قضايا الإضحاك والضحك – ف. يا. بروب

مقدِّمة المترجم

V. Ya. Propp (فلاديمير ياكوفليفيتش بروب)

A book cover with text Description automatically generated

Проблемы комизма и смеха

ولد ف. يا. بروب V. Ya. Propp سنة 1895 في سانت بيتربورغ في عائلة ميسورة الحال، مهاجرة من ألمانيا، واكتسب معارفه الأولى في أجواء الدفء المنزليِّ، فتعلَّم في سنٍّ مبكِّرة الألمانيَّة والفرنسيَّة، إضافةً إلى الروسيَّة لغته الأم، وتلقَّى علومه المدرسيَّة في المدارس الدينيَّة. تخرَّج عام 1918 في جامعة سانت بيتربورغ بعد أن أنهى دراسته في اللغات والآداب السلافيَّة، ثمَّ عمل مدرسًا للغة الألمانيَّة في عدد من المعاهد.

نذر بروب حياته العلميَّة لدراسة الأدب الشعبيِّ، وأنجز عام 1928 عمله العلميَّ المهمَّ الأول مورفولوجيا الحكاية الخرافيَّة الذي اجتهد في كتابته عشر سنوات، لكنَّ الكتاب لم يحظ في روسيا بقبول يتناسب مع أهميَّته، إلى أن تُرجم إلى اللغة الإنكليزيَّة عام 1958، فحظي بتقدير عدد من العلماء الغربيين، ولا سيَّما البنيويين منهم، واكتسب الكتاب والمؤلِّف شهرة عالمية طارت في الآفاق.

وعلى الرغم من أنَّ بروب قد خصَّص جلَّ اهتمامه ووقته لدراسات الفولكلور، فإنَّه لم يكن غريبًا عن موضوعات علم الأدب العامَّة، فقد اشتغل في أعوام حياته الأخيرة اشتغالًا مركَّزًا على قضايا الفكاهة في الأدب والفنِّ، واستطاع أنْ يكتب عن ذلك كتابًا نضع فصوله الأولى بعد هذه المقدِّمة بين يدي القارئ العربيِّ مترجمًا، وينجز عددًا من الأبحاث والمقالات.

كتب بروب كتاب قضايا الإضحاك والضحك في أخريات أيَّام حياته، ومات قبل أن يوصله إلى صيغته النهائيَّة، فصدر الكتاب بعد موته بعدَّة سنوات، بتحرير أرملته إي. يا. أنتيبوفا E. Ya. Antipova التي أخرجته إلى النور، وأخرجت معه كتابه الأخير الحكاية الروسيَّة.

بين يدي الترجمة:

دفعتني إلى ترجمة هذا الكتاب عدَّة أسباب أذكر منها اثنين: الأول أنَّ الكتاب يقع خارج سياق أعمال بروب الكبرى، فإذا ما نظرنا في ثبت كتبه وأبحاثه ودراساته فإنَّنا سرعان ما نلاحظ أن كتابه قضايا الإضحاك والضحك، ليس من طبيعة اهتمامات المؤلِّف الأساسيَّة. وبالإضافة إلى ذلك يبدو أنَّ الكتاب لم يحظ باهتمام الأوروبيين، فلم يصادفه الدارسون والمترجمون العرب في اللغتين الفرنسيَّة والإنجليزيَّة، لذا لم يُعرَف في عالمنا العربيِّ، ولم يذكره أحد من دارسينا وباحثينا في حدود معرفتي. وكان اهتمامي بهذا العالم قد دفعني إلى ترجمة كتابه الفولكلور والواقع الذي صدر عن مؤسسة ميسلون عام 2022، وآثرت وأنا أنوي ترجمة أعماله الكاملة أن أنقل كتابيه اللذين نُشرا بعد موته قبل غيرهما، لأنَّه كتبهما في أخريات أيَّام حياته بعد أن وصل إلى اختمار الأعماق، فبدأت بهذا الكتاب.

والسبب الآخر أنَّ المكتبة العربيَّة فقيرة بالكتب التي تتحدَّث عن الضحك فلسفته ونظريَّته، فعدا كتاب هنري برغسون Henri Bergson الذي ترجم إلى العربيَّة مرَّتين، لا نجد كتبا مترجمة مخصَّصة لتناول هذا الموضوع. وأظن أنَّ ما ينطوي عليه هذا الكتاب من معلومات ومقاربات تتناول نظرية الضحك، وتدرس أسبابه وأنواعه، وتكشف عن أهميَّته لفهم عدد من الطقوس والأساطير، يعدُّ مسوِّغًا كافيًا لترجمته. ومن ناحية أخرى فإنَّ المكتبة العربيَّة قديمًا وحديثًا غنيَّة بالكتب الفكاهية والمضحكة، وما أحوجنا إلى القاعدة النظريَّة التي تجعل دراساتنا هذه الكتب مكينة متينة، وأظنُّ أنَّ بروب الذي يكره النظريَّة والتنظير، يقدِّم لنا – على الرغم من ذلك – مادَّة نظريَّة عالية المستوى في هذا الكتاب، فضلًا عن أن مقارباته التطبيقيَّة ومعالجاته الأمثلة والنماذج يمكن أن تساعدنا في فهم مكتبتنا الفكاهيَّة على نحوٍ أعمق وأفضل.

ملاحظات عن الترجمة:

كان يمكن أن يُترجم عنوان الكتاب Проблемы комизма и смеха بقضايا الكوميديَّة والضحك، لكنَّ كلمة كوميديا، والنسبة إليها كوميديَّة، قد تُفهم بطرائق لا تخلو من الالتباس، لذا آثرت أن أستخدم كلمة الإضحاك ترجمةً لكلمة комизм درءًا للالتباس من ناحية، ولانسجامها مع كلمة الضحك من ناحية أخرى، فضلًا عن أنَّ المؤلِّف يشير غير مرَّة في الكتاب إلى أنَّه يستخدم كلمة комизм بمعنى الإضحاك، أو مسبِّب الضحك.

آثرت وضع الهوامش في أسفل كلِّ صفحة، لتيسير اطّلاع القارئ عليها دون عناء، وصحَّحت بعض الهوامش بتدقيقها على الأصول. وشرحت بعض الكلمات، ووضَّحت بعض المعاني، وترجمت لبعض الأعلام عند الضرورة؛ كي يكون النصُّ العربيُّ في متناول القارئ من دون عنت أو مشقَّة. ووضعت أسماء العلم الأجنبيَّة وأسماء الشخصيَّات بما في ذلك الروسيَّة بالأحرف اللاتينيَّة عند ذكرها أول مرَّة. ووضعت الإحالات على المنشورات الروسيَّة بلغتها الأصليَّة مع الترجمة إلى العربيَّة، أمَّا الإحالات على المنشورات باللغات الأخرى فاكتفيت بنصوصها الأصليَّة من دون ترجمة.

اقتبس بروب في بعض الأحيان مقولات مهمَّة من مفكرين وفلاسفة، وأغفل الإحالة إليهم، ويبدو السبب في ذلك أنَّه مات قبل أن يراجع الكتاب مراجعات أخيرة، وقد حاولت تثبيت المواضع التي أخذ منها في الهوامش، فوصلت إلى الأصول أحيانًا فثبَّتها، وأخفقت في الوصول في أحيان أخرى فتركتها.

كتاب (قضايا الإضحاك والضحك) الذي نقدِّمه للقارئ ليس للمتعة والتسلية فحسب، وليس مضحكًا بالمعنى الحرفيِّ، ولا يصحُّ النظر إليه على أنَّه كتاب في الفكاهات والنوادر، إنَّه كتاب في الفكر والدرس الأدبيِّ السيكولوجيِّ والاجتماعيِّ واللغويِّ، كتاب موجَّه للعارفين بالآداب العالميَّة، ولا سيَّما السرديَّات الكوميديَّة، كتاب قد يدفع من يطالعه إلى إعادة قراءة ما كان قرأه سابقًا بمنطق مختلف وأسلوب جديد. ولئن كان تركيز بروب منصبًّا في الأساس على الأدب الروسيِّ، فإنَّه لم يمتنع عن التجوال في عوالم الآداب الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والتركيَّة…، ولئن كان تركيزه منصبًّا أيضًا على الأدب، فإنَّه لم يمتنع عن التجوال في عوالم الفنِّ التشيكليّ والكاريكاتير والسيرك ومسرح العرائس.

المترجم

قليلٌ من المنهجية

تعطينا مراجعةٌ سريعة لنظريَّات الضحك لوحة غير مُطَمْئِنَة. والسؤال الذي يطرح نفسه تلقائيًّا هنا: هل نحن بحاجة فعليًّا إلى نظريَّة؟ وهل يستحق الأمرُ إضافةَ نظريَّةٍ جديدة إلى النظريَّات الكثيرة المعروفة؟ ربَّما لا تكون هذه النظريَّة الجديدة أكثر من لعبة ذهنيَّة، أو نظريَّة مدرسيَّة scholasticism ميِّتة، لا رجاء منها في حياة أحد الفلاسفة. ولا يخلو هذا الشكُّ في المبدأ من بعض الأساس؛ فقد تمكَّن أعظم الفكاهيين والساخرين في واقع الحال من تدبُّر الأمر من دون أيَّة نظريَّة. وما زال الفكاهيُّون المعاصرون المحترفون، والكتَّاب، والمغنون، والعاملون في المسرح والسينما والسيرك يستغنون عنها. لكنَّ هذا لا يعني أنَّنا لسنا بحاجة إلى نظريَّة، فهي ضرورة لا فكاك منها في أيِّ ميدان من ميادين المعرفة الإنسانيَّة، ولا يمكن لأيِّ علمٍ في أيامنا هذه أنْ يستغني عنها؛ فللنظريَّة قيمة معرفيَّة قبل كلِّ شيء، والعلم بها هو أحد عناصر النظرة العلميَّة للعالم عمومًا.

إنَّ العيب الأول والرئيس في جميع النظريَّات المعروفة (ولا سيَّما الألمانيَّة) هو التجريد المخيف، التجريد التَّام. فالنظريَّات توضع من دون الأخذ في الحسبان علاقتها بأيِّ واقع حقيقيٍّ. وفي معظم الحالات، تكون هذه النظريَّات فلسفات ميِّتة في حقيقة الأمر. وعدا عن ذلك، فإنَّها تُقدَّم بصورة صعبة عسيرة، حتَّى إنَّها تستغلق على الفهم في بعض الأحيان. وتتكون هذه الأعمال من محاكمات نظريَّة صرف؛ فقد تمرُّ أحيانًا صفحات كاملة أو عشرات الصفحات من دون مثال فعليٍّ واحدٍ. ويتمثَّل أصحاب هذه النظريَّات بالحقائق الواقعيَّة على نحوٍ نادر، وعندما يحصل ذلك؛ فإنَّها تبدو مجرد رسوم توضيحيَّة للمسائل المجردة المقدَّمة، علمًا أنَّ الأمثلة التي تُختَار هي الأمثلة التي يبدو أنَّها تؤكد الأطروحات المقدَّمة؛ أمَّا الأمثلة التي لا تؤكِّد تلك الأطروحات فيُسْكت عنها، وببساطة فإنَّ المؤلفين لا يلاحظونها.

سيتعيَّن علينا حلُّ مسألة العلاقة بين النظريَّة والحقائق الواقعيَّة بطريقة مختلفة عمَّا حصل حتَّى الوقت الراهن. ويجب أنْ يقوم الأساس على دراسة دقيقة وموضوعيَّة للحقائق، وليس دراسة الأفكار المجردة، مهما كانت هذه الأفكار مثيرة وجذَّابة بذاتها.

يمكن أنْ يكون للمنهج أهميَّةٌ حاسمةٌ في أيِّ دراسة. وقد انحصر المنهج في تاريخ القضيَّة التي ندرسها في الغالبيَّة العظمى من الحالات بأنَّ جوهر الضحك قد حُدِّد مسبقًا في إطار تلك الأنظمة الفلسفيَّة التي يلتزم بها مؤلفوها. وقد انطلق المؤلفون من بعض الفرضيَّات، واختيرت الأمثلة لتناسب تلك الفرضيَّات. وكان من الـمُفترض أنْ توضِّح هذه الأمثلةُ الفرضيَّةَ، وتبرهن عليها. وهذا المنهج يُسمَّى – وفقًا لما هو متعارف عليه – الاستنتاجيَّ. وهو ممكن ومسوَّغ في تلك الحالات التي تكون فيها الحقائق والأمثلة غير كافية، أو عندما تكون قليلة بطبيعتها، وعندما لا تمكن ملاحظتها بصورة مباشرة، أو لا يمكن تفسيرها بأيِّ طريقة أخرى.

لكنَّ ثمَّة منهجًا آخر لا يبدأ من الفرضيَّة، بل من الدراسة المقارنيَّة الدقيقة، ومن تحليل الموادِّ المدروسة وصولًا إلى الاستنتاجات المعتمدة على تلك الموادِّ. ويُسمَّى هذه المنهج – وفقًا لما هو متعارف عليه – الاستقرائيَّ. إنَّ أكثر العلوم المعاصرة لا يمكن أنْ يُبنى على تأسيس الفرضيَّات فحسب، بل لا بدَّ من اعتماد المنهج الاستقرائيِّ هناك حيث تسمح الموادُّ المدروسة بذلك، لأنَّ هذا المنهج هو الوحيد الذي يوصِلُ إلى الحقائق الأكيدة.

من الضروريِّ قبل كلِّ شيء، وقبل إجراء أيِّ اختيار، أنْ نجمع موادَّ الدراسة، ونُنظِّمها، من دون التخلي عن أيِّ شيء منها؛ يجب أنْ نجمع كلَّ شيء يبعث على الضحك أو التبسُّم، ونأخذه في الحسبان، مهما كانت علاقته بمجال الضحك بعيدة.

إنَّ العمل الذي نقترحه هو في أساسه عمل في علم الأدب. لذا، فقد درسنا قبل كلِّ شيء أعمالَ الكتَّاب الإبداعيَّة، وبدأنا دراستنا بأكثر الأعمال الفكاهيَّة والكوميديَّة عبقريَّةً وإبداعًا، ومع ذلك، كان علينا أنْ نتناول أيضًا الأعمال الأضعف والأقلَّ نجاحًا. لقد درست في الفصل الأول الكلاسيكيَّات الروسيَّة التي تُشكِّل نتاجاتُ غوغول أعظمَ كنوزها. وينهض أمامنا غوغول بوصفه القامة الأعلى، وأعظم الفكاهيِّين والساخرين الذين عرفهم تاريخ الأدب، تاركًا وراءه بعيدًا جميع الأساتذة من روسٍ وأجانب. لذا ينبغي على القارئ ألَّا يندهش عندما يرى أنَّنا استقينا كثيرًا من الأمثلة من أعماله. لكنَّنا مع ذلك لم نكتف بالأمثلة المعتمدة على أعمال غوغول، إذ كان لا بدَّ من النظر في أعمال عدد من الكتاب الآخرين السابقين منهم والمعاصرين، كما كان لا بدَّ منَ الاستفادة من مواد الفنِّ الشعبيِّ أو الفولكلور. فللفكاهة في بعض الحالات في الفولكلور مزيَّات خاصَّة تجعلها مختلفة عن فكاهة الكتَّاب المحترفين. فضلًا عن أنَّ الفنَّ الشعبيَّ غالبًا ما يُقَدِّم مادَّةً واضحةً ومعبِّرةً لا يجوز إغفالها.

لا يمكن للدارس أنْ يتناول قضيَّة الضحك، قاصرًا عمله على الأعمال الكلاسيكيَّة وأفضلِ الأمثلة الفولكلوريَّة، بل ينبغي عليه أنْ يتعرف ما تقدمه المجلَّات والصحف الفكاهيَّة والهزليَّة من نتاجات يوميَّة وآنيَّة. فالمجلَّات والصحف تعكس الحياة الواقعيَّة اليوميَّة، وتجب دراسة هذه الحياة نفسها بعناية مثلها مثل الفنِّ. وكان من الضروريِّ ألا يقتصر الاهتمام على الإبداع الأدبيِّ في معناه الضيق فحسب، بل لا بدَّ من الاهتمام بالسيرك أيضًا، والاهتمام بالغناء المسرحيِّ، والكوميديا السينمائيَّة، ولا بدَّ من الاستماع إلى المحادثات المضحكة في أوساط متنوعة…

وسوف يلاحظ الْمُنظِّر ذو الخبرة فورًا أنَّنا لا نقسم موادَّ الدراسة إلى تلك المتعلقة بمجال الجماليَّات وتلك التي لا تتعلق بها. بل نأخذ جميع المواد الفعليَّة كما هي؛ أمَّا علاقة الظواهر الجماليَّة بظواهر الحياة، فسنراها بعد ذلك، بعد أنْ تُدرسَ المادة.

وسوف يُمَكِّننا منهجُ الدراسة الاستقرائيُّ المستند إلى معالجة الموادِّ الفعليَّة من تجنب التجريد وما يترتَّب عليه من تبعات؛ اتَّصفت بها غالبيَّة دراسات علم الجمال في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وستُطرح لاحقًا بصورة خاصَّة مسائل أنواع الضحك، وكيف يمكن تصنيفها فعليًّا، وسنفعل ذلك على نحوٍ خاصٍّ في الفصل الثاني من هذا الكتاب.

من الواضح تمامًا أنَّ استعراض جميع موادِّ الدراسة أمرٌ متعذِّرٌ في هذا العمل، بل لا لزوم له. أمَّا الأنساق التصنيفيَّة التي سنحصل عليها؛ فستُوضَّح من خلال أمثلة مختارة. وهذا مشابه – من حيث العرض – لما حصل من قبل. ومع ذلك، فإنَّ منهج الدراسة سيكون مختلفًا اختلافًا جوهريَّا، وستوضِّح الأمثلة من أيِّ الموادِّ، وأيِّ الأنساق التصنيفيَّة يمكن أنْ تُسْتَخلص النتيجة.

التجريد ليس العيب الوحيد في النظريَّات الموجودة، فهناك أوجه قصور أخرى تحتاج إلى أنْ نفهمها، كي نتجنبها. وأحد هذه الأوجه يتمثل في أنَّ المبادئ الأساسيَّة مأخوذة عن الأسلاف، ويُنظر إليها على أنَّها عقيدة لا يجوز إخضاعها للفحص التمهيديِّ؛ وأحد هذه المبادئ هو أنَّ الكوميديَّ يتناقض مع التراجيديِّ والسامي، وأنَّ الاستنتاجات المستخلصة من دراسة التراجيديِّ أو السامي، تنطبق على الكوميديِّ بصورة معكوسة.

لقد كان من الطبيعيِّ أنْ ينطلق أرسطو في تحديده جوهر الكوميديا من التراجيديا بوصفها نقيضًا لها، لأنَّ التراجيديا في الواقع الفعليِّ، وفي وعي اليونانيِّ القديم، كانت ذات أهمية كبرى. أمَّا عندما تستمرُّ هذه المقابلة بين المتناقضَين في دراسات الجماليَّات في القرنَين التاسع عشر والعشرين، فإنَّها تغدو مقابلة ذات طبيعة مجرَّدة وميِّتة. وكان من الطبيعيِّ بالنسبة إلى دراسات الجماليَّات الرومانسيَّة المثاليَّة، أنْ يُوضع في أساس أيِّ نظريَّة جماليَّة السامي والجميل في مقابل النقيض الكوميديِّ بوصفه شيئًا منحطًّا مقابلًا للسامي. وقد اعترض ف. غ. بيلينسكي V. G. Belinsky بالفعل على هذا الفهم، وأوْضح بالاعتماد على غوغول مثالًا – كما كنَّا قد رأينا – أنَّ الأهميَّة الكبيرة في الفنِّ والحياة الاجتماعيَّة، يمكن أنْ تكون للكوميديا بالذات. لكنَّ هذا الوعي الذي كشف عنه بيلينسكي لم يلتقطه أحد.

ولعلَّ القول بأنَّ الكوميديَّ نقيض التراجيديِّ والسامي هو حكمٌ من الأحكام التي كانت أشبه بالعقيدة التي لا يُثبِت صحَّتَها أيُّ دليل. وقد عبَّرت النظريَّات الجماليَّة الوضعيَّة الألمانيَّة في القرن التاسع عشر عن الشكِّ في صحَّة هذه المقابلة؛ فكتب ج. فولكِلت: ((توضع الكوميديا في دراسات الجماليَّات في زاوية مختلفة تمامًا عن التراجيديا)). وقال: ((لكنَّ الكوميديَّ لا يتناقض إطلاقًا مع التراجيديِّ، ولا يجوز بتاتًا وضعه في نسقٍ متضادٍ معه… وإذا كان ثمَّة شيءٌ يتعارض مع الكوميديِّ، فهو اللا كوميديُّ أو الجادُّ)) [1] . ويقول الشيءَ نفسه عن السامي.

وتبدو هذه الفكرة التي عبَّر عنها آخرون أيضًا، صحيحةً ومفيدة من دون ريب. فالكوميديُّ يجب أنْ يُدرس – قبل كلِّ شيء – بنفسه ولنفسه. فهل هناك شيء مضحك يمكن أنْ يوضع في مقابل المأساويِّ في قصص ج. بوكاتشيو، أو مقابل عربة الأطفال لـغوغول، أو كنية الحصان لـتشيخوف؟! ليس لهذه الأعمال – ببساطة – أيُّ علاقة بهذا التضادِّ، وتقع خارج مجاله. وفضلًا عن ذلك، هناك حالات محتملة أخرى؛ عندما تكون الأعمال كوميديَّة في تناولها وأسلوبها، وتكون تراجيديَّة في محتواها مثل: يوميَّات مجنون والمعطف لغوغول.

إنَّ التباين بين الكوميديِّ والتراجيديِّ أو السامي لا يكشف عن جوهر الكوميديا وخصوصيَّتها، وهنا بالضبط تكمن مهمتنا الرئيسة. سنحدِّد جوهر الكوميديا من دون أيِّ نظر إلى التراجيديِّ أو السامي، وسنسعى لتعريف الكوميديا وفهمها مستقلَّةً. وسنأخذ في الحسبان تلك الحالات التي يتلامس فيها الكوميديُّ بطريقة أو بأخرى مع المأساويِّ، على ألَّا يكون ذلك منطلقنا ومبدأنا.

يمكننا القول: إنَّ ثمَّة عيبًا عامًّا ينسحب على معظم المقاربات، يُظهِر عدم فهم خصائص الكوميديا: يُقال – على سبيل المثال – إنَّ عيوب الناس مضحكة. ومع ذلك، فمن الواضح تمامًا أنَّ العيوب قد لا تكون مضحكة. ومن الضروريِّ أيضًا تحديد أيُّ العيوب بالذات مضحك، وأيُّها غير ذلك، وفي أيِّ ظروف وحالات تكون مضحكة أو غير مضحكة. ويمكن تعميم هذا المطلب، والقول: يجب على الباحث وهو يأخذ أيَّ واقعة أو حادثة باعثة على الضحك، أنْ يطرح سؤالًا حول خصوصيَّة طبيعةِ الظاهرة المدروسة أو عموميَّتها، وأسباب ذلك.

لقد طُرح هذا السؤال من قبل في بعض الحالات الخاصَّة، والتفَّ الدارسون عليه في معظم الأحيان. وكنَّا قد عرضنا سابقًا مثالًا عن الكيفية التي يتَّسع بها تعريف الكوميديِّ ليغدو فضفاضًا جدًّا، فيَدخل فيه بعض الظواهر غير الكوميديَّة. وقد وقع في هذا الخطأ أعظم الفلاسفة. وعلى سبيل المثال فقد أكَّد شوبنهاور بأنَّ الضحك يحصل عندما نكتشف فجأة أنَّ الأشياء الحقيقيَّة المحيطة بنا وبعالمنا، لا تتوافق مع مفهوماتنا وتصوراتنا عنها. ويبدو أنَّه عندما قال ذلك كانت في مخيلته حالات واضحة؛ تسبَّبَ فيها التنافر بهذا الضحك، لكنَّه لم يقل إنَّ مثل هذا التنافر قد لا يكون مضحكًا على الإطلاق: فعندما يكتشف عالـمٌ – على سبيل المثال – اكتشافًا يغيِّر تمامًا تصوره السابق عن الشيء الذي يدرسه، وعندما يرى كيف أنَّه ما يزال مخطئًا حتَّى لحظته، عند ذلك يعرف أنَّ اكتشافه ذلك الخطأ (التنافر بين مفهوماتنا والعالم المحيط بنا) لا يمكن أنْ يدخل في حقل الكوميديا. لن نسوق أمثلة أخرى، فبالنسبة إلينا، تنشأ -من هنا بالذات – المسلَّمة المنهجيَّة الآتية: في كل حالة مفردة، ينبغي أنْ نحدِّد الخصوصيَّة الكوميديَّة، ويجب أنْ نتحقَّق متى تكون ظاهرة واحدة بعينها مضحكةً، وإلى أيِّ مدى وفي أيِّ ظروف، دائمًا أم أحيانًا.

هناك عيوب أخرى يجب الانتباه إليها كي لا تتكرَّر. فإذا ما قارنَّا بين الدراسات المختلفة في علم الجمال، فسنرى فكرةً تُتَنَاقل من دراسة إلى أخرى مفادها أنَّ الكوميديَّ مبنيٌّ على التناقض بين الشكل والمضمون. ومسألة الشكل والمضمون يجب أنْ تُطرحَ، لكنَّها يجب أنْ تُحلَّ بعد الدراسة الفعليَّة للمادَّة فحسب، وليس قبل ذلك، فعندما تُدرس المادَّة، تنبغي العودة إلى هذه المسألة لتفكيك غوامضها التي ما زالت الشغل الشاغل لمدارس علم الجمال حتَّى السنوات القريبة الأخيرة. وفي ضوء المواد الحقيقيَّة الملموسة، وليس من خلال النظريَّات الجاهزة، سيكون من الممكن تحديد ما إذا كان التناقض يكمن بالفعل في جوهر ما هو كوميديٌّ أم لا. وإذا اتضح أنَّ الأمر كذلك، فمن الضروريِّ تحديد ما إذا كان ينحصر بالفعل في التناقض بين الشكل والمضمون، أم في شيء آخر.

لقد تحدَّثنا حتَّى الآن كثيرًا عن مشكلة واحدة فقط، هي بالذات مشكلة تحديد جوهر ما هو كوميديٌّ. وهذه المشكلة أساسيَّة، لكنَّها ليست الوحيدة بطبيعة الحال، فهناك عدد من المشكلات الأخرى المرتبطة بقضيَّة الضحك والـمُضحك. وأودُّ الآن تمييز إحداها، ومعالجتها، لأنَّ ذلك ضروريٌّ لفحص منهجيَّتنا قبل الولوج إلى دراسة مادَّة البحث.

تتمثَّل هذه المشكلة بوصفها مشكلة نظرية مهمَّة جدًّا، لم نتطرق إليها من قبلُ؛ وتتلخص بوجود نوعين مختلفين ومتضادَّين ممَّا هو كوميديٌّ، إذ يُقال في كثير من الدراسات الجماليَّة البورجوازيَّة [2]  إنَّ هناك نوعَين أو مستويَين من الكوميديا: كوميديا من الدرجة الراقية، وأخرى من الدرجة الوضيعة.

في تعريف ما هو كوميديٌّ، تسيطر المفهومات السلبيَّة من دون غيرها؛ فالكوميديُّ شيءٌ حقيرٌ وتافهٌ، لا أهميَّة له، شديد الصغر، ماديٌّ، إنَّه جسدٌ، حرف، شكل، تكاسل، وفي مقابل ذلك يظهر لهم في التراجيديِّ ما يناقض تلك المفهومات: التضادُّ، التباين، الصراع، التناقض، مع السمو في العظمة والفكر والروح وغير ذلك. وإنَّ مجموعة النعوت السلبيَّة التي وصِّف بها مفهوم الكوميديِّ، تكشف عن موقف سلبيٍّ ما حيال الضحك، والـمُضحك عمومًا، بل تُفصح عن بعض الإزراء به، ويدلُّ على ذلك وضع الكوميديِّ في مقابل التراجيديِّ الرفيع، الجميل، الفكريِّ… إلخ. وقد أثَّر هذا الإزراء تأثيرًا شديدًا في الفلاسفة المثاليِّين أمثال شوبنهاور وهيجل وفيشر وغيرهم.

ليس ثمَّة نظريَّة حتَّى الآن تقسم الكوميديَّ إلى نوعَين، لكنَّنا نرى على العموم موقفًا سلبيًّا تجاه الكوميديِّ بصفته كوميديًّا. بدأت نظريَّة النوعَين الكوميديِّ السامي والكوميديِّ الوضيع بالظهور في القرن التاسع عشر. فكثيرًا ما أُكِّد في بويطيقا [3] ذلك القرن أنَّ ميدان الكوميديِّ ليس شيئًا وضيعًا برمَّته، وأنَّ هناك نوعَين من الكوميديا: النوع الأول ذو صلة بمجال الجماليَّات التي تُفهم بصفتها علمًا عن الجميل، ويتضمَّن هذا النوع من الكوميديا مفهوم الجميل الرائع؛ وهذا يعني أنَّ النوع الآخر من الكوميديا، يقع خارج مجال الجماليَّات والجمال، ويمثل شيئًا وضيعًا للغاية.

لم يكن هناك تحديد نظريٌّ لما يُفهم في الواقع على أنَّه ((كوميديٌّ وضيع))، وإذا ما قُدِّمت تحديدات، فإنَّها تبدو عاجزة عن البيان. وكان ج. هـ. كيرخمان واحدًا من مؤيدي هذه النظريَّة المقتنعين بها، فقد قسَّم ميدان الكوميديا كلَّه إلى ((كوميديا رفيعة)) و((كوميديا فظَّة أو مبتذلة)) ووفقًا لنظريَّته؛ فإنَّ للكوميديِّ – دائمًا – سببًا ما غير معقول أو فعلًا أحمقَ. يقول: ((إذا كانت هذه الحماقة موجودة إلى حدٍّ كبير… فإنَّ الكوميديَّ غلاظةٌ، وإذا كانت هذه الحماقة أكثر اختفاء فإنَّ الكوميديَّ رفيعٌ)) [4] .

إنَّ تهافت هذا القول واللامنطقيَّة فيه واضحان تمامًا. وبدلًا من الحدود الواضحة، هناك حدود لا تستبين ولا تُجلى.

في أغلب الأحيان، لا تُحدَّد طبيعة الـمُضحك الغليظ على الإطلاق. وبدلًا من ذلك، تُعطى أمثلة فحسب. وعلى سبيل المثال فإنَّ فولكِلت، يُلْحِقُ بهذا النوع كلَّ ما يرتبط بجسم الإنسان وحركاته، والمقصود: ((الشراهة والسُّكْر والتعرُّق والبَصْق والتجشُّؤ، وكلُّ ما يتصل بالتبوُّل والتغوُّط))، وما إلى ذلك. إنَّه لا يفكر على الإطلاق في التساؤل: متى يكون ذلك كلُّه مضحكًا؟ ومتى لا يكون كذلك؟ ويعتقد فولكِلت أنَّ مثل هذا الإضحاك يكثر في الأدب الشعبيِّ في الغالب، لكنَّه يمكن أنْ يكون لدى عددٍ من الكتَّاب أيضًا. وعلى سبيل المثال فإنَّ أعمال شكسبير غنيَّة بهذا النوع من الإضحاك: ((إنَّ شكسبير – ولا يشبهه أيُّ شاعرٍ في ذلك – يجمع بين البهيميَّة والوحشيَّة والفكاهة الرقيعة))([5]). ومن ناحية أخرى، هناك إضحاك رفيع وراقٍ ومنمنم، ويرى أنَّ المثال على هذا النوع المضحك يتمثَّل في كوميديا سكريب [6]  قدح ماء. إنَّه معجب جدًّا بالحوار الذكيِّ والرفيع بين دوق بولينبروك ودوقة مالبورو. فهذا النوع من الكوميديا لا يثير ضحكًا غليظًا، بل ابتسامة رقيقة.

ويحدِّد منظرون آخرون ((الكوميديا الوضيعة)) بحسب أشكالها، فيلحقون بها جميع أنواع الهزل farce، والحيل الراقصة الماجنة balaganوالتهريج clowning وما إلى ذلك. وقد كتب ليكوك Leacock في كتابه القصص القصيرة الفكاهيَّة: ((لا يتعلق هذا بمفارقات الضحك الناجمة عن الطحين المرشوش أو السخام المدهون على وجه المهرِّج التَّعس الذي يسعى على خشبة المسرح ليقدِّم عرضًا منوَّعًا، بقدر ما يتعلَّق بروح الدعابة الأصيلة حقًا التي تنير أدبنا، وترتقي به مرَّة أو مرَّتين، كلَّ مئة سنة أو مرات عدَّة في أحسن الأحوال)) [7] . وتُلحق في معظم الحالات بأنواع الكوميديا الوضيعة تلك العناصر الهزليَّة مثل الأنوف الحمر، والبطون المنتخفة، والتلاعب بالألفاظ، والشجارات والمهاترات، وما إلى ذلك.

هل يمكننا القبول بهذه النظريَّة أم لا؟ وهل يمكننا أنْ نعدَّها نقطة انطلاق أثناء توزيع موادِّنا ودراستها؟ لن نفعل ذلك بطبيعة الحال، لأنَّنا إنْ فعلناه، فسيتعيَّن علينا أنْ نتجاهل جزءًا مهمًّا من تراث كلاسيكيِّينا بوصفه كوميديا وضيعة. وإذا ما أنعمنا النظر في الكوميديا الرفيعة التي يعترفون بها، فمن السهل أنْ نلاحظ أنَّ جميع كلاسيكيَّات الكوميديا تنطوي على عناصر الهزل؛ فأعمال أرِستوفان الكوميديَّة سياسيَّة، ولكن ربَّما يجب أنْ تُنسب إلى مجال ((الغليظ)) أو ((الوضيع)) أو كما يقولون أحيانًا الكوميديا الخارجيَّة، وعند الفحص الدقيق سنلحِق بهذا النوع أعمال موليير، وغوغول، وجميع أعمال الكلاسيكيِّين عمومًا. هل يُعدُّ الهزل في تصادم جبهتي بوبتشينسكي Bobchinsky ودوبتشينسكي Dobchinsky وهما يقبلان يد ماريا أنتونوفنا M. Antonovna نوعًا كوميديًّا راقيًا أم وضيعًا؟ لقد اتضح بعد دراسة سريعة لأعمال غوغول أنَّ هذا المبدع قد أُصيب بعدوى الكوميديا الوضيعة أو الغليظة. فإذا ما اتَّهم المعاصرون غوغول بالوقاحة والغلظة، فإنَّهم يكشفون عن جهلهم بأهميَّة روح الدعابة لديه. ولكنَّنا نرى مثل هذه الاتهامات في وقت لاحق أيضًا. فقد صُدِم بعض مؤرخي الأدب والأساتذة بغلظة غوغول، ومن بين هؤلاء أو. م. ماندلشتام [8]  الذي كتب دراسة مطوَّلة عن أسلوب غوغول، ووجد – على سبيل المثال – أنَّ التقنيَّة الفنيَّة في مسرحيته الخطبة كان يمكن أنْ تكون أفضل بكثير لو أنَّه أزال الكلمات الآتية: ((هل لديك ذرة عقل؟ حسنًا، ألست مخادعًا؟ قل لي من فضلك، ألست خنزيرًا بعد هذا كلِّه؟)).

يقول ماندلشتام: ((هذه الكلمات مصمَّمة كي تكون تهريجًا)). وكان ينبغي – وَفقًا لرأيه – أنْ يُخلِّص غوغول أعماله من هذه ((الزوائد)) [9] . وهكذا فإنَّ الأستاذ صاحب التربية الراقية، يشمئزُّ من الشتائم الكثيرة والمتنوعة التي تتوفَّر عليها أعمال غوغول.

يُضاف إلى ذلك شيء آخر؛ إذ يدخل التمايز الاجتماعيُّ في صلب النظريَّة التي تقسم الكوميديا إلى رفيعة ووضيعة، فالنوع الرفيع مخصَّص للعقول المتعلِّمة والأرستقراطيين بأرواحهم أو أصولهم، أمَّا النوع الآخر فمخصَّص لسواد الناس والعامَّة والغوغاء. يكتب إي. بيير: ((المكان الطبيعيُّ للكوميديا الوضيعة هو المسرحيَّات الشعبيَّة، حيث يكون لمفهومات الحشمة واللباقة والسلوك الحضاريِّ حدود مفتوحة)) [10] . وفي حديثه عن الانتشار الواسع النطاق للكوميديا الوضيعة، يكتب: ((يعرف هذا الأمر كلُّ عالم بالأدب الشعبيِّ))، ويشير إلى الكتب الشعبيَّة الألمانيَّة، ومسرح الدمى الشعبيِّ، وبعض الحكايات، وما إلى ذلك [11] .

ويمكن أنَّ نرى تأكيدات مشابهة وبصورة متكرِّرة في الدراسات الجماليَّة الألمانيَّة، وهذه مسألة لطيفة. إنَّ ازدراءنا الـمُنكِّتين والهزليين والـمُهرجين وازدراءنا جميع أنواع المرح الحرِّ هو ازدراء في الوقت نفسه للمصادر الشعبيَّة التي أنتجت الضحك، وابتدعت أشكاله. لقد كان لبوشكين – على سبيل المثال – موقف مغاير تمامًا تجاه هذه المسألة، فقال من دون أيِّ ازدراء لهذه التسلية في الميادين: ((لقد ولدت الدراما في الميدان، وشكَّلت مادة لتسلية الناس)). وقد لاحظ ن. غ. تشيرنيشيفسكي N. G. Chernishevsky الطابع الخاصَّ للفكاهة الشعبيَّة، وقال من دون أيِّ ازدراء لهذا النوع من الفكاهة أيضًا: ((إنَّ مملكة الهزل الحقيقيَّة هي اللعبة الشعبيَّة، أو هي تصوراتنا عن الحيل الراقصة. وإنَّ عظماء الكتَّاب لم يحتقروا الهزل، بل إنَّه سيطر على أعمال رابليه، وهيمن بجلاء وفي كثير من الأحيان على أعمال سرفانتس)) [12] .

لن ينكر أحدٌ أنَّ ثمَّة فكاهات بليدة وغليظة، أو هزليَّات مبتذلة ونكات مريبة، وعروضًا هزليَّة vaudeville فارغة، وهذرًا غبيًّا. لكنَّ القاعدة الثابتة في مجالات الإبداع الأدبيِّ جميعها، هي أنَّنا بمجرد أنْ نتغلغل في عمق المادة المدروسة، فسنكتشف على الفور استحالة تقسيمها إلى كوميديا رفيعة وأخرى وضيعة. إنَّنا لن نأخذ هذه النظريَّة في الحسبان في أثناء عمليَّة الدراسة، ومع ذلك ينبغي علينا بعد دراسة الحقائق أنْ نطرح سؤالًا عن القيمة الفنيَّة والأخلاقيَّة لبعض الأشكال الفكاهيَّة، أو نطرح سؤالًا معاكسًا عن ضرر هذه الأشكال. هذا السؤال حيويٌّ جدًّا، ويتطلب حلًّا مفصَّلًا ومعلَّلًا. لكنَّنا من الناحية المنهجيَّة، لا يمكن أنْ نجيب عنه، ولا يمكن أنْ نحلَّ الأسئلة الكبيرة الأخرى إلَّا بعد دراسة المواد الفعليَّة.

وثمَّة سؤال صعب وإشكاليٌّ من أسئلة علم الجمال؛ هو السؤال عن الطبيعة الجماليَّة أو غير الجماليَّة للكوميديا. وهذا السؤال غالبًا ما يرتبط بمسألة الأشكال ((الوضيعة)) أو ((الأوليَّة)) أو ((الخارجيَّة)) للكوميديا، والأشكال ((الرفيعة))، وكما جرت العادة فإنَّ ما يُسمَّى الأشكال الكوميديَّة ((الخارجيَّة)) أو ((الوضيعة)) لا تُدرَس ضمن مجالات علم الجمال، لأنَّها – إن جاز التعبير – أشكال غير جماليَّة. ويتَّضح خطأ هذه النظريَّة على الفور إذا تذكرنا أرستوفان أو الموضوعات الهزليَّة لدى الكلاسيكيَّين. وتضمُّ الأشكال غير الجماليّة أيضًا كلَّ أنواع الضحك خارج الأعمال الأدبيَّة الفنيَّة. وقد يكون هذا صحيحًا من الناحية الشكليَّة، لكنْ، وكما قلنا سابقًا، فإنَّ علم الجمال الذي يفصل نفسه عن الحياة، سيكون بالضرورة ذا طابع تجريديٍّ، ولا منفعة منه في أغراض المعرفة العمليَّة.

في كثير من الحالات، وبغية التمييز بين الأشكال الجماليَّة ((الرفيعة)) والأشكال غير الجماليَّة ((الوضيعة)) يبتدعون مصطلحات مختلفة، فيتحدَّثون في بعض الحالات عن ((الكوميديِّ))، ويتحدَّثون في حالات أخرى عن ((الـمُضحك)). أمَّا نحن فلن نُميِّز بين هذَين المصطلحَين؛ فهما لدينا يعطيان دلالة واحدة، والحقائق وحدها كفيلة بأنْ توضِّح لنا ما إذا كان هذا التقسيم معقولًا في الأصل أم لا. لكنَّ هذا لا يعني أنَّ ((الكوميديَّ)) ذا شكلٍ واحدٍ بالمطلق، فهناك أنماطٌ كوميديَّة مختلفة؛ تثير أنماطًا مختلفة من الضحك، وسوف نركِّز انتباهنا على هذه المسألة بالذات.

أنواع الضحك، وتمييز الضحك الـساخر

أشرنا أعلاه إلى أنَّنا لا نقبل التصنيفات التي يقترحها معظم دراسات الجماليَّات والبويطيقا، وأنَّه ينبغي البحث عن طرق جديدة أكثر موثوقيَّة للتنظيم والتصنيف. وسننطلق من حقيقة أنَّ الضحك والإضحاك ليسا أمرَين تجريديَّين. يضحك الإنسان!. لا يمكن دراسة مسألة الضحك خارج علم نفس الضحك وتلقِّي الإضحاك. لذا نبدأ أولًا من طرح السؤال الآني: ما أنواع الضحك؟ ويمكن للمرء أنْ يسأل نفسه: ألا يرتبط بعض أشكال الإضحاك بأنواع معيَّنة من الضحك؟ لذلك، يجب أنْ ننظر ونقرر: ما عدد أنواع الضحك التي يمكن تحديدها؟ وأيُّ الأنواع أكثر أهميَّة بالنسبة إلى أهداف عملنا، وأيُّها أقلُّ أهميَّة؟.

لقد طُرِح هذا السؤال بالفعل في أدبيَّاتنا. أمَّا المحاولة الأكثر اكتمالًا وإثارة للاهتمام في تعداد أنواع الضحك، فلم تأت من جانب الفلاسفة أو علماء النفس، بل من جانب منظِّر السينما الكوميديَّة السوفياتيَّة ومؤرِّخها ر. يورينييف R. Yuriniev الذي كتب الآتي: ((يمكن أنْ يكون الضحك بهيجًا وحزينًا، طيِّبًا وغاضبًا، ذكيًّا وغبيًّا، عزيزًا وذليلًا، متسامحًا ومتواضعًا ومتباهيًا وخائفًا، هجوميًّا مشجعًا ووقحًا خجولًا، ودودًا وعدوانيًّا، ساخرًا وعفويًّا، هازئًا وساذجًا، رقيقًا وغليظًا، ذا مغزى وبلا سبب، منتصرًا وتسويغيًّا، بلا خجل ومقرفًا. ويمكن أنْ يكون علاوةً على ذلك: فرحًا، عصبيًّا، هستيريًّا، متهكِّمًا، فيزيولوجيًّا، حيوانيًّا. حتَّى إنَّه يمكن أنْ يكون ضحكًا مُـمِلًّا)) [13] .

هذه القائمة لأنواع الضحك مثيرة للاهتمام بغناها ووضوحها وحيويَّتها. ولم تُحَصَّل عن طريق التفكير المجرَّد، بل عن طريق الملاحظات اليوميَّة. ويطوِّر المؤلِّف ملاحظاته بعد ذلك، ويرينا أنَّ أنواعًا مختلفة من الضحك ترتبط بعلاقات إنسانيَّة مختلفة، فتتشكل بذلك إحدى المواد الرئيسة للكوميديا. وأودُّ أنْ أؤكِّد بصورة خاصَّة أنَّ المؤلف يفتتح بحثه عن الفيلم الكوميديِّ السوفياتيِّ بالحديث عن مسألة أنواع الضحك. وقد تبيَّن له أنَّ هذا السؤال مهمٌّ للغاية، وهو مهمٌّ بالقدر نفسه بالنسبة إلى أهدافنا. إنَّ مسألة أنواع الضحك بالنسبة إلى ر. يورينييف مهمَّة؛ لأنَّ أنواعًا مختلفة من الضحك متأصِّلة في أنواع مختلفة من الموضوعات الكوميديَّة. أمَّا بالنسبة إلينا فالمهمُّ شيء آخر؛ إنَّنا بحاجة إلى معرفة ما إذا كان هناك أنواع معينة من الضحك مرتبطة بأنواع معينة من الكوميديا أم لا.

قائمة ر. يورينيف مفصَّلة للغاية، لكنَّها في الوقت نفسه غير مكتملة تمامًا، فبين تسمياته ليس هناك ذلك النوع من الضحك الذي تبيَّن أنَّه – وفقًا لمعطياتنا – الأكثر أهميَّة لفهم الأعمال الأدبيَّة والفنيَّة، أي الضحك الساخر. والحقيقة أنَّ هذا النوع من الضحك قد أُخذ في الحسْبان لاحقًا، لكنَّه ليس في القائمة. ويكتب المؤلف مطوِّرًا فكرته بأنَّ أنواع الضحك تتوافق مع أنواع العلاقات الإنسانيَّة: ((إنَّ العلاقات الإنسانيَّة التي تنشأ في أثناء الضحك، أو التي تظهر في أثنائه متنوعة: الناس يسخرون، ويتهكَّمون، ويستهزِئون…)) وعلى هذا النحو تُوضع السخرية في المقام الأول، ولهذه الملاحظة قيمة كبيرة بالنسبة إلينا.

وكان غ. إي. ليسينغ G. E. Lessing قد قال في الدراما الهامبورغيَّة: ((الضحك والسخرية بعيدان عن أنْ يكونا متطابقين)). ونحن سنبدأ دراستنا من السخرية. ولن نستكمل قائمة ر. فيرينيف التصنيفيَّة، وسنختار من بين جميع أنواع الضحك الممكنة نوعًا واحدًا فقط، كي نشرع في دراستنا هو الضحك الساخر. إنَّ الضحك الساخر بالذات، وهذا ما سنراه لاحقًا، هو النوع الوحيد من أنواع الإضحاك المرتبط ارتباطًا ثابتًا بمجال الكوميديا. ويكفي – على سبيل المثال – أنْ نشير إلى أنَّ المساحة الشاسعة من الهجائيّات تعتمد في أساسها على هذا النوع من الضحك الساخر. وهذا النوع من الإضحاك موفور في الحياة بكثرة، فإذا أنعمنا النظر في لوحة إي. ريبين I. Repin [14]  التي تصوِّر القوزاقيين وهم يُسَطِّرون رسالة إلى السلطان التركيِّ، فيمكن أنْ نرى مدى تنوُّع ظلال الضحك التي يصوِّرها هذا الفنَّان؛ من القهقة الصاخبة إلى الابتسامة المتشفية اللئيمة التي تكاد لا تُلاحَظ لخفتها. لكنَّنا مع ذلك يسهل علينا التأكُّد من أنَّ جميع القوزاقيين الذين يصوِّرهم ريبين يضحكون نوعًا واحدًا من الضحك، هو الضحك الناجم عن السخرية.

إنَّ تحديد أول أنواع الضحك وتحديد أهمِّها بالنسبة إلينا، سوف يدفعنا لاحقًا إلى مزيد من الدراسة التفصيليَّة لهذا النوع. ما العلامة التي نعتمدها لتقسيم الأنواع الفرعيَّة؟ تُظهر المادة أنَّ الطريقة الأمثل هي التقسيم وفقًا للأسباب الباعثة على الضحك. يجب ببساطة تحديد الشيء الذي يُضحِك الناسَ بالفعل، وما هو بالذات الـمُضحِك بالنسبة إليهم. وباختصار، يمكن تنظيم المادة وفقًا لبواعث الضحك.

لقد بدا واضحًا هنا أنَّه من الممكن أن نضحك من كلِّ شيء متعلِّق بالإنسان، باستثناء منطقة الآلام التي كان أرسطو قد أشار إليها. فمن الممكن أنْ يكون مضحكًا مظهرُ شخصٍ ما، وجهُه، قامتُه، حركاتُه؛ كما يمكن أنْ تكون مضحكة أحكامُه التي تشفُّ عن نقصٍ في عقله. والمجالُ الخاصُّ للسخرية هو شخصيَّة الشخص، مجال حياته الأخلاقيَّة، تطلعاته، رغباته وأهدافه. قد يتحوَّل خطاب الرجل إلى سخرية كتعبير عن مثل هذه الصفات التي كانت غير مرئيَّة بينما كان صامتًا. وباختصار، يمكن أنْ تصبح الحياة الجسديَّة والعقليَّة والأخلاقيَّة للشخص موضوعًا للضحك في الحياة.

لدينا في الفنِّ الشيء نفسه تمامًا: ففي الأعمال الـمُضحكة من أيِّ نوع، يُصوَّر الشخص من تلك الجوانب التي تبعث على الضحك في الحياة. وفي بعض الأحيان قد يُكتَفى بإظهاره كما هو في الواقع، يقدَّم أو يُصوَّر؛ لكنَّ هذا قد لا يكون كافيًا في بعض الأحيان، وعندها يجب الكشف عمَّا هو مضحك، ولكي يحصل هذا الكشف ثمَّة أساليب معيَّنة، تجب دراستها، وهذه الأساليب واحدة في الحياة والفنِّ على حدٍّ سواء.

وفي بعض الأحيان يكتشف المرء بصورة لا إراديَّة الجوانب المضحكة في طبيعته، وأعماله، ويتقصَّد فعل ما هو مضحك أحيانًا، والمرء المضحك في الفنِّ كما هو شأنه في الحياة يتصرف بالطريقة نفسها. هناك أساليب خاصَّة لإظهار ما يُضحك في مظهر الشخص أو أفكاره أو أفعاله. والتصنيف حسب موضوعات الضحك هو في الوقت نفسه تصنيف حسب الوسائل الفنيَّة التي تبعث على الضحك.

يُمكن النظر إلى هيئة شخص ما أو أفكاره أو تطلعاته بطرائق مختلفة. وعدا عن ذلك، فثمَّة أدوات مشتركة تكون في المواضيع المضحكة المتباينة، ومنها – على سبيل المثال – المحاكاة الساخرة. وعلى هذا النحو، فإنَّ أدوات الإضحاك تنقسم إلى أدوات شديدة الخصوصيَّة وأخرى شديدة العموميَّة. وقد تحدَّدت ضرورة مثل هذا التصنيف وإمكانيَّته في العلوم السوفياتيَّة، على الرغم من أنَّ ذلك لـمـَّا يُجرَ فعليًّا. يقول يو. بورييف Yu. Boriev: ((من الواضح تمامًا أنَّ ثمَّة مشروعيَّة وضرورة لتصنيف الوسائل الفنيَّة في المعالجة الكوميديَّة للمواد الحياتيَّة)) [15] .

عن الذين يضحكون والذين لا يضحكون

يحصل الضحك بتوفُّر مكونين اثنين: ذات تَضْحَك، وموضوع يُضْحِك. وقد اكتفى مفكرو القرنين التاسع عشر والعشرين بدراسة هذا الجانب أو ذاك من طرفي المعادلة. فقد دُرس الموضوع الـمُضحك في دراسات علم الجمال، أمَّا الذات الضاحكة فدُرست في أعمال علم النفس. لكنَّ الكوميديا لا يمكن أنْ تُحدَّد اعتمادًا على أحد هذين الطرفين فحسب، بل من خلال تأثير المعطيات الموضوعيَّة في الشخص. لقد كُتب عن أهميَّة العامل النفسيِّ غير مرَّة في دراسات الجماليَّات. يقول م. كاغان M. Kagan: ((لا يمكن أنْ يُفهم جوهر الكوميديا من دون فحص سيكولوجيَّة الإحساس بروح الدعابة وبما هو كوميديٌّ)) [16] . ويقول نيك. هارتمان Nik. Hartman ما يشبه ذلك: ((لا يمكن أنْ توجد الكوميديا بالمعنى الجماليِّ الصِّرف بدون روح الدعابة لدى ذات ما)) [17] .

إنَّ حدوث الضحك هو عمليَّة محدَّدة، يجب أنْ تُدرس فيها الظروف والأسباب التي تبعث عليها جميعها. ووفقا لهنري برغسون فإنَّ الضحك يحصل كما لو أنَّه بدقَّة قانون الطبيعة، إنَّه يحصل دائمًا عندما يتوفر السبب لذلك. إنَّ المغالطة في هذه المعادلة واضحة تمام الوضوح، إذ يمكن أنْ يكون الباعث على الضحك متوفِّرًا، ومع ذلك فقد يكون هناك أشخاص لا يضحكون، بل إنَّ إضحاك هؤلاء الأشخاص قد يبدو مستحيلًا. وتكمن صعوبة المسألة في أنَّ العلاقة بين الموضوع الـمُضحك والإنسان الضَّاحك ليست علاقة حتميَّة، وليست منتظمة، فهناك حيث يضحك أحدٌ ما، ثمَّة آخر لا يضحك.

ويمكن أنْ يكون سبب ذلك متخفِّيًا في ظروف لها طبيعتها التاريخيَّة، والاجتماعيَّة، والقوميَّة، والشخصيَّة. فلكلِّ حقبة ولدى كلِّ شعب هناك حسُّ فكاهة خاصٌّ، وحسٌّ كوميديٌّ مميَّز، وهذا الحسُّ قد يكون أحيانًا غير مفهومٍ، ولا يمكن الوصول إليه في حقبٍ أخرى. لقد كتب أ. غيرتسين A. Gertsen: ((كان يمكن أن تكون كتابة تاريخ الضحك شيئًا مثيرًا للغاية)). ونحن لا نتنطع لمعالجة هذه المسألة، وسنكتفي – كما سبق أنْ ذكرنا – بالموادِّ العائدة إلى ما بين القرنين الثامن عشر والعشرين.

إنَّنا عندما نولي مسألة التمايز التاريخيِّ اهتمامًا خاصًّا في أثناء معالجة قضيَّة الضحك بين القرنين الثامن عشر والعشرين، ينبغي ألَّا نسكت عن بعض التمايز القوميِّ ذي الوجود التاريخيِّ. وفي هذا السياق يمكننا القول إنَّ الفكاهة الفرنسيَّة تتميز بالرقَّة وحدَّة الذكاء (أناتولي فرانس Anatoe France)، وإنَّ الفكاهة الألمانيَّة تنطوي على بعض الثقل (كوميديا غ. هاوبتمان [18] )، أمَّا الإنجليزيَّة فهي أحيانًا طيِّبة في مظهرها، وأحيانًا لاذعة في إضحاكها (ديكنز، برنارد شو)، في حين تكتنز الروسية – بالمرارة والسخرية (أ. س. غريبوييدف A. S. Griboedov، غوغول، وم. سالتيكوف-شيدرِينM. Saltykov-Shedrin )، لكنَّ هذه الملاحظات – بالمناسبة – ليس لها معنى علميٌّ، وإنْ كان هذا النمط من الدراسات، لا يخلو من الأهميَّة.

ومن الواضح تمامًا أنَّه في حدود كلِّ واحدة من الثقافات القوميَّة، سيكون لدى الطبقات الاجتماعيَّة المختلفة حسٌّ فكاهيٌّ مختلف، ووسائل مختلفة للتعبير عن هذا الحسَّ.

وينبغي بصورة خاصَّة أنْ نأخذ في الحسبان ضمن الحدود المعطاة التمايزات بين الأفراد.

وعلى الأرجح يمكن للجميع أنْ يلاحظوا أن هناك أشخاصًا أو مجموعات من الناس يميلون إلى الضحك، وأنَّ هناك أشخاصًا غير مهيئين لذلك. وسنكتفي بذكر بعض الأمثلة المنتقاة.

يميل الشباب إلى الضحك، أمَّا كبار السن فإنَّهم أقل ميلًا إليه، ومع ذلك يجب القول: إنَّ الشبان الكئيبين ليسوا قلَّة، كذلك ليس عدد المبتهجين من المسنين والمسنَّات قليلًا. عندما تجتمع الفتيات المراهقات، يضحكن كثيرًا، ويبتهجن لأسباب تبدو غير مهمَّة.

ثمَّة أناس فكاهيُّون بالفطرة، وهِبُوا النباهة والقدرة على الضحك، وهؤلاء موجودون في طبقات المجتمع كلِّها. إنَّهم لا يعرفون الضحك وحدهم فحسب، بل يعرفون كيف يُبْهِحون الآخرين أيضًا. والمثال على هؤلاء شمَّاس الكنيسة ف. ف. بوغدانوف V. V. Bogdanov الذي يعيش في إحدى قرى إقليم بيلوزيرسك والذي يصفه الأخوان سوكولوف Sokolov على النحو الآتي: ((رجل صغير أمغر، ينوف على الثلاثين عامًا، يبدو من مظهره مغفَّلًا إلى حدٍّ ما، ولكَّنه يخفي تحت هذا المظهر شخصيَّة شديدة الدهاء والمكر. إنَّه يغمز دائمًا، ويداعب الآخرين)). كان يعرف جيدًا تفاصيل الحياة الخارجيَّة لرجال الدين في الأرياف، وعكَسها في حكاياته، وتحدَّث عنها بطريقة يستطيع من خلالها المستمعون فهمَ الإشارات والتلميحات الخفيَّة. ((في الوقت نفسه، أنتم. أنتم. لم يفوِّتْ فرصة من دون أنْ يلمس الحاضرين في ذلك الموضع، ممَّا كان يبعث على ابتهاج خاصٍّ بين المستمعين)) [19] هذا النوع بالذات من رواة الحكايات شائع جدًّا إنَّه هازل وصاحب فكاهة.

كان في خمسينات القرن الماضي في موسكو فنَّان مشهور وكاتب وقاصٌّ اسمه إيفان فيدوروفيتش غوربونوف I. F. Gorbunpv، كان قادرًا في أيِّ لحظة على ارتجال مشاهد مسرحيَّة عن الحياة الموسكوفيَّة حتَّى يُمتِّع المحيطين، ويجعلهم يقهقون بصخب، وكان التمتُّع بدقَّة ملاحظاته ودقَّة تقليده.

يحوز بعض الفنَّانين مواهبَ فكاهيَّة خاصَّة؛ فلم يكن ك. فارلاموف K. Varlamov بحاجة إلى شيء إلَّا أنْ يفتح الباب، ويصعد إلى خشبة المسرح، حتَّى يُسَرَّ الحاضرون، ويضجُّوا بالضحك، على الرغم من أنَّه لم يكن قد نطق بكلمة واحدة. وقد حدث الشيء نفسه مع فنان الشعب في الاتحاد السوفياتيِّ إي. إيلينسكي I. Ilinski.

إنَّ الفطرة الفكاهيَّة هي في ذاتها علامة من علامات الطبيعة الموهوبة. إنَّنا نعرف من مذكرات غوركي عن تولستوي كم ضحك الثلاثة تولستوي وغوركي وتشيخوف، عندما وصل البروفيسور مكسيم كوفاليفسكي إلى مكان إقامة تشيخوف في نيس؛ فعندما جلسوا إلى المائدة في المطعم، ضحكوا بطريقة لفتت انتباه جميع الحاضرين.

ماذا تُظهر لنا الأمثلة التي سقناها؟ إنَّها توضح ملاحظة أنَّ هناك أشخاصًا لديهم من الفكاهة في الحياة ما يثير ردَّة فعل حتميَّة من الضحك. وإنَّ الاستعداد لردَّة الفعل هذه، هو على العموم ظاهرة إيجابيَّة. إنَّه مظهر من مظاهر حبِّ الحياة والبهجة. ولكنْ، هناك أناس ليسوا مهيَّئين للضحك على الإطلاق. وقد تكون أسباب ذلك مختلفة. وإذا كان الضحك علامة من علامات الطبيعة الموهوبة لدى الناس عمومًا، وإذا كان الأشخاص الموهوبون أو عموم الناسِ العاديُّون قادرين على الضحك، فإنَّ عدم القدرة على الضحك يمكن أن يُفَسَّر بصفته علامة من علامات الغباء أو القسوة. إنَّ الأشخاص العاجزين عن الضحك هم بصورة ما أشخاصٌ ناقصون غير كاملين. أيمكن أن يضحك بريشيبييف Prishibeev التشيخوفي [20] ، أو بيليكوف Belikov في الشخص المنطوي على نفسه [21] ، أو العقيد سكالوزوب [22] ؟ إنَّهم مضحكون، ونحن نضحك منهم، ولكنَّنا إذا ما تخيلناهم في الحياة، فسيكون واضحًا أنَّ هؤلاء الناس غير قادرين على الضحك. وعلى ما يبدو، فثمَّة مهن معيَّنة تحرِم بعض الأشخاص القدرة على الضحك. وهذه المهن هي – بصورة خاصَّة – التي تنيط بشخص ما قدرًا معيَّنًا من السلطة. وهذا يشمل الموظفين الحكوميين ومعلمي المدارس العريقة. يقول سالتكوف-شيدرين مصوِّرًا أحد مسؤولي البلدية في روايته قصَّة مدينة واحدة: ((ما يزال بورتريه أوغروم بورتشييف Ugrium Burcheev المتجهم محفوظًا في أرشيف بلديَّة المدينة. إنَّه رجل متوسط القامة، ذو وجه خشبيِّ ما، من الواضح أنَّ ابتسامة واحدة لم تضئ هذا الوجه قطُّ)). لكنَّ بورتشييف المتجهم ليس حالة مفردة، بل هو نمطٌ. يقول سالتيكوف-شيدرِين عن مثل هؤلاء الناس: ((إنَّهم ببساطة كائنات مغلقة بإحكام من جميع الجهات)). ومع الأسف، فإنَّنا نصادف هؤلاء الأشخاص غير القادرين على الضحك agelasts في العالم التربويِّ. ويمكن تفسير ذلك تفسيرًا تامًّا بصعوبة المهنة، والتوتُّر العصبيِّ المستمرِّ وما إلى ذلك، ولكنَّ السبب ليس في ذلك فحسب، بل في خصوصيَّات التنظيم السيكولوجيِّ الذي يبدو جليًّا بصورة خاصَّة في عمل المعلم؛ لذا لا عجب أنْ يصوِّر تشيخوف رجُلَه الـمُغَلَّف بصفته مدرسًا. وقد كتب بيلينسكي في مقاله الـمُتحذلق: ((نعم، أريد بالتأكيد أنْ أجعل الـمُتحذلق معلمًا مادة الأدب)). يجب على المعلمين العاجزين عن تَفَهُّم ضحك الأطفال الجميل، والعاجزين عن المشاركة، والذين لا يفهمون النكات، ولا يعرفون إطلاقًا كيف يبتسمون أو يضحكون، يجب أن يتقبلوا النصيحة بضرورة تغيير مهنتهم.

ويمكن ألَّا يكون الإخفاق في الضحك مجرَّد علامة على الغباء، بل علامة على النقص أيضًا. وهنا نتذكر موزارت وساليِيرِي [23]  لبوشكين:

موزارت: … والآن فلتكنْ كريمًا،

ولتسمعنا شيئا من موزارت.

يعزف الرجل العجوز مقطوعةً من دون جوان.

موزارت يغلبه الضحك.

ساليِيرِي: وهل يمكنك الضحك من ذلك؟

موزارت: آه، يا عزيزي ساليِيري!

كيف يمكنك أنْ تتمالك نَفْسَك من الضحك؟

ساليِيرِي: بسهولة.

فلا يدفعني إلى الضحك،

أنْ يحاول رسامٌ بائسٌ

تقليد مادُّونا لرافائيل

لا يدفعني إلى الضحك أن يُهين شُويعر تافه

دانتي أليجيري بالتقليد الرديء!

اذهبْ أيُّها العجوز.

موزارت: انتظر دقيقة، تعال

خذ هذا إذًا، واشرب في صحتي!

أيُّها الرفيق الطيِّب

(يغادر العجوز) [24] .

إنَّ موزارت لدى بوشكين عبقريٌّ فرحٌ قادرٌ على المرح والضحك، بل إنَّه قادر على التعاطي بمرح اتجاه محاكاة إبداعه الشخصيِّ، على النقيض من ساليِيرِي القاتل الأنانيِّ الحسود المتجمِّد، غير القادر على الضحك بسبب الوحشيَّة العميقة في كيانه، وكأنَّه وللسَّبب نفسه غير قادر على الإبداع، كما يقول له موزارت: ((العبقرية وفعل الشرِّ لا يمكن أنْ يجتمعا معًا)).

لكنَّ عدم القدرة على الضحك يمكن أنْ يكون لأسباب مختلفة تمامًا، بل متضادَّة.

هناك صنف من الناس العميقين والجادِّين الذين لا يضحكون، ولكنَّ ذلك ليس بسبب قسوتهم الداخليَّة، فهم على عكس ذلك تمامًا، إنَّهم لا يضحكون بسبب ما يمتلكونه من روحٍ وأفكار عالية المستوى. يقول تورغينيف في مذكراته عن الرسَّام أ. إي. إيفانوف A. I. Ivanov ما يأتي: ((لم يكن مهتمًّا بالأدب والسياسة، كان مهتمًّا بقضايا تتعلَّق بالفنِّ والأخلاق والفلسفة. وذات مرة، أحضر له أحدُهم ظرفًا يحتوي على رسوم كاريكاتيريَّة ناجحة؛ فأنعم إيفانوف النظر فيها مطولًا، ثمَّ رفع رأسه فجأة، وقال: لم يضحك المسيح قطُّ. كان إيفانوف في ذلك الوقت يضع اللمسات الأخيرة على لوحته ظهور المسيح للناس)). لم يتكلم تورغينيف قطُّ عن موضوعات الرسوم الكاريكاتيريَّة. لكنَّها لهذا السبب أو ذاك، تتناقض مع كلِّ شيء ينتمي إلى عالم الأخلاق الرفيعة، وطبيعة البنية الروحيَّة العالية التي أحاط إيفانوف نفسه بها.

إنَّ عالَم الدين وعالَم الضحك متنافيان لا يجتمعان. ففي الأدب الروسيِّ الدينيِّ القديم المدوَّن؛ يغيب عنصرا الضحك والكوميديا غيابًا تامًا. ويُعَدُّ الضحك في الكنيسة أثناء العبادة تجديفًا. وتجدر الإشارة إلى أنَّ الضحك والمرح لا يتوافقان مع أيِّ دين؛ وهذا التناقض هو سمة يتميَّز بها الدين المسيحيُّ الزاهد، خلافًا لما كان عليه الحال في العصور القديمة مع عبادة ساتورن Saturn وديونيسيوس Dionysus.

أمَّا الناس فقد احتفلوا – بصرف النظر عن رأي الكنيسة – بأعيادهم القديمة الهزليَّة والصاخبة التي تُعدُّ أعيادًا وثنيَّة مقدَّسة في منشئها، كأعياد الصوم الكبير، وإيفان كوبالا [25]  وغير ذلك، حيث يطوف الناس البلاد مع الجواميس المبتهجة، ويروون حكايات الشطَّار، ويغنون أغاني فيها ما فيها من التجديف.

وإذا كان من غير الجائز أنْ نتصور المسيح ضاحكًا، فعلى نقيض ذلك من الممكن جدًا أنْ نتخيل الشيطان الضاحك. وعلى هذا النحو صوَّر غوته ميفيستوفيل، بضحكاته الوقحة، لكنَّها ذات طابع فلسفيٍّ عميق، وقدمت شخصيَّة ميفيستوفيل للمتلقي مقدارًا كبيرًا من المتعة، واللذة الجماليَّة.

وإذا تابعنا تسجيل الملاحظات عن الأشخاص الذين لا يضحكون، أو لا يميلون إلى الضحك، فمن السهل أنْ نلاحظ أنَّ من بين الناس الذين لا يضحكون أولئك الأشخاص الذين يتملكهم من جميع الجوانب شغف ما أو توقٌ كامل إلى شيء ما، أو ينغمسون في التفكير بأشياء عميقة ومعقَّدة. لماذا يحصل ذلك؟ يجب علينا أنْ نبيِّن، والتبيين ممكن. فمن الواضح تمامًا أيضًا أنَّ الضحك لا يتوافق مع أيِّ حزن حقيقيٍّ كبير. إنَّه مستحيل أيضًا عندما نرى شخصًا ما يعاني معاناة حقيقيَّة. وإذا ضحك شخصٌ ما – مع ذلك – في مثل هذه الحالات، فسوف نشعر تجاهه بالغضب، لأنَّ هذا الضحك يدلُّ على حطَّة الرجل الضاحك من الناحية الأخلاقيَّة.

هذه الملاحظات التمهيديَّة لا تحلُّ مشكلة سيكولوجيَّةِ الضحك، لكنَّها تطرحها فحسب. أمَّا حلُّها فيمكن إعطاؤه عند دراسة السبب الذي يثير الضحك فحسب، وفي سياق ذلك، ستُفحص العمليَّات السيكولوجيّة التي تشكل جوهر الضحك.

الـمُضْحِك في الطبيعة

سنبدأ بحثنا بفحص كلِّ ما لا يمكن أن يكون مضحكًا إطلاقًا. وسيساعدنا هذا الفحص فوريًّا في تحديد كلِّ ما يمكن أنْ تكون لديه علامة الإضحاك. ومن السهل أنْ نلاحظ – بصورة عامَّة – أنَّ الطبيعة المحيطة بنا لا يمكن أنْ تكون مضحكة بتاتًا. فليس هناك ما يُضحك في الغابات، أو الحقول، أو الجبال، أو البحار، أو الورود، أو الغلال، أو الأعشاب، أو غير ذلك ممَّا يشبهه.

وقد لوحظ هذا الأمر منذ زمن بعيد، ويُستبعد أنْ يُثار حوله أيُّ شكٍّ. لقد كتب برِغسون: ((يمكن أنْ يكون المشهد الطبيعيُّ جميلًا أو جذابًا أو رائعًا أو خارقًا، ويمكنْ أن يكون مثيرًا للاشمئزاز، لكنَّه لا يمكن إطلاقًا أنْ يكون مضحكًا))، ونسب هذا الاكتشاف إلى نفسه: ((إنَّني مندهشٌ، كيف لم تُثِر هذه الحقيقة المهمَّة، والشديدة البساطة انتباه المفكرين)) [26] . لكنَّ هذه الفكرة التي نسبها برغسون إلى نفسه، كانت قد عُرِضَت سابقًا غير مرة؛ فقبل كتاب برغسون بما يقرب من خمسين سنة، عبَّر عنها – على سبيل المثال – تشيرنيشيفسكي الذي يقول: ((لا يمكن أنْ يكون هناك في الطبيعة اللاعضويَّة والنباتيَّة مكانٌ لما هو مضحك)) [27] .

وهنا نلفت الانتباه إلى أنَّ تشيرنيشيفسكي لا يتحدَّث عن الطبيعة بالعموم، بل يتحدَّث عن الطبيعة اللاعضويَّة والنباتيَّة حصرًا، ولا يتحدث عن مملكة الحيوانات. وخلافًا لعناصر الطبيعة اللاعضويَّة والنباتيَّة ومظاهرها، فإنَّ الحيوان يمكن أنْ يكون مضحكًا. ويوضِّح تشيرنيشيفسكي هذا الأمر بقوله إنَّ الحيوانات يمكن أنْ تكون شبيهًا بالبشر: ((نحن نضحك من الحيوانات لأنَّها تذكِّرنا بالإنسان وحركاته)). وهذا صحيح من غير شكٍّ. إنَّ القرد هو الحيوان الأكثر إضحاكًا من بين الحيوانات، إنَّه يذكرنا أكثر من غيره بالبشر. ومن الحيوانات المضحكة على سبيل المثال طيور البطريق التي تُضحكنا بصورة مدهشة في هيئتها ومشيتها، ولا عجب أنَّ أناتولي فرانس قد وضع لإحدى رواياته الهزليَّة عنوان جزيرة البطاريق. أمَّا الحيوانات الأخرى فهي مضحكة بقدر ما تذكِّرنا بالإنسان؛ إنْ لم يكن في شكله ففي تعابير وجهه. وممَّا يثير الضحك لدينا عينا الضفدع الجاحظتان، والتجاعيد في جبين الجرو، وآذان الخفافيش الناتئة، وأسنانها الحادَّة. ويمكن تعزيز التشابه بين الحيوانات والبشر من خلال التدريب؛ فالكلاب الراقصة تثير البهجة دائمًا لدى الأطفال. وتُعَزَّز الطبيعة الهزليَّة لدى الحيوانات إذا ألبسناها ملابس بشريَّة كالسراويل أو التنانير أو القبعات. الدبُّ الذي يبحث في الغابة عن الطعام، ليس مضحكًا إطلاقًا، لكنَّ الدبَّ الذي يثير الضحك هو الذي يُساق عبر القرى، ويكشف كيف يسرق الأولادُ الحمُّص، أو كيف تبيَضُّ الفتيات وتحمرُّ. إنَّ فكاهيَّة بعض الأعمال الأدبيَّة مثل رواية E.T.A. الفلسفة الحياتيَّة للقط مورَّا تتأسَّس على حقيقة أنَّ الكاتب الفنَّان قد رأى الإنسان من خلال عادات الحيوان.

إنَّ أوجه التشابه بين الإنسان والحيوان مباشرة وصريحة في جميع الحالات التي أتينا على ذكرها. وتبقى الفكرة التي عبر عنها تشيرنيشيفسكي صالحة في تلك الحالات التي يكون التشابه فيها بعيدًا وغير مباشر. لماذا الزرافات مضحكة؟ إنَّها للوهلة الأولى لا تشبه الناس. لكنَّ طولها، وطول رقبتها، ونحولها أمورٌ ممكنة لدى البشر أيضًا، وتذكِّرنا هذه الخصائص عن بعد بالإنسان، وهذا يكفي لإثارة شعور مضحك لدينا. ومن الصعب جدًّا معرفة ما هو المضحك – على سبيل المثال – لدى قطٍّ صغير يمشي ببطء نحو هدفه، ويرفع ذيله عموديًّا تمامًا إلى الأعلى. ومع ذلك يختبئ شيء بشري هنا أيضا، لا يمكننا تحديده على الفور.

إنَّ تأكيدات تشيرنيشيفسكي على أنَّ مملكة النباتات لا يمكن أنْ تبعث على الضحك تحتاج إلى بعض التعديلات؛ فقوله صحيح بالعموم. لكنَّنا ونحن نقلع حبَّة الفجل؛ قد تُذَكِّرنا فجأة الخطوطُ المرتسمةُ عليها بوجه إنسان، فتحصل إمكانيَّة الضحك. وتؤكِّد هذه الاستثناءات صحَّة النظريَّة، ولا تدحضها.

يمكننا حتَّى الآن أنْ نصل إلى استنتاج أوَّليٍّ ممَّا قيل كلِّه، مفاده أنَّ الـمُضحِك ذو صلة بالإنسان دائمًا، وقد تكون الصلة مباشرة أو غير مباشرة، وبسبب ذلك لا يمكن أن تكون الطبيعة اللاعضويَّة مضحكةً، لأنَّها لا تشترك مع الإنسان في شيء.

وهنا يجب أنْ نطرح السؤال الآتي: أين تكمن الخصائص التي تميِّز الطبيعة اللاعضويَّة من الإنسان؟ ويمكن تقديم جواب في منتهى الدقَّة: يختلف الإنسان عن الطبيعة اللاعضويَّة بتوفُّر الأساس الروحيِّ لديه، ويُفهم من ذلك توفُّر العقل والإرادة والعواطف. وعلى هذا النحو فإنَّنا – وبطريقة منطقيَّة صرف – نصل إلى افتراض أنَّ الضحك دائمًا ما يكون مرتبطًا – بطريقة أو بأخرى – بمجال الحياة الروحيَّة للإنسان. وقد يبدو ذلك للوهلة الأولى مشكوكًا فيه. فالمضحك في الإنسان في الواقع غالبًا ما يكون مظهره (أصلع، وما إلى ذلك)، والحقائق الفعليَّة ما تزال تُظهِر لنا أنَّ الأمر كذلك.

تسمح الملاحظات التي ذكرناها بإجراء بعض التصحيحات الخاصة بالإضحاك لدى الحيوانات. فالضحك في مجال الحياة العقليَّة أمرٌ ممكن لدى الإنسان فحسب، لكنَّه في مجال تجليَّاته العاطفيَّة والإراديَّة ممكن في عالم الحيوان أيضًا. فإذا هرب – على سبيل المثال – كلبٌ ضخم وقويٌّ فجأة من قطَّة صغيرة وشجاعة؛ تتلفَّت إلى كلب آخر يلاحقها، فإنَّ هذا يسبِّب الضحك، لأنَّه يشبه ما يمكن أنْ يحصل بين الناس.

ومن هذا يبدو واضحًا أنَّ تأكيد بعض الفلاسفة على أنَّ الحيوانات كما لو أنَّها مضحكة بذاتها آليًّا، هو أمر مغلوط. وهذا التأكيد المغلوط هو نقل لنظريَّة برغسون إلى عالم الحيوان.

إنَّ تأكيد ارتباط الضحك بالحياة الروحيَّة للإنسان قد أفصِحَ عنه تقريبيًّا وافتراضيًا حتَّى الآن.

وفي هذا السياق يُطرح السؤال الآتي: أيمكن للأشياء أنْ تكون مضحكة؟ وللوهلة الأولى، قد يبدو أنَّ الأشياء لا يمكن أنْ تكون مضحكةً على الإطلاق. وقد لاحظ ذلك بعض المفكرين. وعلى سبيل المثال يعتقد كيرخمان أنَّ أساس الإضحاك يعتمد دائمًا على بعض الأفعال غير المعقولة، وبما أنَّ الأشياء عاجزة عن الفعل، فإنَّها لا يمكن أنْ تكون مضحكةً. يقول: ((بما أنَّ الكوميديَّ يمكن أنْ ينجم عن أعمال غير معقولة فحسب، فإنَّ هذا يعني بوضوح أنَّ الأشياء التي لا حياة فيها لا يمكن أنْ تكون مضحكة بتاتًا)). ولكي يصبح شيء ما مضحكًا، يجب على الإنسان كما يعتقد كيرخمان أنْ يحوِّله بخياله إلى كائن حيٍّ: ((إنَّ الأشياء غير الحيَّة يمكن أنْ تكون مضحكة في حالة واحدة؛ عندما يحوِّلها الخيال إلى كائن حيٍّ مشخَّص)) [28] . ومن السهل الاقتناع أنَّ هذا الكلام غير صحيح إطلاقًا. فالشيء يمكن أنْ يكون مضحكًا إذا كان الإنسان قد صنعه، وعَكَس فيه على نحوٍ لا إراديٍّ بعض عيوب طبيعته؛ إذ يمكن أنْ يبعث على الضحك الأثاثُ الغبيُّ، أو بعض القبَّعات الشاذَّة أو الملابس غير الاعتياديَّة. ويحصل الضحك في هذه الحالات، لأنَّ ذوق مبدعها قد طبع عليها، وهو لا يتوافق مع ذوقنا. وعلى هذا النحو، فإنَّ المضحك في الأشياء مرتبط بالضرورة أيضًا ببعض مظاهر النشاط الروحيِّ للإنسان.

إنَّ كلَّ ما ينطبق على الأشياء ينطبق على الأعمال المعماريَّة أيضًا. هناك منظِّرون ينكرون إنكارًا كليًّا إمكانيَّة الإضحاك في فنِّ العمارة [29] ، أمَّا الناس العاديُّون فإنَّهم لا يعتقدون ذلك. ولنأخذ المحادثة التي سُمعت بالقرب من منزل ريفيٍّ مثالًا:

– أيها الولد! أين تعيش؟

– هناك خلف الغابة، ثمَّة بيت مضحك. نحن نعيش فيه.

كان المنزل قميئًا، وكان – وهذا شيء نادرٌ – مثيرًا للسخرية في أبعاده. لقد عبَّر عن نفسه في هذا البيت بنَّاءٌ معماريٌّ غبيٌّ. وهنا يمكن أنْ نتذكر منزل سوباكيفيتش Sobakevich [30] : ((كان من الملاحظ أنَّه في أثناء عمليَّة الإنشاء كانت مهمَّة المهندس المعماريِّ التي لا تنتهي هي الصراع مع ذوق المالك. كان المهندس مدقِّقًا في الشكليَّات، وحريصًا على تناسب المقاييس، أمَّا المالك فكان حريصًا على راحته الشخصيَّة. ونتيجة لذلك كما هو واضح، فقد أغلق أمكنة نوافذ الإضاءة جميعًا على جانب واحد، وفتح بدلًا عنها كوَّة يمكن أنْ تكون لازمةً لوضع خزانة صغيرة مظلمة. أمَّا الواجهة فلم يكن ممكنًا وضعها في منتصف المنزل، على الرغم من كلِّ محاولات المعماريِّ، لأنَّ المالك أمر بإلغاء أحد الأعمدة من أحد الجوانب، ومن ثمَّ لم يكن هناك أربعة أعمدة، كما كان عليه الشأن في التصميم، بل ثلاثة فقط)).

وينبغي أنْ نضيف إلى ملاحظتنا أنَّ الإنسان وحده أو ما يذكِّر به يمكن أنْ يكون مضحكًا ملاحظةً أخرى: يمكن للإنسان وحده أنْ يضحَكَ. وكان أرسطو قد لاحظ ذلك. يقول في أطروحته عن الروح: ((إنَّ الإنسان وحده من بين جميع الكائنات الحيَّة، قادرٌ على الضحك)) (الكتاب III، الفصل 10). وقد كُرِّرت هذه الفكرة مرارًا. وعبَّر عنها – على سبيل المثال – تعبيرًا قطعيًّا وواضحًا غ. براندس بقوله: ((الإنسان وحده مَن يضحك؛ وهو يضحك لسببٍ بشريٍّ ما)) [31] .

لن نشرح الآن بالتفصيل السبب الذي يجعل الإنسان وحده قادرًا على الضحك. فالحيوان يمكن أنْ يَفرح ويَسعد، بل يمكنه أنْ يعبِّر عن فرحه على نحوٍ صاخبٍ، لكنَّه مع ذلك لا يستطيع الضحك. ولكي يضحك الحيوان، ينبغي أنْ يكون قادرًا على رؤية الـمُضحك؛ وفي حالات أخرى، يجب أنْ يُضْفَى على الأمور المضحكة بعض القيم الأخلاقيَّة (كوميديا البخل والجبن… إلخ). وفي النهاية فإنَّ تقييم التورية أو النكتة، يحتاج إلى إجراء بعض العمليَّات العقليَّة. والحيوانات غير قادرة على هذا كلِّه، وجميع أنواع المحاولات (كمحاولات محبِّي الكلاب) لإثبات عكس ذلك محكوم عليها بالإخفاق مقدمًا.

مُلاحظات تمهيديَّة

يعبِّر الإنسان بطرائق شديدة التباين عن انفعالاته التي تثيرها فيه انطباعاته عن العالم الخارجيِّ. فعندما نخاف، أو نرتعد رعبًا، فإنَّ وجوهنا تشحب، ونبدأ بالارتعاش. وعندما يشعر الإنسان بالحرج، فإنَّه يحمرُّ خجلًا، يخفض نظره، ويعبِّر عن الدهشة بكلمة ((أوووه)). وفي الحالات المعاكسة، فإنَّه يحملق بعينيه، ويضرب كفًّا بكف. إنَّنا نبكي من الحزن، ونبكي أيضًا عندما نتأثَّر عاطفيًّا. لكن ما الذي يُضحِك الإنسان؟ نقول: يَضْحَك الإنسان ممَّا هو مُضحِك. وهناك بطبيعة الحال أسباب أخرى، وهذا شيء طبيعيٌّ وشائع. لكنَّ التأكيد أنَّ ((الإنسان يضحك ممَّا هو مُضحك)) هو مجرد حشو، يُفسِّر الماءَ بعد الجهد بالماء. وفي هذه الحال نحن بحاجة إلى تفسيرات أكثر وضوحًا وتفصيلًا.

وقبل محاولة تأسيس تفسيرات مفصَّلة وتقديمها، سنتوقف عند حالتين أو ثلاثًا ممَّا له دلالة مهمَّة، ونقدِّم بعض الملاحظات التمهيديَّة، كي نكون أكثر دقَّة قدر الإمكان.

لنأخذ المثال الآتي: يلقي المتكلِّم كلمةً. ولا يعنينا ما إذا كان المتكلِّم أستاذًا يلقي محاضرة، أو شخصيَّةً عامَّة تلقي خطابًا أمام حشدٍ كبيرٍ، أو مدرسًا يشرح درسًا، أو أيَّ شخص آخر. الشخص المتكلِّم يتكلَّم بحيويَّة، ويشير بيديه كلتيهما، ويومئ بعينيه محاولًا أنْ يكون مقنعًا. وفجأة تقف على أنفه ذبابة. يهشُّها بعيدًا. لكنَّ الذبابة لجوجة، فيهشُّها مرَّةً أخرى، لتبتعد عنه. وفي المرَّة الأخيرة يمسك بها، وينظر إليها أقلَّ من ثانية، ثمَّ يرميها جانبًا. وفي هذه اللحظة بالذات سينتهي تأثير الكلام كليًّا، وسيضحك الحاضرون جميعًا.

ولنأخذ حالة أخرى: تتحدث قصة غوغول كيف تشاجر إيفان إيفانوفيتش Ivan Ivanovech مع إيفان نيكيفوروفيتش Ivan Nikvorovech؛ يذهب إيفان نيكيفوروفيتش إلى المحكمة ليشتكي من إيفان إيفانوفيتش، لكنَّه يعلق في باب المدخل، لأنَّه سمين جدًا، ويعجز عن التحرك نحو الأمام أو الخلف. عند ذلك يأتي أحد الموظفين الكَتَبَة، ويدفعه بركبته في بطنه إلى الخلف، ثمَّ يفتح النصف الثاني من الباب، ويدخل إيفان نيكيفوروفيتش.

ولنتخيل في الحالة الثالثة سيركًا ما: يظهر مهرجٌ، وهو يرتدي زيَّ شخص عاديٍّ، يرتدي سروالًا عاديًّا، لكنَّه غير مناسب، ويرتدي جاكيتًا، ويعتمر قبَّعة، وينتعل حذاء كبيرًا جدًا. وعلى وجهه ابتسامة عريضة لشخص راضٍ عن نفسه. يحمل المهرج على كتفيه شيئًا غريبًا، وبعد تدقيق قليلٍ يتبيَّن أنَّه يحمل بوابة حديقة، ثمَّ يقف في منتصف ساحة العرض، ويضع البوابة بعناية على الأرض، ويمسح ساقيه باهتمام شديد، ثمَّ يفتح البوابة، ويمرُّ عبرها، ثمَّ يغلقها بحذر شديد. وبعد أنْ يفعل ذلك كلَّه، يضع البوابة على كتفيه، ويغادر الساحة. يضحك الحاضرون، ويصفقون مطولًا.

ما الذي حدث؟ وما المشترك بين هذه الحالات الثلاث؟

في الحالة الأولى، يستمع الجمهور في البداية إلى المتحدِّث بعناية، ولكنَّ ظهور الذبابة، يشتَّت انتباههم، أو بالأحرى يحرفه. فيكفُّون عن الاستماع إلى المتكلم، ويتحوَّلون إلى النظر إليه. أمَّا انتباههم، فيتحوَّل من التركيز على ظاهرة من نظام معنويٍّ إلى ظاهرة من نظام ماديٍّ. وينحجب تلقِّي المستمعين محتوى الكلام ذا النظام المعنويِّ، بما يفعله المتكلِّم مع الذبابة؛ أي أنَّ الظاهرة الماديَّة تحلُّ محلَّ المعنويَّة. وتحصل هذه المزاحمة كما يحصل تشتيت الانتباه على نحوٍ غير منتظر، علمًا أنَّ الإعداد له قد حصل من دون أنْ يُلاحظ. فتحدث في وعي المتلقين قفزة معيَّنة. لكنَّ القفزة ظاهرةٌ مفاجئة خارج السياق، حُضِّر لها من الداخل بصورة غير ملحوظة. وفي هذه الحالة أيضًا، يترك بعضُ التفاصيل والجزئيَّات الصغيرة الدقيقة أثرَه في تهيئة المستمعين بالفعل كي يضحكوا؛ فالمتكلم يبدأ بتحريك يديه ومكونات وجهه بحدَّة، وهذا التحريك مضحك بذاته، لأنَّه يُظهر أنَّ المتحدث يحاول إقناع المستمعين ليس بقوَّة أدلَّته وحججه، بل بقوَّة قناعته الذاتيَّة الخاصَّة. ويكمل مشهد الذبابة التهيئة لانفجار موشك.

لكنَّ هذا التشتيت أو المزاحمة المفاجئان ليسا الشرط الوحيد للضحك. فالضحك يكشف لنا أنَّ خطاب المتحدِّث لم يكن جادًّا بما فيه الكفاية، أو لم يكن غنيًّا، أو عميقًا بما يكفي لجذب الجمهور حقًا. وخلافًا لذلك، فإنَّ الجمهور كان يمكن أنْ يضحكَ بلطف، أو يكتفي بالتبسم، متعاطفًا بذلك مع العالم الشهير أو الشخصيَّة العامَّة المعروفة، وكان يمكن له أنْ يتجاوز عن هذه الخيبة الصغيرة. لكنَّه هنا، لا يغفر الإخفاق. فقد عرَّى مشهدُ الذبابة بعض العيوب الخفيَّة في أفعال المتحدِّث أو طبيعته.

يمكن تعميم هذه الحالة وقول ما يأتي: يحدث الضحك إذا ما تمكن المبدأ الماديُّ بصورة مفاجئة من مزاحمة المبدأ المعنويِّ، والكشف عن نقصٍ خفيٍّ أو إفلاس في شخصيَّة المتكلِّم. ويكون للضحك في هذه الحالة طبيعة تهكميَّة. وبما أنَّ المتكلِّم قد سمح لذبابة تافهة أنْ توقِف مسار رحلته العاطفيَّة والعقليَّة، فقد انكشف بذلك ضعف كلامه، علاوة على الضعف في طبيعة شخصيَّته.

لدينا حالة أخرى مختلفة في قصَّة غوغول، ولكنَّها مشابهة في جوهرها للحالة الأولى. يريد إيفان نيكيفوروفيتش المرور عبر الباب، لكنَّ جسده يعيقه، فهو سمين جدًا. وهنا تُهزَم إرادة الإنسان أمام ظروف ذات طبيعة خارجيَّة تمامًا. وفي تلك اللحظة عندما اتَّضح فجأة أنَّ الظروف الخارجيَّة أقوى من مساعي الإنسان، يضحك المشاهدُ أو القارئ. إنَّه لا يرى غير جسم إيفان نيكيفوروفيتش، ويتجاهل كلَّ شيء عدا ذلك، وإذا حصل في الحالة الأولى أنْ قُتل الطموح المعنويُّ، ففي هذه الحالة قتل الطموح الإراديُّ.

يثير الضحك لدى غوغول في الظاهر استعصاء إيفان نيكيفوروفيتشَ في الباب، لكنَّ الضحك في حقيقة الأمر قد أُعِدَّ له في مجمل حركة السرد حتَّى غدا جزءًا عضويًّا منه. لا يذهب إيفان نيكيفوروفيتش إلى المحكمة للكشف عن جريمة مأساويَّة ما، تتطلب العقاب، بل يذهب إلى هناك ليتقدَّم بدعوى كاذبة وافترائيَّة ضدَّ صديقه القديم. وهذه الدعوى تكشف عن حقارة تطلعاته ووضاعتها. وسمنته ليست محضَ مصادفة أيضًا: فهو سمين نتيجة لأسلوب حياته الشخصيِّ القائم على الكسل والشراهةِ. وانفجارُ الضحك يظهر في اللحظة التي يرى فيها القارئ – وفقًا لإرادة المؤلف – شيئًا واحدًا فقط هو الجسد الماديُّ، بدلًا من أنْ يرى إنسانًا كاملًا.

في الحالة الأولى، كانت تطلعات المتحدث ساميَةً إلى حدٍّ ما، وقد أُجهِزَ عليها. أمَّا تطلعات إنسان غوغول في الحالة الثانية، فكانت منحطَّة. وبهذا يتحدَّد الطابع الساخر للضحك لديه.

أمَّا الحالة الثالثة، فكأنَّنا أمام تطلُّع إراديٍّ، ولا تقف في وجه هذا التطلع أيَّةُ عوائق. ثمَّة شخص يمرُّ عبر البوابة لا تعيقه عوائق. ما المضحك في ذلك إذن؟ على الرغم من أنَّ المرور عبر البوابة لا يتطلب جهدًا ذهنيًّا أو إراديًّا خاصًّا، فإنَّه في الحياة فعل واعٍ وضروريٌّ، بغية الوصول إلى الحديقة أو الفناء، هناك حاجة إلى المرور عبر البوابة. ومع ذلك، لا معنى لهذا الفعل بحدِّ ذاته في العروض الهزليَّة، هنا – في هذه الحالة – يتوفر كلُّ شيء ممَّا هو ممكن: مسحُ القدمين، وفتح البوابة بعناية، والمرور عبرها، وإغلاقها بحذر مماثل، ولكن يغيب أهمُّ شيء في الأمر: ليس هناك بوابة، ليس هناك مدخل أو ممرٌ حقيقي، هناك تخيُّل لكلِّ ذلك، هناك شكل فحسب. ليس ثمَّة خوخة تقف في وسطها بوابة. هنا ليس ثمَّة عائق، لأنَّه لا وجود لما يعيق، ووراء مظاهر الحياة الجسديَّة ثمَّة فراغ.

سنقتصر مؤقتًا على هذه الحالات. إنَّها تنتمي إلى أنظمة مختلفة من الحقائق، لكنَّها تُظهر أنَّ الأنظمة المختلفة تنطوي على قانونٍ واحد، بحيث يمكن العثور على شيء مشترك بينها. ويمكننا – حتَّى الآن – إثبات أنَّ الباعث على الضحك في الحالات الثلاث جميعًا، كان الاكتشاف المفاجئ لأشياء كانت مخفيَّة.

لم تكن العيوب مرئيَّة إطلاقًا في البداية، ومن هذا يمكننا أنْ نستنتج أنَّ الضحك هو عقاب منحتنا إيَّاه الطبيعة اتجاه نقص متأصِّل في الإنسان كان خفيًّا، وانكشف فجاءةً. يُكشف عن هذه العيوب في الحالات الثلاث بالطريقة نفسها، وذلك بنقل الانتباه بصورة طبيعيَّة أو متعمَّدة من العمليَّات الداخليَّة إلى أشكالها الخارجيَّة أو مظاهرها، ويكشف هذا النقل عن النقص فورًا، ويجعله واضحًا لدى الجميع.

وما زال التعبير عن هذا كلِّه حتَّى الآن مجرد فرضيَّة، يمكن إثباتها بعد مزيد من الدراسة، أو يمكن إخضاعها لمزيد من الضبط والإضافات. وقد نشأت هذه الفرضيَّة نتيجة لمعالجة عدد كبير من الحقائق، وقد قدمنا هذا العرض للاستنتاجات، من أجل الوضوح والتنظيم المنهجيَّ، وكان الأَوْلى بنا أنْ نعرضها لاحقًا.

يجب علينا الآن أنْ نجري تدقيقًا صغيرًا، لكنَّه ما يزال تقريبيًّا وافتراضيًّا: لا ينجم الضحك عن القصور بشتَّى أشكاله، بل ينجم عن القصور بأشكاله الخفيفة. ولا يمكن أنْ تكون الرذائل بأيِّ حال من الأحوال موضوعًا للضحك، لأنَّها قد تكون سببًا في بعض أنواع المآسي…، ويمكن أنْ نُلحِق بهذا – على سبيل المثال باريس غودونوف لبوشكين أو ريتشارد الثالث لشكسبير. وكان أرسطو قد لاحظ هذه الملاحظة بالفعل، كما عبَّر مفكرون آخرون عن مثل هذه الأفكار. يقول نيكـ. هارتمان على سبيل المثال: ((يعتمد الإضحاك على نقاط ضعف الناس، وتفاهاتهم الصغيرة)) [32] .

ستساعدنا هذه الأفكار والملاحظات التمهيديَّة على فهم الموادِّ الكثيرة والمتنوِّعة، والمرتبطة بدراسة الضحك والإضحاك، وسوف تسمح لنا بالوقوف على القوانين التي تنطوي عليها.

الجوهر الماديُّ في الإنسان

إذا كان صحيحًا أنَّنا نضحك عندما تخفي الأشكالُ الماديَّة الظاهريَّة لأفعال الإنسان وتطلعاته معناها الداخليَّ ودلالتَها، والتي تتحول في هذه الحالة إلى تافهة أو منحطَّة، فعندئذ يجب بدء الدراسة من الحالات شديدة البساطة التي يمكن أن تمثِّل البداية الماديَّة.

إنَّ أبسط الحالات هو أنَّ الضَّاحك يرى في شخصٍ ما شيئًا ماديًّا، قبل أنْ يرى أيَّ شيء آخر، أي إنَّه يرى جسده بالمعنى الحرفيِّ للكلمة.

يعلم الجميع أنَّ الأشخاص البدينين يبدون مضحكين. ومع ذلك، وقبل أنْ نحاول تقديم تفسير لذلك، ينبغي التفكير في أيِّ الظروف تكون البدانة مضحكة وفي أيِّها لا تكون. يقول هـ. برغسون: ((الـمُضحِك هو كلُّ مظهرٍ من مظاهر الجانب الماديِّ للشخصيَّة، وفي الوقت نفسه يتعلَّق بالجانب الروحيِّ لها)) [33] . ومن السهل الاقتناع بأنَّ كلام برغسون ليس دقيقًا تمامًا، إذ لا يمكن أنْ يكون كلُّ مظهر من مظاهر الجانب الماديِّ للشخصيَّة مضحكًا، حتَّى لو كان الأمر متعلقًا بجانبه الروحيِّ. هناك أشخاص بدينون غير مضحكين. وعلى سبيل المثال فقد تميَّز بلزاك بسمنته المفرطة. ومع ذلك، فقد كان واضحًا على محياه ومن النظرة الأولى جبروتُه الداخليُّ وقوَّتُه الروحيَّة، فطغى ذلك على سمنته التي لم تبدُ لنا مضحكةً بتاتًا. وقد نحت ف. أو. رودين [34]  تمثالًا يُمثِّل بلزاك عاريًا ببطنٍ ضخمٍ ورجلَين رقيقتَين. إنَّه تمثال مشوَّه، لكنَّه لا يبعث على الضحك. لقد نحت النحَّات هذا التمثال بعبقريَّة عجيبة؛ عندما خرج عن التقاليد المتوارثة من العصور القديمة، وخرج عن جماليَّات القرن الثامن عشر، والتقاليد التي كانت ترى في التمثال تعبيرًا عن جمال البنية الجسديَّة، ونجح في التعبير عن القوَّة الروحيَّة والجمال الداخليِّ في الإنسان ذي الجسم المشوَّه.

وتَـميَّز إي. أ. غونتشاروف [35] و أ. ن. آبوختين [36]  من بين الكتاب والشعراء الروس – على سبيل المثال – ببدانتهما، لكنَّ ذلك لم يجعلهما مضحكَين على الإطلاق.

عندما تُهيْمِن القيم الروحيَّة على القيم الجسديَّة، لا يحصل الضحك. لكنَّه لا يحصل في الحالة المعاكسة أيضًا؛ عندما يكون انتباهنا مركزًا تمامًا على المظهر الماديِّ للشخص بغضِّ النظر عن قيمه الروحيَّة. وهذه الحالة – على سبيل المثال – نراها عندما نشاهد رجلًا بدينًا في عيادة الطبيب. فالسمنة في الواقع هي مرضٌ أو خروج على القياس. والرجل السمين الذي يعاني من مرضه ليس مضحكًا في حدِّ ذاته إطلاقًا. والضحك في هذه الحالة مستحيل، لأنَّ المظهر الخارجيَّ لا يُنظر إليه بغض النظر عن الجوهر الروحيِّ للمريض. وبناءً عليه، فإنَّ الإضحاك لا يكمن في الطبيعة الجسديَّة للإنسان ولا في طبيعته الروحية، ولكنَّه يكمن في العلاقة والتناسب بينهما، حيث تكشف الطبيعة الجسديَّة عن أوجه القصور في الطبيعة الروحيَّة.

يكون البدينون مضحكين أحيانًا، عندما يعبِّر مظهرُهم – في عيني الناظر – عن جوهرهم بطريقة ما. لكن، وبما أنَّنا لا نرى بدينين في غرفة استقبال الطبيب إلَّا نادرًا جدًّا، وبما أنَّ حالات الأشخاص البدينين الذين يدهشوننا بقوَّتهم الروحيَّة نادرة جدًّا، فإنَّ البدينين في الحياة اليوميّة الاعتياديَّة يبدون مضحكين بحدِّ ذاتهم بالنسبة إلى الإنسان العاديِّ المتوسط الذي يعيش حياة عاديَّة. ويشتدُّ الضحك عندما نرى البدينين فجأة وعلى نحوٍ غير متوقَّع، والنقيض من ذلك فإنَّ البدينين الذين اعتدنا وجودهم، والذين نراهم يوميًّا، لا يثيرون الضحك.

في السنوات الأولى من الثورة، صُوِّر الكهنة والأغنياء ومُلَّاك الأراضي ورجال الشرطة سمينين دائمًا. فالسُّمنة تؤكِّد حقارة أولئك الذين كانوا يرون أنفسهم آباء روحانيين، والذين اعتقدوا أنفسهم فوق الآخرين جميعهم، لكنَّ التأثير الفكاهيَّ في هذه الحالة، استُخدِم لأغراض السخريَّة من ذلك السَّمين الكسول المتخم من ملذَّات الحياة على حساب الآخرين الذين يُفترض أنْ يتضوروا جوعًا، ويعملوا لحساب الآخرين. وتُعزز المتعة بالضحك في هذه الحالة أنَّ هذه الطفيليَّة قد حان وقت نهايتها. الضحك هو أداة تدمير؛ إنَّه يدمر السلطة والعظمة الوهميَّتين لأولئك الذين يتعرضون للسخريَّة.

ومع ذلك، يمكن أنْ يكون للسخرية طابعٌ آخر أيضًا، أقلُّ بهرجةً ووضوحًا. إنَّ معرض الرجال السمينين لدى غوغول مثير للإعجاب؛ فالسمين إيفان نيكيفوروفيتش يصبح لدى القارئ فجأة مرئيًّا عندما يواجه عقبة الباب، كما ذُكر أعلاه. وعلى الرغم من أنَّ تشيتشيكوف Chichkov ومانيلوف Manilov ليسا سمينَين للغاية، فإنَّهما لا يستطيعان المرور من الباب في آنٍ معًا؛ وكأنَّ سمنة كلٍّ منهما قد تضاعفت. فيفسِح كلُّ واحدٍ الطريق للآخر، لكنَّ أيًّا منهما لا يوافق على الدخول أولًا. وكان بوبتشينسكي ودوبتشينسكي أبطنَين أيضًا. وهنا نتذكر بيتر بتروفيتش بيتوخ P. P. Petukh، الذي رآه تشيتشيكوف – وهو يدخل في إحدى عزَبِهِ – يسحب مع بعض الرجال شِبَاك الصيد. قال بينه وبين نفسه: ((… شخصٌ يتعادل الطول فيه مع العرض، فيبدو مدوَّرًا تدويرًا تامًّا، وكأنَّه بطيخة. وبسبب سمنته؛ لم يعد بإمكانه الغرق في أيِّ حالٍ من الأحوال)).

((أوووه… يا له من سمين!!)) تصرخ آغافيا تيخونوفنا، عندما ترى يايتشنيتسا Yaichnitsa [37]  في مسرحيَّة غوغول الخطبة.

تتمثَّل إحدى ميزات أسلوب غوغول باعتداله وتلطفه في استخدام أساليب الإضحاك، فشخصيَّاته من السمينين ليست شديدة السمنة، ومع ذلك لا يضعف التأثير الهزليُّ لديه، بل يقوى.

إنَّ كلَّ ما قيل عن كوميديا السمنة يتصل بالانطباع الكوميديِّ الذي يمكن أنْ ينتجه الجسم البشريُّ العاري في شروط معيَّنة. ما هذه الشروط؟

جسد الإنسان العاري ليس مضحكًا بذاته على الإطلاق. والجسد العاري يمكن أنْ يكون رائع الجمال عندما تُنْحَت أجزاؤه على نحوٍ مثاليٍّ، وهذا ما تؤكِّده التماثيل الإغريقيَّة والرومانيَّة جميعها، وتؤكِّده أعمالٌ فنيَّة لا تُعَدُّ ولا تحصى. كما أنَّ الجسم السمين في عيادة الطبيب ليس مضحكًا، وكذلك شأن الجسد العاري على طاولة العمليَّات الجراحيَّة أو تحت آلة التصوير. ولكن بمجرِّد ظهور شخصٍ بلا ملابس، أو ظهور شخصٍ كان في المرحاض لأنَّه يشعر بأنَّه ليس على ما يرام، وسط أشخاص يرتدون ملابسهم كاملةً، ولا يفكِّرون بأجسادهم، تصبح إمكانيَّة الضحك متوفرة. وسبب الضحك هنا هو نفسه ما كان في الحالات السابقة: المبدأ الماديُّ يحجب المبدأ الروحيَّ.

لم يصوِّر غوغول بيوتر بيوتروفيتش بيتوخ سمينًا فحسب، بل عاريًا أيضًا. صوَّره خارجًا من الماء يسحب كرسيَّ تشيتشيكوف: ((واضعًا إحدى يديه على عينيه كقبَّعة، ليقيهما أشعَّة الشمس، والأخرى تشبه يد فينيرا ميديتسيسكايا [38]  الخارجة من الماء)). ويتعمَّد غوغول أنْ يصوِّرَ أبطاله – في هذه الحالة وفي حالات أبطال آخرين في أعماله – عارين تمامًا. ومع ذلك فإنَّه في هذه الحالة أيضًا، يكشف عن اعتداله ولطفه، وهما خصلتان أصيلتان لديه دائمًا. لم يقترب غوغول قطُّ من البورنوغرافيا التي لا يمكن أنْ تكون مضحكة على الإطلاق.

يستيقظ تشيتشيكوف في الصباح في كارابوتشكا وهو يغني أغنية ماجنة: ((أطلَّ وجه امرأة من الباب، ثمَّ توارى في تلك اللحظة ذاتها، لأنَّ تشيتشيكوف كان قد تعرَّى تمامًا رغبة منه في الاستغراق التَّام في النوم)).

ويخلع إيفان نيكيفوروفيتش في الحرِّ الشديد ملابسه كلَّها، ويجلس عاريًّا في غرفة مظلمة مغلقة النوافذ، ويقول للوافد القادم إيفان إيفانوفيتش: ((آسف لأنَّني أمامك على طبيعتي)). لكنَّ إيفان إيفانوفيتش لا ينزعج من ذلك، ويقول: ((لا عليك)).

يشتمُ نوزدريف صهره مستخدمًا كلمة ((فيتيوك fetyuk))، وهي كلمة لا معنى لها، ويعلِّق غوغول على هذه الكلمة بالحاشية الآتية: ((فيتيوك كلمة مسيئة إذا ما وجِّهت إلى رجل ما، وهي مشتقَّة من الحرف اليونانيِّ ((فيتا Θ)) الذي يُقرأ بصفته حرفًا غير لائق)).

وهنا يمكن أنْ نلاحظ أنَّ الإضحاك لدى غوغول يُفسَّر في حالات نادرة جدًّا بالاعتماد على سببٍ واحد فحسب، لكنَّه في الحالات معظمها، يفسَّر باجتماع أسباب عدَّة في وقت واحد. لذا فإنَّ الحاشية في هذه الحالة، تحاكي على نحوٍ مضحك الملاحظات التوضيحيَّة في الأبحاث العلميَّة.

ويستخدم الأسلوبَ نفسه كوزما بروتكوف [39] . فمن بين أقواله الحربيَّة المأثورة القول الآتي:

ستندهش من ذلك جموع أوروبا
يا لهول – لدى العقيد – اتساع القبعة [40] 

والمدهش في الأمر أنَّه صنع لذلك الحاشية الآتية التي لا معنى لها: ((بالنسبة إلى القافية المغلوطة، أعطها للمراجع كي يعثر على أخرى غيرها)).

كان بإمكاننا أنْ نستحضر مزيدًا من الأمثلة المشابهة لهذا النمط من قلَّة الحشمة. وسنكتفي بتذكر المشهد الآتي من المفتِّش العامِّ، وكان غوغول قد أسَفَّ فيه: تشكو صفُّ الضابط لخليستاكوف حاكمَ المدينة الذي أمر بجلدها: ((أقسم بالله! إذا كنت لا تصدقني، يا سيدي، فسأكشف لك عن آثار الجلد))، فأجابها خليستاكوف: ((لا حاجة إلى ذلك أمَّاه. إنَّني أصدقك من دون ذلك)).

وفي ضوء ما سبق، يمكن تقدير مهارة تشيخوف في قصته القصيرة ابنة ألبيون؛ ففيها يصطاد الـمَلَّاكُ غريابوف Griabov بسنارته سمكةً وهو في صحبة امرأة إنجليزية، تعمل مربية لأطفاله. ويأتي إليه وهو على الشاطئ أحد أصدقائه. وفجأة يعلق طُعم السنارة، ويصبح من الضروريِّ التعرِّي والغوص في الماء. وفي تلك اللحظة لم يكن بالإمكان إبعاد المرأة الإنجليزية، لأنَّها لا تفهم الروسيَّة، ولا تغادر: ((خلع غريابوف حذاءه، وسرواله، ثمَّ تجرَّد من ملابسه الداخلية، وأصبح كما ولدتْه أمُّه. وقال وهو يضرب فخذيه:

– ينبغي أنْ أبرِّد جسمي قليلًا. قل لي من فضلك يا فيودور، لماذا أُصاب بالطفح الجلديِّ على صدري كلَّ صيف؟

– اغطسْ في الماء بسرعة يا حيوان! أو استرْ جسدك بشيء ما.

قال غريابوف وهو يغطس في الماء راسمًا علامة الصليب، مبربرًا (بربربر…) الماء بارد:

– يا لها من فاجرة! بربربربر… لو أنَّها شعرت بالخجل على الأقل!))

قد لا يحتاج الإضحاك إلى تفسيرات في تلك الحالات التي تُصوَّر فيها شخصيَّات شديدة الضخامة والطول، أو على العكس من ذلك شديدة الصغر والقصر. وكذلك الحالات التي تجمع بين الطريقتَتن كلتَيهما. وهكذا، يبدو العمُّ ميتياي الطويل والنحيف شبيهًا ببرج جرس الكنيسة، ويبدو العمُّ مينياي عريض الكتفين وقصيرًا مثل السماور. وينقسم الضيوف جميعهم في الحفلة المنزليَّة في بيت الحاكم إلى سمين ونحيل. لكنَّ الغلبة للسمينين الذين يشعر تشيتشيكوف بالميل نحوهم، وينضمُّ إليهم.

يتطلب الإضحاكُ ببعض حركات الجسد ووظائفه دراسةً أكثر تفصيلًا من الإضحاك بجسد الإنسان بحدِّ ذاته. ويشغل تناول الطعام المنزلة الأولى من بين هذه الحركات والوظائف في الأدب الفكاهيِّ والساخر.

ويُفَسَّر الإضحاك الذي يسببه تناول الطعام من الناحية النظريَّة، بالطريقة نفسها التي فسِّر به في الحالات السابقة جميعها. إنَّ فعْل الأكل بحدِّ ذاته ليس مضحكًا إطلاقًا، لكنَّه يغدو مضحكًا عندما تتوفر في أثناء تناول الطعام عناصر الإضحاك الأخرى التي تناولناها بالدرس آنفًا.

ولا يترك غوغول حالة واحدة يمكنه فيها أنْ يصف المائدة من دون أنْ يفعل ذلك، وغالبًا ما يكون الطعام وفيرًا وثقيلًا. وتوصف أطباق الطعام والمأكولات في بعض الأحيان بإيجاز، ولكنَّها توصف في أحيان أخرى باستفاضة وتفصيلٍ. وفي كثير من الأحيان يَصِف الطاعمون الطعام؛ فأفاناسي إيفانوفيتش وبولخيريا إيفانوفنا لا يأكلان في الوقت المحدَّد للوجبات فحسب، بل يأكلان في أيِّ وقت ليلًا أو نهارًا. إنَّهما يتناولان بعد القهوة الخبز المحمَّص مع لحم الخنزير المقدَّد، والفطائر المحشوة ببذور الخشخاش، والفُطور المملَّحة. ويحتسي أفاناسي إيفانوفيتش قبل الغداء بساعة قدحًا من الفودكا، ويأكلُ معه الأسماك المجففة أو بعض أنواع الفطر أو غير ذلك. وهذه الأطعمة جميعًا وغيرها من الأطباق الأوكرانيَّة والأطباق الأخرى، تُميِّز طبيعة الاقتصاد الزراعيِّ وأسلوب الحياة الريفيَّة والطبيعة الروحيَّة لِمُلَّاك الأرض أنفسهم.

ويتناول تشيتشيكوف الطعام في الأرواح الميِّتة بطريقة حاسمة مع مُلَّاك الأراضي جميعًا، ويحصل ذلك عند كلِّ واحدٍ منهم بطريقة تختلف عن حصوله لدى الآخرين. فعلى مائدة سوباكيفيتش يُتحدَّث عن كلِّ طبق من الأطباق؛ وتُقدَّم على المائدة الأطباق الآتية: حساء الملفوف، الكرشة، وتطبخ من معدة الخروف المحشوة بعصيدة الحنطة السوداء وقطع من المخ والساقين، وفخذ الخروف مع العصيدة، وكعكة الجبن؛ وكلُّ قطعة منها بحجم طبق، الديك الرومي المحشوِّ بالبيض والأرز والكبد، ((وكلُّ هذا يصبح كتلة ضخمة في المعدة)). وتقديم هذا الغداء كلِّه من طبيعة سوباكيفيتش الموقَّر، أمَّا نوزدريف الخفيف العقل، فهو يرى الغداء سيئًا للغاية، والنبيذ حامضًا، في حين يلتهم كوروبتشوك الفطائر باحترافيَّة. وحتَّى لدى بليوشكين، يُعرَض على تشيتشيكوف الشاي مع قطع الخبز المحمَّص المتعفِّن، ويُعرض عليه قدح من الليكيور، وقد سقطت فيه ذبابة، وهو ما يتناسب مع طبيعة المالك. وتظهر لا مبالاة خليستاكوف في كلماته بعد الإفطار في مؤسَّسة خيريَّة: ((أحبُّ أنْ آكل. إنَّك تعيش لتقطف زهور المتعة)). أمَّا إيفان فيودوروفيتش شبونكا I. F. Shponka [41]  الخجول، فيظهر بصورة مختلفة: فقد كان – وهو لـمَّا يزل طفلًا في المدرسة – يأكل فطيرة الزبدة، ويغطي وجهه بكتاب؛ كي لا يمسك به المعلم.

ربَّما ليس هناك كاتب واحد في العالم وصف الشهيَّة والأطباق كما وصفها غوغول. وهنا يمكن التذكير على الأقلِّ كيف يعبِّر أوسيب في المفتِّش العامِّ، ثم كيف يعبِّر سيده، عن شهيَّتهما القاتلة، أو كما قال غوغول عن شهية السيِّد ذي اليد المتوسطة في الأرواح الميِّتة.

عندما يصل كوروبوتشكا على متن مركبته الغريبة إلى المدينة، ((تظهر في أعلى المركبة فطيرة دجاج وفطيرة مخلَّلة)). ويمثل الطعام والضيافة لدى بيتر بتروفيتش بيتوخ الشَّره والثابت على شراهته والمقتنع بها المعنى الوحيد لحياته كلِّها.

ومن بين الكتاب الروس الآخرين الذين وصفوا الطعام بطريقةٍ فكاهيَّة، يمكن للمرء أنْ يتذكر تشيخوف في قصَّته القصيرة سيرين؛ فالسكرتير يصف بشهيَّة عالية الأطعمةَ المختلفة، حتَّى إنَّ أحدًا ممَّن حوله لا يستطيع أنْ يعمل.

ثمَّة أسباب تبعث على الضحك، تختلف عن أسباب الإضحاك بالطعام، إنَّه الإضحاك الذي يسببه الشراب والسُّكْر؛ فالسُّكْر مثير للضحك عندما لا يكون سُكْرًا تامًّا. والمضحكون ليسوا السكرانين، بل القريبين من تلك الدرجة. أمَّا السُّكر الذي يصل إلى الحالة القصوى، فلا يمكن أنْ يكون مضحكًا إطلاقًا.

إنَّ خليستاكوف العائد من ضيافة عامرة، لا يتذكر المكان الذي كان فيه، ويكرِّر بكلِّ سرور كلمة جديدة بالنسبة إليه ((لاباردان))، وهذا مثال طرازيٌّ لشكل الإضحاك الذي يسبِّبه السُّكر. وبالمناسبة، فإنَّ غوغول يضحكنا بقصديَّة تامَّة من الحالات الأشد سكْرًا أيضًا؛ يحمل الحوذيُّون من ذوي الخبرة أسيادهم المخمورين إلى منازلهم، ويستطيعون التحكم بقيادة الخيول بيد واحدة، ليمسكوا باليد الأخرى الثملين. نقرأ في ((عربة الأطفال)): ((على الرغم من كلِّ أرستوقراطيَّته يجلس تشيرتوكوفسكي في العربة؛ وقد تدلَّى رأسه من السُّكْر إلى آخر درجة، وعندما وصل إلى المنزل، تبيَّن أنَّه كان قد أحضر شوكتي قيصوم علقتا في شاربه)).

وكما يمكن لجسم الإنسان أن يصبح مضحكًا في ظل ظروف معيَّنة، فإنَّ الوظائف الفيزيولوجية اللاإراديَّة لهذا الجسم تكاد تكون مضحكة دائمًا. يُقال عن تشيتشيكوف: ((كان السيِّد في هيئته وحركاته شديد الرصانة، وكان يتمخَّط وكأنَّه يزأر)). وتبدأ ((الدعوى)) بفواقٍ يحدثه البطل، وتجشؤات لا تنتهي. ويخبرنا أكساكوف في مذكراته عن غوغول كيف استقبل الجمهور ذلك في أداء غوغول الحيَّ والفنيِّ.

وتُذَكِّر فاسيليسا كاشبوروفنا في قصَّة إيفان فيودروفيتش شبونكا بأيَّام طفولة البطل، عندما كان يوسِّخ لها ثوبها بحركاته الطفوليَّة.

تُعدُّ رائحة الجسد الخاصَّة بكلِّ إنسان واحدةً من خصائصه الفيزيولوجيَّة. والرائحة التي تنبعث من بيتروشكا ترافقه عبر السرد كلِّه في الأرواح الميِّتة. ويستخدم الإضحاك بالرائحة في مشاهد عدَّة. فتشيتشيكوف يحصل على فرصة وهو يقبل يد فيودولا إيفانوفنا كي يلاحظ أنَّها ((قد غسلت يديها بماء الخيار)).

أمَّا تضميخ السيدات أنفسَهنَّ بالعطور، فيمكن أنْ يُستخدم لأغراض مضحكة وهزليَّة، إذا كانت هذه العطور تعبِّر بوضوح صُراح عن نيَّات السيدات. ((أحاطت به السيدات على الفور بأكاليل الزهور الرَّائعة، وحملن معهنَّ سحبًا كاملة من جميع أنواع العطور؛ كانت رائحة الورود تفوح من إحداهنَّ، وتفوح من ثانية رائحة الربيع والبنفسج، وتتضوع من ثالثة رائحة عطر الخزامى الذي ضمخت جسدها به بالكامل؛ أمَّا تشيتشيكوف فكان يكتفي بأن يرفع أنفه، ويشمَّ)) وثمَّة ما يشبه ذلك في وصف سيدة لطيفة: ((بدخولها انتشرت رائحة الياسمين في الغرفة كلِّها)).

ويختلف الشأن مع الرجال، ولا سيَّما أولئك الموظفين الكَتَبة: فالمدير ومعاونه ((فاحت من أنفاسهما رائحة قويَّة للغاية، فغدت الغرفة التي يجلسان بها مع مرور الوقت وكأنَّها حانة شراب)).

تمثِّل الأمثلة التي سقناها جميعُها نمطًا واحدًا من الظواهر، ولا يتطلُّب كلٌّ منها تفسيرًا مستقلًا.

وممَّا يستحق الذكر فيما يتعلق بالضحك الذي يُسبِّبه في حالات أخرى جسمُ الإنسان، أنَّ أبطال غوغول يهتمُّون بمظهرهم اهتمامًا كبيرًا؛ فالقارئ يُلاحظ على نحوٍ متكرِّر كيف يحلِقُ تشيتشيكوف ذقنَه: ((بعد قيلولة قصيرة بعد الغداء، أمر أنْ يحضروا له ما يغسل به وجهه؛ فغسل خدَّيه بالماء والصابون مطوَّلًا، مُدعِّمًا ذلك بلسانه من الداخل)). ويلاحظ غوغول بصورة عرضيَّة أنَّ تشيتشيكوف مغرمٌ جدًّا بذقنه المدوَّرة تدويرًا تامًّا. ونحن نرى كيف يشدُّ تشيتشيكوف بطنه الممتلئة، وكيف يضع حمالتَيْ البنطال، وكيف يعقد ربطة العنق، ويرشُّ نفسه بالكولونيا. ويبدي بعض أبطال غوغول الآخرون الاهتمام ذاته بأنفسهم؛ فخليستاكوف يوافق على أنَّ الجوع خير من بيع الألبسة الأنيقة. ويهتمُّ بعض الخاطبين اهتمامًا خاصًّا ببدلاتهم في الخطبة ((من فضلك يا روحي نظفيني)) – يقول جيفاكين؛ وهو يدخل بيت آغافيا تيخونوفا. إنَّه يهتمُّ بإصرار ألَّا يكون على سترته أيُّ غبار.

تتجلَّى واحدة من خصائص الأمثلة التي سقناها في أنَّ الظاهرة السلبيَّة في بعض الأحيان لا توصف وصفًا كاملًا وحتَّى النهاية، لأنَّها بذلك لن تكون مضحكة. والكاتب الفنَّان يعرف بالبديهة هذا الحدَّ الفنيَّ. إنَّ وجود مثل هذا الحدِّ هو سمة مميزة لمجمل الأدب الروسيِّ في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومجمل أدب القرون السابقة (رابليه)، أمَّا في الفولكلور، فالوضع مختلف.

يمكن أنْ يكون الوجه الإنساني مضحكًا بصورٍ متنوعة جدًّا. ولا يمكن للعيون أنْ تكون مضحكة، فهي مرآة للروح البشريَّة. والعيون الشريرة بوصفها تعبيرًا عن روح شريرة، ليست مضحكة، وتثير شعورًا بالكراهيَّة. لكنَّ العيون الخبيثة الصغيرة؛ يمكن أنْ تكون مضحكة، لكنَّها ليست مضحكة بذاتها، بل بسبب غياب التعبير فيها. ويمكن للعيون ذوات النظرات المعسولة أنْ تكون مضحكة: ((كانت نظرات عينيه معسولة، حتَّى كادت أنْ تذوب، لذا يمكن أنْ تظنَّ أنَّهما ملطختان بزيت الخروع)) قصَّة تشيخوف: بدون مكان.

أمَّا الأنف بوصفه تعبيرًا عن وظيفة فيزيولوجيَّة صرف، فإنَّه غالبًا ما يغدو مادةً للضحك ووسيلة للإضحاك. يُقال في الكلام الشعبيِّ: ((امسح الأنف)) و((اترك الأنف)) و((أرِ الأنف))، وهذه التعابير تعني الخداع والاستغباء. ويستخدم غوغول هذه التعابير استخدامًا واسع النطاق. يسأل كوتشكاريف بودكالوسينَ عن جيفاكين في الخطبة: ((هل رأى مع أيِّ أنف طويل خرجَ [42] ؟)). ((أعترف، إنَّني لا أفهم لماذا صُمِّمَت أنوفنا بهذه الطريقة؟! ألكي تمسك النساء بها بمهارة؛ كما لو كنَّ يمسكن بمقبض إبريق الشاي؟ فإمَّا أنْ تكون أيديهن مخلوقة لفعل هذا، أو تكون أنوفنا لم تعد صالحة لأيِّ شيء…)). ((وعلى الرغم من حقيقة أنَّ أنف إيفان نيكيفوروفيتش كان إلى حدٍّ ما شبيهًا بالخوخة، فإنَّها (المقصودة آغافيا فيوديسييفنا) كانت تمسك به من هذا الأنف، وتقوده وراءها مثل الكلب)). إنَّ ذِكر أنف الإنسان يضعه في موقف مضحك يسبِّب السخرية. يقول حاكم المدينة عن نفسه: ((هييييه أنت يا ذا الأنف المفلطح!)). وتقول السيدة عن تشيتشيكوف: ((كان أنفه كريهًا جدًّا)). أمَّا مديح الأنف، فتجده في الخطبة:

((- وأيُّ نوع من الشعر لديه؟

– شعر جيد

– وماذا عن الأنف؟

– إييييه… الأنف جيد؛ كلُّ شيء في مكانه الطبيعيِّ)).

وضح ((إييييه)) هذه أن َّكوتشكاريف يكذب هنا، وأنَّ الأنف في حقيقة الأمر ليس جميلًا، لكنَّه مع ذلك ((في مكانه)). وتبدو هيئة الحارس في قصَّة المعطف كوميديَّة بفضل ذكر أنفه: ((لقد انحنى مدَّة دقيقة واحدة فقط، ليخرج من جزمته علبة العطوس، وينعش أنفه الذي كان قد تجمَّد ست مرات في حياته)). ويريد هوفمان الإسكافيُّ المخمور في شارع نيفسكي قطع أنف شيلر. وفي قصَّة الأنف فإنَّ هذه المسألة هي جوهر الموضوع برمَّته. فالأنف يمكن أنْ ينقلع من مكانه، ويمشي متنزهًا على طول شارع نيفسكي بوصفه مستشار دولة. لكنَّه في حقيقة الأمر ليس مستشار دولة، بل مجرد أنف.

العالَــمُ مثل الخدعة؛ فكما يمكن أن يكون أنف شخصٍ ما كوميديًّا، يمكن أن يتحوَّل إلى جانبه المأساويِّ. وعلى سبيل المثال تنتهي مذكرات مجنون بصرخة من روح بوبريشين البائس المجنون الذي غدت الحياة لديه مجرَّد عذاب، والذي ليس له مكان خاصٌّ على هذه الأرض والذي يُضْطَهَد فحسب. لكنَّ هذه الصرخة المأساوية تنتهي بضحكة المجنون الساخرةِ: ((هل تعلمون أنَّ البايَ الجزائريَّ لديه ثؤلول تحت أنفه؟)). والأساليب المستخدمة هنا هي نفسها التي تُستَخدم في حالات أخرى لخلق التأثير الكوميديِّ، لكنَّ الميزات الرئيسة الضروريَّة لخلق هذا التأثير لم تؤخذ بالحسبان هنا على نحوٍ متعمَّدٍ، وتحوَّل الضحك الغوغوليِّ أمامنا إلى جانبه المأساويِّ. وسيأتي الحديث عن الجانب المأساويَّ في الضحك الغوغوليِّ لاحقًا.

ونصادف ذكرَ الأنفِ لخلق الانطباعات الكوميديَّة أو الساخرة لدى الكتاب الروس الآخرين أقلَّ بكثير ممَّا رأيناه عند غوغول. يروي سالتيكوف-شيدرين في قصَّته قصَّة الكاتب الأولى من مجموعته مقالات الأقاليم كيف يزمع طبيب المقاطعة أنْ ((يعالج)) [43]  غريقًا، وكيف يدعو الرجال إليه لمساعدته، وفي الواقع، فهو لا يريد منهم سوى الحصول على تعويضٍ ماليٍّ: ((هيَّا، أنت، يا غريشكا! أمسك الميت من أنفه، حتَّى أتمكَّن من القطع هنا)). فيطلب منه الفلاح؛ وهو في حالة رعب أنْ يترك الرجل: ((حسنًا، اتركه، وسأعوضك عن ذلك)).

وفي الكتب الشعبيَّة [44] ، غالبًا ما تُصوَّر الشخصيَّات الهزليَّة المسمَّاة (بيتروشكاPetrushka ) [45]  بأنوف مفلطحة حمر. وفي مسرح العرائس، يمسك الكلبُ بتروشكا من أنفه على نحوٍ غير متوقَّع، وتكون هذه اللحظة خاتمة العرض.

وفي اللوحات الشعبيَّة التي تعود إلى مرحلة عدوان نابليون وطرده من البلاد، رُسم بأنف ضخم، وهو يجلس على كرسيٍّ، وفي أسفل اللوحة التوقيع الآتي:

الآن، ومع أنَّني عدت إلى المنزل عاريًا وحافيًا لكننِّي أحضرت بالفعل أضخم أنف

ونصادف الأنف الضخم كثيرًا جدًّا في اللوحات الشعبيَّة، وفي أغاني الرباعيَّات الشعبيَّة [46] :

لدي زوجة جميلة:
حمرةٌ تحت أنفها
ومخاطٌ على خدِّها [47] 

ويمكن للشارب واللحية؛ إذا كانا يحجبان الميزات الروحيَّة جميعها لملامح الوجه، أنْ يكونا أيضًا مادةً للسخرية والضحك. و((اللحية)) هي الاسم المستعار للسخرية من التجار وكبار الإقطاعيين. ((تقول آغافيا تيخونوفنا للخطَّابة عن العريس الذي يطلب يدها: لا، لا أريد، لا أريد!، إنَّ له لحية. عندما سيأكل سيسيل كلُّ شيء على لحيته. لا، لا، لا أريده)).

ويمكن أنْ يكون الفم مضحكًا إذا كان يعبِّر عن بعض المشاعر الخفيَّة اللئيمة، أو عندما يفقد الشخص نفسُه سلطتَه عليه.

المراجع

 

1 – J. Volkelt: System der Ästhetik, Bd I – IV, München, 1905 – 1914, p. 341, 343

2 – تُستخدم صفة بورجوازيٍّ وبورجوازيَّة في معظم الأدبيَّات في العهد السوفياتي للدلالة على كلِّ ما هو غربيٍّ، وكلِّ ما ينبغي انتقاده. ولا يخلو استخدام بروب لهذه الكلمة – شأنه في ذلك شأن غالبيَّة علماء مرحلته – من ممالأة للناشر الحكوميِّ الذي كان يتفرَّد بقرار النشر وحقوقه، وقد نرى قليلًا جدًّا من الممالأة في مختلف فصول الكتاب، ما عدا الفصل الأخير الذي تظهر فيه بطريقة واضحة. (المترجم)

3 – يُستخدم مصطلح poetics بطرائق متعددة في اللغة الروسيَّة، وفي غيرها، ويحمل معاني مختلفة، تجعله ملتبسًا، لا يكشف عن معناه غيرُ السياق في بعض الأحيان. أمَّا الترجمات العربيَّة المعروفة مثل فنِّ الشعر أو الشعريَّة فهي ليست أقلَّ التباسًا، لذا آثرت أن استخدم ((بويطيقا)) متَّبعًا التقاليد الاصطلاحيَّة العربيَّة القديمة. (المترجم)

4 – J. H. Kirchman: Ästhetik auf realistischer Grundlage, Bd I – II, Berlin, 1868, II, p. 46 – 47.

5 – J. Volkelt: System der Ästhetik…, I. p. 409 – 410.

6 – أوغوستين أوجين سكريب Augustin Eugène Scribe (1791 – 1851) مسرحيٌّ كوميديٌّ فرنسيٌّ. (المترجم)

7 – С. Б. Ликок: Юмористические рассказы, М. – Л., изд-во Художественная литература, 1967,стр. 196- س. ب. ليكوك: قصص قصيرة فكاهيَّة، منشورات الأدب الفنيِّ، موسكو – لينينغراد، 1967، ص196.

8 – أوسيب (يوسف) إِميلوفيتش ماندلشتام O. E. Mandelshtam (1891 – 1938) أديب من أهمِّ الأدباء الروس في القرن العشرين، كتب الأدب نثرًا وشعرًا، وكتب في علوم الأدب نظريَّةً ونقدًا، وترجم إلى الروسيَّة عددًا من الكتب. (المترجم)

9 – О. Е. Мандельштам :О характере гоголевского стиля, Гельсингфоре, 1902, стр. 53.- أو. إي. ماندِلشتام: حول طبيعة الأسلوب الغوغولي، منشورات غولسينغروف، 1902، ص53.

10 – E. Beyer: Deutsche Poetik. Theoretisch-praktisches Handbuch der deutscher Dichtkunst, Bd I – II, Stuttgart, 1882, I, p. 106.

11 – Ibid, p. 409.

12 – Н. Г. Чернышевский: Полное собрание сочинений в 15 -ти томах, М., Гос. Изд_во Художественная литература, 1929 _ 1953, II, стр. 187.- ن. غ. تشيرنيشيفسكي: الأعمال الكاملة في 18 مجلدًا، موسكو، منشورات الأدب الفنيِّ، 1929 – 1953، مج2، ص187.

13 – Р. Юренев: Советская кинокомедия, М., Наука, 1964, стр. 8.- ر. يورينييف: السينما الكوميديَّة السوفياتيَّة، موسكو، منشورات ناووكا، 1964، ص8.

14 – إي. ي. ريبين I. Ye. Repin (1844 – 1930): رسام ونحَّات أوكرانيٌّ، ينتمي إلى التيار الواقعيِّ. (المترجم)

15 – Ю. Борев: О комическом, М., Искусство, 1957, стр. 317.- يو. بورييف: عن الكوميديِّ، منشورات إيسكوستفو، موسكو، 1957، ص317.

16 – М. Каган: Лекции по марксистско-ленинской эстетике, ч. I – III, Л., Изд-во ЛГУ,1966, стр. 1, 4.- م. كاجان: محاضرات في علم الجمال الماركسيِّ اللينينيِّ، الأجزاء 1 – 3، لينينغراد، منشورات جامعة لينينغراد الحكوميَّة، 1966، ج1، ص1 و4.

17 – Ник. Гартман: Эстетика, М., Изд-во иностранной литератуы, 1958, стр. 607.- نيك. هارتمان: علم الجمال، موسكو، منشورات الأدب الأجنبيِّ، 1958، ص607.

18 – غِرهارد يوهان روبرت هاوبتمان Gerhart Johann Robert Hauptmann (1862 – 1946) مسرحيٌّ ألماني حائز على جائزة نوبل للآداب عام 1912. (المترجم)

19 – Б. и Ю. Соколовы: Сказки и песни Белозерского края, М., 1915, стр. 78.- ب. سوكولوف ويو. سوكولوف: حكايات إقليم بيلوزيرسك وأغانيه، موسكو، 1915، ص78.

20أونتر بريشيبييف عنوان قصَّة لتشيخوف باسم بطلها، وقد نُشِرت في صحيفة بيتربورغ عام 1895. (المترجم)

21 – قصَّة قصيرة من قصص تشيخوف. (المترجم)

22 – العقيد سكالازوب هو أحد شخصيَّات كوميديا أ. س. غريبويدوف مصيبة في العقل. (المترجم)

23 – أنطونيو ساليري 1750 – 1825 موسيقيٌّ إيطاليٌّ – نمساويٌّ كان موسيقارًا وقائد أوركسترا، ألَّف أربعين أوبرا وعشرات المؤلفات الموسيقيَّة الأخرى، وكان معلمًا مشهورًا؛ فقد تتلمذ على يديه بيتهوفين وشوبرت وغيرهما. انتشرت عنه خرافة مشاركته بقتل موزارت، وكان لبوشكين دورٌ في ذلك بسبب بعض قصصه. (المترجم)

24 – ترجِم رفعت سلام مسرحيَّة موزارت وسالييري ضمن كتاب الغجر وأعمال أخرى، وقد اعتمدت النصَّ كما ترجمه. انظر: ألكسندر بوشكين: الغجر وأعمال أخرى، ترجمة وتقديم رفعت سلام، منشورات الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2010، ص223 – 224. (المترجم)

25 – إيفان كوبالا: هو يوحنا المعمدان، أمَّا العيد المرتبط باسمه والذي يُحتَفَلُ به في السابع من تموز من كلِّ عام، فيحتوي على طقوس وثنيَّة؛ تحوَّلت إلى مسيحيَّة، متعلقة بالخصوبة والزواج. وممَّا تفعله الفتيات في هذا العيد أنَّ كلَّ واحدة تضع إكليلًا من الزهور في وسطه شمعة مشتعلة في ماء النهر أو البحيرة… ويتحدَّد مصيرها وفقًا لحركة الإكليل واشتعال الشمعة. (المترجم)

26 -Г. Бергсон: Смех в жизни и на сцене, Пер. Под ред. А. Е. Яновского, Спб., 1900, стр. 7.- هــ. برغسون: الضحك في الحياة وعلى خشبة المسرح، الترجمة بإشراف أ. إي. يانوفسكي، سانت بيتربورغ، 1900، ص7.

27 – Н. Г. Чернышевский, Полное собрание сочинений…, II, стр. 186.- ن. غ. تشيرنيشيفسكي: الأعمال الكاملة…، مج2، ص118.

28 – J. H. Kirchman: Ästhetik auf realistischer Grundlage…, II , 44.

29 – R. A. Zimmermann: Ästhetik, Bd I – II, Wien, 1858 – 1865, p. 28.

30 – أحد الأبطال في رواية الأنفس الميِّتة، لغوغول. (المترجم)

31 – G. Brandes: Ästhetische Studien, 1900, p. 278.

32 – Ник. Гартман: Эстетика…, стр. 610.- نيك. هارتمان: علم الجمال…، ص610.

33 – Г. Бергсон: Смех в жизни и на сцене…, стр. 51.- هـ. برغسون: الضحك في الحياة وعلى خشبة المسرح…، ص51.

34 – ف. أو. ر. رودين F. Au. R. Rodin(1840 – 1917) رسَّام ونحَّات فرنسيٌّ. (المترجم)

35 – إي. أ. غونتشاروف I. A. Goncharov (1812 – 1891) كاتب روسيٌّ روائيٌّ وناقد أدبيٌّ. (المترجم)

36 – أ. ن. آبوختين A. N. Aoukhtin (1840 – 1893) شاعرٌ روسيٌّ وحقوقيٌّ، جمعته علاقة حميمة بالموسيقار تشايكوفسكي. (المترجم)

37 – يايتشنيتسيا اسم علمٍ فنيٌّ معناه طبق البيض المقلي، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ غوغول كان يبذل الجهد والوقت الطويل في اختيار أسماء شخصيَّاته، وقد تعلَّم منه تشيخوف هذه التقنيَّة. إنَّنا لا نجد في أعمال هذين المبدعين الأسماءَ المعروفة والمتداولة لدى الشعب الروسيِّ، بل نجد أسماء غريبة على الروس أنفسهم قبل أن تكون غريبة على المتلقي العربيِّ الذي يقرأ نصوصهما مترجمة، لكنَّ المؤكَّد أنَّ أعمالهما قلَّما تحتوي على اسم واحدٍ غير ذات دلالة، وسوف يتحدَّث بروب عن هذا الأمر غير مرَّة. (المترجم)

38 – فينيرا ميديتسيتسكايا Venus Meditsitskaya تمثال بالحجم الكامل لآلهة الحبِّ يعود في أصله إلى القرن الأول قبل الميلاد. تبدو فينوس فيه عارية خائفة بعد خروجها من الماء والدلافين عند قدميها. (المترجم)

39 – كوزما بروتكوف Kozma Prutkov اسم مستعار استخدمه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ألكسي تولستوي والإخوة جيمشوجنيكوف، وقد نشروا تحت هذا الاسم عددًا من الأعمال الأدبيَّة المتنوعة كالقصص القصيرة والمسرحيَّات والأمثال وغير ذلك، وتميَّزت أعمالهم بالهزل والسخريَّة. (المترجم)

40 – القافية في السطر الثاني هي كلمة قبعة، لكن من يستمع إلى هذين السطرين أو يقرأهما، يتوقع أن يقرأ بدلًا من كلمة قبعة шляпа كلمة الاست جوبا жопа وهي كلمة عاميَّة؛ تتطلبها كلمة أوربا في البيت الأول. علمًا أنَّ لبعض القبعات في ذلك الزمن شكلًا يذكِّر بالاست. (المترجم)

41إيفان فيودروفيتش شبونكا عنوان قصَّة غير مكتملة من قصص غوغول تحمل اسم البطل. (المترجم)

42 – معنى التعبير: ((خرج، وقد علم شيئًا خفيًّا)). (المترجم)

43 – يستخدم المؤلِّف هنا فعلًا معناه يقطِّع إلى طبقات. (المترجم)

44 – المقصود بالكتب الشعبيَّة كتبٌ تُصنع عادة من لحاء أشجار البتولا، تُدوَّن فيها النصوص وترسم الرسوم، وهي كتب رخيصة الثمن، لذلك سمِّيت بالشعبيِّة. (المترجم)

45 – معنى كلمة بيتروشكا البقدونس، وهي هنا اسم علم يطلق على شخصيَّةٍ من شخصيَّات نوعٍ من أنواع مسرح الدُّمى الكوميديِّ الشعبيِّ الروسيِّ. ويكون بيتروشكا عادة في ثياب حمر وقبعة مدببة ذات ذيل. (المترجم)

46 – الرباعيَّة: مقطوعة شعريَّة قصيرة، تتشكَّل عادة من أربعة أبيات مقفَّاة، وهي تُؤدَّى أداء سريعًا، ويكون مضمونها عاطفيًّا أو اجتماعيًّا، ويكون بعضها فكاهيًّا أو ساخرًا. وتؤدَّى عادة وفق لحن محدَّدٍ. والـمستغرب أنَّ الشاهد الذي يسوقه بروب ليس رباعيَّة. (المترجم)

47 Народно-поэтическая сатира, Л., Советский писатель,1960, стр. 322.- بويطيقا الهجاء الشعبيِّ، لينينغراد، منشورات الكاتب السوفياتيِّ، 1960، ص322.

مشاركة: