“والخلاصة أنَّ الاستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فكلُّ إدارة مستبدّة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالِك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحيانًا في مضائق صخور الاستبداد يسعون جاهدين إلى تنوير أفكار النّاس، والغالب أنَّ رجال الاستبداد يُطاردون رجال العلم وينكّلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكّن من مغادرة دياره، وهذا سبب أنَّ كلَّ الأنبياء العِظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء والنبلاء تقلَّبوا في البلاد وماتوا غرباء.”
عبد الرحمن الكواكبي (1855-1902)
المنفى أن يكون الإنسان خارج بلده مستقرًا أو مستمرّاً في الانتقال من بقعة جغرافية إلى أخرى. وغالبًا ما ينجم عنه حنينٌ للبلاد التي غادرها، للأهل، للعادات المتروكة، وللغة الأصلية. ومن الناس من لا يتمكن من اعتبار المنفى مسكنًا جديدًا قد قام بالانتقال اليه، بل إنّه مجرّد أرض لجوء مؤقّت بالانتظار، وعلى أمل عودة ممكنة إلى أرض البلاد. ومن الضروري التمييز بين المنفى الذي يُجبَر عليه الإنسان وتدفعه في أحضانه مجموعة متشابكة من الأسباب، منها أسباب سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو بيئية أو طبيعية، وبين المنفى الاختياري الذي تدفعه إليه الأسباب ذاتها لكنّ اعتماده يكون خيارًا متروكًا لصاحبه. وهو يرتبط حتمًا بقطع الجسور مع بلد المنشأ في محاولة للبدء بحياة جديدة تمامًا.
وأخيرًا، يمكن اعتبار المنفى ترميزًا للشرط الإنساني كما أنه ظاهرة عابرة للثقافات وللأديان.
عرف السوريون خلال القرن الماضي هجرات واسعة وهائلة الوقع، تحديدًا في بداياته حيث اختار الآلاف منهم المنفى البعيد في أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية. فقد وصل الوضع الاقتصادي بالكثير من فقرائهم إلى العيش في جوّ من المجاعة الموصوفة، واستبداد سياسيّ زادت من حدّته مرحلة انهيار الرجل المستبد المريض، أي الإمبراطوريّة العثمانية. ووصل القطع الكامل للكثيرين منهم مع بلد المولد إلى أن ينجم عنه جيل كامل من الأبناء غير المعنيّين بالثقافة أو بالعادات أو باللغة التي غادرها آباؤهم. وفي ظروف مختلفة اعتمدت على تحسّن شروط السفر والاعتماد على تقنيات تواصل حديثة، عاد الارتباط الثقافي في أقلّ تقدير. وتبعت هذه الموجات المؤسِّسة موجات منبتها الأساسي اقتصاديّ، وهو الذي ارتبط بنشوء الدولة الوطنية. هذه الدولة الناشئة، والتي خضعت في العديد من مراحلها إلى أنظمة متخشّبة اقتصاديًّا، ساهمت في رَمْي الكثير من المموّلين وأصحاب الصناعات والحِرف في بلدان المنفى القريبة والبعيدة.
حملت طرق المنافي الأولى في بدايات القرن أعدادًا لا بأس بها من المفكّرين والمبدعين السوريين، وقد نتج عنها شيءٌ من الإنتاج الفكري والإبداعي في بلاد المنفى تلك. أمّا الموجات التي عرفت المنفى لأسباب اقتصادية ترافقت مع التحولات الهيكلية التي عرفتها البلاد، فقد اقتصرت في غالبها على من لهم باعٌ في التجارة والصناعة وإدارة المصارف من الناس. ومع بداية الألفية الثالثة، ومع تفاقم الاستبداد السياسي والضغط الأمني والقمع الدموي والانفتاح الاقتصادي العشوائي والذي أفاد فئة معينة من المنتفعين، والذي اعتمد أيضًا على توسيع رأسمالية المؤسسة الحاكمة ومَن لَفّ لفيفها، فقد حمل القرن الواحد والعشرون في طيّاته توسيعًا هائلًا لمفهوم المنفى الإجباري، وكذا الاختياريّ، ورمى على طرق اللجوء الملايين من السوريين والسّوريّات.
من جهتي، وبعد قضاء أكثر من عشرين عامًا خارج البلاد، وقفت أمام مفهوم المنفى عندما وجّه إليّ السؤال؛ وليس قبل ذلك بالتأكيد. ربما تنازعني مفاهيم الغياب أو الشوق أو الفقدان، ولكنها كلّها مع إرهاصاتها لم تقدني إلى أن أتلفّظ بهذه العبارة. وأنا اليوم أسأل نفسي عن السبب وأحاول أن أجده بكتابة هذه الكلمات القليلة. فهل أنا فعلًا غريبٌ عن هذا المفهوم لمجرّد أنّ خروجي واستقراري بعيدًا عن بلدي ومدينتي تمّ باختياري الكامل الذي لم تَشبْه شكليًّا على الأقل أيّة خطوة إجرائية زجرية دافعة؟ وهل هذا الشعور، أو عدمه، يعود إلى أنّ مغادرتي قد سبقت المَقْتلة السورية التي واجهت بها السّلطة ثورة جزءٍ من أهل البلاد؟
في يوم من أيام بداية عام 2002، وكنت حينها مقيمًا في حلب وأعمل في مؤسسة بحثية فرنسية، زارني عنصران من جهاز أمني “وطني”. وبما أن زيارات هذا الجهاز وأمثاله كانت تقليدًا شبه يومي متعلّق عمومًا بالشاردة وبالواردة، فلم أُعطِ كبير أهمّية لهذا اللقاء، خصوصًا من جهة الشعور بالخوف. إلا أنني سرعان ما شعرت بالقلق يتسلل إلى عروقي مع نظراتهما الماكرة والمشكّكة حتى قبل أن ينبسا ببنت شفة، وكان السؤال الفاتحة مرتبط بمعلومات حصلوا عليها تفيد بأنني حصلت على الجنسية الفرنسية. وحيث أنني لم أكن أعلم بهذا الخبر المفرح حقًا بعد، فلم أشكّ للحظة بأن الجهاز الأمني له آذان في السفارة المعنية بإخباري بالأمر. ثم أضافا السؤال الكنز: “بما أنك تسافر دون عوائق وتحصل دائمًا على تأشيرة طويلة الأمد وتقول بأنك سعيد بإقامتك في سوريا، فلم الجنسية؟”. وبالفعل، كان سؤالهما عميق الوقع، وأخذ مني أكثر من عدة ثوانٍ لأجيب عليه بجملة صادمة لكليهما، ولمن ورائهما أجمعين. فقد قلت دون تردّد: “لكي أمارس حقي في التصويت القادم قريبًا على الدستور الأوروبي، وهي المرة الأولى في حياتي التي أمارس فيها هذا الحق”. فاستغربا بحدّة وبشدّة متسائلين عن سبب عدم تمتعي بالديمقراطية السورية العريقة، وعزوفي عن الاقتراع للرئيس أو الانتخاب للمجالس الشعبية. فكان جوابي لهما بالمرصاد، وأعدت الكرة إلى ملعبهما متسائلًا إن كانا هما معنيّين بهذه الانتخابات وهل سبق لهما فعلًا أن انتخبا ولم يكتفيا بمراقبة من ينتخب ومن لا ينتخب. فنظرا إلى بعضهما بشيء من الإنسانية والندم، وأنهيا قهوتهما وغادراني بمثل ما استقبلتهما من حذر وبرود.
أربعون عامًا وأنا أبحث عن حقّي الطبيعي كأيّ إنسان طبيعي. أربعون عامًا ولم أدخل إلى مكتب اقتراع على الرغم من الترغيب والترهيب اللّذَين يُمارسَان بشكل تقليديّ بحقّ رعايا الدولة العليّة. أربعون عامًا وأنا أخاف وأخشى وأرتعد وأتحول إلى لزوجة السمكة بعرق يتصبّب على جبيني عندما أرى سيارتهم تقترب، أو بابي يُقرع، أو رسائلي تُفتح، أو هاتفي يُصدر أصواتًا غريبة. فمنفاي كان هو الوطن؛ منفاي بالمعنى السلبي والرهابي والغرائبي وفاقد المتعة والإنجاز هو وطني الحبيب حتى غادرته. فالبحث مستمر عن استقرار نفسي يعتمد أساسًا له كرامة يمكن أن تختفي في أول ناصية شارع تصادفك، أو أول كائن بشري يقاطعك، أو أول سيارة قبيحة وقذرة تدوس على قدمك لتزيحك عن إسفلت الحاكم بأمره وأمرك. تصير منفيًا عندما لا تناقش أستاذك في المدرسة لأنك تخاف من تفاعله، وتخاف من دروس بعينها تشغلك عن العلم بتوافه أقوال المبشّرين بالمال والسلطة. كما وتُقحم غصبًًا في حلقات وفرق وشعب التأطير المعنوي والأمني التي تبني إنسانًا منهارًا أخلاقيًا يبحث عن التمجيد ويحتقر المجد. ثم تكبر في السنّ لتجد نفسك في الجامعة تلبس اللون الخاكي المحاكي للموت في أيام التدريب على العسكرة قاتلة الطموح والإبداع. في هذا اليوم، لباسك يصبح سحريًا، فهو ينحرف بطباعك وبأخلاقك لتصير متحرّشًا رعديدًا، وتركل مقاعد الجامعة دون رادع أو ضمير، وربما تبحث عن اختلاق مشكلة مع ذباب الهواء لأنّ اللون العسكري يمنحك ثقةً خلّبيّةً بقدرات مسحوقة لتتمثل بمن يلبسها يوميًا ويقمعك أو يخدم أسياده أو يركع لهم. تتقدّم بالسنّ وتتقدّم في الحياة، فتمتصّك خدمة عسكرية طويلة الأمد يُراد من خلالها ترسيخ تأطيرك أو ترويضك أو سحق شخصيتك وترسيخ شعورك بالغبن وبالألم لرؤية الفوارق الطبقية والانتمائية والمناطقية، وهي تترسّخ في حقلك الجديد بعيدًا عن أي جامعٍ وطني. تتألم بعمق وبصمت عندما يُفصح لك ضابط له موقع حسّاس في مكان خدمتك بأنّه لم يحصل على لباس رسمي منذ تخرّجه، وهو فقير الحال لا يشكو أمره لي بالتأكيد سعيًا لكي أنقده ما تيسّر من عون، بل لأنه شرب القليل من العرق ففاض الكلام على لسانه وقلبه، ووصل به الأمر أن يعرب عن استعداده لبيع ما تيسر من محتويات المخازن في عين المكان بما يسمح له بتغيير ملابسه وأكل لقمة شهية مع عائلته. أليس هذا هو المنفى؟ أين الوطن وأين الوطنية؟ لم أسمح لنفسي بأن أطرح عليه السؤال لأنه جائع، وخشيت بالتالي جوابه طعمًا ورائحة.
بعد أن تعيش منفى الدراسة والخدمة العسكرية، تدخل الحياة العملية مع مخزون هائل من الخواء، ومن العقل غير النقدي، ومن المعلومات التي حصلت عليها بمجهودك الذاتي ومجهود من يرعاك ويحيط بك عن قرب ولا فضل لمن يحكمك بالحديد وبالنار وبالإنصات والملاحقة عليك في شيء.
لقد عشت إذًا في المنفى الداخلي ولا يمكنني إلا أن أميّزه سلبًا عن “منفاي” المتخيّل، والذي يُراد منّي أن أتبنّى مفهومه لأنها العادة والحديث يجب أن يرتبط بخروج ما من وطن إلى غربة بعيدة. وبالتالي، يجب برأيي أن يجري توسيع إطار شمولية المفهوم لكيلا يقتصر على الخروج من البلاد خيارًا أو إجبارًا، يجب أن يتطرّق إلى ما سبق وتحدّثت عنه، أي إلى مفهوم البقاء في عين البلاد والإحساس بشعور النفي عن المجالات كافة، وهو كان مزيجًا من المنفى الإجباري وذاك الاختياري. إن المنفى الداخلي الذي عشته طوال أربعة عقود لم أكن فيه غريبًا عن المحيط الرسمي والإداري والسياسي والأمني والعسكري فحسب، بل أيضًا عشت غريبًا ومنفيًا عن الشبكات الاجتماعية التي هي إمّا تعاملَتْ بفلسفة صوفية مع المحيط المهيمن، أو أنّها تقمّصت الشخصية المسحوقة، أو أنّها قبلت بلعب دور الممجّد الخالي من المجد أو أنها مغلوب على أمرها. يُضاف إلى ذلك كلّه خضوع جزء كبير من المؤسسة الاجتماعية لأحكام متخلّفة أورثتها قرون من الجمود ورغبة استمرارية الجمود من الحاكم الذي تضافرت جهوده مع جهود رجال الدين الرسميين في تأطير المجتمع وخنق تطلّعاته وتخويفه من كل مبادرة فكرية تنويرية.
أثناء دراساتي العليا في فرنسا، في تسعينيّات القرن الماضي، وخلال نقاش مع أساتذتي في الفكر السياسي وعلم الاجتماع، تطرّقت بلغة خشبية حقَنَها مروّضونا في الوطن الأمّ في عقولنا وأفئدتنا، إلى مسألة الهويّة. وقد أظهرت أمامها تمسّكًا متطرّفًا بوحدانيّتها وعائديّتها إلى أصل المنبت الوطني متشبّثًا بالانتماء المحسوم إلى هوية الوطن الأم، مع إضافات محدودة ربما من الهوية أو الهويات الثانوية التي تُثري ولا تؤسّس، نتيجة ظروف الحياة والتنقّل. وقد عارضتني الأستاذة العزيزة بشدّة مؤكّدة بطريقة أيقظت وعيي بأنّه لا هوية إلا ما يختاره الإنسان بمحض إرادته. وبالتالي فمسألة الهوية هي اختيار. وقد توصّلت اليوم إلى قناعةٍ بأنّ هذا الحوار أراحني دون أن ينتزع مني وطنيّتي وحبّي لبلادي. لقد تبيّن لي بأنه الحلّ المناسب جدًا للتخفيف الذي يمكن أن يصل إلى درجة الإزالة من كلّ رواسب الحنين والشعور بالفقدان. فالهوية وتحديدها هي من أهم معوقات الاندماج في مجتمع المنفى الخارجي حيث يتمسّك الإنسان بها رافضًا إدماجها أو استبدالها بهوية موقع قدمه وموطئ رزقه، وحيث كرامته مُصانة، وحيث حقوقه كاملة وواجباته واضحة. وهو لا يعرف سببًا لالتزامه هذا وتمسّكه ذاك، عدا عن وجود رواسب رغبة لديه تدفعه إلى عدم الخوض في مغامرة غير محسوبة. قالوا له، وسمع، وقرأ: إنه يمكن أن ينجم عن هذه المغامرة عواقب وخيمة في النفسية الإنسانية كما في المحيط الاجتماعي. عليه أن يختبر ذلك بنفسه ليقرّر.
أشعر بالحنين الحذر إلى المنفى الداخلي الذي تركته منذ زمن بعيد. حنينٌ يصل إلى درجة تقلقني أحيانًا إذ إنني أتذكّر شخوصه السّلبية من رجال أمن زاروني في مكتبي يوميًا، وكأنني أتذكّر وجه جارتي الجميل. ومع ذلك كلّه، ومع كل ما تقدّم من محاولة فرض النسبية والعقلانية، فإنّ المنفى، أيّ منفى، أكان إجباريًا أم اختياريًا، خارجيًّا كان أم داخليًّا، فهو يمكن أن يُعتبر موتًا رمزيًّا، حيث تقول الأغنية الفرنسية: “أليس الرحيل موتًا بعض الشيء؟”.