محاولة في فهم جذور مشكلة الهوية الوطنية السورية

النقاش حول الهوية الوطنية الجامعة أو الهويات الثقافية المتنوعة في كل بلد نقاش حيوي بناء، وهو في الحالة السورية حاجة ملحة أيضا بسبب حجم التدمير الذي أتى على الدولة والمجتمع السوريين والذي طال الهوية أيضا. فالهوية الوطنية السورية اليوم في حاجة إلى إعادة ترميم، لكي يتاح بعد ذلك في خطوة لاحقة تطويرها نحو هوية مواطنة قائمة على أسس ديمقراطية راسخة.
وحين أقول إن الهوية بحاجة إلى إعادة ترميم، فأنا لا أدعو إلى تأسيس مفهوم لم يكن موجودًا قط، ولا اختراع هوية وانتماء لكتلة بشرية لم تعرف الانتماء أو أحد أشكاله من قبل. وللأسف فإن بعض النقاشات الدائرة حاليًا التي بدأت تثار بعد انتفاضة السوريين في العام 2011، تبدو كما لو أنها تتحدث عن شيء غير موجود أصلًا، وكأن هذه الشعوب التي عاشت على هذه الأرض منذ آلاف السنين حتى يوم انطلاق الثورة لم تكن تتمتع بأي شكل من أشكال الانتماء والهوية.
من المعلوم أن هذه الشعوب التي عاشت في منطقة سورية الكبرى يشهد لها التاريخ بمساهمات حضارية وبأشكال متقدمة وسباقة في المدنيّة، كما يشهد التاريخ بأن المنطقة حظيت بمركزية عالمية لكونها شكلت مركزًا لأول دولة عربية إسلامية كبرى، وبالتالي فإن من المبالغ فيه الكلام عن أن هذه الشعوب لم تعرف هوية جامعة عبر تاريخها، وكأن هذه الشعوب مرت خلال كل تلك المراحل بحالة فراغ هويّاتي، ولم تستطع عبر تاريخها أن تعرف نفسها بصيغة واضحة، ولا أن تنتج لنفسها تعريفات هوياتية مناسبة لطبيعة المراحل والأوضاع التي اجتازتها حتى يومنا هذا.
وللحديث عن هذا الأمر لا مفر من طرح سؤال الهوية على التاريخ، فكل الشعوب من دون استثناء طورت هويتها الحديثة دون انتزاعها من سياقها التاريخي، أي دون التنكّر للتاريخ، وفي بعض الدول التي تشكلت على أنقاض إمبراطوريات قديمة، كتركيا كمال أتاتورك التي أُجبرتها الأوضاع على (تعديل) هوية الأمة بما يناسب مصلحة بقاء نواة هذه الأمة، وبما يحول دون إعادة توحيد الجهود الاستعمارية لتفكيكها مجددًا، نراها اليوم، وهي تستعيد عافيتها واستقلالها تدريجيًا، تعيد الاحترام لهويتها التاريخية، دون التنكر لهويتها الأتاتوركية الحديثة (إن صح التعبير). أي تعيد وصل هويتها الحديثة بتاريخها مجددًا، فبناء الهوية عملية تراكمية لا ينبغي تحويلها لساحة صراع عدمي، وإنما لحالة نقد بناء مثمر وتغيير نحو الأفضل بالاستفادة من تجارب الماضي والحاضر. فمن غير الممكن بتصوري طرح نقاش الهوية بمعزل عن تاريخها، ونحن لسنا استثناء في هذه الحالة، ولسنا استثناء أيضًا في وجود جدل هوياتي، فجدل الهوية يكاد يكون هو القاعدة عند معظم الشعوب وليس الاستثناء.
حين أتحدث عن سياق تاريخي للهوية السورية فأنا غير معني بذلك الجدل العنصري الدائر حول من وصل أولًا إلى هذه الأرض، ومن كان قبل من، ومن أطلق هذه التسمية على المدينة قبل غيره. فهذا جدل منطلقه عنصري ومنتهاه حروب أهلية باردة أو ساخنة، بينما يساعدنا منطق التاريخ في فهم كيف تفاعلت هويات الشعوب في منطقة سورية الكبرى وكيف تغيرت مع أحداث التاريخ، وهل كانت هناك هوية سائدة تجمع هويات فرعية، أم كانت المنطقة تعيش فعلًا في حالة مديدة من الفراغ الهويّاتي؟


قبل الفتح العربي الإسلامي لبلاد الشام كانت المنطقة تشكل مساحة للصراع بين الإمبراطوريات العظمى آنذاك، ولم يتح لها الاستقرار الكافي ولا الحكم المركزي المناسب لتشكيل هوية إقليمية جامعة، بعد توسع دولة المسلمين، وتحديدًا مع فترة الحكم الأموي، أصبحت دمشق العاصمة السياسية للدولة، وهذا أعطى لبلاد الشام مركزية واستقرارًا كافيين لتتفاعل الهويات الشامية المحلية مع الإسلام، ما أنتج هوية جامعة عربية اللغة تمتاز بتأثير واضح للإسلام في ثقافة وعادات وتقاليد الشعوب التي عاشت في هذه المنطقة.
انتقلت مركزية الدولة بعد ذلك من بلاد الشام ولم تعد إليها بعد ذلك، وكانت الهوية الجامعة تتفاعل مع متغيرات الزمن لكن من دون حدوث تصدعات خطرة، وأعتقد أن وجود بلاد الشام بعد ذلك على الخط الأول في الجبهة أمام الحملات الصليبية، أدى إلى تعزيز الانتماء الأول لشعوب هذه المنطقة، فالحروب كما قد تؤدي إلى تصدع هوية المجتمعات إلا أنها قد تؤدي أيضًا إلى تأسيس عصبية أو إعادة تنبيه الوعي بالذات والهوية، بتصوري كان للحروب الصليبية دور هنا.
تحت الإدارة العثمانية مرت بلاد الشام بمراحل من التهميش، لكن لم يحصل فيها صراع هوياتي بمعنى الكلمة، فالدولة العثمانية دولة سلطانية سلطوية كانت تهدف في مراحل قوتها إلى تثبيت سلطانها على الأراضي التي ضمتها، دون أن تتدخل ثقافيًا وهوياتيًا في طبيعة المجتمعات المحلية التابعة لها، إلا فيما يخص مسألة الولاء والخضوع للدولة ودفع الالتزامات المالية، وكانت الإدارة العثمانية أقرب إلى الإدارة اللامركزية بشكل عام، يحكم فيها كل والٍ المناطق الخاضعة له مع صلاحيات واسعة تكاد تكون مطلقة، حيث كانت سورية الكبرى مقسمة إلى ولايات: حلب ودمشق وبيروت. وإلى متصرفيات هي: القدس وجبل لبنان ودير الزور، والظاهر أن الصراع الهوياتي نشأ في نهاية العهد العثماني مع ظهور النزعات القومية في وقت كان العالم كله يعيش اضطرابات من هذا النوع بين الحربين العالميتين، فكانت سياسة التتريك التي سعت إلى تغيير هوية المجتمعات المحلية في سورية الكبرى من خلال ضرب أهم مقوماتها، أي اللغة العربية، غير أن هذه الإدارة فشلت في ذلك، وما حدث آخر الأمر أن سقطت الإدارة نفسها وتأسست المملكة العربية السورية.
أميل إلى الاعتقاد بأنّ شعوب المنطقة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان حتى انهيار الدولة العثمانية، لم تكن تعيش في حالة فراغ هوياتي كما توحي بعض النقاشات الدائرة حاليًا، بل كان هناك حالة أقرب إلى التفاعل الهوياتي الطبيعي الذي لا يخلو من اضطرابات على هامش الصراعات السياسية والحروب الإقليمية، لكن بالمقابل لم يكن هناك أيضًا ما يسمى هوية وطنية سورية بالمعنى الحديث للكلمة، وكانت المملكة السورية أولى محاولات تشكيل هذه الهوية الوطنية على أسس حديثة، ومن الملاحظ أيضًا أن تبدل الإدارات الحاكمة في بلاد الشام منذ الفتح الإسلامي حتى تأسيس المملكة السورية لم يخلق إشكالية خطرة على مستوى التعريف العام لهوية سورية الكبرى، لكن أزمة الهوية الوطنية بدأت بتصوري في بدايات تأسيس هذه الوطنية الحديثة، أي بفعل الانتداب 1920 وما رافقه من تقسيمات طائفية ومناطقية وتغييرات ديموغرافية.
لا يعني كلامي هنا أنّ الإدارة العثمانية للولايات السورية التابعة لها كانت إدارة جيدة، بل أقصد أنّ العثمانيين لم يكونوا معنيين بفرض تغييرات فوقية على هوية الشعوب الخاضعة لهم، ولا حتى بفكرة التغيير نفسها أصلًا (لا سلبًا ولا إيجابًا)، بل كانت سياستهم محافظة جدًا خارج الإطار السلطوي، وهذه سياسة ليس من السهولة الحكم عليها أو إخضاعها للتقييم التاريخي، لأننا يمكن أن نجدها إيجابية في مراحل وسلبية في مراحل أخرى، ففي الوقت الذي يحسب لهذه الإدارة عدم تدخلها في ثقافة المجتمعات المحلية، يحسب عليها أيضًا أنها حافظت على البنى التقليدية المتخلفة، وعملت (بتخطيط أو من دون تخطيط) على استمرار وجود هذه البنى والعلاقات التقليدية، ما أدى لاحقًا إلى تصدعات مجتمعية ما نزال نعاني من آثارها حتى يومنا هذا بعد مرور قرن على انهيار الدولة العثمانية.
كانت الدولة العثمانية قد ورثت بلاد الشام بتقسيماتها الإدارية التي كان معمولًا بها خلال عصر المماليك، مع تقسيم المنطقة إلى ولايات لإحكام السيطرة عليها، وساهمت السياسة العثمانية الساعية إلى بسط سيطرة الدولة على كامل أراضيها في خلق إشكاليات جديدة كان لها تأثير كبير في الهوية الوطنية بعد ذلك. عمدت الإدارة العثمانية إلى حكم المناطق الخاضعة لها من خلال عائلات ووجهاء تربطهم بالسلطة شبكة مصالح ومحسوبيات، وفي سعيها لإحكام سيطرتها على الأرض عمدت السلطة إلى إصدار قانون الأراضي العثمانية للعام 1858وملحقاته، ثم أتبعته بقانون الطابو للعام 1861، وقد أدت قوانين الأراضي هذه إلى تركيز ملكية مساحات كبيرة من الأراضي في أيدي فئة صغيرة من المالكين، وأشار ريمون معلا إلى ذلك في مقالته في العدد الأول من مجلة رواق ميسلون: “وعلـى الرغـم مـن أن أغلبيـة الأراضـي كانـت ملـكًا أميريًـا أي لبيـت المـال، فقـد كان حـق اسـتثمارها يخـول لعـدد محـدود مـن العائـلات المدينيـة مـن علمـاء وأشـراف وآغـاوات (زعمـاء الحاميـات العسـكرية) بموجـب «سـند التصـرف» وهكـذا شـكلت المدينـة مركـز الحيـاة الاقتصاديـة والسياسـية، فـي حيـن بقـي الريـف بفلاحيـه يـرزح تحـت ضغـط الفقـر والعـوز”.
مع أن بعض التغييرات الديموغرافية حصلت في عهد العثمانيين بفعل الحروب الداخلية والخارجية التي كانت الدولة العثمانية طرفًا فيها، إلا أنه في أغلب الأحداث لم تتعمد الإدارة العثمانية إحداث تغييرات ديموغرافية إثنية في سورية الكبرى، كما لم تتعمد هذه الدولة خلال أغلب مراحلها ممارسة إكراهات ثقافية على سبيل أسلمة جزء من المجتمعات المحلية التي لا تدين بدين الدولة، غير أنّ سياساتها الاقتصادية في المئة سنة الأخيرة من عمرها أدت إلى خلق أزمة طبقية كبرى في المجتمع السوري، بين المدن والأرياف بدرجة أساسية، وهذه الأزمة ستبقى ملازمة للمجتمعات المحلية السورية حتى بعد تفكك الدولة العثمانية، ثم في أثناء فترة الانتداب، ثم سيكون لها تأثير كبير على مجمل الحراك السياسي بعد الاستقلال حتى انقلاب (أو ثورة) البعث، ثم خلال حكم عائلة الأسد، وهي أزمة شهدنا بعض تجلياتها أيضًا خلال الثورة السورية. نستطيع القول إن هذه الأزمة كانت حاضرة على الدوام وكانت من بين العقبات المعيقة لتأسيس المواطنة السورية.


أرى أن إعلان تأسيس المملكة العربية السورية كان يمثل خطوة مهمة على طريق بناء دولة المواطنة والهوية الوطنية السورية، ففي البداية يظهر لنا من خلال التاريخ أن تسمية المملكة بهذا الاسم لم يكن أمرًا صادمًا ومستهجنًا في المجتمعات المحلية لسورية الكبرى، فالتسمية جاءت منسجمة مع تاريخ المنطقة ومع هويتها السائدة، ولم تأتِ التسمية بالضرورة من منطلق تحدي الهويات الفرعية، ولا الهويات الفردية للأشخاص، ولا حتى متعارضًا مع التنوع الإثني الموجود في المنطقة، وكان دستور المملكة ينص على أنها دولة قومية لا مركزية ملكية دستورية مدنية يرأس مقاطعاتها حكام يعينهم الملك.
كما أن هذه المملكة التي أسسها الملك فيصل بن الحسين الهاشمي في الثامن من آذار 1920 جاءت على خلفية ثورة القبائل العربية في الحجاز ضد الحكم العثماني، ويفهم من ذلك أن الانتماء العربي جزء أصيل من تكوين هذا الكيان السياسي حديث النشوء، ولا سيما أن المجتمع نفسه قبل بفكرة أن يكون ملك هذه الدولة من عرب الحجاز، على الأقل لم يكن الأمر مستهجنًا ضمن سياقه التاريخي. في هذا السياق التاريخي لم تتشكل المملكة العربية السورية بمنطق الفرض والإكراه، كما أنها لم تعلن من دون تحضيرات كافية، وكتب ريمون معلولي عن البدايات التأسيسية للإعلان:
“خـلال الحـرب الأولى تواصـل فيصـل نجـل الشريـف حسـن سرًا مـع القومييـن السـوريين عـام 1915 في أثنـاء زيارتـه لدمشـق، في إطـار التحضيـرات للانخـراط في الحـرب إلى جانـب الإنكليـز والفرنسـين، وأجـرى اتفاقــات مــع أعضــاء الجمعيــة العربيــة الفتــاة وجمعيــة العهــد الذيــن شــجعوه عــلى التواصــل مــع الإنكليــز، وزودوه بــشروط التحالــف معهــم في الحــرب التــي عرفت ببروتوكــول دمشــق، وبموجبه كان على الإنكليــز الاعتــراف للعــرب باســتقلال الدولــة العربيــة بحدودهــا الطبيعية وإلغــاء نظــام الامتيــازات”.
وجرى إعلان المملكة بعد اجتماع المؤتمر السوري الكبير الذي تألف في حزيران عام 1919م، وضم نحو تسعين نائبًا من مختلف مناطق سورية الكبرى، وتمت المناداة بفيصل ملكًا، ودعا المؤتمر إلى إقامة وحدة عربية بين سورية والعراق، كما أكد على رفض فصل فلسطين ولبنان عن الكيان السوري، وقد لاقى الإعلان تأييدًا جماهيريًا وقتها، وكانت تجربة المؤتمر السوري أول تجربة برلمانية وطنية في تاريخ سورية تؤكد وحدة سورية الطبيعية واستقلاليتها أولًا، وعلى رفض تقسيمات سايكس بيكو ووعد بلفور، وعلى وحدة العرب أيضًا، وكان البرلمان يتمتع بقدر جيد جدًا من تمثيلية الطوائف والتيارات السياسية التي كانت موجودة على الساحة في ذلك الوقت.
وكان دستور عام 1920 أول دستور وطني للبلاد، وتم التأكيد بموجبه على هوية سورية الكبرى كالتالي: المملكة العربية السورية ملكية دستورية دين ملكها الإسلام، وسورية موحدة مع إدارة لا مركزية في المقاطعات، كما وضح معنى كونها عربية بشكل دقيق، حين أكّد على أن عروبتها تعني اعتماد اللغة العربية لغة رسمية للمملكة وهي لغة أغلبية السكان؛ أي عروبة اللغة الرسمية للدولة وليس بمعنى الأصل العربي للأعراق المختلفة الموجودة في البلد، بينما يطلق على كل مواطن في هذه المملكة وصف سوري (بمعنى جنسية المواطنين عربًا كانوا أم غير عرب). ولكن التجربة الدستورية الأولى لم يكتب لها الاستمرارية وتدخلت دول الاستعمار التقليدي لتقضي على إيجابيات المرحلة، ولتضع المنطقة أمام تحديات جديدة أكثر خطورة.


بدأت مرحلة الانتداب على سورية الكبرى بالتقسيم، وظهرت مع الوقت تيارات وأحزاب وكتل يبحث كل منها عن هوية سياسية لهذا الكيان الوليد ويسعى إلى توحيد أجزائه اعتمادًا على أشكال مختلفة من الأيديولوجيا، وقد جاء واقع التقسيم منسجمًا مع السياسات الاستعمارية التي لم تكن لتسمح بوجود نواة دولة أو أمة ذات هوية عربية، فالاستعمار لم يفتت دولة أممية (عثمانية) ليسمح بقيام دولة أممية (عربية) بثقافة إسلامية غالبة، ولا سيما أنّ سورية الكبرى ليست معزولة عن عمقها العربي في الجزيرة العربية والعراق كما أثبتت التجربة غير المكتملة للمملكة السورية.
لم تكن سياسة التقسيم التي بدأت فكرتها منذ العام 1916م قائمة على أسس منطقية يمكنها تحقيق الديمومة والاستقرار، ونتج عنها تقسيم سورية الكبرى إلى سورية صغرى (مقسمة بدورها إلى دويلات أيضًا) ولبنان وإمارة شرقي الأردن وفلسطين والتنازل عن مقاطعة اسكندرون ـــ هاتاي لتركيا، ولاقت رفضًا من الشعب آنذاك. وتعاملت سلطات الانتدابين البريطاني والفرنسي مع سورية الكبرى كما لو أنها كيان مفتعل تاريخيًا، لا جذور ولا هوية له، وقد أشار سمير التقي في مقالته المنشورة في العدد الأول من مجلة رواق ميسلون إلى تصادم هذا التقسيم منذ اليوم الأول مع بدهيات الجغرافيا السياسية والاقتصادية والتاريخية للمنطقة:
“لم تكـن سـورية يومًا كيانًـا مفتعلًا مـن الناحيـة التاريخيـة. بـل كانـت كيانًـا تفرضـه الجغرافيـا الاقتصاديـة والإثنيــة لســورية كــما ترســخت عمليـًـا. فلقــد اســتتبت علاقــات الاقتصــاد الســياسي والجغــرافي لســورية تاريخيًـا، حيـث كانـت الاسـكندرونة المينـاء الطبيعـي لحلـب، والمينـاء الطبيعـي لوسـط سـورية هـو طرابلـس، أمـا المينـاء الطبيعـي لدمشـق فقـد كان في حيفـا، في حـين لم تصعـد بيـروت إلا بعـد انقطـاع حيفـا، ولم تصعـد اللاذقيـة إلا بعـد الحـرب الأهليـة في لبنـان. كـما لم تكـن الأردن إلا امتـدادا للعمـق لدمشـق، كواحـة للعمـران بالنسـبة إلى الجزيـرة العربيـة، ولم تكـن الموصـل سـوى تـوأم وظيفـي لحلـب في الجغرافيـة الاقتصاديـة للطريـق نحــو الأستانة–إســطنبول، كما أشار التقي إلى الهاجس الذي كان محركًا لكل من السياسات الاستعمارية البريطانية والفرنسية في أثناء التقسيم؛ ففي حين طغى هاجس الاقتصاد والسياسة على سياسة بريطانيا، غلب منطق النفوذ الثقافي وضم أكبر قدر من الإثنيات المتعاطفة إلى مناطق النفوذ الفرنسي.
جاء الانتداب إلى سورية الكبرى بوصفها مملكة عربية سورية تشمل عدة ولايات، ثم تركها صغرى يثار داخلها صراع بين القوى السياسية حول الهوية الجامعة والانتماء السياسي لأحد الأحلاف والمعسكرات، ربما يساعدنا تقدير مدى عدوانية ولا منطقية هذا التقسيم الذي طبقته القوى الخارجية على سورية في استيعاب أسباب التخبط الذي جرى عند الأحزاب والتيارات السياسية بعد ذلك في تحديد الهوية السورية؛ بين هوية قومية أو هوية إسلامية أو هوية أممية، ويساعدنا في تفهّم الأسباب التي جعلت أغلب هذه التيارات، وعلى رأسها التيار القومي العربي، تأخذ بعض أشكال التعصب في هذه المنطقة بالذات، ويحملنا هذا أيضًا على عدم استساغة المقولات التبسيطية (أو التسخيفية) التي يطرحها بعض المثقفين، والتي تستهدف التيارات السياسية والجماهيرية التي تجد صعوبة في تقبل واقع التقسيم اللامنطقي المفروض استعماريًا، فمشكلتنا ليست في الحداثة وما صاحبها من مفاهيم كالدولة الوطنية الحديثة، بل مشكلتنا أنّ هذا التقسيم هو الذي منع نشوء الدولة الوطنية وجعلها من الماضي.
لم يكن تفتيت الكيان السوري مجرد اقتطاع جزء من الجغرافيا، بل كان أشبه بعملية فرض هوية جديدة على أمة، وقد لاحظت أنّ بعض الباحثين السوريين في موضوع الهوية الوطنية يؤكدون على التلازم ما بين بناء دولة المواطنة ودولة الأمة السورية، وأن عملية بناء المواطنة ما هي في الصميم إلا عملية بناء أمة، وقد كتب سائد شاهين في العدد الأول من المجلة:
“حتــى نســتطيع بنــاء أمــة لا بــد مــن فــك الرابــط الرغبــوي مــا بــن القومــي والوطنـي، وأن يقـر السـوريون بـأن سـورية وطنهـم النهائـي، وهـذا يرتـب الانطـلاق مـن الواقـع السـوري، بــكل مكوناتــه والاعتــراف بحقيقتــه وحقوقــه، في إطــار وحدتــه الجغرافيــة والبشريــة”
لكن هذه الجزئية التي يضعها شاهين شرطًا لبناء الوطنية السورية ليس من السهل تحققها في الحالة السورية، وربما ليس من المحق أيضًا السعي إليه والاقتصار عليه، فالانطلاق من الواقع السوري الحالي أمر يفرضه الواقع الحالي ولا بديل عنه، غير أنه من المخالف لمنطق التاريخ فك الرابط ما بين القومي والوطني في حالة سورية، لأن هذا الانفكاك يجعل الجغرافيا السورية مفتوحة على تقسيمات غير منتهية، ولأنه يفترض التعارض ما بين الوطني والقومي، في حين أنّ التأسيس لمواطنة سورية حقيقية لا يتعارض مع العمل لتحقيق التكامل الاقتصادي والثقافي والأمني والسياسي في هذه المنطقة بوصفها منطقة تواجه التحديات والأخطار ذاتها، وبوصفها منطقة كانت قائمة في الأصل على هذا الشكل من التكامل كما بين سمير التقي.
فسورية الصغرى ستبقى كيانًا من جزء أكبر تم التلاعب بمصيره ومستقبله (ليس فقط على مستوى رسم حدود مصطنعة)، ما يجعل من الصعوبة إخضاع هذه الدولة للوصفة المطبقة نفسها في دول أخرى كفرنسا وألمانيا على سبيل المثال، والتي تشكلت حدودها وقوميتها ومواطنتها حسب صيرورة تاريخية انطلاقًا من عواملها الذاتية لا القهرية المفروضة عليها من خارجها؛ وقد لاحظت في مقالة منير الخطيب المنشورة في العدد الأول للمجلة تجاهلًا للسياق التاريخي الذي تشكلت من خلاله الوطنية المطابقة للقومية في الحالة الفرنسية والألمانية، حين فسر مشكلة الوطنية السورية بعقدة الشعور بالنقص وعدم الاكتفاء الكياني، علمًا بأنّ المشكلة ليست عدم اكتفاء أو تعالٍ على نموذج من النماذج الوطنية السائدة، بل هي مشكلة اختلاف كلي وحقيقي في السياق التاريخي للهوية الوطنية السورية عن نظيرتها في فرنسا أو غيرها، وهذا الاختلاف قد يحتاج أدوات مغايرة في الدراسة والمقارنة وإطلاق الأحكام.
وهنا لا بد من التركيز على دور الانتداب الفرنسي في نشوء أزمة الأقليات الإثنية أيضًا، فالأكراد منهم من عاش على أرض سورية منذ فترات قديمة كسائر الإثنيات التي وجدت في المنطقة إن كان في عهد العثمانيين أو العهود السابقة عليه، وهؤلاء برز منهم شخصيات سياسية وقيادات سورية معروفة كحسني الزعيم وأديب الشيشكلي ومحمد العابد، ومنهم من دخل سورية خلال فترة الانتداب هربًا من قمع كمال أتاتورك لثورات الأقليات في أثناء سعيه إلى تأسيس تركيا الحديثة، سهّلت سلطة الانتداب للهاربين من قمع أتاتورك الدخول إلى سورية وشجعتهم على ذلك ومنحتهم الجنسية السورية، وهذا لا يمكن الاعتراض عليه فيما لو جاء من منطلق إنساني، لأن أرض سورية كانت عبر التاريخ أرضًا يتم اللجوء إليها لأسباب سياسية أو اقتصادية، لكن سياسة فرنسا هنا كانت استمرارًا لسياستها في إضعاف سورية الصغرى بعد اقتطاعها من سورية الكبرى، ثم التلاعب بمكوناتها بما يحول دون ظهور هوية جامعة، ولا سيما أنّ الانتداب شجع فكرة الانفصال والإدارة الذاتية في مناطق الأكراد والآشوريين منذ العام 1936م، ويبدو أن نظام الأسد استفاد من سياسة التلاعب هذه التي اعتمدتها سلطة الانتداب ليحكم سيطرته على المجتمع بعد ذلك.
لا أدعي هنا أن مناطق وجود الأقليات الإثنية في سورية لم تكن تعاني من مشكلة قبل الانتداب، ولا أدعي أيضًا أن استمرار المشكلة وتفاقمها بعد ذلك يجب أن تُحمّل مسؤوليته لسلطات الانتداب وحدها، فالمناطق التي كان يعيش فيها العرب والأكراد في سورية على سبيل المثال كانت تعاني من تداعيات غياب دولة القانون والمساواة والمواطنة، حالها كحال الوطن ككل، فالمشكلة إثنية في منطقة، وطائفية في منطقة أخرى، وطبقية كامنة في مجمل الصراعات السياسية والطائفية والإثنية، والملاحظ أنّ الحلول التي طرحت للمشكلة الإثنية، والتي كانت مقبولة من الفرنسيين ومعهم فئة من الأكراد والآشوريين، لاقت رفضًا من بقية التيارات السياسية ومن عموم السوريين.
لا شك في أن قسمًا من أكراد سورية كانوا ضحية سياسات الانتداب وما تلاها من تخبط سياسي في مرحلة الاستقلال، وكان التعداد السكاني في محافظة الحسكة بناء على المرسوم الجمهوري التشريعي رقم (93) في 23 أغسطس/آب 1962 الذي تقرر بموجبه إجراء إحصاء استثنائي للسكان الأكراد في منطقة الجزيرة لتحديد هوية المواطن وتحديد الأكراد الأجانب القادمين من تركيا والعراق وتصحيح السجلات المدنية. وجرى الإحصاء الاستثنائي في يوم واحد فقط وتم بموجبه تقسيم الأكراد في سورية إلى: أكراد متمتعين بالجنسية السورية، أكراد مجردين من الجنسية ومسجلين في القيود الرسمية على أنهم أجانب، أكراد مجّردين من الجنسية غير مقيدين في سجلات الأحوال المدنية الرسمية، وأطلق عليهم وصف مكتوم القيد وهو مصطلح إداري سوري يشير إلى عدم وجود الشخص المعني في السجلات الرسمية. خلّفت هذه الخطوة الخاطئة أزمة عربيةـ كردية ما نزال نعيش آثارها إلى اليوم، حيث إن المصادر الكردية الحالية تتحدث عن نحو 300 ألف شخص مجردين من الجنسية السورية نتيجة الإحصاء الظالم.
بعد أن استلم حزب البعث السلطة، لم يتم حل المشكلة، بل أصدر قرارات عدة زادت الأمر سوءًا، حيث صدرت مجموعة من مشاريع التعريب والتهجير من منطقة الجزيرة بإشراف حكومة يوسف زعين عام 1966، ثم أتبعها الأسد الأب بمشروع “الحزام العربي” في العام 1971، الذي تضمن نقل سكان عرب من المناطق التي سوف تغمرها مياة بحيرة الأسد، وإسكانهم في مناطق تحتوي تجمعات من أقليات كردية وآشورية، وهذا أدى إلى خلق مشكلة اقتصادية معيشية للسكان تضاف إلى مشكلة الحساسيات الإثنية في المنطقة.


ينبغي لنا هنا فك الارتباط بين بعض المفاهيم المختلف حولها ضمن النقاش الدائر اليوم حول هوية سورية، فمسألة عروبة الهوية السورية تاريخيًا لا تمت بصلة للأزمة القائمة على خلفية قرار الإحصاء الاستثنائي وما تلاه من قرارات ظالمة، فهذه السياسات هي من بين السياسات الخاطئة في ضوء غياب دولة القانون والمحاسبة. أما كون الهوية العربية هي الهوية السائدة فهذا ما لم يكن مختلفًا عليه من قبل، كما أنه لا يمكن أن يتم تحميل حزب البعث كل الأزمات السابقة، فلا حزب البعث ولا القوميين السوريين هم الذين قرروا الهوية العربية لسورية، ومن المعلوم أنّ اعتماد تسمية “الجمهورية العربية السورية” تم في العام 1962م، أي بعد الانفصال وقبل انقلاب البعث بأشهر وفق مرسوم وقّعت عليه شخصيات ليبرالية، فإقرار هذه التسمية كان منسجمًا مع السياق التاريخي لسورية، بقدر ما كانت تسمية “المملكة العربية السورية” تسمية منطقية في وقتها. وفي مادة نشرتها مجلة رواق ميسلون في عددها الأول للكاتب رايموند هينيبوش أشار الكاتب إلى وجود هوية عربية لسورية بعد الاستقلال مباشرة، لكونها لغة الأغلبية، ثم أشار إلى دور الصراعات السياسية وطبيعة الأليغارشية الليبرالية الحاكمة بعد الاستقلال في صعود حزب البعث واستحواذه على الساحة السياسية ممثلًا عن الطبقة الوسطى.
وفي الواقع لم يأت صعود حزب البعث من فراغ، فالتيار القومي في ذلك الوقت كان هو الأقدر على تمثيل الطوائف وصهرها في خطاب جامع (كرد على سياسة التقسيم الطائفي من رواسب عهد الانتداب) والأكثر اهتمامًا بإشكالية التفاوت بين الطبقات، وهي الإشكالية التي انتقلت من الحكم العثماني إلى فترة الانتداب، ثم إلى عهد الاستقلال دون أن تجد لها الليبرالية الحاكمة حلولًا مناسبة أو دون أن تكون على جدول أعمالها في الأصل.
حتى إن الإحصاء الاستثنائي في محافظ الحسكة عام 1962، لم يحدث في عهد البعث، بل صدر المرسوم 93 الذي أدى إلى تجريد نسبة من الأكراد من حقوقهم المدنية في عهد الرئيس ناظم القدسي، ووافقت عليه حكومة خالد العظم، أي أن الأمر لم يحصل تحت حكم البعث، بل خلال فترة حكومة الانفصال، أي في عهد الليبراليين لا في عهد القوميين، ولا أظن أن هؤلاء كانوا يتصرفون من منطلق قومي عنصري، بل أعتقد أنهم تصرفوا بدافع الخوف من النزعة الانفصالية التي زرعها الانتداب الفرنسي، وهنا ينبغي التريّث قليلًا قبل أن تحال مجمل السياسات على دوافع عنصرية وشوفينية، فالتفسير الخاطئ للظواهر قد لا تكون نتائجه أقل سوءًا من الظاهرة نفسها.
ولكن وإن كنت أبحث عن تفسير لتلك المخاوف بحسب أوضاعها، إلا أنه لا يوجد مبرر لترك هذه المشكلة من دون حل منذ تلك الفترة حتى يومنا هذا، كما لا يوجد ما يبرر لنظام الأسد عدم إيجاد حلول وطنية، ولا سيما أن فترة حكمه امتدت لأكثر من 40 عامًا، ولم يعان خلال فترة حكمه ما عانت منه الحكومات السابقة منذ مرحلة الاستقلال حتى العام 1970م.


فُرض شكل الدولة على سورية الكبرى من سلطات استعمارية قسمت المنطقة بما يخدم مصالحها الاستعمارية أولًا، وبما ينسجم مع دراسات استشراقية سابقة لمرحلة الاستعمار كانت ترى المنطقة عبارة عن مجموعات هوياتية إثنية وطائفية لا تحقق شرط الأمة، ولا يجمعها هوية عامة وغير قادرة على إقامة دولة الأمة، وكان لسياسة تقسيم المنطقة على أسس طائفية دور كبير في صعود دعوات القومية بوصفها إطارًا وطنيًا جامعًا، كما أدت سياسة تجنيس اللاجئين من تركيا ودعم النزعة الانفصالية إلى ظهور سياسات خاطئة بعد ذلك، بعضها مفهوم ضمن سياقه وبعضها الآخر متطرف.
إن غياب الهوية الوطنية الجامعة والتشتت الذي نعيشه اليوم، ما هو إلا حصيلة سياسات خاطئة متراكمة، ليس منذ أن استلم حافظ الأسد السلطة فقط، بل هنالك مشكلات لم توجد لها الحلول الملائمة منذ ما قبل الاستقلال أيضًا، غير أنّ الأوضاع التي أتيحت لنظام الأسد لم تكن متاحة لكل الذين جاؤوا قبله، ما يجعله يتحمل جزءًا مهمًا من المسؤولية التاريخية في إعاقة تشكيل الهوية الوطنية السورية. لم يتصرف نظام الأسد على أنه نظام وطني؛ وهنا لا أتحدث عن كونه نظامًا مستبدًا أو ديمقراطيًا، فتلك جزئية أخرى (لا تقل أهمية) لكنها تحتاج لدراسة ثقافية واجتماعية تاريخية أكثر شمولية، وإنما أقصد أنه حتى وفق منطقه السلطوي في الحكم لم تكن لديه إرادة بناء مجتمع موحد بهوية وطنية جامعة توافقية، بل نادى بهذه المبادئ على أنها شعارات فقط ثم أدار المجتمع عبر قنوات تقليدية تعود إلى عصور سابقة، معززًا الهويات العشائرية والطائفية والجهوية، فكان ينادي بالقومية العربية شعارًا ثم ينقض الأسس التي نهضت عليها دعوة القومية في البدايات كإطار جامع للطوائف، ونادى بالاشتراكية لكنه أدار البلد بواسطة شبكة من الوجهاء والفاسدين الجدد وأعاد تركيز الملكية بيد طغمة جديدة فهدم الأسس التي بنيت عليها الاشتراكية، وهذا أدى إلى نتائج خطرة:
أولها أنه جعل الناس تكفر بشعارات العروبة والقومية والوطنية، وتمارس حياتها وفق شبكة العلاقات الفاسدة القائمة على أسس جهوية ومناطقية وطائفية وعشائرية، وثانيها وهو الأهم؛ بمجرد أن رفع غطاء الأسدية عن المجتمع عاد هذا المجتمع إلى طبيعة العلاقات البدائية المتخلفة التي رسخها نظام الأسد على أسس ما دون وطنية، ولكن مع قدر مضاعف من الفوضى والبربرية.
أعتقد أن فهم السياق التاريخي لأزمة الهوية الوطنية السورية أمر لا بدّ منه لمن يعمل على مشروع وطني جامع، والمسألة هنا لا يمكن تقزيمها بالخلاف الدائر حول إضافة أو عدم إضافة وصف “العربية” لاسم “الجمهورية السورية”، فالاسم ليس هو من سيعبر عن هوية البلد، بل المشروع الوطني الداخلي الذي يتم العمل عليه، وأفهم أيضًا أن قراءة التاريخ مسألة قد لا تصل بنا إلى اتفاق، وقد لاحظت على سبيل المثال أنّ منير الخطيب (في بحثه المنشور في العدد الأول من المجلة قدم قراءة مغايرة تمامًا) فرأى في الحقبة المملوكية والعثمانية كل ما هو انحدار وتعفن وانهيار، بينما ربط كل ما فيه حداثة وتقدم وصدمة حضارية بالحقبة الكولينيالية.
كان الخطيب يريد أن يرد على منهج الحنين الشعبوي إلى ما قبل الكولينيالية، فوقع في نفس أخطاء الذين ينتقدهم، وبدا من كلامه الحنين (النخبوي ربما) المبالغ به للكولينيالية وللفترة الليبرالية العابرة، وأخشى أنه وقع في تحريف التاريخ حين ربط بين صدمة الحداثة والخروج من القبر (ممثلًا للحقبة العثمانية) التي صاحبت الاستعمار وبين سيرورة تشكل الهوية الوطنية السورية، مع العلم أن الانتداب هو الذي أنهى أول تجربة وطنية حديثة بعد خروج العثمانيين، فالانتداب عمليًا هو الذي حفر قبر أول تجربة وطنية حديثة في تاريخ سورية.
في رأيي، قدم منير الخطيب قراءته للتاريخ، لكنه خرج عن المنطق والموضوعية، فلم يكلّف نفسه عناء تحليل الظواهر التي انتقدها بقسوة، ولم يقدم تفسيرًا كافيًا عن أسباب انتشار التيارات القومية والأممية (عربية، إسلامية، شيوعية)، علمًا أن الظاهرتين القومية والشيوعية هما أيضًا من منجزات الحداثة الغربية، ولا شك أنّ لكل ظاهرة سياسية أبعاد أكثر بكثير من أن يتم تقزيمها بعامل المشاعر والحنين والشعبوية، كما سخّف مسألة التجزئة كما لو أنها حدث عابر في تاريخ الشعوب، وكما لو أنّ فرنسا مثلًا إذا تمت تجزئتها اليوم فالناس في كل قسم مجزّأ غدًا تتابع حياتها بهويات جديدة، دون أن تخرج تيارات وتثار نقاشات وتتشكل ولاءات وأفكار جديدة!
وفي معرض نقده لصعود الظاهرة القومية قدم الخطيب نقدًا أراه مسيئًا لفكرة الهوية الوطنية التي يدافع عنها، حين جعل من الجماهيرية التي رافقت ظهور الأحزاب القومية وصعود حزب البعث إلى السلطة، حالة “رعاعية معادية للتمدن وقيم الحياة العصرية”، ورأى فيها أيضًا “إعادة الأهمية للمجتمع التقليدي ما قبل الكولينيالي وإطلاق سيرورة ترييف المدن ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا”، ولا أرى في هذا الكلام إلا نكوصًا على فكرة الوطنية والمواطنة نفسها، فالمعروف أن الأحزاب القومية الاشتراكية اعتمدت قاعدة شعبية عريضة من أبناء الريف (أغلبية المجتمع السوري بما فيهم أغلبية الطوائف والإثنيات)، فكيف يمكن لمن يدعو لتأسيس هوية وطنية حديثة ودولة المساواة في الحقوق والواجبات ودولة العدالة الاجتماعية أن يقول عن حالة جماهيرية (لها أسبابها الموضوعية بكل تأكيد) بأنها حالة رعاعية معادية للتمدن وقيم الحياة العصرية، كشخص يعيش في فرنسا قبلة الحداثيين العرب، أعتقد أن كلامًا كهذا لو نُشر في صحف حكومية لكان بمنزلة الفضيحة.
أما الكلام عن ترييف المدن فهذا يحتاج إلى تحرير من كاتبه، لأنه إذا كان المقصود إحاطة دمشق بطغمة عسكرية ريفية، وانتشار مستعمرات أمنية جل الذين يخدمون فيها من مناطق ريفية، فهذه ظاهرة منحطّة ارتبطت بطبيعة النظام الذي أراد السوريون (أغلبيتهم ريفيون) إسقاطه، أما إذا كان الكلام عن نزوح ريفي باتجاه المدن، يرافقه ظهور العشوائيات في المدن، لأسباب اقتصادية متعلقة بفشل الدولة أو لأسباب خارجة عن إرادتها متعلقة بكوارث طبيعية أو جفاف، فهذه ظاهرة إنسانية من غير الوطني وغير الإنساني الحديث عن ترييف، كما لو كانت المدينة أعلى مرتبة من الريف، يفترض أنّ الريف يمثل شريان الحياة للمدن، ويفترض أنّ الريف يطعم المدينة ويوفر لها الإمكانات والمواد الأولية والراحة اللازمة لظهور نسبة الواحد بالمئة من النخبة في المجتمع، ويفترض أيضًا أنّ هذه النسبة التي ينتظرها الجميع سيقع على عاتقها مسؤولية النهوض بالجميع معًا (ريف ومدينة)، أما استعادة مفردات الخطاب الطبقي التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل الاستقلال حين كان المجتمع مقسمًا إلى وجهاء ورعاع، فهو بمنزلة خلطة سحرية لإعادة الظواهر الجماهيرية ذاتها بأشكال جديدة وربما بأشكال أكثر تدميرية من السابق، ولماذا يجب أن ننتظر من الجماهير تغيير سلوكها طالما ما تزال نخبها تفكر بالطريقة ذاتها؟!
لا يمكن، في تصوري، إعادة التأسيس لهوية وطنية ولمواطنة حديثة في سورية، من دون معالجة المشكلات الاجتماعية التي نتجت عنها الأزمات السياسية ثم الانهيار المجتمعي الذي نشاهده اليوم، وهذا يتطلب معالجة ذات خصوصية تتوافق مع خصوصية المجتمع السوري، وإن كان من الضروري جدًا الاستفادة والاقتباس والبحث عما هو مناسب لنا في تجارب المجتمعات الأخرى، إلا أنه من الخاطئ جدًا أيضًا تجاهل الفوارق والسياقات التاريخية لكل تجربة.

  • عماد العبار

    كاتب وباحث سوري في القضايا الإسلامية، مهتم بإعادة قراءة النص الديني في ضوء الواقع، وبقضايا التغيير الاجتماعي، ومسألة الحريّة واللاإكراه من منظور إسلامي، وقد كتب العديد من المقالات الفكريّة والسياسيّة المنشورة في صحف ومواقع إلكترونية عديدة. صدر له عن مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية كتاب بعنوان "قصة الحرية بين النص القرآني، والتطبيق التاريخي للإسلام". وهو أحد الأعضاء المؤسّسين في مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية. طبيب أسنان، تخرج في كلية طب الأسنان بجامعة فيكتور سيغالن بوردو 2، مقيم في فرنسا، من مواليد مدينة داريا 1978.

مشاركة: