حوار مع الباحثة الأميركية ريبيكا شريعة طالقاني

اسم الكتاب: Readings in Syrian Prison Literature: The Poetics of Human Rights
المؤلف: R. Shareah Taleghani
اللغة: الإنكليزية
الناشر: Syracuse University Press
تاريخ النشر: حزيران/ يونيو 2021
عدد الصفحات: 296
الرقم الدولي المعياري للكتاب (ISBN-10): 0815637063
الرقم الدولي المعياري للكتاب (ISBN-13): 978-0815637066

اسم الكتاب: Generations of Dissent: Intellectuals, Cultural Production, and the State in the Middle East and North Africa
المؤلف: Alexa Firat and R. Shareah Taleghani
اللغة: الإنكليزية
الناشر: Syracuse University Press
تاريخ النشر: تموز/ يوليو 2020
عدد الصفحات: 320
الرقم الدولي المعياري للكتاب (ISBN-10): 0815636695
الرقم الدولي المعياري للكتاب (ISBN-13): 9780815636694

تناولتِ في كتابك مصطلح (أدب السجون)، فعرضتِ تحدياتِ تصنيف الأجناس الأدبية، والاختلافات حول استخدامها إقليـميًّا، والتطور التاريخي، إلى جانب تداعيات عملية التصنيف على المحتوى المُدرَج تحت المصطلح. لكن تبقى هناك أسئلة عديدة لإيضاح المفهوم أكثر، مثلًا هل مكان الكتابة، أي السجن، هو المحدِّد الرئيس في عملية التصنيف؟ بمعنى آخر، إذا كتب أحدهم قصةً قصيرة لا علاقةَ لها بالسِّجن في أثناء اعتقاله، فهل تُدرج قصته في إطار أدب السجون؟ ما هي المقومات والخصائص التي يقوم عليها عملٌ كتابي ما ليُصنَّف ضمن نوع (أدب السجون)؟

تشير الأسئلة التي تطرحينها إلى الصعوبات المعلّقة التي لمّا تُحل بعد بشأن تعريف المصطلح بشكل موجز ودقيق. عندما أتيحت لي الفرصة للتحدث إلى بعض الكتّاب السوريين ممن كنت أقرأ أعمالهم، حاولت الاستفسار عن الطريقة التي يعرّفون بها أدب السجون، وفي ما إذا كانوا يصنِّفون كتاباتهم (جميعها أو بعضها) ضمن مؤلفات أدب السجون أم لا، أدركت أن لدى المؤلفين المختلفين تعريفات مختلفة جدًّا -عرّف بعضهم جميع ما كتبوه في السجن، بغض النظر عن المحتوى، على أنه يقع في خانة أدب السجون، بينما ذكر بعضهم الآخر أن أدب السجون هو نصوص تتعامل مع التجربة التي عاشوها في السجن، وجادل آخرون بأن أولئك الذين جرّبوا مرارة الاعتقال وويلاته، هم وحدهم القادرون على كتابة أدب السجون، وأبدى غيرهم تناقضًا بهذا الشأن أو رفضوا المصطلح برمّته. لذلك، حاولت استخدام التعريف الممكن الأوسع والأكثر شمولية (أدب السجون هو أي نص تمت كتابته عن، في، أو خلال تجربة الاعتقال)، كما حاولت الإشارة إلى أنّ أيَّ تعريف، بما في ذلك التعريف الأوسع الذي أستخدمه، هو إشكالي ويحتمل النقاش والجدل. أركّز في بحثي الخاص بصورة رئيسية، على أعمال كتبها المعتقلون عن الاعتقال- سواء أكانت أعمالًا روائية خيالية أو غير خيالية أو شعرية أو مسرحية.

صحيح أن أدب السجون في المنطقة العربية يكتسب أهميةً خاصَّة، لأن غيابَ الروايات البديلة غير الحكومية وعمليات الأرشفة التي توثِّق وضعَ السجون والمعتقلين، إلى جانب قمع المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، يمنح الروايات والقصة القصيرة والكتابات المسرحية والشِّعـر دورًا حاسِمًا في وصف أساليبِ وجوانبِ الاحتجاز في دول المنطقة. هل تبرِّر هذه الأهمية الاستثنائية لأدب السجون التساهل في المعايير الأدبية الإبداعية؟

أعتقد أن لأدب السجون أهمية خاصة في المنطقة العربية. لكن، بما أني أعيش وأعمل في الولايات المتحدة، أجد من الضرورة بمكان تذكير الأميركيين بأن أدب السجون هو أيضًا جزء من الأدب الأميركي، وأن انتهاكات حقوق الإنسان موجودة بالفعل، وترتكبها حكومة الولايات المتحدة (سواء في الوطن أو خارجه). لكن في العالم العربي (وأكثر عمومًا في الشرق الأوسط)، أرى أن مؤلفات أدب السجون قد تُنتج بالفعل سجلًا بديلًا (بلا شك كبديل للسرد الرسمي للدولة). اليوم، يوجد الكثير من توثيقات حقوق الإنسان التي قامت بها منظمات محلية، وهو أمر يختلف عمّا كان الحال عليه في الثمانينيات أو حتى في التسعينيات، لكن هذه المؤلفات الأدبية تشكِّل جزءًا من السجل التاريخي، إضافة إلى كونها أعمالًا إبداعية.
من الصعب بالنسبة إليَّ التفكير في النصوص من حيث المعايير الإبداعية، فهي تتحدث عن تسلسل هرمي معين أجده مزعجًا، وأنا لا أفكر في الأعمال الأدبية على هذا النحو. هذا جزء من الطريقة التي تدربت بها أكاديميًا أو طورتها فكريًا، كما تشكلت آرائي أيضًا من خلال المناقشات التي جرت في التسعينيات بشأن ما يُعدُّ (الشريعة الأدبية) الملائمة التي تُدرَّس في المدارس العامة ومؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة.
أجد أن مقاييس المعايير الإبداعية أو ما يُشكل (الأدب الجيد) ذاتية للغاية، وبالنسبة إليَّ شخصيًا، إما أن يخاطبني العمل الأدبي كقارئ أو لا (بالنسبة إليَّ، يبدو هذا جليًا بشكل خاص في الشعر). إما أن يثير ردة فعل عند القارئ أو لا يثير، وقد تتغير بمرور الوقت الطريقة التي يمكن بها لعمل أدبي ما إثارة ردة فعل لدى القارئ، ويمكن أن يكون للنصوص تأثير عميق في القارئ حتى تلك الأكثر بساطة أو تقليدية أو المنقوصة. كما أن لدي أيضًا مخاوف بشأن رفض النص، ولا سيّما النصّ الذي كتبه معتقل ما، لأنه لا يلبي المعايير الإبداعية لشخص ما.
ربما يرجع سبب هذا جزئيًا أيضًا إلى أنني أدرِّس الكتابة للطلاب الجامعيين، وعملت مع طلاب لاقوا صعوبة في التعبير عن أنفسهم في شكل مكتوب وإيجاد أصواتهم الخاصة، خاصة أولئك الذين ينتمون إلى الجيل الأول، وبعضهم يكتب بلغة ثانية أو ثالثة. الكتابة التي غالبًا ما يُنظر إليها على أنها غير متقنة من خلال معايير الإبداع التقليدي أو المعايير الأخرى يمكن أن يكون لها تأثير.

أشرتِ في كتابك إلى أنَّ بعض الأدباء والنقاد قد وجَدوا أنَّ مصطلحَ (أدب السجون) قد ساهم في المآل في تسويق السجون ومُمارساتها القمـعية، ما أدى إلى تزايد أعداد وأشكال السجون في نهاية المطاف، وإلى تطبيع وتسويق الانتهاكات الجسدية والنفسية بدرجة ما. ما رأيك في هذا النقد لأدب السجون؟

تحدثت في كتابي (أدب السجون السوري) عن نقد ديلان رودريغيزDylan Rodriquez لمصطلح كتابات السجون باللغة الإنكليزية. إن عمله وحججه مقنعة للغاية وقد أثرت في الطرائق التي أتعاطى بها بشأن مصطلح أدب السجون أو كتابات السجون، لكنه يتكلم بشكل خاص عن السياق الأميركي، ويصبّ تركيزه على المثقفين الراديكاليين، بمن فيهم أولئك الذين يرفضون مصطلح كتابات السجون أو كاتب السجون. لديه نقد دقيق جدًّا يتعلق بحقيقة أن كتابات السجون في الولايات المتحدة (الكتابات التي كتبها أولئك المعتقلون بغض النظر عن المحتوى) قد تم تسويقها للجمهور النيوليبرالي الذي لا يولي اهتمامًا حقيقيًا بتفكيك مجمع السجون الصناعي الأميركي، أو الذي، حتى وقت قريب جدًا، لم يكن لديه اهتمام بإصلاح السجون أو حركة إلغاء العبودية هنا في الولايات المتحدة. كانت هناك دراسات في الولايات المتحدة تُظهر كيف أن تصوير السجون الأميركية وتجربة السجناء الأميركيين في الأفلام والتلفزيون والأدب يؤدي في الواقع إلى اعتقاد الجمهور بأن مجمع السجون الصناعي الضخم والراسخ أمر ضروري.
لكن سياق وتاريخ مصطلح أدب السجون في العالم العربي (والشرق الأوسط بشكل عام) أمر مختلف تمامًا. فالمصطلح مرتبط بشكل خاص بالاعتقال الناجم عن أسباب سياسية صريحة، والطريقة التي يتم بها نشر وقراءة مثل هذه الأعمال الأدبية مختلفة. وهذا جزء من الأسباب التي دفعتني إلى القول في الكتاب إنه يمكن أن يكون هناك ضرورة سياسية مرتبطة بثقافات سياسية معارضة خلف استخدام مصطلح أدب السجون.

ساهم أدب السجون في تعرية وفهم وتحليل حياة السجن، وفي فضح أنظمة الطغيان، لكنه ساهم أيضًا في أسطرة السجن والسجين، ومن ثم هيمنة صورة البطل على المعتقل وسجنه ضمنها، ما يقلِّص جانبه الإنساني المليء بالضعف كأي إنسان عادي. ما رأيك؟

سأعترف، في البداية، أنني نشأت مع فكرة أن المعتقلين السياسيين (سواء أكانوا في إيران أو أي مكان آخر) أبطال، لأنهم غالبًا ما يواجهون أنظمة استبدادية قمعية راسخة للغاية مقابل تكلفة شخصية خطرة أو مميتة، في الوقت الذي يفضل فيه آخرون التزام الصمت بحجة الخوف أو يتواطؤون مع الأنظمة أو السلطة. ومع ذلك، بعد قراءة نقد ياسين الحاج صالح لـ “إيديولوجية السجن”، حاولت أن أفهم لماذا يُعدُّ تركيزي (وتركيز آخرين) على المعتقل بوصفه بطلًا أو بطلة أمرًا إشكاليًا- ليس بمعنى أنه من المحتمل أن يضفي طابعًا رومانسيًا على تجربة وحشية وغير إنسانية للغاية فحسب، بل لأنه يمكن أن يطمس الطبيعة البشرية العادية للسجناء وتجاربهم الإنسانية. أعتقد أن تكريم الطبيعة البشرية والإنسانية أكثر أهمية من تكريم البطولة، أو على الأقل هذا ما حاولت أن أفعله خلال قراءاتي للأعمال الأدبية الخاصة بالسجون.

لا تعترف السلطة بالمعتقل بوصفه إنسانًا، ومن ثمّ من الطبيعي ألّا تعترف بحقوقه كإنسان. على الرغم من الاعتقاد بأنّ الهدف من الاعتقال والتعذيب هو الحصول على المعلومات من المعتقل؛ إلّا أن الهدف الأساس هو تحطيم المعتقل وتفكيكه وتطويعه ليصبح متوافقًا مع صوت السلطة ونهجها ولو ظاهريًّا. فالاعتقال والتعذيب هما وسيلتا السلطة لجعل الإنسان كائنًا غير بشري، ومخلوقًا غير مُعترف بحقوقه وضعفه، لأنّ وحشية التعذيب تؤدّي إلى تقويض إحساس الفرد بنفسه، وبإنسانيته، وبواقعه أيضًا. هل ترين أن هدف أدب السجون السوري كان إظهار بطولات المعتقلين في مواجهة التعذيب أم أن عملية تصوير التعذيب في أدب السجون كانت طريقةً للاستشفاء من هذه التجربة القاسية، وتحدّيها، وتجاوزها؟

يعتمد الأمر على نوع العمل الأدبي الذي تقرؤه، لكني أميل إلى قراءة الهدف أكثر كما تقولين كـ “طريقة للتعافي من هذه التجربة القاسية، تحديها، وتجاوزها”، لكن مع ذلك، بالنسبة إليَّ كقارئ لم يتعرض للتعذيب الممنهج في السجون، لا أعتقد أن في وسعي القول ما إذا كان بالإمكان تخطّي مثل هذه التجربة نهائيًا، ما لم يكن هذا ما عبر عنه الكاتب تمامًا.

تناولت في كتابك كثيرًا من أعمال أدب السجون السوري، لكن نظرة سريعة إلى هذه الأعمال توحي بأن معظم الأعمال كتبها معتقلون “يساريون” أو مثقفون “يساريون” خارج المعتقل، على الرغم من أن عدد المعتقلين الإسلاميين كان دائمًا يفوق عدد المعتقلين من التيارات الأخرى. إلى ماذا يشير ذلك؟

نعم، أُقرُّ تمامًا بأن أغلبية النصوص التي أركِّز عليها كتبها معتقلون أو مثقفون يساريون، وهناك الكثير للكتابة عنه ودراسته بشأن نصوص كتبها معتقلون إسلاميون. يمكن بل ينبغي كتابة الكثير عن أعمال أدب السجون السورية عمومًا. حاولت الإشارة إلى ذلك في مقدمة الكتاب- عدد النصوص التي أكتب عنها قليل مقارنة بحجم الأعمال التي كُتبت، وهناك الكثير لقراءته ودراسته. أنا، نفسي، لدي مئات الصفحات من الملاحظات حول الأعمال التي لم تدخل في الكتاب.
يأتي جزء من التركيز على الكتّاب اليسارين من ميولي السياسية الشخصية، واهتمامي بالحركات اليسارية المعارضة- لا يقتصر الأمر على سوريا، بل في إيران وأمكنة أخرى أيضًا. لكن الأمر يتعلّق أيضًا برحلتي التي أدت إلى أن أقرأ وأدرس وأكتب عن هذه النصوص. في الصفّ الأول الذي التحقت به لدراسة أدب السجون في العالم العربي، كانت أغلبية النصوص التي قرأناها تقريبًا كتبها مؤلفون ذوو ميول يسارية. عندما بدأت بدراسة نصوص أخرى لمؤلفين سوريين، تصادف أن النصوص الأولى التي أخبروني عنها، كانت أيًا لمؤلفين يساريين. في البداية، كنت أركِّز على دراسة التقاطع بين التجربة الأدبية والاعتقال، لذلك، كنت أقرأ بصورة رئيسة أعمالًا روائية وشعرية بدلًا من قراءة المذكرات، وكانت النصوص التي درستها لكتّاب يساريين. لحسن الحظ، هناك باحثون آخرون ركزوا على كتابات المعتقلين الإسلاميين، بمن فيهم محمد قدالة Muhammad Kadalah الذي أنهى مؤخرًا أطروحته عن أدب السجون السورية.

افتتحتِ الفصل الثاني في كتابك بالحديث عن قصة كتابة أطفال درعا على جُدُر مدرستهم عباراتٍ مناهضةٍ للحكومة السورية في آذار/ مارس 2011، واعتقال أجهزة الأمن لهم، وتعذيبهم، وسجنهم، بوصفها لحظة انطلاق الثورة السورية، ومن ثم تحوّلها سريعًا إلى رمز لها. هل يمكن أن توضحي لنا كيف وجدتِ أنّ هذه القصة ترتبط بموضوعات الاعتراف والضعف والتعاطف التي وجدتها في الأدب السوري عن السجون والاعتقال؟

كتبتُ الفصل الأصلي (كجزء من أطروحتي) عن الضعف، الاعتراف، والتعاطف في القصص القصيرة لغسان جباعي وإبراهيم صموئيل في 2008-2009، وذلك قبل اندلاع الثورة السورية في 2011. كان من الأشياء التي برزت في بعض القصص لكلا المؤلفين التركيز على تأثير الاعتقال في عائلات المعتقلين، بمن فيهم وبشكل خاص الأطفال. ورد كذلك في قصصهما تركيز كبير على الكرامة الإنسانية، وغالبًا على الإنسانية المتصدعة أو المختلة في مواجهة الوحشية اللاإنسانية أو المنحرفة. أجد أن هذا التأكيد مهم ومؤثر. عندما عزمت على إعادة كتابة الفصل، كنت بالطبع قد قرأت وسمعت عن قصة الأطفال في درعا، لكن كانت أيضًا أزمة اللاجئين في أوجها، حيث تم نشر صورة آلان كردي في جميع وسائل الإعلام الدولية، وفي الوقت نفسه أيضًا، كنت أقرأ عن حقوق الأطفال، وأفكر في أنهم الفئة الأكثر ضعفًا ضمن الكائنات البشرية- بالطبع، كل البشر ضعفاء، لكن هناك مستوى آخر من الضعف/الهشاشة vulnerability يتعلق بالأطفال (وهو مفهوم مختلف عن الضعف weakness في اللغة الإنكليزية). كنت أفكر وأقرأ عن مفهوم ومعضلة الاعتراف في كلٍّ من الأدب وحقوق الإنسان مدة طويلة. وهكذا في الأساس، رأيت تأثير قصة أطفال درعا على أنها موازية لبعض أشكال الاعتراف في أدب السجون، وحاولت تضمين ذلك في الفصل. يبقى الاعتراف، بمستوياته المختلفة، أحد الجوانب الإشكالية لنظريات حقوق الإنسان وفي الواقع، في النظام الدولي لقانون حقوق الإنسان، وهو أيضًا جزءٌ متأصل في السرديات الأدبية. حاولت خلال قراءتي للقصص القصيرة ونصوص أخرى، إظهار كيف تعلِّمنا هذه الأعمال الأدبية عن معضلات الاعتراف (أو عدم الاعتراف) وكيف يرتبط الاعتراف بالضعف والعاطفة.

تحدثتِ في كتابك عن ضرورة جعل تجربة التعذيب قابلة للسرد والقراءة، ووجدتِ أن بعض الكتاب السوريين مثَّلوا تجربة التعذيب بطرائق تتجاوز نصوص تقارير حقوق الإنسان. واعتمادًا على أعمالهم، أكَّدتِ أولوية إبراز صوت المعتقل الذي يتعرّض للتعذيب بوصفه كائنًا ناطقًا، لكن هل يستطيع المعتقل دائمًا أن يعبِّر بوضوح عن آلامه وعذاباته، خصوصًا عندما لا يكون كاتبًا؟

في الفصل الذي تحدثتُ فيه عن التعذيب، حاولت دراسة كيفية وصف المؤلفين المختلفين لتجربة التعذيب، لكنني أعتقد أن الأمر الواضح من خلال بعض النصوص التي أكتب عنها، أنه ليس ممكنًا دائمًا التعبير عن الألم والمعاناة بشكل واضح تمامًا، أو بأيِّ شكلٍ على الإطلاق. يأتي جزء من تركيزي على المعتقل بوصفه كائنًا ناطقًا من انتقاداتي للطريقة التي ينظر بها الخطاب القانوني، بما في ذلك خطاب حقوق الإنسان، إلى البشر كأفراد أحاديي البعد لا ككائنات فاعلة. ليست الكتابة، وحتى التواصل اللفظي، الطريقة الوحيدة للتعبير عن الألم أو المعاناة، لكن أحد الأشياء التي تبرز في بعض أعمال أدب السجون التي قرأتها، أن المؤلفين يعبرون عن الرغبة في الحديث نيابةً عن أولئك الذين لا يملكون قدرة الحديث عن أنفسهم- إما أولئك الذين لا يملكون القدرة على التعبير عن أنفسهم، أو أولئك الذين أسكتهم النظام. لكن بعض النصوص الأدبية نفسها توضح أيضًا، أنه سيبقى هناك دائمًا ما لا يمكن التعبير عنه- سواءً أكان ذلك بسبب إسكات النظام لأحدهم بشكل دائم ووحشي، أو لأن التجربة نفسها لا يمكن التعبير عنها في شكل لفظي أو مكتوب.

هل نجح أدب السجون السوري في تصوير الوقت والمكان، أي في تصوير الجغرافيا الزمانية والمكانية للسجون؛ حجم الزنزانات وأوضاع السجن المزرية والأحكام التعسفية ومدة الاعتقال وزمن الحياة اليومية في السجن؟ وهل يمكن القول إن زمن السجن ومكانه قد أصبحا أمورًا مرئية وقابلة للقراءة لدى الجمهور في أدب السجون السوري؟

من خلال قراءاتي على الأقل، أودّ القول إن أعمال أدب السجون السورية نجحت في تصوير الجغرافيا الزمانية والمكانية للسجون، والتجربة الحياتية للاعتقال، إلى درجة أنه يمكن القيام بذلك بطريقة مكتوبة خلال الزمان والمكان اللذين تعرض فيهما الكتّاب للاعتقال. وبهذا المعنى، فقد جعلوا وقت ومكان الاعتقال مرئيين للعامة. لكن هناك فرق بين الأوصاف والصور المكتوبة للجغرافيا والتجربة الفعلية التي تتغير أو تتبدل بمرور الوقت. لم أركز على أعمال أدب السجون التي تمت كتابتها بعد 2011، لكن مقارنة نصوص من أجيال مختلفة، يمكن أن تشير إلى كيفية تغيّر الجغرافيا الحية للاعتقال في سوريا بمرور الوقت.

تناولت بعض أعمال أدب السجون السوري سجن تدمر العسكري بوصفه أسوأ سجن في سورية في الثمانينيات، فهل كانت كتابات أدب السجون حول تجارب المعتقلين في سجن تدمر كافية لتجعله مرئيَا بالنسبة إلى الجمهور العام أم أن لغتهم كانت عاجزة عن الوصف والتعبير إلى درجة أنهم لجأوا إلى نوع من النزعة السريالية لتمثيل أسوأ أشكال القسوة والمعاناة الإنسانية التي حدثت في السجن؟!

هناك كتابات عديدة عن تدمر، ومن ضمن العديد مما قرأت، يذكر المؤلفون صراحة أنهم كتبوا عن تجاربهم كي يكشفوا عن الفظائع وأشكال الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري هناك. بالتأكيد، كُتب ما يكفي عن تدمر لجعل أكثر الفظائع وحشية مرئيةً للجمهور على نطاق واسع، لكنني أعتقد أن اللجوء إلى السريالية هو إشارة إلى أنه على الرغم من كل ما كُتب عن سجن تدمر، فلا تزال هناك تجارب لم يُفصح عنها بعد بشكل تام، أو ربما لا يمكن الإفصاح عنها لأن التجربة الحية لا يمكن التعبير عنها بطريقة مكتوبة بشكل كامل. وإن حقيقة أن تلك التجارب لا يمكن الكشف عنها بصورة كاملة لا تنتقص من قيمة محاولات التعبير عنها، بما في ذلك التعبير عنها في شكل سريالي. ولكن أيضًا، يستمرّ نشر الكتابات عن تدمر ولها تأثير، حتى بعد سنوات من اعتقال المؤلفين، ولا تزال تضيف إلى تاريخ تجارب المعتقلين هناك- وتضيف مزيدًا من وضوح الرؤية حول سجن تدمر. على سبيل المثال، قرر براء السراج نشر مذكراته في عُقب الثورة السورية، واستمرّ ظهور المزيد والمزيد من النصوص.

ذكرتِ في أحد فصول الكتاب أن بعض مؤلفات أدب السجون تتماهى مع الكتابة عن المنفى، وأشرت إلى أن معاناة المعتقل تتشابه مع معاناة المنفي في أمورٍ عديدةٍ، ربما باستثناء التعذيب الجسدي المباشر الذي يتعرّض له المعتقل على أيدي جلّاديه. لكن هل تتشابه فعلًا موضوعات أدب السجون مع موضوعات أدب المنفى؟

أعتقد أن هناك أوجه تشابه بين تجربتي المنفى والاعتقال، على الرغم من الاختلاف بينهما الذي يظهر في تعليقك عن التعذيب، لكن نظريًا أو افتراضًا، بمجرد أن تطأ أرجل المرء الخارج، لا يتعيّن على المنفي مواجهة عنف الدولة المباشر بالمستوى نفسه الذي يعانيه المعتقل، ولديه أيضًا حرية أوسع بالتنقل (لكن كتوضيح لذلك، هناك أيضًا حالات واضحة لعمليات اغتيال خارج الحدود الإقليمية للمنفيين نفذتها الدول – أنا أفكر بشكل خاص في إيران خلال نظامي كلٍّ من الشاه وجمهورية إيران الإسلامية). على الرغم من أنني لا أناقش هذا في الكتاب، يمكن للمرء أن يفكر في كلٍّ من الاعتقال والمنفى على أنهما هجرات قسرية (إذا عُرِّفت الهجرة القسرية بشكل عام وشامل)، وينظر بعض الباحثين وناشطي السجون إلى الاعتقال على أنه تهجير قسري- على الرغم من أنه في حالة الاعتقال، يكون فعل التهجير القسري ضمن حدود دولة قومية معينة. لكنني أعتقد أن هناك موضوعات عاطفية متوازية- بما في ذلك التعبير عن الشعور بالغربة أو الاغتراب.

بشكل عام، تركِّز الكثير من أبحاثك على أشكال الإنتاج الثقافي المعارض وجمالياتها، وكيفية قيام المثقفين المعارضين بتدخلات إبداعية ضد أنظمة السلطة، لكنك في هذا الكتاب ركّزتِ أكثر على ارتباط أشكال الإنتاج الثقافي بخطاب حقوق الإنسان، فهل يمكن اعتبار التزام العمل الثقافي قيمَ ومبادئ حقوق الإنسان دلالة على القيمة الإيجابية لهذا العمل، خصوصًا في ظل ارتباط كثير من المثقفين العرب بعجلة السلطات الاستبدادية؟

أودّ أن أقول إن هناك أعمالًا من الإنتاج الثقافي، من ضمنها الأدب، تساهم في، وتتحدى أيضًا، مفاهيمنا عن حقوق الإنسان. أعني بتحدي تصورنا لحقوق الإنسان أن مثل هذه الأعمال يمكن أن تساعدنا في إعادة التفكير في كيفية فهمنا لحقوق الإنسان، ولمكانة الإنسان والإنسانية أيضًا، وما الذي يشكل كرامة الإنسان في مجال حقوق الإنسان. أنا أرى ذلك جانبًا إيجابيًا أو منتجًا لعمل أدبي معين. لست واثقة من طريقة ردي على الجزء الأخير من السؤال- هناك أولئك المثقفون والكتاب المتواطئون مع النظم الاستبدادية أو الداعمين لها أو المرتبطين بها. وأنا شخصيًا لا أقرأ أعمالهم بالإضاءة نفسها بالضبط في ما يتعلق بحقوق الإنسان- لقد كان تركيزي أكثر على الإنتاج الثقافي لأولئك المعارضين لنظام استبدادي معين. جادل بعض الباحثين في الدراسات السورية بأن أعمال المنتجين الثقافيين الذين حظوا برعاية الدولة تقدِّم انتقادات للنظام، ومن المحتمل أن يشمل ذلك انتقادات لانتهاكات حقوق الإنسان- ولكن مرة أخرى هذا ليس ما ركزت عليه حقًا في دراستي ومنحتي.

دعوت في كتابك إلى نقلة نوعية في فهم ماهية حقوق الإنسان، وإلى تحديث خطاب حقوق الإنسان، ونقد الخطاب الغربي المتناقض حول حقوق الإنسان، وإلى ضرورة إرغام منظمات حقوق الإنسان على الاعتراف بأهمية مشاركة المعتقلين والمعرَّضين للمظالم في صوغ تقاريرها، لأن تقارير حقوق الإنسان عندما تستثني أصوات الناجين والضحايا، فإنها تسهل على الحكومات أن تواصل انتهاكاتها، وأشرت في هذا السياق إلى ما يعلِّمنا إياه أدب السجون السورية عن الإنسانية وحقوق الإنسان. هل ترين أن هذا ممكن من دون بناء نظام قانوني فاعل على مستوى الأمم المتحدة يستطيع أن يتدخل ضدّ الدول القومية التي كانت، كما قلتِ أيضًا، قادرة على ارتكاب أكثر انتهاكات حقوق الإنسان فظاعة؟

غالبًا ما يُقال إن مفهوم حقوق الإنسان كان يُنظر إليه على أنه طموح وسيظل طموحًا. هناك أيضًا انتقادات صحيحة لطريقة تصوّر النظام الدولي لحقوق الإنسان (أحد تلك الانتقادات أن النظام كان، ولا يزال، متمركزًا حول البلدان الأوروبية) والطريقة المتفاوتة التي طُبق بها هذا النظام حول العالم منذ 1948. جزء من عيوب هذا النظام هو أن الدول القومية هي الحامي المفترض لحقوق الإنسان، في حين أن هذه الدول نفسها يمكن أن تكون أيضًا أكثر مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان فظاعة. من الواضح أيضًا أن تطبيق قانون حقوق الإنسان الدولي (بما في ذلك، سواء طُبِّق في حالة معينة أم لم يُطبَّق) يمكن أن تتلاعب به أو تحبطه أكثر الدول القومية قوة مثل الولايات المتحدة، روسيا، والصين.
هناك قائمة طويلة من الانتقادات يمكن أن تطال النظام الدولي لحقوق الإنسان، وأعتقد من المهم أن نكون مدركين لها (خاصة في ما يتعلق بدور الولايات المتحدة)، لكن هذا هو النظام الموجود لدينا حاليًا. وهناك أيضًا من لا يزالون حول العالم، بمن فيهم المدافعون عن حقوق الإنسان، يلجؤون إلى هذا النظام ويستخدمونه لطلب العدالة في ما يتعلّق بانتهاكات حقوق الإنسان. وتنجح مساعيهم في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى لا تنجح على الرغم من توافر الأدلة الواضحة على الفظائع الوحشية والممارسات الجائرة، وعلى الرغم من الجهد الهائل لناشطي حقوق الإنسان المحليين. إن لإخفاقات هذا النظام عواقب وخيمة، لكن لا يزال النظام الوحيد الذي لدينا. لا أعرف ما إذا كان يمكن بناء جهاز أو نظام أكثر فاعلية للتدخل من خلال الأمم المتحدة، لأن الأمم المتحدة نفسها تعتبر نظامًا للدول القومية. لا يزال إصلاح أو إعادة بناء نظام حقوق الإنسان من خلال الأمم المتحدة طموحًا. أعتقد أن هناك إمكانية لإعادة صياغة حقوق الإنسان وبناء نظام بديل لحقوق الإنسان على مستوى القاعدة الشعبية.

إنّ أيَّ تعريف لأدب السجون، بما في ذلك التعريف الأوسع الذي أستخدمه، هو إشكالي ويحتمل النقاش والجدل

هذه المؤلفات الأدبية عن السجون والاعتقالات تشكِّل جزءًا من السجل التاريخي، إضافة إلى كونها أعمالًا إبداعية

يأتي جزء من تركيزي على المعتقل بوصفه كائنًا ناطقًا من انتقاداتي للطريقة التي ينظر بها الخطاب القانوني، بما في ذلك خطاب حقوق الإنسان، إلى البشر كأفراد أحاديي البعد لا ككائنات فاعلة

على الرغم من كل ما كُتب عن سجن تدمر، فلا تزال هناك تجارب لم يُفصح عنها بعد بشكل تام، أو ربما لا يمكن الإفصاح عنها لأن التجربة الحية لا يمكن التعبير عنها بطريقة مكتوبة بشكل كامل

هناك أعمال ثقافية سورية يمكن أن تساعدنا في إعادة التفكير في كيفية فهمنا لحقوق الإنسان، ولمكانة الإنسان والإنسانية أيضًا، وما الذي يشكل كرامة الإنسان في مجال حقوق الإنسان

 ريبيكا شريعة طالقاني

ريبيكا شريعة طالقاني

أستاذة مساعدة ومديرة دراسات الشرق الأوسط في كوينـز كوليدج، جامعة مدينة نيويورك. نشرتْ مقالاتٍ ومراجعاتٍ وترجماتٍ في: المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط - مجلة الأدب العربي - مجلة الشرق الأوسط للثقافة والاتصال - تـقرير الشرق الأوسط - مجلة كلمات بلا حدود. وتعمل حاليًا محرِّرة مشاركة في CLC Web الأدب المقارن والثـقافة. وهي مُحرِّرة مشاركة (مع أليكسا فيرات) في كتاب «أجيال المعارضة: المثـقفون والإنتاج الثقافي والدولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» (مطبعة جامعة سيراكيوز، ٢٠٢٠).

عرض مقالات الكاتب

مشاركة: