الواقع الميداني للسوريين، في المنافي، وفي المخيمات

توحي مفردة المنفى للوهلة الأولى إلى المكان بوصفه حيّزًا جغرافيًّا غريبًا عن طفولتنا وماضينا، يقطنه المرء بطريقة قسريّة، كما يوحي إلى حالة مؤقّتة ويحمل في طيّاته مشاعر الفقد والخسارة ويرمز إلى القسرية والإجباريّة لا الاختيار والتطوّع، وهي قرينة الخسارة السياسيّة ومرادفها الأمرّ.

لا تبحث الورقة هذه في ضرورة الحصول على الإجابة الوافية للسؤال الرئيس حول إمكانية تحوّل البلد الجديد إلى بلد نهائيّ وحقيقيّ للمَنفِيّ/ اللّاجئ، أو حول إمكانية تشكيل السوريين بيئات محلّية في بلدان الشّتات قادرة على تكوين كتلة صلبة داعمة للتحوّلات الجارية في الداخل، لكنها تساهم في الغوص في أعماق ما يمكن تسميته المجتمع السوري المنفيّ ووضع العديد من الحالات التي تعمّق الأسئلة الرئيسة وتضيف إليها، تلك الأسئلة التي تشغل بال شريحة واسعة من السوريين المهتمّين بالشّأن العام.

(ح.ح) كرديّ سوريّ في عقده الثالث، منخرطٌ في أحد الأحزاب الكرديّة السوريّة، قدّم لجوءه في هولندا أواخر عام 2018 وطالب أثناء المقابلة مع دائرة الهجرة والتجنيس (IND) بمترجم كرديّ-هولندي رافضًا أن يتحدّث بغير لغته الأمّ (الكرديّة) وشدّد في مقابلته أمام دائرة الهجرة والتجنيس على أنّ سوريا لم تكن وطنه ولن يكون وطنًا له في قادم الأيام، فوطنه (والكلام له) هو كردستان المقسّمة بين أربع دول، منها سوريا، وحصل على الإقامة الهولنديّة لمدّة خمس سنوات كمعظم السّوريين، لكن مع شيء يميّزه في بطاقة الإقامة (خانة الجنسية): (Onbekend) والتي تعني مجهولة، غير معروفة، وهو توصيف شبيه بحالة الفلسطينيّين الذين يطالبون بعد ثلاث سنوات بحقّ الإقامة الدائمة ومن ثم حقّ الجنسية.

(م.ا) شابّ عربي سوري من قاطني العاصمة السورية دمشق، انخرط منذ بدايات الحراك السوري في النشاط المعارض، حيث شارك في المظاهرات والاحتجاجات لينتهي به المطاف في الغوطة الشرقية في الفترة التي سيطرت عليها الفصائل الإسلامية المسلّحة، في حديثه عن وضع البلد يكفر (م.ا) بالنظام والمعارضة على حدّ سواء، طلّق الشاب بلده (كما يطيب له القول) بعد تجربة مريرة، وقدِم إلى هولندا ليبذل جهدًا استثنائيًّا في تعلّم اللغة، ويحضّر الآن لدراسة الصّحافة، وقد نجحت مساعيه بجلب معظم إخوته من سوريا الذي فقد الأمل بحاضرها ومستقبلها كما يقول، اندمج بطريقة ملفتة وفي زمن قياسي.

(ج.ش) شابّ من إدلب متزوّج وله خمسة أطفال، تم جلب العائلة/ الزوجة والأطفال الخمسة/ عن طريق لمّ الشمل من مصر التي استقرّ فيها بشكل مؤقت، يعيش (ج.ش) في ماضيه السوري، لا يخلو يوم إلا ويسرد تضاريس التلّة التي يستقر عليها منزله والإطلالة الجميلة على الوادي، يصرّ (ج) على أنّ هذه البلدان الأوربية هي وراء التأسيس للمقتلة السورية ووراء بقاء الأسد في الحكم واستمرار الموت المنفلت، يقول في موضوع الاندماج إنّه سيأخذ من التقدّم الأوربي ما يناسب عاداته وتقاليده وسيرمي ما يناقض إرثه الدّيني إلى الحاوية، إلى الحاوية وليس أيّ مكان أخر!

(ع.ي) شابّ سوريّ تخرّج من كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية، جامعة دمشق، أكمل برنامج الاندماج في حدّه الأدنى ولم يجد في نفسه القدرة على بداية مشروع تعلّم لغة جديدة متناسبة مع مستوى تعليمه إلى جانب أنّ اللغة الإنكليزية تخدمه في تسيير أموره (كما يقول)، اختار مهنة الحِلاقة التي لا تتطلّب أيّة وثيقة مهنيّة، وسّع صالونه واستعان بعاملين سوريّين آخرين، يعيش حياته السّورية بكامل تفاصيلها، من العلاقات الشخصية، البقّالية التي يشتري منها، القنوات التلفزيونية العربية، الموسيقى. إلخ، يقول إنّ صالونه يدرّ عليه مالًا يوازي أيّ مشروع ناجح، والمهمّ هنا أنّ قضيّة المال هي محور اهتمامه الذي استثمره في العقارات في مناطق شمال شرق سوريا (المناطق الكرديّة).

(س.إ) سيّدة سوريّة حاصلة على إجازة جامعية، تحرص على أن تتحدّث باللغة الكرديّة في المنزل كي لا ينسى طفلاها لغتهما الأم. القنوات التلفزيونية الهولندية فقط هي التي تعمل في المنزل، جوّالها و(لابتوبها) وجرائدها باللغة الهولندية، استطاعت خلال سنتين من قدومها أن تجتاز اختبار مستوى لغة يؤهّلها لدراسة الجامعة باللغة الهولندية، لم تحسم خيار البقاء الأبدي في هولندا، ويسكنها شعور الخوف من فقدان خَيار العودة إلى سوريا، ترتبك عند الحديث عن خيارات البقاء والعودة، تحاول ملء هذا الخوف بجهود استثنائية في تعلّم اللغة والانخراط في علاقات اجتماعية مع الجيران والمحيط.

تطرح النماذج المذكورة إشكالات عدّة وعلى مستويات متنوّعة:

النموذج الأول يطرح السؤال المركزي: هل هناك شعب سوريّ أم أنها شعوب سورية؟ وهل كانت سوريا وطنًا حقيقيًّا ونهائيًّا للكرد؟ متى؟ وعلى أيّ مستوى؟ إذا وَضَعنا الاستبداد جانبًا، ألم تكن سوريا وطنًا في اللغة والثقافة والفكر لعَرَبهِ دون الكرد والأقلّيات القومية الأخرى؟  بصيغة أخرى هل تشكّل اللغة الأمّ بحدّ ذاتها إحدى ركائز الوطن؟ وهل بدأ المنفى بقمع الثمانينيّات كما أشار عنوان الدراسة الرئيس؟

النموذج الثاني يركّز على قصة اندماج ناجحة لكنّها بعيدة عن أن تكون قصة سوريّة، هي في سياق نجاح شخصيّ، انحلال في بلد المنفى، ولكن هل تتقصّد برامج الاندماج عاداتنا وتقاليدنا وطريقة حياتنا حتى نقول عنها انحلال؟ وهل تتعارض المواطنة العالمية مع مفهوم الحفاظ على الخصوصيّة؟ إلى أيّ درجة تستطيع الخصوصية السوريّة المواءمة مع هذه المواطَنة دون أن تنصهر أو تذوب فيها؟

النموذج الثالث يمثّل الشريحة الأعرض من السوريين اللاجئين الذين لا تؤثر فيهم برامج الاندماج، بل على العكس من ذلك تخلق ردّات فعل تنعكس على الحياة الأسريّة وبشكل رئيس على سلوك الأطفال، تلك الشرائح هي الأكثر تضرّرًا من عنف النظام، وهي التي تشكّل الإثبات الحقيقي للصّورة النمطيّة للّاجئ الشرقيّ في منظور المجتمعات الغربية.

النموذج الرابع هو النموذج المتصالح مع الواقع الجديد وهو النموذج المفتوح على الخيارات القابلة للمواءمة مع المستجدّات بشروط مقبولة دون أن تسلك فرعَي التطرّف (الانحلال في مجتمع المنفى، أو العزلة عنه)، هو النموذج الطبيعي للبيئة السّورية المتسامحة مع محيطها والقابلة للحياة والتي قد تكون حظيت بفرصة نضوج طبيعي في شروط سليمة خلافًا لمناخات العوائل المتديّنة أو العوائل التي مارست العمل السياسيّ السرّيّ.

مشاركة: