية الاشتراكية، والليبرالية، والوجودية، والراديكالية، والنسوية السوداء، ونسوية العالم الثالث -أو نسوية ما بعد الاستعمار- ونسوية علم النفس، وبحثت في اللغة والتراث والتاريخ، وبرزت فيها أسماء مفكرات أحدثن هزة عميقة في العلوم الإنسانية ككل، كسيمون دي بوفوار[3]، وكيت ميللت[4]، وجيرمن غرير[5]، وبيتي فريدان[6]، وغيرهن كثير، لتأتي الموجة النسوية الثالثة وتزدهر في التسعينيات مطورة أفكار الموجة الثانية، مؤكدة علاقة السلطة بترسيخ نمط من العلاقات الاجتماعية تمحو فردانية واستقلالية وحرية الفرد، رافضة الثنائيات المتقابلة، ومحتفية بالاختلاف، وبرزت فيها تيارات عدة كالنسوية الكويرية والنسوية التقاطعية والنسوية البيئية. لكن الموجة النسوية الثالثة لم تلغ بالتأكيد الإنجازات الرائعة للموجة الثانية بل طورتها، وبرزت فيها أسماء مفكرات نسويات عدّة أحدثن الأثر ذاته الذي أحدثته نسويات الموجة الثانية كجرمين غرير في كتابها Gender trouble، وكمبرلي كرينشو التي طورت أفكار النسوية السوداء من الموجة الثانية لتطلق نظرية النسوية التقاطعية، أو تقاطع أشكال التمييز، وغيرهن من المفكرات النسويات اللاتي ربطن العدالة المناخية بالنسوية، لتليها الموجة الرابعة التي برزت فيها حركة mee too وطورت تيار النسوية السيبرانية، ولا يسعنا المجال هنا لذكر جميع الإنجازات الفكرية المهمة التي قدمها الفكر النسوي والتغييرات المهمة التي أحدثها أكان على المستوى المعرفي، أم على المستوى الميداني من خلال تنظيمات المجتمع المدني النسوية والتي على الرغم من كل ما شابها من عيوب ونقد، ذكرها الأستاذ الجباعي عرضًا في كتابه، إلا أنها أسست لحركة نسوية عالمية، أغنت علومنا ومعارفنا، وحسّنت أوضاع النساء وأحدثت شكلًا من أشكال المقاومة والنضال الدؤوب ضد السلطات المركزية البطركية القائمة في العالم كلّه[7].
وهنا أعدّ أن كل ما ورد من أفكار في كتاب الأستاذ الجباعي يمثل صدىً لنتاج الموجة النسوية الثالثة، على الرغم من تجاهل الأستاذ الجباعي لها، وتسميته لها بالنسوية النقدية، ووصفه لها في فقرتين مبتسرتين فقط، تردان في كتابه المؤلف من أكثر من 450 صفحة ﺑ: “أنها ليست نسوانية ، وتقوم على مبدأ القطيعة النقدية: المعرفية والأخلاقية، لا مع الماضي البعيد فحسب، بل مع الحداثة والتنوير، بغية إعادة إنتاجهما، وفق رؤية متوازنة تتعادل فيها الذكورة والأنوثة، وتذهب بخط مستقيم إلى إعادة بناء قواعد السلطة، وفق جدلية المعرفة والسلطة، وجدلية الذات والموضوع”.
وعلى الرغم من أنه يبحث في قضية المرأة، إلا أننا لا نجد من بين عشرات المراجع التي ثبتها في كتابه إلا 5 مراجع مكتوبة بأيدي نساء.
كما يطرح الجباعي فكرة استعلاء بعض النساء على النساء الأخريات من منطلق إثني، أو مذهبي، أو طبقي، أو عنصري، وهو موضوع كتبت فيه النسويات مؤلفات لا تحصى وتبنته تيارات نسوية عديدة، أهمها تيار النسوية السوداء، والذي تطور إلى تيار النسوية التقاطعية في الموجة الثالثة.
بل إنه يتساءل: أليس ما أنتج في مجال المعرفة ولا سيما العلوم الاجتماعية والإنسانية، إنما أنتج من وجهة نظر الذكور لا من وجهة نظر إنسانية متوازنة؟
أما بالنسبة إلى الحركة النسوية في المنطقة العربية، فبرأيي أنها استفادت من نتاج الحركة النسوية العالمية، واستطاعت عكس تلك المعرفة على الواقع الذي تعيشه النساء في المنطقة، وبرزت أسماء مفكرات رفدن الحقل المعرفي في المنطقة العربية بدراسات وأبحاث نسوية لا تقل أهمية، وأعتقد أنه من الإجحاف اختصار ما قدمته الحركة النسوية العربية بما ورد ذكره في كتاب الأستاذ جباعي، بأنها اتسمت بالنزعة الماضوية، ومرض ما يسمى “النسوية العربية” و”النسوية الإسلامية”، ما يجعل نقدهما للبنى الاجتماعية والثقافية خجولًا ومترددًا. وأن ّصوت المرأة “كان صدى لصوت المناضلين القوميين والإسلاميين”.
فقد اكتفى الجباعي في نقده للحركة النسوية العربية بنقد نتاج الرائدة نوال السعداوي، والتي وإن كنا نقر بريادتها للفكر النسوي، إلا أن أراءها يجب أن تؤخذ في السياق التاريخي التي كتبت فيه، فهي تنتمي إلى الموجة النسوية الثانية، كما استشهد أيضًا بالنسوية الإسلامية (وهنا أعترض على هذا التوصيف أيضًا) هبة عزّت، التي لم أسمع باسمها من قبل، على الرغم من أني أدعي أني متخصصة في هذا المجال. وغاب عن بال الأستاذ الجباعي أسماء باحثات نسويات عربيات كثر من سورية ولبنان وتونس ومصر والأردن ودول المغرب العربي، ممّن كتبن في هذا المجال، وأضفن كثيرًا من المعارف المتعلقة بأوضاع النساء في المنطقة العربية، كفاطمة المرنيسي، وآسيا جبار، وسهير السلطي، وعبلة بو علبة، وهالة كمال، وسارة سالم، ورجاء بن سلامة، وآمال قرامي، وليلى سليماني، وجمانة حداد، ورفيف صيداوي، وعزّة بيضون، ومنى الطحاوي، وآسيا جبار، وسلوى بكر وغيرهن كثير، هذا عدا عن الجهد الكبير الذي لا يجوز لنا إنكاره الذي بذلته المنظمات النسوية اللاحكومية في العالم العربي، التي واجهت تحديات لا حصر لها كي تشق طريقها في الصخر، في مجتمع رافض لوجودها وأفكارها، وتحت ترهيب سلطات جعلت من تلك الحركات تتحول إلى تجمعات سرية في كثير من الأحيان، ولا يتسع المجال هنا لذكر إنجازاتها.
في توصيف الأستاذ الجباعي للحركة النسوية السورية يقول إنها “احتبست في تنظيمات حكومية أو شبه حكومية وفي أحزاب معارضة ليست أحسن حالًا، إلا أن مطلع الألفية شهد نموًّا ملحوظًا في التنظيمات المستقلة حفزه الاهتمام بدور المجتمع المدني، فأدرجت قضية المرأة في التصور الإستراتيجي للتحول الديمقراطي، وبدأت قضية الحرية والاستقلال تشق طريقها بصعوبة وبطء”.
ألا تستحق الحركة النسوية السورية اهتمامًا أكبر، واتهامات أقل، من الأستاذ الجباعي؟ صحيح أن الحركة النسوية السورية ما زالت حركة وليدة، فالأستاذ الجباعي خير من يعرف أن الحركة النسوية على المستويين المعرفي والميداني ولدت على يد مفكرات ومناضلات بدأن نضالهن في أواخر القرن التاسع عشر، ولم يختلفن عن منظمات المجتمع المدني الأخرى، أو الحركة السياسية السورية، التي بُترت وأُجهضت باستلام حزب البعث السلطة في سورية، وما تلا ذلك من اشتداد وطأة قمع السلطة المركزية حقبة بعد أخرى، إذ مُنع أي شكل من أشكال الحراك المدني والسياسي، حتى قيام الثورة التي وُئدت هي الأخرى بصورة أشد قسوة وإيلامًا.
كنت أتمنى أن يولي الأستاذ الجباعي مزيدًا من الاهتمام للحركة النسوية السورية الوليدة، والتي تشكلت في مطلع الألفية وتطورت بعد الثورة، أكان على مستوى النتاج المعرفي أو العمل الميداني، فقد أنتجت التنظيمات النسوية السورية دراسات وأبحاث مهمة على الصعيد الفكري، بل كانت رؤيتها لدستور سورية القادم أكثر تطورًا وجرأة مما طرحه الأستاذ الجباعي، فقد أصرت على علمانية الدستور، وأنه لا حقوق للمواطنين نساء كانوا أم رجالًا في غياب العلمانية، كما وضعت تصورًا واضحًا للغة الدستور وضمانات تطبيق الدستور. عدا عن الكتب والأبحاث والدراسات العديدة التي حللت أوضاع النساء في سورية، ومشكلاتهن، وأزماتهن، ومعاناتهن وقدمت رؤى متطورة للدستور، والقوانين، والتمكين الاقتصادي الاجتماعي، بطروح جريئة جعلت منها هدفًا لهجوم المعارضة والمفكرين المتنورين قبل النظام والقوى الظلامية والتقليدية. وليت المجال يتسع لذكر هذا النتاج كله، الذي توقعت أن يحتفي به مفكرونا المتنورون التقدميون. لكن من الواضح أن إهمالهم له آت من عدم معرفتهم به أو اطلاعهم عليه.
يفترض الجباعي أن “الحركة النسوية في سورية تعيش مأزقًا واضطراب رؤية، أساسه جوهرية المعيار وهشاشة المثال، والتماهي به ومحاكاته في القوة والمقدرة، وهي أساس ارتباك محاولات استقلال المرأة عن البنى والعلاقات التقليدية وسهولة نكوصها على أعقابها”، فالعلة إذًا في ذات الحركة النسوية السورية، وضيق أفقها، لا في الهجوم الضاري الذي تتعرض له من السلطات والقوى التقليدية، والتهميش والإهمال والتجاهل من قوى المعارضة السياسية، والحركة التقدمية المتنورة على حد سواء، ولا من الظروف الموضوعية التي أدت إلى تشتت السوريين في أنحاء الأرض، وتمزق روابطهم، وبؤس أوضاعهم، وشعورهم بالهزيمة المدمرة.
كما يلقي الأستاذ الجباعي، كما الكثير من المفكرين الرجال غيره، اللوم دائمًا على النساء والمنظمات النسوية بعدم فهم الواقع أو البعد أو الخطأ في تحليله، حتى ليكاد ذلك يذكرنا بمقولة ناقصات عقل ودين، وبأننا ما زلنا ناقصات عقل ودراية وتقدير، لكنه في الوقت نفسه يؤكّد ضرورية الحفاظ على استقلاليتنا وعدم الارتهان للحركة النسوية العالمية. وهنا أودّ أن أؤكد أننا على الرغم من وعينا التام ونقدنا الدائم للنسوية البيضاء، والبرامج الجاهزة التي تمليها المنظمات الدولية، والتي نسعى جاهدات للتصدي لها، فأنا أوجه السؤال للأستاذ الجباعي، هل يمكننا وحدنا التصدي لجميع التحديات المحلية بما فيها المعارضة السياسية، والحركة الفكرية المتنورة التي إن لم تهمشنا فهي تلغينا، أو لا تعترف بدورنا، أو قدرتنا على التحليل المعرفي والسياسي، وقدرتنا على إحداث التغيير، مهما كان ضئيلًا؟ لست بصدد الدفاع هنا عن الحركة النسوية الغربية أو المنظمات الدولية فنحن واعيات دومًا لمثالبها وعيوبها، ولكنني أدعي أننا قادرات أن نعرف موطأ أقدامنا، وواعيات له.
أما عن المشاركة النسائية في الفضاء العام في سورية فيورد جباعي أن النساء “شاركن في أحزاب السلطة والمعارضة لتحقيق أهداف بعيدة المدى، بغض النظر عن قابليتها للتحقق، المرأة في تلك الأحزاب كانت ذكرًا واهمًا وأنثى خائبة (ليس بسبب صفاتها البيولوجية وإنما للظروف الموضوعية)، ساهم حضورها المنظور (لأن جسدها معدّ اجتماعيًّا لكي ينظر إليه) في منح هذه الأحزاب بعضًا من حداثة وتقدمية شكليين تضاعفان غربة المرأة عن ذاتها”.
ويقصر الأستاذ الجباعي دورنا ووجودنا في الحركة المدنية والسياسية، وقد كنت زميلة له في لجان إحياء المجتمع المدني، وساهمت مع زميلاتي من النساء في إدراج رؤيتنا لحقوق النساء وحرياتهن في الأوراق الأساسية له، بقوله أنه لا ينكر دورنا “في جعل كثيرين من الرجال أفضل، من خلال التعبير عن إعجابنا بالصفات الحسنة والقيم الفكرية والأخلاقية والفنية والجمالية، ما يدفع الرجال إلى التحلي بهذه الصفات والتعلق بهذه القيم حقيقة أو ادعاء، الأنوثة مدربة على صناعة الذكورة وتحسينها”، فإذا كان الأستاذ الجباعي يرى حقًّا أن وجودنا ودورنا في تلك الفضاءات قد اقتصر على ذلك، فيا للخيبة والمرارة التي أحس بها أنا، وعلى الأخص زميلاتي اللاتي أمضين سنوات في سجون النظام، وشهدن أبشع أنواع التعذيب والمعاملة اللاإنسانية.
من جهتنا كنسويات ومهتمات بالشأن العام فقد كانت الفضاءات الوحيدة المتاحة لنا هي تلك الفضاءات الضيقة، التي اعتقدنا أننا من خلالها نستطيع أن نتضامن مع غيرنا من المؤمنين بالعدالة والإنسانية، كي نحدث تغييرًا ولو بسيطًا في العلاقات والبنى القائمة.
نحن لم نقع يومًا في فخ المساواة، فمطالباتنا كانت دومًا واضحة ومحددة: المساواة بين المواطنين الأحرار المستقلين الذين يتمتعون جميعهم بالأهلية والكفاءة ذاتها، للاجتماع في إطار مجتمع مدني يفسح في المجال للحوار والاختلاف والاتفاق والنقد وتبادل الآراء، ويتيح للجميع فرصًا متكافئة للمشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويهيئ الظروف الملائمة لذلك.
أما من حيث تصوراتنا للمستقبل، فأنا أدعي أن نظرتنا لا تنحصر في شكل الدولة الديمقراطية الحديثة، فقد شاهدنا عطب وعيوب النظام الديمقراطي الذي أوصل ترامب واليمين المتطرف إلى السلطة في الغرب، ولسنا طبعًا في صدد مناقشة الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية التي قادت لذلك.
هدفنا أبعد، وهو خلخلة ومن ثم تغيير النظام الرأسمالي البطركي العالمي القائم، بالتعاضد مع القوى الحرة في العالم، لإنتاج مستقبل، تغيب عنه كلمة سلطة، فالسلطة مرتبطة دومًا بالقوة، بل لابتداع شكل تنظيمي جديد للمجتمعات الإنسانية، يلغي كل ظلم أو قمع أو استتباع، ويؤسس لعالم يقوم على العدالة والمساواة بين البشر.
أخيرًا يدعو الأستاذ الجباعي إلى اندراج النقد النسوي في مشروع نقدي تشارك به النساء والرجال من شأنه أن يفسح في المجال لانبثاق فكر حر، وخطابات مستقل\ة ترفض أشكال الهيمنة وتحتفي بالاختلاف، وأنا أشارك الأستاذ جباعي تلك الدعوة، ولكن ألا يجب أن يبدأ ذلك باطّلاع المفكرين الرجال على النتاج المعرفي النسوي، والنضال النسوي الدؤوب، ونقده بموضوعية، كما نفعل نحن بنتاجهم؟ ألا يبدأ ذلك بالاعتراف بوجودنا، ووجود معرفة نسوية، أكانت عالمية أم محلية، بدأت بهز أركان السلطة التقليدية التسلطية البطركية، والتعامل معها بالجديّة التي تستحقها، كي نقف معًا على أرضية مشتركة، لتحقيق أسمى الأهداف -وهنا أقتبس جملة الأستاذ جباعي الشهيرة-: “الإنسان الذي هو هدف الأهداف وغاية الغايات”.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا للجميع. إذا سمحتم لي الآن، هناك بعض الأسئلة الأساسية التي من الممكن أن نسألها، ونقوم بالربط بين الأفكار التي تم طرحها، دعونا نبدأ بالسؤال الأول للدكتورة “ميادة” والذي هو تعقيب على المداخلتين الأخيرتين، المتعلقتين بكتاب “فخ المساواة”. فقد حظي هذا الكتاب بالاهتمام الأكبر في الندوات، فلم تكن هناك ندوة إلا وكان هذا الكتاب موضوعًا لمداخلة أو أكثر، وقد رأينا مداخلتين عنه اليوم. وهذا الكتاب من إصدار “مؤمنون بلا حدود”، وكونك ناشرة أي بمعنى قارئة ونسوية، ومن منظور حديثك عن مفهوم المجتمع المدني المجمع تقريبًا على أنه يمثل المفهوم الرئيس في فكر “جاد الكريم الجباعي”، سؤالي لك، دكتورة ميادة، هو كيف يمكن أن نربط بين هذا الكتاب “فخ المساواة” ومسألة المجتمع المدني عمومًا، ويمكن أن تعقبي على المداخلات التي حدثت بهذا الخصوص، تفضلي.
الدكتورة ميادة كيالي: بلا شك وبوصفي ناشرة لهذا الكتاب، وكما يقال بالعامية، أنا “أم الصبي”، فشعوري تجاه الكتاب يرتبط بموضوع الكتاب ذاته؛ لأنني امرأة، وأشعر بفخر كبير أنني امرأة سورية مستقلة، ومنافحة عن قضايا المرأة وحقوقها وأشتغل في المجال المعرفي، وأشرف على مؤسسة ساهمت منذ البداية في تشكيلها، وهذا الشيء يجعلني أعتز بهذا الكتاب الذي يتحدث عن المرأة وعن الاعتراف بحقوقها والاعتراف باختلافها وتميزها في الوقت نفسه. في الحقيقة، بالنسبة إلى كوني نسوية، بالتأكيد أنا أوافق العزيزة “مي الرحبي” في بعض النقاط التي نقدت فيها الكتاب، وأحترم رأيها تمامًا في هذا الموضوع، خاصة عدم تسليطه الضوء على أعمال نسويات متميزات، لكنني أعتقد أن “الجباعي” قدم في هذا الكتاب مقاربة جديدة للمفهومات الجندرية، وفتح النقاش بصورة كبيرة جدًّا حول الموضوع، وحول إعادة التفكير في أدوار الرجل والمرأة بعيدًا من القوالب التقليدية، وهذا شيء مهم جدًّا. أما في الموضوع الأخير الذي تحدثت عنه حول موضوع النسوية العربية والنسوية الإسلامية، فهناك شيء لا أتفق معها فيه؛ لأننا عندما نتحدث عن النسوية العربية، أشعر أن ثمة تيارات نسوية عدة في العالم العربي، ولا أتخيل أنها شكلت جملة واحدة أو حركة نسوية عربية، نستطيع أن نقول عنها إنها تحمل الملامح نفسها، يوجد نوع من التداخل في العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية بمختلف الدول العربية، والنسوية في العالم العربي تعاني من تحديات كبيرة جدًّا ومختلفة عن النسويات الأخرى؛ تعاني من أشياء تتعلق بالدين، بالتقاليد، بالقيم العائلية، بالأنظمة السياسية، إضافة إلى المشكلات التي نعيشها، والتي تجتمع معًا وتحدد الأدوار المسبقة للمرأة. بالنسبة إلى النسوية الإسلامية أخالفها الرأي أيضًا؛ لأنني أعتقد أنه توجد نسويات إسلاميات، وأنا أرى أن دورهن مهمّ ولا نستطيع إنكاره. أنا أشعر أن بعض النسويات لا يتقبلن وجود نسوية إسلامية؛ أي إما “نسوية” أو “إسلامية” مع أن هذا الشيء يؤخذ علينا نحن؛ أي مجرد أن أقول أنا عن نفسي نسوية، يصنفونني خارج الدين، ألا يصلح أن نصنف بهذا وذاك الشكل؟
الدكتور حسام الدين درويش: سنعود إلى هذه المسألة لاحقًا. دكتورة “ميّة”، في حديثك وعرضك النقدي لأفكار “الجباعي” في هذا الكتاب، كان يبدو أحيانًا أن الحركة النسوية هي واحدة، بمعنى إما ينطبق عليها كلام الأستاذ الجباعي، أو لا ينطبق عليها. ألا يمكن هنا أن نقول مع الدكتورة “ميادة” التي طرحت الفكرة، إن النسوية نسويات، أي هنالك اختلافات داخلية في ما بينها. وينطبق هذا الحكم على مسائل أخرى فنقول، على سبيل المثال، الحداثة حداثات، العلمانية علمانيات …إلخ. فبأي معنى وإلى أي حد يمكن القول إن النسوية نسويات، ومن ثم (بعض) الأحكام المتضمنة في كتاب فخ المساواة، تنطبق على بعض الاتجاهات النسوية، ولا تنطبق على بعضها الآخر. فعلى سبيل المثال، بعضها وقع في الفخ الذي تحدث عنه الجباعي، وبعضها طبعًا كان واعيًا لهذا الفخ وتجاوزه أصلًا، ما رأيك؟ تفضلي دكتورة “ميّة”.
الدكتورة ميّة الرحبي: في الحقيقة مثلما يوجد هناك تيارات نسوية في العالم وخاصة النسوية الثانية، كان هناك تيارات ماركسية وليبرالية واشتراكية، أيضًا بالمنطقة العربية، هناك تيارات متعددة في النسوية العربية، هناك تيارات نسوية ما بعد الاستعمار مثلًا، يوجد نسوية اشتراكية، ونسوية ليبرالية، ونسوية كويرية، تتشكل حاليًّا في المنطقة العربية، هذه تيارات نسوية مختلفة ولكن جميعها لديها هدف واحد هو أن العلاقات الاجتماعية يجب أن تقوم على الأشخاص الأحرار المتساوين الذين يملكون جميع حقوقهم، وذلك ينطبق على النساء والرجال معًا، وليس فقط النساء، وهنا أتمنى من الجميع أن يطلع على كتاب “جيرمن غرير” التي تحدثت بأن الرجل لن يتحرر إذا لم تتحرر النساء، ولن يحصل على حقوقه إذا لم تحصل النساء على حقوقهن، أود أن أوضح موضوع النسوية الإسلامية، النسوية منظومة متكاملة، حتى ولو كان فيها تيارات مختلفة، تقوم على اعتبارات واضحة محددة، وهي أنّ المرأة يجب أن تكون حرة مستقلة، تمتلك جسدها، تمتلك حريتها باختيارها، تمتلك حقوق كاملة في الفضاء العام، بينما هنالك إسلاميات مدافعات عن حقوق النساء بالتأكيد، ولكن يبقى لديهن مسائل لا يمكن أن تتطابق مع النسوية، مثل تقسيم العمل الاجتماعي، أو القوامة، أو موضوع القرار المنزلي، وحق الاختيار إلخ…، هنالك مسائل لا يقدرن على تجاوزها، أنا أعمل معهن، ونحن نعمل معًا في المجال النسوي السوري، ونحترم بعضنا احترامًا شديدًا، ولكنني فقط أحب أن أعرّفهن على أنهنّ إسلاميات مدافعات عن حقوق النساء، لأن المنظومة النسوية متكاملة.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا، سنبقى في الموضوع ونعود للأستاذ “أحمد مظهر سعدو”. نلاحظ الربط في المسألة النسوية أو مسألة العلاقة بين الرجل والمرأة، في المجتمع المدني، بمسألة الاختلاف الطبيعي والمساواة الإنسانية الأخلاقية. وكان هناك حديث في إحدى فقرات البحث الذي ذكرته، وكان عن مسألة ضرورة العقد الاجتماعي، طبعًا هذا العقد الاجتماعي أطرافه مختلفون، ولكن كيف يمكن هنا أن نربط هذا العقد الاجتماعي والذي ضمنه المجتمع المدني، مع مسألة المساواة المطلوبة ضمن الرؤيا النسوية؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أظن أن لا أحد يختلف على ضرورة العقد الاجتماعي بمعنى ما، لكن الحديث الأهم هنا وأعتقد أنه غائب عن الورقة، هو عن إمكانية هذا العقد الاجتماعي. لماذا لا يحدث أصلًا؟ إذا كان ضروريًّا وكلنا متفقون عليه، لماذا لم يحدث؟! تفضل أستاذ “أحمد”.
الأستاذ أحمد مظهر سعدو: أولًا لا بد من القول أن الأستاذ “جاد الكريم الجباعي” هو رجل حواري بامتياز، وأنا طبعًا أعرفه منذ عام 1990، إذ كنا معًا في مجلس تحرير الموقف الديمقراطي “التجمع الوطني الديمقراطي” وكان حواريًّا بكل معنى الكلمة، وأيضًا في مفهوم الحرية وممارستها فهو من يسمع طويلًا للآخر المختلف معه، للوصول عبر حوارات متواصلة ومتداخلة إلى النتائج المرجوة، التي يراد منها الوصول إلى فكرة معينة، كان من الذين يكتبون بقلم الرصاص دائمًا وأنا أذكر ذلك تمامًا في تلك المرحلة، من أجل أن يتم التعديل بصورة أسهل، إذًا هو ليس متمسكًا بقضية ما من خلال حواره مع الآخرين أنها يمكن أن تسبب إشكالية أو لا يوجد توافق مجتمعي عليها، ينقلنا هذا إلى موضوع العقد الاجتماعي، فهو أكد قضية العقد الاجتماعي، يعني أنه لا بد لهذا التناثر الموجود في المجتمع أن ينتقل فيه الإنسان إلى مرحلة أخرى من التلاقي والحوار المتواصل، وأنا أتصور أن القضية المطروحة من خلال أبو حيان، حقيقة هي لدينا جميعًا، يعني لا يمكن الحديث اليوم عن عقد اجتماعي من دون أن نفتح إمكانية للحوار، مع كل إثنيات المجتمع وطوائفه ومكوناته السياسية والفكرية، وكل هذا غائب حاليًّا في الحقيقة، ما أعتقد أن أبي حيان يريد أن يصل له، هو موضوع العلاقة الحوارية الشاملة في إطار المجتمع السوري، لم نصل وهناك عثرات نعم، لأن هناك تحاجز أيديولوجي، وتحاجز في القضايا الأخرى التي لها علاقة بالمصالح والمحاصصات، وهذا ما نشهده لدى ما سمي بالمعارضة الرسمية السورية حاليًّا، وهي تتمسك في قضايا من أجل مصالحها وليس من أجل المصالح الوطنية الديمقراطية، هو يتحدث دائمًا عن قضية الثورة الوطنية الديمقراطية، وأعتقد حتى الآن أنه لم يغير هذه الرؤية، هكذا يتحدث أو هكذا يريد أن يصل بالآخر إلى قضايا لها علاقة خاصة بموضوع النسوية. فقط ملاحظة أيضًا، أنا من خلال المعايشة أيضًا معه في حوارات “منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي” أيام “ربيع دمشق” وبالطبع تواجد معنا باعتباره أحد المؤسسين في “منتدى الأتاسي”، كان من أكثر الناس الذين طرحوا القضايا الحوارية، ومفهوم المرأة، وكان منفتحًا على قضية المرأة، ومن كان من السيدات معنا في تلك المرحلة يدرك ويعرف ذلك، وأعتقد أيضًا أن الدكتورة “ميّة الرحبي” كانت تحضر كثيرًا في هذه الندوات التي كنا نقوم بها في تلك المرحلة.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا، أظن أنه لا يوجد هناك تشكيك بالنيات أبدًا، ولكن هنا دعنا نقول أن النيات لا تكفي لوحدها. إذا تابعنا هذا الربط بين السياسي والنسوي، أستاذ “جبر”، يمكن القول إن ورقتك تتضمن الجسر الذي أقامه الجباعي بين الأمرين. وفي عرضك للارتباط بين المسألة النسوية عمومًا والمسألة السياسية، الأطروحة الرئيسة والخطرة التي تركز عليها هي رؤيتك أن خطورة وأهمية ما قدمه الباحث جاد الكريم الجباعي في كتابه “فخ المساواة”، كما في كل أبحاثه، تتمثل بقلب أنماط التفكير السائد وطبيعة الوعي الزائف بظاهرة الاستبداد لنبدو نحن الرعايا مجرد ضحايا لجذر من جذوره العميقة والأصيلة المتمثلة بتقويض مجتمع الأمومة وتشييد مجتمع الذكورة البطريركي وتزيف جدلية الفرد (أنثى وذكر) الدالة بالتساوي على النوع الإنساني. هل هذه الرؤية هي تفسير أنثروبولوجي أي بمعنى أنها قراءة للتاريخ كما حدث، أم هي رؤية قيمية أخلاقية معيارية فقط، بمعنى أنه إذا كانت مكانة المرأة متدنية ولم تحظ بحقوقها، فلا إمكانية لقيام مجتمع مدني ولا قيام مجتمع قائم على المساواة أصلًا، ولا إمكانية لقيام الديمقراطية؟ فبأي معنى ترى أن هذا التفسير يمكن الاعتماد على هذه الأطروحة الرئيسة في كل الورقة التي قدمتها في هذا الخصوص؟ تفضل أستاذ “جبر”.
الأستاذ جبر الشوفي: إن الربط بين السياسي والنسوي عند الباحث الأستاذ جاد الكريم الجباعي، يمر عبر قراءة أنثروبولوجية تاريخية أنتجت قيمة أخلاقية وأصّلتها أو تطبعت عليها فالتبست بالطبع وشوهت جدلية (الأنوثة والذكورة) وموهت على المساواة عبر إلغاء الاختلاف وصولًا إلى إلغاء الآخر وتهميشه والانتقاص من وجوده، وحيث تنسحب قوامة الذكر على المرأة وتابعيتها له. وبوصف السلطات المستبدة هي سلطات ذكورية، تعمق هذه التابعية وتعيد إنتاج السلطة المركزية وتحويل المرأة إلى “وسيلة تبادل اجتماعي” وحيث إن تفكيك سلطة الذات، لا تتم إلا عبر قضم وتفتيت المركزيات الجوهرانية الطاغية واختراق المحظورات ومواجهة التنميط والتشيّوء. إذًا ثمة تواشج بين السيطرة على الآخر (ذكرا وأنثى) وتأنيثه الرمزي، عبر خطاب السلطة المجنس وحيث “الجنسانية هي قاعه وعمقه اللاواعي” وبوصف الهوية (كينونة مؤنثة ومذكرة تنتج ذاتها بإرادة حرة مستقلة) وعدم الاعتراف بالمرأة، يقوم على عملية (صورنة ونمذجة) تقلص وتخفي الفروق. إن تفكيك علاقات القوة التي ينطوي عليها الخطاب المجنس، تكشف عن النسق المضمر والمنسي، أي نسيان الوجود الضروري الأصيل والمتساوي للذكور والإناث بينما يأتي (تسيس النساء عبر تذكيرهنّ بوصفهنّ تابعات لبنية ذكورية مركزية تدّعي التقدمية، وعبر إشكالية تمويه العلاقة بين المساواة والاختلاف وصولًا إلى حجب الحرية. إنها المساواة التي تلغي الاختلاف. وتبعًا لباحثنا الأستاذ الجباعي لقد تحوّل دخول المرأة في (المجمع الحكومي) الذي يقوم على تذويب الفرد بالجماعة إلى ستار، يحجب غياب المجتمع المدني الذي يُحرر فيه الفرد ويستقل روحيًّا ويعترف باستقلاليته أي حريته.
الدكتور حسام الدين درويش: تمامًا، شكرًا لك. حول هذه النقطة سنعود للدكتورة “ميّة”. دعونا نقول في لفتة نسوية جميلة جدًّا، إن الدكتورة “ميّة” رفضت الربط “الماهوي” أو الجوهراني بين الأنوثة وأي شيء آخر، حتى لو كان العطاء أو الأشياء الإيجابية، وعلى سبيل المثال، سجلت تحفظها على الربط بين الاستتباع والأنوثة مثلًا، وأعلنت عدم تقبلها بعض الصور النمطية للنساء التي وردت في كتاب يدافع عن حقوق المرأة وحريتها واستقلالها، حتى ولو كانت بهدف مديح النساء، مثل “ما يتناقض على طول الخط مع الروح الأنثوية، التي تعنى بشؤون الحياة الواقعية، لأنها منتجة للحياة، تقرن التفكير بالتدبير، والغاية بالجدوى واختيار الأفضل، وتعنى بأدق التفاصيل، مثل الحياة نفسها”. وفي الكتاب يتحدث الأستاذ “الجباعي” عن الأنوثة بوصفها رمزًا للحكمة أو القوة والذكاء العميق والرحمة، وهو يقول في إحدى جمله “إذا كانت أوضاعنا حبلى بإمكانيات التغيير، فليس أولى من النساء بتدبر شؤون الحبل والولادة والاحتفاء بالحياة”. دكتورة مية، أنت ترفضين مثل هذه الأحكام/ التنميطات وترين أننا متساوون من الناحية المعيارية والأخلاقية، وينبغي أن نكون هنا واعين كي لا يقودنا حماسنا أحيانًا وننتقل من الحديث عن دونية المرأة إلى الحديث عن فوقية المرأة، والقول إنها تحظى بصفات أو سمات إيجابية ما أكثر من غيرها لمجرد أنها امرأة. دكتورة “مية” تفضلي.
الدكتورة ميّة الرحبي: تمامًا وهذا ما وددت قوله، مثلًا عندما نقول أن المرأة هي مربية المجتمع، أنا لا أعدّ هذا مديحًا للنساء، لأن المجتمع هو من يجب أن يربي الأطفال، الرجال والنساء معًا يجب أن يربوا الأطفال، وأن يكونوا مسؤولين مسؤولية مشتركة عن تربية الأطفال، يقال أحيانًا إن النساء أكثر حكمة، لا نحن لسنا أكثر حكمة، أنا أعدّ أن هذه الفروق فردية، وحتى لو كان التأكيد إيجابيًّا فهو يعيدنا إلى الربط بين البيولوجي والاجتماعي، أي توصيف المرأة البيولوجي وربطه بالصفات التي أسبغت عليها اجتماعيًا، الفروق فردية، كل إنسان لديه مقدرات ومواهب تختلف من شخص إلى آخر، مثلًا أنا لدي القدرة أن أكتب لكن ليس لدي المهارة اليدوية، هذه المهارات تختلف بين شخص وآخر، وكل مهارة محترمة وكل كفاءة محترمة وكل ذات بشرية محترمة بوجود الاختلاف، والاختلاف لا يربط بيولوجيًّا وإنما يربط بماهية الشخص، وهذا الشيء أكده الأستاذ “الجباعي” في كتابه، وأنا أوافقه عليه مئة بالمئة، أنا أعتذر بأنه لم يتسنَ لي إلا أن أتكلم عن النقد، النقد والعتب الذي عاتبت به الأستاذ “الجباعي”، ومثلما تحدث الأستاذ “أحمد” أنا أيضًا تربطني بالأستاذ “الجباعي” صداقة طويلة الأمد منذ أيام “ربيع دمشق”، ولكن لنكن حذرين تمامًا، مثلما تفضلت، حتى لا تدفعنا الحماسة لأن نعود ونؤكد فكرة نحن لا نريد أن نؤكدها، الاختلاف موجود ونحتفي بالاختلاف، وكل ذات بشرية لها مواصفاتها التي يجب أن تعطى مجالها ومساحتها في المجتمع.
الدكتور حسام الدين درويش: دكتورة “ميّة” دعيني أقول لك أنا كقارئ للورقة البحثية التي قدمتِها للمستمع “لم تقتصري على النقد بالتأكيد” وإنما كان هناك عرض واتفاق على أشياء أساسية، وهي أساسية لدرجة أنها بدت بالتأكيد أننا متفقون عليها، ولكن هناك مسائل مهمة أيضًا ينبغي عرضها، ومن يعرف الأستاذ “الجباعي” بالتأكيد يعلم أنه سيسر ويستفيد من الاختلاف، ولا مشكلة بل على العكس، أكيد أنت تذكرين عندما قلنا أنه هناك بعد نقدي، قلت لك وقتها أن هذه ميزة، وليست شيئًا بمعنى أنه يجب أن نعتذر عنه وإنما ميزة، كل الشكر لك، دكتورة “ميادة” إذا سمحتي لي كي ننتقل، أنا قرأت الورقة وأنت لم تقتصري عليها، لم تقتصري على مسألة البقاء ضمن النص أو الموضوع أو ضمن التنظير، وإنما حاولت حتى الانتقال إلى الواقع بمعنى ما، ليس الواقع عمومًا فقط وإنما الواقع الحديث عن سورية “سورية المستقبل”، كيف يمكن لأفكار “الجباعي” حول المجتمع المدني، الحرية، المساواة، وكل هذه الأفكار الرئيسية، أن تكون إحدى نقاط الانطلاق لبناء ما يمكن وصفه بـ “سورية المستقبل، سورية المنشودة”؟ طبعًا سورية هنا هي رمز لأي وطن منشود بالمعنى الإنساني، لماذا وكيف يمكن أن تكون هذه الأفكار نقطة انطلاق؟
الدكتورة ميادة كيالي: في الحقيقة هذا الجزء أردت تضمينه في المقالة، ولكن عندما قلت لي الوقت عشر دقائق فقط، كان من المستحيل ذكره، والغاية من حفلة التكريم هي تحويل هذه الأفكار من شيء نظري إلى شيء عملي، في وقت نحن نعيش فيه في متاهات كاملة، خاصة بأوضاعنا السياسية التي لا تشفع لأحد، ولتطبيق أفكار “جاد الجباعي” عمليًّا ببناء المجتمع المدني في سورية، خاصة تحت ظل الواقع السوري المتشظي اليوم. لقد اقترحت أن تكون عدة خطوات، من خلال قراءتي لأفكار “الجباعي”، والتي يمكن أخذها كمجتمع سوري موزع على خارطة العالم، المجتمع المدني الذي دعا له “الجباعي” هو ليس مجرد تنظير ونموذج نظري، بل من الممكن تحقيقه عبر مساهمات فردية وجماعية، الخطوات التي اقترحتها من خلال أفكار الجباعي؛ هي: أولًا.. إعادة بناء الثقة والروابط الاجتماعية، كيف نحققها؟ يجب أن نعمل أولًا على إعادة بناء الثقة بين السوريين المختلفين، عرقيًّا ودينيًّا وثقافيًّا، ويمكن ذلك من خلال إنشاء مثلًا “مبادرات محلية، دولية” تهدف إلى تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل بين السوريين المنتشرين في مختلف البلدان، وهذه الندوات والمؤسسات الثقافية تؤدي جزءًا كبيرًا في هذا المجال، وهذا شيء يدعو إلى التفاؤل؛ فهذه الجلسات الحوارية تهدف إلى تجاوز الانقسامات وتعزيز الشعور بالهوية الوطنية المشتركة، والتي تتسع للجميع. فـ “الجباعي” يرى أن المجتمع المدني لا يمكن أن ينمو في المجتمع من دون وجود اعتراف متبادل بهذا الاختلاف واحترام للتنوع؛ فالتعايش السلمي والمشترك هو أساس كل مجتمع مدني قوي، كما يجب تعزيز التعليم والتثقيف، بوصفه ركيزة من الركائز التي تحدث عنها “الجباعي”؛ أي إن أهمية التعليم تتمثل بتغيير الأفكار التقليدية عن الجندر، عن الهوية، عن المجتمع، ويمكن للسوريين المغتربين أن يؤدّوا دورًا كبيرًا في دعم مبادرات تعليمية، تعتمد على مفهومات الحرية والمساواة والاختلاف؛ أي يمكن عن طريق ذلك التشجيع، المساهمة في إنتاج معرفي تعليمي ومناهج تعليمية تساعد في هذا الأمر، وهذا الشيء لا يقتصر على المدارس فقط، بل يمكن أن يمتد إلى الفضاءات الاجتماعية المختلفة، والتي يمكن استغلالها لنشر ثقافة مدنية تقوم على احترام التعددية، ويجب أن ندرّس هذا الشيء للأجيال المقبلة، كتعزيز دور المرأة مثلًا. لقد ذكر “الجباعي” في كتاب “فخ المساواة” قضية الجندر والدور المركزي الذي من الممكن أن تؤديه المرأة لبناء مجتمع ديمقراطي، والنساء السوريات يمكنهن أن يساهمن في إعادة تشكيل الهوية الوطنية، وبناء مؤسسات المجتمع المدني، وهذا ما نراه حقيقة في عديد من المنابر والمبادرات النسوية التي تقوم بها النسويات السوريات، كي تتمكن المرأة من المساهمة في خلق هذا التيار الذي يستطيع أن يمكن المرأة من القيادة، ومن تفعيل دورها في المجتمع.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا لك دكتورة “ميادة”، دعونا ننتقل الآن للأستاذ “جبر”، في أثناء مداخلتك وفي الورقة هناك سؤال ترك معلقًا، على الرغم من أنه يمكن التفكير فيه أو التفاكر بمعنى ما انطلاقًا من فكر “الجباعي”، والسؤال هو يتعلق بمسألة هل تنتَج الديمقراطية خارج المجتمع المدني، أم هي نتيجة طبيعية لارتقائه؟ هذا السؤال ترك معلقًا، وعلى الأقل ليس هناك إجابة مباشرة، لكن إذا انطلقنا من مسألة ضرورة العقد الاجتماعي وإمكانياته، ومحاولة الدكتورة “ميادة”، لكيفية الانتقال من هذا البناء النظري إلى أفكار عملية نحو بناء هذا المجتمع، كيف يمكن الإجابة عن هذا السؤال انطلاقًا من أفكار “الجباعي” برأيك؟
الأستاذ جبر الشوفي: من المؤكد أن الديمقراطية ابنة المجتمع المدني وهي لا تنتج خارجه، لأنها نتيجة طبيعية لارتقائه في مناخ الحرية والتعدد والاختلاف، وقد خلت تطورات الأحداث والسلطات المتعاقبة من أي محاولة جادة لبناء الديمقراطية وحين بدأت تجربة متميزة وبدائية في الخمسينيات، سارع العسكر لإجهاضها بإعلان الوحدة السورية المصرية ووضع سورية في حماية نظام عبد الناصر، لكبح توجهها نحو المعسكر الاشتراكي في ظروف الحرب الباردة وهو ما استجاب لتخوف الأمريكان الشديد من نجاح الشيوعيين عبر الديمقراطية، أما بعد الانقلاب على الوحدة فلم يستطع العسكر المنقلبون تثبيت سلطتهم وفشلت محاولاتهم لإعادة التجربة الليبرالية، لأنهم لم يستطيعوا كسب المجتمع المهمش بطابعه الشعبي الفلاحي وهوامش المدن، ولم يقبل بالليبرالية بديلًا من الوحدة. إنه مجتمع تراتبي محكوم بالغلبة وهيمنة القوة الأمنية والعسكرية وتغييب الحريات والحقوق، وغياب مشاريع التنمية اللازمة لتمكين النهضة.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا، أستاذ “أحمد” في هذا الإطار نفسه، سأسألك سؤالًا مزدوجًا عن موضوعين، أحدهما النقد المزدوج الذي تحدثت عنه، السؤال المزدوج هو أنك في خاتمة بحثك تتحدث عن مسألة استعادة التفكير العقلاني، وترى أن العقل العربي قد فقد هذا التفكير العقلاني منذ عقود، حتى أنك تعود إلى المدرسة “الرشدية”، تحدثت عن مسألتين ولست متأكدًا تمامًا بأن وجهة نظرك تمثل بالتأكيد أو بالضرورة وجهة نظر “الجباعي”. طبعًا هنا لا مشكلة في الاختلاف على الإطلاق ولكن فقط للتوضيح. أولًا، أنت تقول إنه بالضرورة ليس من الضروري “استعادة مكانة الفلسفة بديلًا من الدين، ولكن من الممكن أن تكون إلى جانبه وبالتساوق معه عقلانيًا ونقديًا”. في المقابل يبدو أن “الجباعي” يؤيد إحلال الفلسفة أو العقلانية محل الدين، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية أنت تتحدث عن النقد المزدوج وتشير إلى أن الجباعي انتقد عدم ممارسة النقد أو الممارسة المتأخرة، حين يقول “ربما لأسباب أخرى كثيرة، يأتي النقد متأخرًا جدًا، إذا أتى، وقد لا يأتي، والله غالب على أمره”. مع العلم أن لدي انطباعًا بأن الفكر العربي أصبح نقديًا أكثر من كونه منتجًا للمعرفة، يعني ينقد ويقوم بالنقد ونقد النقد، أكثر مما يقوم بإنتاج معرفي، بغض النظر عن نقد هذا أو ذاك. فإذا سمحت نريد معرفة رؤيتك لهاتين المسألتين.
الأستاذ أحمد مظهر سعدو: بداية وقبل أن أدخل بهاتين النقطتين، أود أن أعقب في موضوع المجتمع المدني، وما نلاحظه من متناثرات في قضايا المجتمع المدني، لقد تحول المجتمع المدني غير الموجود والمفقود في سورية، إلى حالة جديدة في تركيا وفي الشمال السوري، حالة لها علاقة بالمنظمات المدفوعة والممولة دوليًا، وأصبحت هي التي تحل محل المجتمع المدني، وأصبح هؤلاء هم من يمثلون المجتمع المدني في المنظمات الدولية الخارجية أو ما شابه ذلك، وهذه النقطة في الحقيقة تحتاج إلى نقاش، بمعنى أنه إلى أي حد، هل هذا يمثل مجتمع مدني، أم أنه يمثل قضايا أخرى؟ قد تكون تجارية مثلًا، وبالعودة إلى موضوع النقد المزدوج، في الحقيقة إطلالتي كانت على أفكار العزيز الأستاذ “جاد الكريم الجباعي” وليست أفكاري أنا بقدر ما أنني حاولت استقراء أفكاره أو بعض النقاط من أفكاره في الحقيقة، هو كان دائمًا يتحدث عن النقد المزدوج، وهو ليس فقط اتكأ على ما تحدث به قبله “إلياس مرقص” وأيضًا “جمال الأتاسي” في هذا السياق، عندما اعتقد أن النقد المزدوج هو نقد الرأسمالية والاشتراكية، ومن ثم نقد كليهما يؤدي إلى الطريق الذي تحدث عنه “جمال الأتاسي وإلياس مرقص”، وباعتقادي إن “جاد الكريم الجباعي” سار على الطريقة نفسها في أنه نقد مزدوج، ليتخصص في هذه الجزئية، هو رجل ناقد ومن الأشخاص الذين دائمًا ما يسيرون في سياق النقد لأي فكر، وليس من المجاملين إن صح التعبير، وفي حواره الطويل الذي قام به في كتاب مع “إلياس مرقص” لم يكن فقط سؤالًا وجوابًا حواريًا، بل كان ناقدًا هو ومن شاركه من الأصدقاء في تلك المرحلة، في إنتاج هذه المادة، كان حواريًّا ناقدًا في إطار استمزاج رأي “إلياس مرقص” وأيضًا ما يمكن أن يكون متوافقًا مع الحالة السياسية الموجودة في تلك المرحلة، وأنا باعتقادي أن في القضايا الأخرى التي لها علاقة بالعقلانية والنقد، نعم هناك أفكار وهناك خلافات، ولكن نتحدث كما قلت أن الحالة العربية عمومًا أصبحت ناقدة بعيدًا من إنتاج الفكر أو العقلانية، ولكن هناك من ما زال يعتقد أيضًا، وأنا قرأت غير “أبو حيان”، هناك من يعتقد أن المسألة هي في إطار، وأن النقد أصبح بعيدًا، النقد الحقيقي طبعًا، هناك كما تعلم ويعلم الجميع أن للنقد أنواعًا، وليس كل نقد هو نقد، هناك من يعمل في إطار النقد لمصالح معينة ومن زوايا محددة ويسير في إطار سكة بعينها، ومن ثم في هذه القضايا الفكرية والفلسفية هناك كثير من الآراء، أعتقد أحدهم هو “أبو حيان” كان يطرح في مسائل النقد كثيرًا، وكان يركز عليها كثيرًا.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا للجميع. ما زال لدي الكثير من الأسئلة، لأن فكر الجباعي مثير فعلًا للتفكير والنقاش والاختلاف الصحي وتنوع الآراء. وسأسأل، مع “محمد بالخير”، عن سبب عدم تحولنا إلى مجتمع مدني يمتلك ثقافة حياة واقتصاد ملموس؟ وبتعبير آخر، ما الأسباب التي منعت هذا التحول؟ هل هي اقتصادية أم ثقافية؟ أستاذ “جبر” أنت تناولت هذه المسألة بطريقة تاريخية، حين حاولت شرح سيرورة تحولنا إلى مجتمع غير مدني، مجتمع الدولة وليس دولة المجتمع. وسؤال “لماذا؟” قد يكون استهجانيًّا وقد يكون استفهاميًّا. فهل لديك إضافة في هذا الخصوص؟ هل هناك إجابة يمكن أن تساعدنا في فهم كيفية تحولنا (إلى مجتمع مدني) في المستقبل؟
الأستاذ جبر الشوفي: أولًا المجتمع المدني هو وليد نظام الحريات الليبرالية والليبرالية هي علاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية حرة على مبدأ الحرية (دعه يعمل دعه يمر) مما يتيح للفرد (المواطن) أن ينشط ويستثمر مواهبه ويتشارك مع غيره في الشأن العام، مزودًا بثقافة استقلال الشخصية وحرية القرار أو الاختلاف والتكامل وتنظيم الفعاليات ضمن المجتمع الواحد وفي حدود (الدولة الأمة) بينما نحن كنا لم نزل مجتمعًا قطيعيًّا محكومًا بعلاقات مجتمع ما قبل الدولة وبمرجعياته المتنازعة (القبيلة والطائفة والإثنيات إلخ).
والمجتمع المدني ابن الاكتفاء الاقتصادي وتوزع الفعاليات على مهن ونشاطات متباينة، تساهم في انتظامهم مع زملائهم في النقابات المهنية والعلمية والأحزاب والجمعيات وكل ما يوفر الخدمات الاجتماعية والإنسانية، بينما خرجت مجتمعاتنا إلى الاستقلال عن العثمانيين ثم عن الفرنسيين كمجتمعات فلاحية بملكيات صغيرة وخاضعة لملاكين كبار ورأسماليين تقليديين، والمواطن فيها مستلب وأمي جاهل ومغلوب على أمره، والفلاحون يخضعون لظروف الطبيعة والمجتمع وعلاقات القربى والاستبداد الاجتماعي والسياسي والديني، بينما المجتمع المدني هو ابن المدينة وتكتلات العمل والعلاقات السوق والمهنة وهو يطور تجربته ويرتقي عبر التوافق والتصاعد بالتوافق مع تطور وسائل الإنتاج والتقدم التقني ودور الثقافة والفنون وغيرها.
تألفت النخب التي تسلمت السلطة في سورية بعد الاستقلال السياسي من كبار الملاك والإقطاعيين والرأسمالين التقليديين، الذين تناقضت مصالحهم ومستوى وعيهم مع الحداثة، فمالوا إلى تقليد شكليات الحياة الغربية ومؤسساتها المفرغة من مضمونها (مؤسسات حديثة تديرها عقول تقليدية) كما لعبت الانقلابات العسكرية أسوأ الأدوار في قمع المجتمع وتهميشه وفي الترويج للتحرير، عبر العسكرة وتمجيد السلاح ومحاولة اكتساب الشرعية بشعارات فوق وطنية، فأنشؤوا (دولة ناقصة لم ترق إلى مستوى دولة الأمة). وكل هذه العوامل إضافة إلى مجتمع محافظ، لم يؤخذ بيده في طريق التطور والحداثة، بل جرى استدراجه لممالأة السلطة الشمولية وخلف شعاراتها الزائفة. وهي بمجموعها عوامل أعاقت نشوء وتطور المجتمع الأهلي وارتقائه إلى مجتمع مدني، وفي ظل ما خبرناه مباشرة، كان عائقه الاستبداد الذي (ابتلع المجتمع) وتركه جائعًا جاهلًا وأحيا (نزعاته وتناقضاته الداخلية ومعلوم أن حافظ الأسد، سجن عشرات الناشطين في منظمات مدنية ناشئة وجمعيات حقوق الإنسان وأخمد أي حركة أو تنظيم، يهدف إلى إنشاء حياة مدنية، في ظل هيمنة حالة الطوارئ المزمنة في البلاد وعلى رقبة العباد.
وفي ظل غياب المجتمع المدني المنتج الحقيقي للسياسة وللسلطة، غابت أي فرصة لبناء نظام ديمقراطي بوصف الديمقراطية وليدة هذا المجتمع. وتبعًا لباحثنا الأستاذ الجباعي لقد تحوّل دخول المرأة في (المجمع الحكومي) الذي يقوم على تذويب الفرد بالجماعة إلى ستار، يحجب غياب المجتمع المدني الذي يحرر فيه الفرد (ذكرًا وأنثى) ويستقل روحيًّا ويعترف باستقلاليته أي حريته.
الدكتور حسام الدين درويش: دكتورة “ميّة”، يتضمن نصك أحكامًا نقديةً يبدو أنها “شديدة اللهجة، أو قد تعطي الانطباع بأن فيه تبخيسًا بالنتاج المعرفي في هذا الكتاب، عندما تقولين في النص “كل ما ورد من أفكار في كتاب الأستاذ الجباعي يمثل صدىً لنتاج الموجة النسوية الثالثة، على الرغم من تجاهل الأستاذ الجباعي لها، وتسميته لها بالنسوية النقدية، ووصفه لها في فقرتين مبتسرتين فقط، تردان في كتابه المؤلف من أكثر من 450 صفحة”. مثل هذا الحكم قد يعطي الانطباع أنه لا يوجد أي جدة معرفية في الكتاب وإنما هو مجرد صدى لأفكار الأخريات والآخرين. ومن الناحية البحثية، الكتاب ليس نتاجًا بحثيًّا، بقدر ما هو إنتاجٌ فكريٌّ، أي إنه لم يرجع إلى المصادر الأساسية للحركة النسوية النسائية وغير النسائية، وإنما هو نتاج مفكر. فبأي معنى ترين أن كتابه مجرد صدى …؟ تفضلي دكتورة “ميّة”.
الدكتورة ميّة الرحبي: أنا قصدت أن الأستاذ “الجباعي” إذا لاحظت أنه كان هناك نحو خمسين مرجعًا لكتابه، ولم يكن من بينها أي من المراجع التي بحثت في الموضوع نفسه، وعلى الرغم من ذلك، الأستاذ “الجباعي” هو مفكر ووصل إلى نتائج هي تمامًا النتائج التي وصلت إليها “جوديث بتلر” في كتابها Gender trouble بالنسبة إلي كنت أفضل لو أن الأستاذ “الجباعي” أعطى فرصة التعرف على هذا الفكر، ومن ثم كان يمكن له أن يحلله ويضيف عليه ومن ثم يسقطه على الواقع العربي مثلما فعل في الكتاب، وفي الدعوة التي وردت في نهاية كتاب “الجباعي” أنا قلت له إنني أشاركك هذه الدعوة، دعنا نعمل جميعنا على حركة فكرية يمكن أن تحلل وضع المرأة، ولكن كيف يمكن أن نشارك في هذه الحركة من دون أن نكون مطلعين على أفكار بعضنا بعضًا، من يكتب في قضية المرأة، أفترض أن يأخذ في الحسبان ما كتبته المختصات في هذه القضية، ويناقشهن وينقدهن ويطور أفكارهن ويرفض بعض الأفكار، ولكن لا أن يهمش هذه الأفكار، وهذا ما حدث وليس فقط عند الأستاذ “جاد الكريم الجباعي”، وأنا في كتاب أتأمل أن يصدر قريبًا، قرأت المرأة في أفكار عدة مفكرين سوريين متنورين ومؤمنين بحقوق الإنسان، تناولوا قضية المرأة، ولكن أيضًا مع تجاهل تام للفكر النسوي، أكان العربي أم حتى على مستوى سورية، هنالك أبحاث حاليًّا قامت بها منظمات سورية، أنا أتمنى أن يطلعوا عليها، وينقدوها ويقولون لهن أنتن تتحدثن بصورة صحيحة أو بصورة خاطئة، ولكن لا أن نتهم بأننا لا ننتج شيئًا على الإطلاق، أو عاجزات عن الفهم.
الدكتور حسام الدين درويش: أنت ترين أن ثمة جهلًا بواقع الحركة النسوية، أو ربما تجاهلًا لها ولأهمية ما تقوم به وتقدمه؟
الدكتورة ميّة الرحبي: تمامًا أنا لا أريد أن قول هكذا، ولكن هو وصل إلى النتائج نفسها، وهذا دليل على أن الأستاذ “الجباعي” لديه عقل تحليلي دقيق، فوصل إلى النتائج نفسها التي يمكن أن يصل لها أي مفكر يمكن أن يتناول هذه القضية، اسمح لي بدقيقة فقط كي أشكر الدكتورة “ميادة “على المقطع الأخير الذي قامت بتقديمه، والذي وضحت فيه كيف يمكن لنا نحن، أن نبدأ بتلمس بدايات مجتمع مدني في سورية، عن طريق الحوارات المجتمعية وعن طريق تبادل الأفكار، وهذا الشيء حقيقة وبكل تواضع نحن نقوم به في المنظمات النسوية بصورة دائمة، بحوارات بين النسويات الموجودات خارج سورية، والمبادرات المدافعة عن حقوق النساء الموجودة داخل سورية، ونتبادل معهن الأفكار ونأخذ خبرة كبيرة منهن على الأرض، ويأخذن منا معرفة أكاديمية ومعرفة نستمدها من وجودنا في الخارج، وإمكانية الحوار مع المؤتمرات واللقاءات الدولية، وحاليًّا أنا أعتز بأن الحركة النسوية في سورية بدأت بالشيء الذي طرحتيه، أيضًا شعرت أن الأستاذ “أحمد” كان قاسيًا بتوصيفه لمنظمات المجتمع المدني، والذي هو بقدر الإمكان، مثلما نحن نعمل ونأخذ تمويلًا من منظمات دولية، ولكن نحن نتفاوض معهم دائمًا، أي نحن لا نأخذ منكم المشاريع مثلما أنتم ترونها، بل نحن من يطرح عليكم شكل المشاريع “المشاريع الفكرية” أو “تمكين النساء” والتي يمكن أن تطبق على أرض الواقع، وتكون متناسبة مع واقع كل منطقة سورية على حدة.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا دكتورة “مية” ولكن دعيني أشير، مع الأستاذ أحمد، إلى ضرورة عدم اختزال المجتمع المدني في المنظمات غير الحكومية “NGO”، فثمة من يمارس هذا الاختزال.
الدكتورة ميّة الرحبي: هذا ما نحن نعاني منه دكتور حسام، معاناة كبيرة، ولكن نحن نحاول أن نستخدم أي تمويل يمكن أن يصل لنا، لإنشاء علاقة بين النسويات الموجودات خارج سورية والنساء الموجودات على الأرض، نحن نحاول أن نخلق حوارات مجتمعية معهن، وليس بالضرورة أن يكنّ نسويات أو مدافعات عن حقوق النساء، إنما نساء يعانين الآن معاناة كبيرة في الداخل.
الأستاذ أحمد مظهر سعدو: تعقيب صغير فقط أستاذ حسام، أنا لست قاسيًا في موضوع توصيف منظمات المجتمع المدني، أنا طرحت سؤالًا مشروعًا، أنه هل هذه المنظمات التي أصبحت دكاكينَ وارتزاقًا هنا في تركيا حقيقة، هل هي مجتمع مدني؟ أنا أعرف المجتمع المدني أيام “ربيع دمشق” لجان الأحياء المجتمعي كانوا مناضلين حقيقيين وسجلوا حضورهم، بينما الآن أصبحوا موظفين من أجل الارتزاق، هل يمثلون المجتمع المدني؟ السؤال مطروح وأنا لم أكن أجاوب عليه.
الدكتور حسام الدين درويش: الإجابة موجودة ويبدو أن السؤال خطابي أكثر مما هو استفهامي. وبالتأكيد لا يختلف على أن هذه الظاهرة موجودة، ارتزاق وتحول لدكاكين، إلخ….، ولكن قد يكون هناك قسوة في التعميم. وبالفعل، يستحق هذا السؤال مناقشة صريحة ومتعمقة وموسعة، ويمكن التفكير بإقامة ندوة عن هذا الموضوع.
ومن أجل ألا يكون الحديث عن النسوية من دون أن نربطه بفكر “الجباعي”، دعوني أقول أن الملاحظ عندما يكون الحديث عن مسألة نسوية أو غيرها، أنه عندما نتحدث عن مفهوم الاختلاف “الجميع يمجد ويشيد به” ويرى أن الاختلاف جميل، والاختلاف مفيد، والاختلاف يغنِي، … إلخ، لكن تبدو الاختلافات في هذه الأمور والسياقات حساسة عمومًا، وليس نادرًا تحويلها من اختلافات معرفية إلى اختلافات أخلاقية، من خطأ معرفي لخطيئة أخلاقية. ويكون هناك إدانة للمختلف وإدانة للاختلاف عمليًا، مع الاستمرار في تمجيده نظريًّا. سؤالي هو، في نقاش المسألة النسوية أو غيرها من المسائل، كيف يمكننا تجنب التحويل المذكور للاختلافات المعرفية إلى اختلافات أخلاقية؟ وحين نتحدث عن “جاد الكريم الجباعي” يمكن القول إن كل من يعرفه يسلم بحسن نيته، بمعنى أنه لا يوجد هناك شيء أخلاقي سيئ على مستوى النية، ومع ذلك تبدو الاختلافات مؤلمة أحيانًا وغير مرغوبة، كيف يمكن أن نفكر ونتفاكر في هذه المسألة؟ دكتورة “ميّة”، تفضلي.
الدكتورة ميّة الرحبي: أول شيء أنا مدينة للأستاذ “جاد الكريم الجباعي” مدينة له برؤيته للإنسان ولحقوقه، وأنا استشهدت بجملته الشهيرة والتي دائمًا ما يقولها، هو حقًا مؤمن بحقوق النساء وهو نسوي بامتياز، وقد أيدته عندما دعا بآخر الكتاب إلى حركة فكرية متكاملة بين الإناث والذكور، بين الكاتبات والكتاب، بين المفكرات والمفكرين، وأنا أحببت أن ألفت نظره فقط إلى عدم تهميش الفكر النسوي، اطلعوا على النتاج النسوي قبل أن تقولوا لنا تعالوا لنصنع معا حركة فكرية تتناول كل هذه الموضوعات، اطلعوا أولًا على الأشياء التي تحدثنا عنها، اطلعوا على ماذا أنجزنا، وجوابي عن سؤال العزيزة “ملك”، نحن لدينا رؤية للدستور السوري المستقبلي من وجهة نظر جندرية، وأحب أن أشير هنا إلى أنني دعيت إلى ندوة تتحدث عن دستور سورية المستقبلي، وعندما تحدثت عن جندرة الدستور، هوجمت من جميع مفكري المعارضة الذين كانوا موجودين في هذه الندوة، هجومًا لا رحمة فيه، وتصديت لهم ولكن هاجموني، الأستاذ “الجباعي” هو يؤيد هذه الفكرة على الأقل، يؤيد مفهوم أنه يجب أن نحترم ماهية الإنسان، ذكرًا كان أم أنثى، نحترم وجوده ونحترم كينونته، وأنا مدينة للأستاذ “جاد” وأعلم جيدًا أن هذه هي أفكاره، من “ربيع دمشق” عام 2000 وهو يتحدث بها دائمًا، وأنا نقدي هو نقد معاتب، لأنني أتوقع من الأستاذ “جاد” وغيره من المفكرين المناضلين، أن يطلعوا على نتاجنا كما نطلع على نتاجهم، حتى نشكل هذه الحركة الفكرية التي نعمل فيها مع بعض.
الدكتور حسام الدين درويش: دكتورة “ميادة” أود معرفة رأيك في مسألة التباين أو التناقض بين التمجيد النظري للاختلاف والتنديد العملي به. إذا انطلقنا من رؤية الجباعي لمسألة الاختلاف، يمكن الإشارة إلى جملة قالها لشخص (مازن أكثم سليمان) وتصلح أن تكون شعارًا ومبدأً: “اختلافك معي يعلِّم، واتفاقك معي يفرح”. ويبدو أحيانًا أن الاختلاف لا يكون معلِّمًا، وإنما يصبح مثالًا للشقاق. ما رؤيتك للمسألة، وكيف ترين إمكانية ربطها بمسألة المجتمع المدني وبمسألة النسوية؟ تفضلي دكتورة “ميادة”.
الدكتورة ميادة كيالي: كي نستطيع القيام بمقاربة بين الرؤية النسوية وفكر “الجباعي”، خاصة كتاب “فخ المساواة”، يجب أن نناقش محورين؛ هما: التوازن بين المساءلة والتمكين الذاتي، وردم الهوة بين بناء المجتمع المدني، وتسليط الضوء على معاناة المرأة؛ فهاتان الركيزتان استطاع “الجباعي” أن يحققهما بالفعل في هذا الكتاب. فالنقد الذي تقدمه النسوية مثل النقد الذي قدمته الدكتورة “ميّة”، يهدف فعلًا إلى حفز النقاش حول الحلول، وهذا هو الشيء الذي أحببته في مداخلتها وأثمّنه. في الحقيقة، أنا من جهتي لا أميل إلى تحميل الطرف الآخر كل المسؤولية بمعاناتي كامرأة، ومن ثمة، أفهم أن “الجباعي” في كتابه “فخ المساواة” لم يهدف إلى إلقاء اللوم بصورة مباشرة على الرجال أو السلطة الأبوية، بل دعا إلى تفكيك الأنظمة الجندرية التقليدية، التي تقيّد الرجال والنساء على حدّ سواء، وهذا هو الشيء الذي قدمته الدكتورة “ميّة” في رؤيتها النسوية، وسلطت الضوء على خذلان المجتمع والأنظمة للمرأة، وهذه الرؤية تحفز أيضًا فتح هذا المجال للنقاش، ﻓ “الجباعي” في رؤيته لبناء مجتمع مدني، أنها تقوم على قبول الاختلاف والتنوع وتعزيز المساواة بين الجنسين، وهذا يتناسب مع القضايا التي تتناولها النسوية، وهذا الشيء يجب أن نرحب به فعلًا، بدلًا من أن نسلط الضوء فقط على خذلان المرأة من هذا المجتمع، ومن المثقفين والمفكرين الذين لا يتعاونون معها. وهنا أستطيع القول إن بناء المجتمع المدني، يحتاج منا إلى أن نربط بين تسليط الضوء فعلًا على معاناة المرأة، وأن ندعو أيضًا، لأن تكون شريكة رئيسة في رسم ملامح المجتمع المدني، وهذا الشيء هو الذي يدعو إليه “الجباعي”؛ فالحديث عن المظلومية فقط لا يكفي، لكن نحن يجب أن ندعو إلى الخروج من هذه المظلومية، لنكون شركاء حقيقيين في صناعة المجتمع المدني الذي ننادي من أجله.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا، عندما طُرحت فكرة هذه الندوات والتي نقول بأنها “فكرية احتفائية” كان هناك ترحيب وتأكيد أنه يجب أن يكون هناك إنشاء وتعزيز لهذا التقليد، أي أنها ليست احتفائية فقط بمعنى التمجيد، وليست فكرية فقط بمعنى أنه لا يوجد فيها هذه اللفتة التقديرية للشخص الذي يكون محورها، إذًا هي تحاول أن تجمع بين الأمرين. ومثل هذه المبادرات تندرج في إطار المجتمع المدني، لأن الروابط التي تجمع بين الأشخاص هنا هي روابط مدنية، وليست من أي نوع أهلي. سؤالي الذي يمكن أن أختم به، هو عن هذه الندوات، إلى أي حد برأيكم نحن بحاجة إليها وما الذي يمكن أن نقوم به في هذا الخصوص، انطلاقًا من أفكار “المجتمع المدني، الاختلاف، الحرية، المساواة، العلاقات المدنية والديمقراطية، … إلخ؟ وعندما طُرحت فكرة أن تكون هذه الندوات الفكرية الاحتفائية عن “الجباعي”، رأينا أنها شخصية نموذجية وتنطبق عليها كل السمات المطلوبة. فما رأيكم في هذه المسألة؟ ويمكن أن نختم هذه الندوة باستعراض آرائكم في هذا الخصوص. وسأبدأ مع الأستاذ “أحمد” تفضل، ما رأيك بهذا التقليد؟ وهل ترى إمكانية للجمع بين الفكري والاحتفائي في مثل هذه الندوات؟ تفضل أستاذ أحمد.
الأستاذ أحمد مظهر سعدو: أنا موافق على ذلك ولو لم أكن موافقًا لما شاركت في هذه الندوة حقيقة، وأنا دائمًا مع التكريم الاحتفائي والحواري في الوقت نفسه، حول فكر شخص ما “بوجوده”، الحقيقة أنا لست مع الذين يحتفون بأشخاص ويتحاورون حول أفكارهم بعد رحيلهم، بوجود الشخص وأطال الله بعمر “أبو حيان” الحقيقة هو أفيد لنا وله، حتى أنني كنت أتمنى أن يكون موجودًا، ويسمع هذه الأفكار ليناقشنا بها، أي من الممكن جدًا أن تكون الفائدة أكبر في ما لو كان لديه إجابات عن كل التساؤلات “النقدية وغير النقدية” التي طرحت اليوم، أنا مع الاستمرار في هذا السياق، وأتمنى دائمًا أن تركزوا على بعض الشخصيات السورية الفكرية المهمة التي تفيد الناس، وباعتقادي أيضًا أنه يمكن الدعوة بصورة أوسع من ذلك، كي يكون الحضور أكبر في المستقبل.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا، وأود الإشارة إلى أنه في العرف أو التقليد الأكاديمي لا يكون للشخص المحتفى به دور كبير أو مشاركة فاعلة ومباشرة في الندوة الفكرية الاحتفائية، حتى لو كان ذلك الشخص حاضرًا. وقد كانت هناك محاولات كي يحضر “أبو حيان”، هذه الندوات. وقد حضر الندوة الأولى والثانية، لكنه لم يستطع حضور هذه الندوة الثالثة، لأسباب خاصةٍ. وفي كل الأحوال هو حريص على المتابعة، وكان حريصًا على أن يبلّغ سلامه وامتنانه وشكره لجميع المشاركات والمشاركين. دكتورة “ميّة”، تفضلي.
الدكتورة ميّة الرحبي: مثلما تحدث الأستاذ “أحمد” كنت أتمنى من قلبي أن يكون الأستاذ “جاد” موجودًا معنا، وأن يكون الحوار مثلما كنا نتحاور مع بعض دائمًا، أيام “ربيع دمشق”، كنا نتحاور، كنا نختلف، كنا نتفق، ولكن في الحقيقة، الأساس الذي كنا نبني عليه حواراتنا، هو إيماننا بحرية الإنسان وبحقوق الإنسان، الديمقراطية لدي تحفظات عليها، وبرأيي إن الإنسانية يجب أن تفكر الآن لابتداع شكل أكثر تطورًا من النظام الديمقراطي الذي أوصل “ترامب” واليمين المتطرف في أوروبا إلى السلطة، وهذا الشيء طرحته النسويات مثل “جيرمن غرير”، بما يعني أننا جميعًا نسير في فلك النظام البطركي القائم، والذي لن يسمح لنا أبدًا أن نخرج من إطاره، وهو من اخترع السلطة الديمقراطية، فهل يجب علينا كأشخاص مهتمين ولا أسمي نفسي مفكرة، كأشخاص مهتمين أن نفكر بأن على الإنسانية أن تبتدع شكلًا أكثر عدالة، لتمثيل كل إنسان موجود على ظهر الكرة الأرضية؟ هذه الأفكار كنا نطرحها دائمًا ونتناقش فيها ونختلف، وكنا في أوراق أو نصوص المجتمع المدني أحيانًا، نتناقش على جملة لها علاقة بحقوق المرأة لمدة ساعات، حتى نثبت جملة واحدة، ولذلك كنت أتمنى لو أن الأستاذ “جاد” كان موجودًا كي نتبادل الأفكار.
الدكتور حسام الدين درويش: الكلام الذي تقولينه الآن، سيسمعه أستاذنا الجباعي لاحقًا. وأنا الآن أتخيل تلك اللحظة، وأتمنى أن أكون معه فيها. أود التعليق سريعًا مسألة (نقد) الديمقراطية وخطرها. ثمة قولٌ لنيتشه أو منسوب إليه: “إذا أردت أن تحظى بأجمل ما في الحياة، فعش في خطر”، ومن هذا المنظور أرى الديمقراطية وخطرها. وعندما نتحدث عن الديمقراطية، فإننا نتحدث عن “حريات، وليبرالية، ومساواة، وحد أدنى من العدالة الاجتماعية، … إلخ..” لكن لا يوجد شيء مضمون. فقد سبق للديمقراطية أن أوصلت إلى الحكم “هتلر” وبرلسكوني و”ساركوزي”.
الدكتورة ميّة الرحبي: و”قيس بن سعيّد” حاليًّا.
الدكتور حسام الدين درويش: تمامًا. أستاذ “جبر”، ما رأيك بفكرة هذه الندوات الاحتفائية الفكرية عمومًا، وفي هذه الحالة خصوصًا؟ تفضل.
الأستاذ جبر الشوفي: أنا أقيّم تكريم المبدعين الأحياء عاليًا، وأرغب في جعلها تقليدًا ونهجًا متبعًا، ليس لأن تكريم المبدعين بما يستحقون واجب علينا كنوع من ردّ الجميل لهم فحسب، بل لأنه يحفزهم على العطاء ويخرجهم من الكتابة في الظل ويمرر إبداعهم عبر الاعتراف المتبادل مع الآخر المختلف واحترامه وتقدير جهده وموهبته. كما أن تكريم مبدع حي، يخرج زملاء المهنة من التهاجي والمنازعات أو المديح الزائف، الذي يسود في المحيط الثقافي والسياسي عادة. ولأن عبر اللقاء الاحتفائي يفطن المبدع لبعض نواقص عمله ويستفيد من النقد الإيجابي ويطور تجربته عبر المكاشفة والحوار الفكري المباشر ومن وجهات نظر متباينة ومتكاملة. وفي كل الندوات للأحياء والأموات، قد تخرج الندوة عن الموضوعية، ويتنازعها صديق مجامل وآخر متحامل. ومن الجوانب المفيدة تنشيط الصلة والحوار الثقافي وكسر الحواجز بين زملاء المهنة وإزالة عوالق العلاقات.
لذا ومع شدة تأكيدي أهمية تكريم المبدعين وضرورته، لا بد أن أشير إلى ضرورة أن تتوافر بالمحتفين والمشاركين الرؤية الموضوعية والخبرة والقدرة على تقويم الإنتاج وصاحبه، كي لا يأخذ طابعًا شليلًا ومصاحبات أو خصومات ويشتط عندها التكريم في أحد اتجاهين سلبي أو إيجابي وكلاهما يضيعان الحقيقة والفائدة المرجوة، ولا يعبران عن احترام للمنهية والإسفاف في النقد أو الهبوط بالجانب الأخلاقي والقيمي إلى الحضيض.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا لك، دكتورة “ميادة” دعيني أقول إنك حريصة شخصيًّا، وفي مؤسسة “مؤمنون بلا حدود”، على هذا الجمع بين هذين الجانبين، الفكري والاحتفائي. ما رأيك بهذه الندوات، وما الذي يمكنها وينبغي لها تقديمه، من الناحيتين الفكرية والاحتفائية؟
الدكتورة ميادة كيالي: في الحقيقة، دخلنا في تجربة بسيطة منذ عدة أشهر، وأنت معنا د. حسام، وأصبحت من “المؤمنون بلا حدود”، وفعلًا استعدنا ألق مؤسسة فكرية ضخمة مثل “مؤمنون بلا حدود”، من خلال هذه الندوات الحوارية عبر منصة “زوم” وندوات التكريم، وبالتأكيد بالنسبة إلى التكريم، كنت أتمنّى أن يكون حاضرًا، ولكن من المؤكد أن الأستاذ “جاد” سيستمع إلى المحاضرة، وهي فعلًا تختلف؛ لأنها تتناول بالبحث والدرس الفكر من جهات عدة، وهذا الشيء يسلط الضوء على الأفكار بصورة معمقة. نحن من خلال الندوات التي نقوم بها في ” مؤسسة مؤمنون بلا حدود” دائمًا ما نكتشف كمية الحضور والتفاعل والصدى، وأفضل تكريم هو انتشارها وتحويلها من الفكر النظري إلى العملي. عمليًّا، نحن نحول هذا الفكر ليصبح ممارسة، وخاصة نحن في وضعنا السوري. لقد اكتشفت من خلال هذه الندوات، أننا عدنا لتجميع بعضنا، ومثلما ذكرت مسبقًا، هذا جزء من اشتغالنا على بناء مجتمع مدني، على بناء جيل متشبع بأفكار الذين ننظر إليهم حاليًّا، ويجب أن ننقلها من خلال هذه الندوات والحوارات وتفعيلها، وأنا سعيدة جدًّا بهذه المناسبة، وسعيدة فعلًا بهذا النشاط الذي تقومون به في “تفاكر” و”مؤسسة ميسلون” وتكرمون بالفعل شخصًا وقامة. وفي الحقيقة، نحن في حاجة كسوريين، إلى أن نكرم هذه القامات السورية التي لها بصمة مميزة في الفكر، خاصة في القضايا اليومية التي تمسّ جوانب من حياتنا.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا دكتورة “ميادة”، وشكرًا لجميع المشاركات والمشاركين معنا. والتوجه والأمل ألا تكون هذه الندوات الفكرية الاحتفائية أيديولوجية بالمعنى الضيق والسلبي للكلمة، بحيث تنحاز إلى الأطراف اليسارية أو اليمينية، العلمانية أو الدينية، إلخ، وإنما أن تفكر وتحتفي بالفكر عمومًا بكل تنويعاته واختلافاته، مع التشديد على أن “تكريم المفكر نقده”، من جهة والبناء على فكره، من جهةٍ أخرى.
شكرًا جزيلًا للجميع، والشكر لـ “هنادي” ولفريق العمل في منتدى تفاكر وفي مؤسسة ميسلون. والكلمة لك العزيزة “هنادي”، تفضلي.
أ. هنادي أبو حميدة: باسمي وباسم منتدى “تفاكر” أيضًا أشكر جميع الحضور وجميع المحاورين وأشكر الأستاذ “جاد الكريم الجباعي” والشكر الكبير لك أيضًا دكتور “حسام”، حضرت هذه الندوة وأنا جدًّا ممتنة أنني تعرفت إليكم جميعًا، وفعلًا كانت الندوة قيمة كثيرًا وممتعة، ونتمنى أن نلقاكم في مرات قادمة.
الدكتور حسام الدين درويش: شكرًا جزيلًا لك “هنادي”، وشكرًا لجميع الأشخاص الذين حضروا وتابعوا معنا، ونبقى على تواصل.