أوراق لا مكان لها من التعريف

أودّ أن ألفت انتباهكم/نّ إلى أن ما كُتب هنا يخلو من المبالغة، وإنّ لكلّ منّا تجربة مختلفة في رحلة الشتات، وبالنسبة لي فإن ما يُقرأ الآن مجرّد توثيق لأيام تنسحب مني دون أن تنتمي لأيّ زمان أو مكان، فأنا ما زلت “قيد اللجوء”، لم أغادر (هناك) حيث الوطن أو شبه الوطن، ولم أصبح في هذا المكان الذي وصلت إليه بتاريخ 21/ 9/ 2019.

قبل أن أغادر

حين تصبح حقوقك في الوطن مجرّد أحلام، عليك إيجاد وطن. هذه الكلمات التي كتبتها على قصاصة ورق لأختصر أسباب الرحيل المختلفة ورميتها في قعر الحقيبة “اللعينة” التي فُتحت وأُغلقت مئات المرّات لكي أجبر دماغي على الانتقاء بدقّة ما يجب أخذه أو رميه. ففي كلّ مرة أضيف إليها جزءًا ما من عالمي: ألبوم صور، كتاب، هدية صغيرة من أحدٍ ما عزيز، تفاصيل لا أقوى على تَركها، ثم يجبرني الوزن على أن أعيد حساباتي حول الأولويات.

لم أستطع إجبار تفكيري على التخلي عن عالمي، سوى بالإلهاء واختراع “النظريات” التي يمكنها إقناعي بأنّ خط الزمن سيتصل وحده بلا وثائق، أو تفاصيل وكل شيء قابل للتعويض، وأن هذه الحقيبة هي ذاكرتي. فأنا مع الزمن سأصبح هرمة وستتخلى ذاكرتي عن الكثير، وقد يسقط العالم الماضي ويتهاوى منها، ولا أتذكر شيء هنا، أخلط وجودي مع التفاصيل ويتشظّى المكان كلّه، ليقتصر أخيرًا على كتابين (ثرثرتي، ومرايا- إدواردو غاليانو)، وألبوم واحد جمعت فيه السنين الأولى لولدي، لكل عام صورة فقط، أما بقية لحظاته فلا مجال لأخذها عنوة من هنا.

أردّد كلمات غاليانو (اللامرئيّون يروننا. المنسيّون يتذكّروننا. عندما نرى أنفسنا نراهم. وعندما نغادر، هل يغادرون؟). أشعر أني صرت هرمة بذاكرة لحياة طويلة في الوطن تم اختزالها إلى 23 كغ، الوزن المسموح للشخص في الطائرة.

أنا كغريبة

لا يهمّ ما يجول في خاطري لكن عليّ أن أبتسم، أحاول اختيار ابتسامة تناسب المكان الجديد، أجد أنّ كلّ ابتساماتي مهترئة ومكسورة الأطراف، شيء ما يدفعني للبكاء أو للصراخ، أعتقد أني نسيت وجهي وابتساماتي ولمعان عينَيّ هناك. أعود لاختراع نظرياتي وإقناع نفسي بأنّ المكان ليس همًّا، كلّ الأماكن متشابهة.. راقبيها فقط، أعيدي تركيبها كأجزاء “البازل”، ابحثي عن سحر المكان واندهشي بمدينة جديدة إسمها “ستراسبورغ”. أتمسّك ببعض الكلمات (بونجور وبونسوار) لألغي عني شعور الغرباء أنها مفاتيح النجاة الأولية.

ألتقط صورًا للشوارع وللأبنية، أحاول أن أكون “سائحة”، لكن ذاكرتي تتوه في البحث عمّا يجعلني سائحة وكيف يكون شعور السّائح؟! أحاول التحرّر من فكرة “السياحة القسرية”، يتصاعد شعوري بأني غريبة ولست سائحة، فالوصول إلى هنا هو حياة أخرى وموت آخر.

اليوم التالي

إنه ليس اليوم التالي بروزنامة الأيام، لكنه اليوم الذي توجّب علينا فيه أن نحمل حقائبنا من جديد لنبحث عن مكان نبيت فيه، نضع الحقائب أمامنا ونتوه تمامًا، نحن الغرباء لم نتعرّف على المدينة أو على أحد، ينقذنا الاتصال بمن نعرفهم، لتأمين “مستلزمات الغرباء” مكان للمبيت (أوتيل ما)، ومكان قريب للأكل. نمكث هناك أسابيع بانتظار موعد “البصمة”، العلامة الأولى التي تجعلنا على القيود الرسمية لبلد آخر لم نصرخ فيه صرخة الولادة.

تستقبلنا موظّفة تتقن عملها، تقوم باستجوابنا، تسجّل أسماءنا من اليسار إلى اليمين، أراقبها كيف ترسم اسمي. مفتاح آخر عليّ حفظه، الكنية أولًا وبحروف كبيرة، واسمي في الدرجة الثانية! بعدها ننقل أغراضنا إلى حيث مضيف آخر، إنه “الحكم النعيمي” الذي جعل حياتنا “دلعونا”، كلمة يستخدمها لوصف ما هو جميل، رغم أنه لم يستطع أن يكون في هذا البلد سوى مع كأس ويسكي لينسى أو يتذكر هناك، ويمسك فرشاة ألوانه، ويغني للشيخ إمام (انشر كلابك بالشوراع..) ويفيض شعرًا وحديثًا عن الوطن الفلسطيني السوري اليرموكي، ويضحك ضحكته المميزة. هذه الضحكة سيحملها “الحكم الدلعونا” ويغادر هذا العالم، ونحن بعيدون عنه “قسرًا” بعد أن “أُجبِرنا” على الانتقال إلى مدينة أخرى “ترانسفير” تختارها الدولة الفرنسية حسب توفّر الشواغر للسّكن المؤقّت.

لقد نُفي “الحكم” عن متره المخصّص للموت، غادر دون “حقّ” الموت بالوطن، ليحيى الطاغوت!

آثار العابرين

في مكان ما يُدعى “كادا أدوما” أرقب الجدران البنية المهترئة، أستمع إلى الأصوات المختلفة. أنتبه إلى أني أُحصي بقع الوسخ على الأرض، أرفع رأسي، أهزّه مرات إلى الخلف لأبعد الصدمة، أكرّر السؤال على المساعدة الاجتماعية، هل هذا هو مسكننا؟ كم يومًا سنبقى هنا؟ تقول: “شهورًا فقط بينما تستكملون الأوراق ويصدر القرار”. نصعد إلى الطابق الرابع، لدينا غرفتان للنوم و”منتفعات” مشتركة. أتأمل الجدران التي تحوّلت إلى محطة عبور، أفكّر بضرورة إزالة آثار العابرين قبلي على هذا المكان لأضفي وجودي إليه. أبدأ بالتنظيف، أقف قليلًا عند تلك البقعة (يد صغيرة) متشبّثة بالجدار، أتردّد بمسحها. ثم أتردّد بمسح أيّ شيء. فهذا مأوى الغرباء الذين يتركون بصماتهم في الفراغ، سيكون لنا هنا بصمة مجهولة لمجهولين يقولون: “بونجور وبونسوار”، ويكتبون أسماءهم من اليسار إلى اليمين، الكنية أولًا! أترك الآثار لنبحث عن مكان يبيع خبزًا سوريًا أو لبنانيًا.

مشاهد يومية

تشاركني الحياة في هذا المكان بقعُ الوسخ، روائح الطعام، واللغات المختلفة، إنها الموسيقا الخلفية لمشاهد وجودي، وهذا بعض منها.

المشهد الأول: السكّان جميعًا موجودون، لا أحد يُغادر أو يأتي، تعليمات الوقاية من الكورونا ملصقة على الأبواب وعلى الدرج، (ارتدِ كمامة، نظِّفْ، عقِّمْ، احذرْ)، تستدعيني المُساعِدة لتخبرني أنهم لن يكونوا معنا، تناولني ورقة عليها أرقام الطوارئ في حال الشعور بالإصابة، وبعض الأوراق التي تسمح لنا بالتنزه حول المبنى، وأنّ الذهاب إلى المدينة للضرورة، ويتطلّب توضيح السبب -الخبز ليس ضرورة!- والأفضل عدم التحرّك “تحسّبًا”. أسألها: هل هناك مدارس للّغة؟ وماذا عن أوراقنا والمقابلة؟ ترسم ابتسامة على وجهها.

إذاً لنبتسم لكورونا، وننظِّف ونعقِّم ولا نغادر إلا للضرورة، ونتعلّم الفرنسية من اليوتيوب، لكي نكون “بخير”!

المشهد الثاني: كل شيء مُغلق، أُلْهي نفسي بصنع الحكايات للبشر في الممرّ الطويل الذي يفصل البناء عن الشارع العام، أسحبهم نحو عالمي لينتموا إليه، أبدأ بامرأة نحيفة تصرخ على ابنتها التي تتسلّى بقطف العشب، تعيد الصراخ بلُغتها، صوتها مبحوح منذ أن صرخت (الشعب يريد..) لتجد نفسها في مكان آخر لا صوت لها. يمرّ رجل ضخم مفتول العضلات، إنه “القبطان”، لقد حمل يومًا وطنه على ظهر المركب لكنه سقط في البحر، يخرج بوصلته من جيبه، يحدِّد الاتجاه، يعضّ على سيجارته، ويتجه نحو البر “المقعد”.

تعلو الموسيقا من نافذة ما، لقد قرّر الشاب “الرئيس” أنّ علينا أن نكون جمهورًا لـ(ريمكس مرعب) يكرّره يوميًا. تخرج ثلّة من النساء يتحدّثن ويضحكن، ففي هذا العالم ما زال هناك من يضحك ويدبك أمام الكازية! يجيب أحدهم على جوّاله، يرتفع صوته، يتحوّل تنفّسه للخطاب، لا يتوقّف أبدًا، أفكّر بمتلقّي الخطاب، “الشعب” الصامت المُستمع لكلّ هذه الترّهات، ترى هل لديه ما يقوله؟ أم أنّ القاعدة تقول إن المتّصل “المسؤول” فقط هو من يتكلم؟ يتعالى الصخب، لا كمامات لضجيج المكان!

أبتعد قليلًا، أراقب الكلاب التي أخرجت أصحابها لتجوّلهم، الكلاب تفرض الاتجاه ولحظة التوقّف لترك علاماتها على الطرقات. ثم أعود إلى الغرفة، أجلس على السرير، أضع اللابتوب في حضني، وأبدأ بقراءة كتاب ما.

المشهد الثالث: الساعة الواحدة ليلًا، لا صمت في هذا المكان، الأطفال غالبًا يبكون ليلًا، الأزواج يمارسون التأوّهات. وأحدهم يمارس صلاة ما، صلاة قاسية، يردّد كلماتها كلمة كلمة، وأخرى تتحدّث على الهاتف بصوت عال، ترتجّ جدران الغرفة مع الأصوات، يتحوّل الليل إلى كابوس، أحاول التفكير في الكتاب الذي أقرؤه، في مقالة لأكتبها، في هناك وهنا، لا أنجح في شيء، أتسلّى بمراجعة بعض الكلمات الفرنسية، لا تكتمل الكلمات في رأسي لتكوّن جملة. أنتظر أن يغفو الليل، أو يتأقلم دماغي مع الضجيج، أشعر أنّ رأسي ليس لي وحدي، أنه مكان لكلّ اللغات، ينتابني حُبّ خفيّ للغة الإشارة. أنتزع نفسي من الفراش الذي سأعود للجلوس عليه بقيّة النهار، أردّد كلمات بوشكين (أنت ملك.. عِش بمفردك، اسلك الطريق الحُرّ، وامضِ حيث يقودك ذهنك الحُر).. (كل شيءٍ عابر، كل شيءٍ سيمضي، وما سيمضي سيصبح أجمل).

المشهد الرابع: يتّصل أخي،أتقصّى أخبار البلد، الجوع، التعب، القهر والذل، إنهم أهلي يلفظون أنفاسهم لأجل حفنة قوت يومي يزدردونها مع ما تبقى من أرواحهم، تتصدّع روحي مع كَمّ العجز الذي أنا فيه. أحاول أن أكون إيجابية، وأقدّم أفكارًا خالية من الأعراض الجانبية، أستعمل كلمات لم أعتد قولها، (طولوا بالكن، الله بيعين..) أُغلق الهاتف، أشعر بأني لا أشبه نفسي، ويعلق حزني فوقي كحمى خفيفة لا تزول.

أحاول الانشغال بالكتابة والكتب، الانشغال هو الحلّ ريثما يألفني المكان واللغات والوجوه. أحاول أن أحبّ هذه المدينة الرماديّة، أتجوّل في ساحاتها وشوارعها المتشابهة، كل شيء مرسوم على المسطرة. أذهب إلى ساحة (الأمويين -ستانيسلاس) تغويني المنحوتات على الجدران، إنها بصمات لوجود مختلف، فهل سأقوى على دفن قلبي في أحياء أخرى لأبقى واقفة كأصنام هذه المدينة؟

المشهد الخامس: أستلم رسالة من أختي، هي لاجئة منذ سنين في ألمانيا، أرسلت لي قصة اسمها “المنديل”، أتوقف عند بعض الجمل (الوقت المناسب لتشغيل الغسالة كما يليق بساعات الهدوء لدى جيرانها الألمان. وقت للهدوء! أين أطفال الحارة، وبائع الغاز المتجول؟ كيف تخلّصوا من ضوضائنا اليومية الجميلة؟). ترتبك مخيّلتي وأنا أقرأ عن سيدة العصافير، صاحبة المكنسة كما أسمتها أختي (سيدة مُسنّة من الألمانيات المحبّبات لديها، فقِصر قامتها يقيها من خلع عنقها بمراقبتها. تعلّق السيدة وعاء خاصًا لإطعام الطيور وآخر للماء، كأنها الوصيّة على طيور الحي، وأحيانًا تجدها في غرفة رمي القمامة مع مكنسة أطول منها بكثير تنظّف مكان الحاويات، على الرغم من أنه أنظف من كثير من الأحياء في بلادنا. تتمنّى أختي إتقان اللغة لتعرف لماذا تنظّف؟ وستسعى جاهدة ألا تخبرها أنه ليس لدينا في الوطن مكان كهذا، وستسألها إذا حصلت حربٌ ما في بلدها هل يمكن أن تترك العصافير؟ أم أنها ستمتطي مكنستها وتحلّق معهم حول الحي؟) أفكر لماذا لم نحمل المكانس؟ وكم مكنسة نحتاج الآن لتنظيف الوطن؟

المشهد السادس: مضى على وجودي هنا سنتان، صِرت لاجئة، لديّ حقوق كما لكلّ مواطني هذا البلد، لكنّ يقيني بما قالته (حنة أرندت): “لا أحد يكون مواطنًا في العالم كما في بلده” لم يهتز. أنتظر الحصول على شقّة، لم أعتَد البقع والأصوات والوجوه واللغات، ولم أعتد وجودي بعد، أُصاب أحيانًا بارتباك الذاكرة والذكريات، أنسى أين أنا بالضبط، أُمارس أيامي كالمعتاد، أتابع الأخبار، أترصّد المتغيّرات، أكتب وأنشغل، وفي الليل تنام روحي هناك.

مشاركة: