ورقة خلفية: الوطن المنفي

هيئة التحرير

لم يكن التحوّل نحو الثقافة في القرن العشرين تحوّلًا اعتباطيًا أو منفصلًا عن التحوّلات السياسية والاجتماعية الكبرى الأخرى، فقد أدّى الانعطاف الكبير نحو الثقافة، ما سُمّي بالتحوّل الثقافي Cultural Turn، إلى إحلال الثقافة محلّ الطبيعة في النقاشات المعاصرة، فكل ما كان يُنسب إلى الطبيعة أصبح يُنسب إلى الثقافة. كان لهذا التحول أسباب علمية وسياسية واجتماعية عدّة. فقد نفى العلم باكتشافاته الحديثة وجود فروق في القدرات الذهنية على أساس العِرق أو الجنس، ووجد أن الاختلافات بين الأفراد والجماعات هي أميَل إلى أن تكون اختلافات ثقافية. أما الأسباب الاجتماعية والسياسية، فنجد آثارها في اندلاع الثورات المختلفة حول العالم. فمن جهة، نجد احتجاجات الأميركيين الأفارقة الذين خرجوا لمقاومة التمييز والاستعباد المُمارَس باسم التفوّق “الطبيعي” للإنسان الأبيض. وهناك أيضًا الحركات النسوية التي انطلقت في أماكن عدّة مطالبةً بالمساواة وبإسقاط النظام الذكوري الذي يمارِس هو الآخر هيمنته باسم التفوق “الطبيعي” لجنس الذكر. إضافة إلى انتشار حركات الاستقلال والتحرّر في البلدان العربية المستعمَرة وأفريقيا وآسيا. شكَّل هذا التحوّل بيئة خصبة لولادة الهويات والخصوصيّات الثقافية وتكاثرها وتشابكها. لم تعد الهوية الثقافية مفهومًا نقيًا رتيبًا مغلقًا وأحاديّ البعد كما كان في السابق. ولم يعد في الإمكان قصر موقعة الذات على خصوصيات عذراء أو مكوّنات هويّاتية نقية (كاللغة أو الجنس أو الإثنية). أصبحت الهوية الثقافية اليوم مركّبًا مؤلَّفًا من عناصر ثقافية عدّة. وبسبب تكاثر الهويات بشكل كبير، تداخلت هويات وتشابكت فيما بينها، وانشطرت هويات أخرى وتنافرت فيما بينها. ففي عصر صناعة الهويات الذي نشهده اليوم، يعيش المرء حالة صراع هويّاتي مستمرّة، حيث تصطدم أنظمة توليد المعاني والأنظمة الخطابية، وتنتج ذواتًا بينيّة هجينة غير متآلفة ثقافيًا.

عند هذه النقطة، تبرز أهمية الترجمة الثقافية التي تسعى إلى خلخلة الهويات الثقافية التي تزعم التماسك والتجانس والنقاء، واختراق المعطيات الثقافية الساكنة، وكسر الدوائر المغلقة. تبرز أهمّيتها في المستوى الأول ضمن اللغة الواحدة حسب تقسيم جاكوبسون Roman Jakobson، بوصفها أداةً للتأليف بين الهويات الثقافية، وفي المستوى الثاني بين لغتين أو أكثر، بوصفها فضاءً لإنتاج ذوات هجينة ثقافيًا. غير أنّ فضاء الترجمة الثقافية مكتنَف بإشكالات عدّة تفرضها، من جهة، “طبيعة” الهويات الثقافية التي لا تني تنطوي على تناقضات جوهرية ذاتية، ومن جهة أخرى، علاقة الهويات الثقافية بعضها ببعض التي تجعل من الفضاء عينه ميدانًا للصراع وأفقًا رحبًا لعلاقات القوة. فبقدر ما تكون الترجمة أداة للتواصل والتبادل والتلاقح، تكون ميدانًا للسيطرة والهيمنة والإخضاع. ولطالما استُخدمت الترجمة أداة للسيطرة الكولونيالية، ولولا جهود المفكرين والمترجمين في إماطة اللثام عن طرائق توظيف الترجمة لغايات الهيمنة الثقافية وإبراز علاقات القوة الكامنة في النص والتي من خلالها تسيطر ثقافة قوية معيّنة على ثقافة أخرى أضعف منها، لاستمر التأثير الكولونيالي لهذه الترجمات وحافظت على قيمتها.

في هذا السّياق، في تواشج الكيانات والهويات الثقافية المتعدّدة، وتداخل الفروع المعرفية المختلفة، وفي خطر استخدام الترجمة وسيلةً للسيطرة والقمع، تُطرح أسئلة كثيرة؛ علام تقوم الترجمة بوصفها وسيلة لمقاومة الهيمنة الثقافية وأداة للتغيير الاجتماعي؟ ما الجهود التي ينبغي للمترجم أن يبذلها في مواجهة خطر التشويه والابتلاع، أي حين تبتلع اللغات الكبرى لغات صغرى، ما أسماه لوي-جان كالفيه (Louis-Jean Calvet) الالتهام؟

تقتضي مناقشة موضوعات الترجمة الثقافية وقوفًا لازمًا على مفهوم الهويات الثقافية ومفهوم الثقافة الذي خضع لتغيرات وتطورات كثيرة عبر التاريخ، وتحوَّل إلى مفهوم أنثروبولوجي ينطوي على كثير من الموضوعات المختلفة. فبسبب إحلال الثقافة محلّ الطبيعة، سادت الاختزالية الثقافية في الفكر المعاصر ورُدَّت الأمور والقضايا كلّها إلى الثقافة. وبسبب إعلاء الثقافة على السياسة، أصبحت الثقافة أشدّ خطورة من السياسة في حالتها الصرفة، ما أتاح للسياسة أن ترتدي الزيّ الثقافي وأن تنجز أجنداتها باسم الثقافة. وإذا قبلنا بأن الهوية متخيَّلة في عمقها، كما يرى بندكت أندرسون (Benedict Anderson)، فكيف تُبنى هذه الهوية المتخيَّلة ثقافيًّا؟ ما تحدّيات بناء هذه الهوية؟ ما تأثير الانتماءات الفرعية على بناء هذه الهوية؟ كيف تُشرِّع هذه الهوية الثقافية نفسها عاطفيًا ووجدانيًا؟ وكيف تتحول هذه الهوية الثقافية إلى أيديولوجيا وسياسة ثقافية، ما يُسمى بسياسات الهوية؟ ما الفرق بين الهوية الثقافية المتخيَّلة والأيديولوجيا الثقافية السياسية العارفة بذاتها والمدركة لأهدافها؟

وبالعودة إلى الترجمة الثقافية، وللخروج من دائرة المفاهيم الثنائية التي ظلّت الترجمة حبيسة في داخلها لفترة طويلة (أمانة/ خيانة)، (الإمكان/ الاستحالة)، (نظري/ تطبيقي)، (توطيني/ تغريبي)، والتي أثبتت عقمها وعدم واقعيتها، قد نسأل، هل يُمكن صياغة نظريات واستراتيجيات ترجمة قادرة على ردم الهوّة بين هذه الثنائيات؟ وما الذي يحدّد هذه الاستراتيجيات؟ وما علاقة موقف المترجم بهذه الاستراتيجيات؟ وما هو موقف المترجم؟ وهل يُعرب المترجم عن موقفه من كل ترجمة في كل ترجمة أم أن هناك موقفًا عامًّا يتبنّاه المترجم مسبقًا؟ وهل يتسنى للقارئ معرفة موقف المترجم؟ كيف تتطوّر العلاقة بين المترجم والقارئ؟ ما المعايير التي يحكم من خلالها القارئ على المترجم؟ هل يستطيع المترجم أن يعطّل قناعاته ورؤيته وذائقته في الترجمة؟

وفيما يتعلق بالعالَم الشخصي والنفسيّ للمترجمِ، علاقة المترجم بالنص الأصل، المغامرة الداخلية التي يعيشها معه، واعتباراته المعنوية والمادية مقابل اعتبارات دور النشر والمؤسسات الثقافية، كيف يُمكن مقاربة العالم النفسيّ للمترجم الذي تتداخل ذاتيّته في ذاتية المؤلّف باستمرار، ويعيش صراعات داخلية عديدة مع النص من جهة، وخصومات خارجية كثيرة مع المؤسسات ودور النشر من جهة أخرى؟

يمكن مقاربة هذا الموضوع من زوايا عدّة؛ ومن خلال التطرّق إلى أيّ شكل من أشكال الترجمة الحسّاسة للعوامل الثقافية واللغوية؛ استراتيجيات الترجمة المختلفة، إشكالات الترجمة الثقافية، إشكالات ترجمة المصطلح أو نحته، إشكالات الخصوصيات والكلّيات الثقافية، بناء الهوية الثقافية، أسئلة الهوية الثقافية، الصراعات والحروب الثقافية.. إلخ

مشاركة: