حوار مع نظير حمد؛ أوطان وذوات مفقودة: السلطة، الهوية، النفس

نور حريري: مساء الخير وأهلًا بكم في جلسة حوارية جديدة من جلسات مجلة رواق ميسلون، جلستنا الحوارية اليوم بعنوان أوطان وذوات مفقودة: السلطة، الهُوية، النفس.

الهجرة، النزوح، اللجوء، النفي..

كلمات كثيرة تختلف في المعنى اللغوي وفي الدَّلالة السياسية، إلا أنها تتفق في حدوثها قسرًا، سواءٌ أكان القسر بفعل فاعل بصورة مباشِرة أم بصورةٍ غيرِ مباشِرة، تتفق في أنّ اقتلاعًا من الجذور قد تمّ وأنّ إعادة الغرس تبقى قيد الإعداد والتكرار المستمر. لا يخرج المرء خروجًا نهائيًا من وطنه طواعيةً، لا يقذف المرء نفسه في البحر أو يتجمّد حتى الموت على الحدود جزافًا، ولا يعيش المرء غربة اللغة في بلدان جديدة عن طواعية. بين معاناة من بقيَ في الداخل ومحاولات الخروج، وحالة التشتّت والضياع التي يعيشها من خرَج، وأحلام العودة، بين مَطالب من بقيَ في الداخل وحالة الحرج وتأنيب الضمير التي يعيشها من خرج، انقسام جديد يظهر، انقسام جوهريٌّ في مستوى الوعي والحالة النفسية يضاف إلى بقية الانقسامات، وربّما يكون أشدَّها وأعقدَها. فعند هذا الانقسام تحديدًا، يحلّ العجز الكامل، وتتوقف اللغة عن أداء مهمّتها التواصلية الأولى، وبين محاولات الاندماج الثقافي والاجتماعيِّ في المجتمع الجديد ومحاولات الانطواء على النفس والانعزال عن المجتمع، نجد أنفسنا أمام أسئلة فوق سياسية وفوق اجتماعية، نجد أنفسنا أمام جدلية الطبيعة والثقافة، نجد أن هناك بعدًا أعمق لمقاربة مسائلَ كثيرة كالهوية والانتماء والاندماج وهو البعد النفسي، وهو ما سنتناوله في جلستنا الحوارية اليوم.

يسعدني هنا أن أستضيف المحلّل النفسي الدكتور نظير حمد، الذي سيحدّثنا عن مصاعب الهجرة واللجوء من الناحية النفسية، وعن مؤلَّفه الموسوم بـ(سيكولوجيا الهجرة). الدكتور نظير حمد هو دكتور في علم النفس الإكلينيكي، ومحلّل نفسي، وروائي، وهو أحد مؤسّسي الجمعية اللاكانية الدَّولية للتحليل النفسي في باريس، صدر له عدّة مؤلَّفات باللغة الفرنسية وتُرجمت له رواية بعنوان (المكتوب).

أهلا وسهلًا بك دكتور.

نظير حمد: أهلًا بكم، شكرًا لك على المقدمة، فهي قيّمة جدًّا برأيي. لقد طرحتِ المسألة بمختلف نواحيها، وأرى أن نبدأ النقاش من الطرح الذي قدّمتِهِ، فهو الطرح المناسب للحوار حول الهجرة.

نور: شكرًا لك دكتور على قبولك الدعوة، نحن سعيدات وسعيدون بوجودك معنا.

الدكتور: وأنا سعيد بالتكلّم معكم أيضًا.

نور حريري: دكتور.. نبدأ في السؤال الأول، يُصاب اللاجئ أو المهاجر بعد الوصول إلى المجتمع الجديد بما يسمّى بالصدمة الثقافية ويعاني من أعراض الفوبيا والخوف والآلام الجسدية غير المبرّرة، وقد ذكرت في كتابك أنّ المرء لا يدخل ثقافة جديدة محصّنًا، هل يمكنك في البداية أن تطلعنا بصورة عامة على الإشكالات النفسية والمخاوف المرافقة الناجمة عن التغيير الثقافي؟

نظير حمد: مثلما أسلفت وتحدّثت في البداية، إن ردّة فعل المهاجر إلى الأوطان الجديدة متعلّقة دائمًا بكيفية وسبب الهجرة، فمسألة الهجرة والتنقّل ليست مسألة جديدة، هي قديمة بقِدَمِ الإنسان، فالأطروحة التي تقول إن أول ظهور للإنسان كان في أفريقيا ثم ملأ الأرض بعدها، تفضي إلى طرح السؤال التالي: لأيّ سبب هاجرَ هؤلاء البشر الذين عاشوا في أفريقيا، وما هو السبب الذي دفعهم إلى الذهاب إلى الأماكن الأخرى؟ بمعنى أنه سواء كانت الأطروحة صحيحة أم لا، هناك واقع وحقيقة ثابتة، هو ميل الإنسان إلى الاكتشاف، نسبة إلى المثل العربي القائل “إنّ العشب في الطرف الآخر من النهر أكثر اخضرارًا”، لذلك نحاول عبور النهر دائمًا من أجل الوصول إلى العشب في الجهة الثانية. من جملة الأشياء التي عاشها البشر هي حالة التنقّل، وقد تنقّلوا لعدّة أسباب (ملاحقتهم للحيوانات، حبّ المعرفة، الكوارث الطبيعية، الحروب بين القبائل، محاولة الابتعاد طلبًا للتحصّن والأمان)، فنلاحظ مأساة لبنان الدائمة حيث تحاول 18 طائفة من الأقلّيات النزوح إلى الجبل طلبًا للتحصّن والأمان. لكن هذه طبيعة البشر للأسف، فحين يستقرّ الإنسان ويجد مكانه وقوته، يحارب الآخرين من أجل أخذ مكانهم وتغيير اعتقاداتهم كما يريد.

أنصحكم بقراءة كتاب (طريق الحرير) للمؤرّخ “بيتر فرانكوبان” وهو من جزأين، الأول عن الإمبراطوريات والثاني عن التاريخ الحديث، حيث تلاحظون أنّ الإمبراطوريات، من البداية وحتى اليوم، ما تزال مبنيّة على شيء واحد هو الصراع، أي “التجارة بالبشر”، وأنّ التجارة والغنى لكل إمبراطورية كان مصدرها البشر. يُقال إنّ أربعين مليون أفريقيّ أُجبروا على ترك أراضيهم في أفريقيا لاستخدامهم كيَدٍ عاملة في البلدان الجديدة (أمريكا، أستراليا، كندا، إلخ)، وبسبب تعرّض أغلبهم للموت السريع إثر عوامل عدّة (تغيّر الطبيعة، نوع الطعام، الأمراض)، ولأنّ شراء العبيد الجدد مكلف، بدأ العمل على جلب النساء الأفريقيات إلى العبيد الأفارقة من أجل التكاثر، وإنجاب الصغار واستعبادهم في المستقبل بعد اكتشافهم أنّ هذه العملية أقلّ كلفة. هنا يمكن أن نطرح سؤالًا: ما هو سبب هذه الهجرة؟ على سبيل المثال، في آخر القرن التاسع عشر، عندما أصابت مجاعة البطاطا الإيرلنديين، تسبّبت بهجرة مليوني إيرلندي إلى أمريكا، وموت مليون منهم بسبب الجوع والمرض. أيضًا بعد الحرب العالمية الأولى والمجاعة التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط، هاجرت أعداد كبيرة من لبنان وسورية إلى البرازيل والبلدان الجديدة، أما الهجرة الحديثة التي نعرفها في الوقت الحاضر، فقد جاءت نتيجة للقمع والحرب. نحن نعيش في مناطق يمكننا أن نفكر فيها من دون خطر، بينما يعيش الآخرون في مناطق لا يُعَدُّ التفكير فيها حقًّا من حقوق الإنسان، وإن تجرّؤوا على ذلك فمصيرهم القتل بوصفهم مناهضين للسّلْطة، هنا نطرح السؤال الآتي: ما هو ثمن الإنسان في مناطقنا؟ انطلق جان بابتيست كولبير من مبدأ أنّ الدولة التي تمتلك البشر كمًّا ونوعًا وتسعى لإعدادهم وتثقيفهم استعدادًا للمستقبل هي الدولة القوية، أما المشكلة الرئيسية برأيي بالنسبة لبلداننا في المنطقة وفي البلدان الفقيرة هي قيمة الإنسان، جميع الأشياء لدينا لها قيمة إلا الإنسان، لذلك لا يكترث الحكّام بهجرة الناس.

وهنا يبرز السؤال، ما هي المأساة بالنسبة للمهاجر في الوقت الراهن؟ المأساة هي أنّ الأوروبّي لم يعد يكلّف نفسه عناء جلب البشر لاستخدامهم في العمل، بل أصبح المهاجرون يقدّمون أنفسهم ويسخرونها لأوروبا، يقدّمون أنفسهم لا بوصفهم عبيدًا، بل لبحثهم عن مخرج.

نور حريري: لكن دكتور، يبقى الهروب هو سبب الهجرة الأساسي وليس العمالة، وكما ذكرت، قد يهاجر الفرد في أماكن أكثر رفاهية من أجل الاكتشاف والتعرّف، أمّا في واقعنا فالسبب الأساسي هو الهروب من ظروف معينة.

نظير حمد: هنالك مناطق معينة ليس لدى سكّانها حلّ آخر، إما الموت أو الهروب، وهذا ما حدث ويحدث الآن، لا نستطيع أن نلوم من يهرب ونعتبر أنه خادم بينما هو يفرّ طلبًا للحياة، وهنا تكمن القسوة، تكمن في تحوّل الحلم إلى أمر يستحيل تحقيقه، لذلك أنا أعتبر أنّ جميع الذين هاجروا أغنياء برغبتهم، يمتلكون رغبة قوية تدفعهم من أجل العيش في مكان آخر، سواءً قبِل أصحاب المكان الآخر بذلك أم لم يقبلوا. وعلى سبيل المثال، يقول السوريّ الذي هاجر من سورية “الهجرة أو الموت”، ويردّد “الحلم أو الموت”، ويسأل “هل الحياة التي أعيشها بلا أحلام هي حياة حقيقية حقًّا؟”. عملت مع العديد من المهاجرين السوريين، وكانوا سعداء في بادئ الأمر لأنهم تمكّنوا من الخروج.

نور حريري: وماذا حدث بعد هذه المرحلة الأولى من السّعادة؟

نظير حمد: كانت هناك أسئلة تتردّد بشكل دائم وتنغّص عليهم هذه السعادة: ما معنى أننا هُجِّرْنا من بلادنا وجزءٌ من شعبنا قام بتهجيرنا؟ ما معنى القرابة؟ أين الوطنية والأمّة والدّين ممّا حدث؟ لماذا يفتح الآخر الذي لا أعرفه أبوابه لي، بينما يُخرجني شبيهي وابن بلدي من وطني؟ هكذا، ينتقل المهاجرون إلى حياتهم الجديدة، كأنهم أطفال لا يعرفون إلا ما ندر عن مجتمعهم الجديد وكيفية التعامل معه. أصبحوا بحاجة للمساعدة في أبسط الأشياء، (ترجمة، معاملات.. إلخ) ينعتون الأجانب بالكرم لأنهم يقدّمون لهم المساعدة، على الرغم من أنّ هذه المساعدة ليست بدافع الكرم، بل بدافع احترام الإنسان وحقوقه. يبدأ المهاجرون بشكل مفاجئ في تلك المجتمعات الغربية باكتشاف أنّهم بشر ولهم حقوق، والشيء الذي يصعب فهمه هنا كيفية ربط الحقوق بالواجبات.

نور حريري: هو بالتأكيد موضوع ضخم جدًّا. إنّ إشكالية الربط بين الحقوق والواجبات ودمجهما معًا ما زالت قائمة.

نظير حمد: الأمر المهم الذي شهدته لدى عدد من السوريين هو حول فهم معنى الاندماج. هل الاندماج يعني محو كلّ شيء من الثقافة التي كان الشخص ينتمي إليها (لغة، وطن)؟ هل هناك تناقض ثقافي واجتماعي؟ ما معنى هذا التناقض؟ تحتاج المسألة إلى بعض الوقت لفهم أنه ليس هنالك أيّ تناقض، ولا يوجد ثقافة أفضل من أخرى، ولا شعب أفضل من شعب، أو دين أفضل من دين. لكن السؤال الذي يبرز هنا هو كيف أصنع من الانتماءين وحدة غير متناقضة؟ كيف أكون أنا الاثنين من دون تناقض؟ يتوقّف ذلك على مدى قدرتي على تقبّل تلك الثقافة وإغناء نفسي بها. طبعًا، ذلك ليس بالأمر الهيِّن، وربما أمضي العديد من السنين حتى أدرك عدم وجود تناقض. إذًا نحن بحاجة إلى تطلّع وتأقلم دائم، بدلًا من التقوقع على النفس.

نور حريري: نعم، ربّما أوافقك على فكرة التأقلم دكتور، لكن ألا تعتقد أنّ الموضوع أصعب من ذلك، فالهجرة تؤثّر على إحساس الفرد بهُويّته الذاتية، حيث تصبح الهُوية مشتّتة بين الجديد والقديم. غير أنّ الهُوية في الأساس تُقام على فكرة خيالية، على الاختلاف وترسيم الحدود، وعلى وجود مَن يُشبهني ومَن يختلف عني، فكيف أبني هُوية ذاتية متأقلمة مع غيرها من الهويات في حين تقوم الهُوية في الأساس على الاختلاف، على أنني مختلف عن الآخر، وعلى أنّ الآخر يختلف عني أيضًا، ويحاول الظهور بصورة واعية أو غير واعية بأنه الأفضل، فكيف يمكن التأقلم مع الاختلاف.

نظير حمد: هناك فرق بين الآخر والغريب، فكلّنا آخر بالنسبة للآخر، أنا أمتلك هوية وأعيش في بلدي حيث هناك حدود جغرافية، وعندما تُرسم وتؤمّن هذه الحدود، سنلاحظ حدودًا داخلية عديدة “اجتماعية، ثقافية، دينية، قبلية، زوجية.. إلخ”. وهذه الحدود الداخلية الكثيرة هي التي تؤدي عادة إلى الحروب الأهلية بينما تؤدي الحدود الجغرافية إلى حروب عالمية.

نور حريري: حتى لو تحدثنا عن الحدود الداخلية، ونحن نعلم أنّ الحدود الخارجية تأسّست على دماء الناس والحروب والثورات الطويلة عبر التاريخ، لكن ألا تبقى الحدود الداخلية أيضًا حدود؟ وإن لم تكن مبنيّة على الدماء، لكنها مبنيّة أيضًا على نوع من التنازع والخصومة والتنافس، وقد استوقفتني فكرة ذكرتَها في كتابك حول بناء أوروبا لهويّتها الخاصة الجامِعة، في مرحلة من مراحلها الأولى، ومحاولتها التخلّص من ماضيها الدموي من خلال ابتكار صورة البطل النموذجي، بطل حرب طروادة “أوليس” الجميل والدبلوماسي والماكر والمتحدّث، وهو غير مسيحي، حتى تكون الهُوية جامعة لجميع الهويات الأوروبية. لكن ألا توافقني الرأي أنّ في هذه الفكرة شيئًا من الخيالية الرومنسية التي ربّما انطلت على الشعوب السابقة؟ لكن اليوم هناك تطوّر في الوعي، حيث يصعب اقتناع الناس بهذه الصورة الرومانسية، وإن اختلفت الصورة طبعًا، فنحن لا نتحدث عن البطل فحسب، بل عن أيّ صورة ثقافية يمكن من خلالها أن نبنيَ حدودًا خيالية معينة من أجل تأسيس الهُوية. فهي تبقى إشكالية من ناحيتين، الأولى هي الرومانسية والخيالية، والثانية هي ما تحمله من تنازع وتنافس، سواء بدماء أو من دونها.

نظير حمد: التنافس موجود حتى بين الأخ وأخيه، بين الجار وجاره، القرية والقرية، المدينة والمدينة.. إلخ، وليس هنالك من مهرب. إذا انطلقنا من نظرة دينية، فإنّ أول جريمة حدثت في تاريخ الإنسانية كانت بين أخوين “قابيل وهابيل”، وهنا أريد أن أطرح السؤال الآتي: ما هو سبب هذه الجريمة؟ أحدهما كان مربّيًا للحيوانات والآخر كان مزارعًا، حيث قدّم كل منهما هدية لله، والله بارك هدية ورفض أخرى، فبدأت المنافسة من هنا وفُتحت معركة بين الأخوين، وأدّت إلى مقتل أحدهما. تكمن المسألة في مجتمع “الله”، بمعنى الحاكم (الحكومة أو الدولة). حين لا تُعطي لكل إنسان حقّه ولا تصنع قانونًا فوق الجميع، تأكَّد أنّ قابيل وهابيل موجودان في كل بيت، فإمّا أن يكون جميعنا تحت القانون وهذه هي المساواة، أو بعضنا فوق القانون من دون مساواة. حتى في الديمقراطية التي نتغنّى بها لا يوجد مساواة، الأزمة بكاملها هي عندما يبارك “الله” أو لا يبارك. الآخر هو الآخر، أنت وأنا ودائمًا على خلاف، الأخوة داخل المنزل مختلفون، لكلٍّ منهم “شخصيته، فِكره، نظرته”، والمهم هو احترام كلّ منهم للآخر من خلال الاختلاف الذي يمثله. فعندما ينعدم هذا الاحترام ونعتبر الاختلاف عداوة، تنطلق الحرب الأهلية. وهذا هو الحال في المهجر، عندما نعتبر أن الاختلاف يمنع الاندماج والـتآخي والنظرة المتشابهة، يُحكم علينا في مكان الهجرة بالبقاء كغرباء. لقد ذكرت سابقًا أنه يجب النظر إلى الأشياء بعيون جديدة من دون حكم، من أجل فهمها فحسب. أستشهد بمقولة لـ(همينغواي): “كنت بحاجة إلى ثلاث سنوات لتعلّم الكلام، وأربعين سنة لتعلم السّكوت”. وهذا هو الأمر الصعب، السّكوت من أجل الفهم، إنّ رمي الأحكام شيء سهل، حتى الأغبياء والجَهَلة يستطيعون الحكم على الأشياء، وللأسف هم من يتحكّمون بزمام الأمور.

نور حريري: عندما نتحدّث عن الاندماج، أعتقد أننا يجب أن نتناول المنظورين معًا، منظور المهاجر أو اللاجئ، ومنظور الدولة المُضيفة وسياساتها، ماذا تفتح هذه الدولة أو تغلق من سُبُل في وجه اللاجئ. فهناك سياسات تحول دون هذا النوع من الاندماج، وأعتقد أنه من الضروري التحدّث عن هذا الأمر حتى لا نُلقي اللوم على المهاجر أو اللاجئ فحسب، فهناك ما يحدث وراء الكواليس أيضًا.

نظير حمد: سمعت مرات عديدة بعض العرب المسلمين يقولون: “إنّ الفرنسيين والأوروبيين لا يحبّوننا”، أريد أن أسألهم وأن أسأل الجميع: لأيّ سبب تريدونهم أن يحبّوكم؟ ماذا ستقدّمون لفرنسا من أجل أن تحبّكم؟ استقبلتكم كي تُفسح لكم المجال لتبدؤوا من جديد، ماذا ستثبتون؟ وبماذا ستقومون وماذا ستعملون؟ ما هي إمكانياتكم في مجتمعكم الجديد؟ هل دخولكم إلى البلد سيمنحكم الفرصة لإثبات أنكم أشخاص كفؤ كما كنتم في بلدكم كذلك أم لا؟ لا تعتقدوا أنّ أحدًا يحبّ أحد أو أنّ بلدًا يحبّ الآخر. هذا تفكير صبيانيّ، العلاقات العالمية ترتكز على المصالح لا الحبّ، إمّا مصالحنا مشتركة وكلٌّ يحاول الاستفادة من ضرر الآخر أو هنالك عداوة.

نور حريري: ربّما بالدرجة الأولى هي مسألة احترام، لا مسألة حبّ، كما ذكرت في بداية الحوار. والتقصير بالدرجة الثانية سببه السياسات غير العادلة في حقّ اللاجئين، هناك تضييق على اللاجئين هدفه دفعهم إلى مِهن ووظائف معينة. تحدّثتَ في كتابك عن العبودية الحديثة، هل العبودية الحديثة اليوم مبنيّة على اتفاق الطرفين؟ فبدلًا من الذهاب إلى بلد آخر لجلب الأشخاص وتشغيلهم، يذهب الشخص بإرادته اليوم ويطلب العمل، كنوع جديد من أنواع العبودية.

نظير حمد: موقف الإنسان الهارب من الحرب ليس كموقف الإنسان الذي يذهب ليربح الأموال ويبني قصوره في إسبانيا كما يقال مجازًا. في فرنسا يُقال “دعوه يبني قصورًا في إسبانيا”، أي دعوه يتخيّل أنه سيصبح غنيًا، وهذه تسمّى بالهجرة الاقتصادية، وهي ليست حكرًا على الفقراء. فالجميع يهاجر “علماء، أطباء، مدرّسون، باحثون” لأسباب كثيرة كالحصول على أجور عالية في بلد آخر. فالأوربيون الذين يعيشون في الخليج ذهبوا للحصول على الأجر المرتفع. إذًا الأغنياء أيضًا يهاجرون ليس الفقراء فحسب. لكن الفقراء الذين لم يدرسوا وليست لديهم شهادات، ماذا لديهم ليقدّموا غير بيع قوّتهم الجسدية كعمّال، شأنهم شأن الأشخاص الذين كانوا يؤخذون كعبيد من أجل قوّتهم البدنيّة، بسبب الاعتقاد بأنّهم لا يملكون أيّ نوع من أنواع الذكاء. كما حدث في إسبانيا حين أحضروا الهنود وجلبوهم إلى الكنيسة، اجتمع الأساقفة كلّهم حينها وكان النقاش جدّيًّا حول ما إذا كان هؤلاء الهنود يمتلكون أرواحًا مثل باقي البشر أم لا، وهذا مهمّ جدًّا على المستوى الإنساني، فإن كانت لديهم أرواح، هم إذًا مثلهم والمفروض عليهم احترامهم، أمّا إن لم تكن لديهم أرواح، يستطيعون حينها استعمالهم كأيّة آلة أو أداة. وهذا ما فعلوه، استخدموهم كآلات، وبهذا التفكير أُهلِكت ثقافات ومجتمعات كبيرة.

أول صدمة يتلقّاها المهاجر هي الضياع، لأنه لا يعرف ما عليه فعله، حيث تتولّد لديه عقدة الذنب حول فراق الأهل والناس، ويشعر بأنه ربما كان عليه البقاء ليقاتل أو يموت، فيتوجّه إلى الأطباء بسبب هذه العقدة، حيث قلت لبعضهم: هربتم من الحرب الأهلية بينما هي الآن في أجسادكم، وهذه عقدة الذنب، ومن المفروض أن يُدفع ثمنها، فنشوة الانتصار عند الوصول إلى البلد الجديد تتحوّل إلى هزيمة في مرحلة لاحقة بعد الاستقرار. يحاول المهاجر التخفيف عن نفسه بحرمان نفسه وإرسال النقود إلى الأهل، وهذا هو الثمن الذي يدفعه من أجل التخلّص من جزء من عقدة الذنب، وهو شيء جيد ويخفّف من المشكلة، بينما الأصعب من ذلك مع الصدمات من هذا النوع هو التبلّد الدماغي الذي يصيب بعض الأشخاص، كعدم القدرة على تعلّم اللغة.

نور حريري: هل هو تبلّد أو ربما بسبب العمر أحيانًا أو بسبب عوامل نفسية أخرى؟

نظير حمد: لا أتحدّث عن المسنّين الذين يجدون صعوبة في التعلّم فحسب، حتى بعض الشباب لديهم نوع من التبلّد وصعوبة في تعلّم اللغة، والسبب برأيي هو عدم القدرة على الحزن، ففي بلدنا عندما يموت إنسان يكون هناك مرحلة حزن (ارتداء الثوب الأسود، عدم التعامل مع الأشياء كما في السابق).

نور حريري: أهذا ما يسمى بـ”الميلانخوليا” أو السّوداوية وعدم القدرة على تفريع الحزن؟

نظير حمد: نعم، هذا نوع من السوداوية، ويحتاج الشخص إلى بعض الوقت كي يجتازها، وهي لا تتعلّق بالخلاف الديني أو الثقافي فحسب، فعندما جاء الروس البيض إلى أوروبا، حتى الذي كان منهم ذا مكانة اجتماعية مهمّة في بلاده (أغنياء، مثقفون)، عملوا في قيادة سيارات الأجرة. في محاضراتي المختلفة أتطرّق أحيانًا إلى المسألة السياسية، حيث أقول: الإسلام والعرب يستحقّان ميدالية ذهبية اليوم، لأن النقاش السياسي في أوروبا لم يعد لديه غذاء، ولا يجد غذاءه إلا في الخلاف مع الإسلام والعرب، فكلّما بالغ أحدهم في شتم الإسلام، ازدادت شعبيّته أكثر من غيره.

نور حريري: هذا ما قصدته سابقًا بموضوع الهُوية والاختلاف، نحن نعيد إنتاج حدود جديدة، هي ثقافية ربما، وهذا ما تفعله اليوم السياسات الأوروبية.

نظير حمد: تمامًا، بسبب الفقر السياسي الرهيب، وليس فقط في أوروبا. اسمعوا الأمريكان والروس والصينين، فقرٌ سياسي رهيب هو السبب المؤدّي إلى الصراع، نحن في مرحلة فقر ثقافي وسياسي، ما هي الأطروحات التي يمكننا طرحها اليوم؟ هل سمعتم النقاش بين (بايدن) والرئيس السابق؟ هل يوجد نقاش بين سياسيّيَن أفقر من ذلك يتمّ فيه استخدام المهاجرين كحطب ووقود؟

نور حريري: للعودة إلى الجانب النفسي وموضوع اللغة تحديدًا، يعاني جميع المهاجرين من صعوبة تعلّم لغة جديدة، ولا نقصد هنا اللغة “المحكية” فحسب، بل أيضًا اللغة بمعناها العميق، حيث يشعر المهاجر باستحالة الاندماج، وتتحوّل اللغة كما ذكرت في كتابك إلى حاجز يؤثر على النفس والجسد معًا، هل يمكنك أن تحدّثنا عن هذه الفكرة وتوضّحها لنا؟

نظير حمد: الأمر المهمّ هو الاندماج في المجتمع وإمكانية التواصل، والتواصل يعني النقاش والحديث والمشاركة اليومية. إن لم يستطع المرء التحدّث بلغة المجتمع سيبقى على الهامش. وعليه، من أجل أن يجد المرء مكانًا له في مجتمع ما، يجب أن يملك الأداة التي يملكها المجتمع وهي اللغة. هناك أيضًا أمر رئيسيّ ومهمّ، ليست جميع اللغات متساوية، فالحديث باللغة العربية في فرنسا يختلف جذريًا عما إذا تحدّث المرء بالإنجليزية، فالعربية والإنجليزية لا تتساويان. بينما يتمّ التسامح مع الأمريكي عندما لا يتحدّث الفرنسية، ولا تَسامُح مع العربي إن لم يتحدّث بها. والسبب هو أن هناك نظرة مثالية للإنجليزي ودونية للعربي، ما يُعتبر عقبة من العقبات الكبيرة التي تواجه العرب والأفارقة.

لاحظت شيئًا من خلال ممارستي كمحلّل نفسيّ هو أنّ اللغة والجسد تربطهما علاقة وطيدة، لأن كل لغة هي جسدية، فالجسد رمزي (عضوي ورمزي في الوقت نفسه). عندما نقول مثلًا عبارة “يا قلبي” هو تعبير “رمزي”، فالقلب هو المكان الذي نضع فيه الحبّ، “المودّة”، ولا يوجد عضو من أعضاء الجسد إلا وله وزن وقيمة رمزية، فلا جسد من دون لغة، والجسد من دونها يبقى مجرّد “لحم”. فحتى يصبح الجسد جسدًا، يجب أن يكون له “لغة”، وهي لغة الشخص الذي يتكلّمها، هي التي تعطي جميع القيم. هناك أمراض عديدة سببها عدم إمكانية التكلّم، حيث نلاحظ اختلافًا واضحًا في لغة الجسد بين عربي وفرنسي يتكلّمان مثلًا، ليست لغة الجسد نفسها، بل هي مختلفة تمامًا بينهما. في الرسائل الفارسية لـ(مونتسكيو)، عندما ذهب آوزبك إلى أوروبا ليرى إمكانية الحياة فيها وأمضى فترة طويلة فيها، ثم عاد إلى وطنه ليجد أنه لم يعد كما كان، ولم يعد الشخص ذاته، ولم يعد قادرًا على التعامل مع النساء كما في السابق، يقول: كم هو سعيد من لا يعرف بلدانًا أخرى غير بلده، كم هو سعيد من لا يتكلم لغات أخرى غير لغة بلده. هنا يكمن السؤال، الانغلاق أو الانفتاح، عندما قال آوزبك “سعيد من لا يعرف بلدانًا أخرى” هذا انغلاق. لكنّ الانفتاح هو امتلاك المرء لمعرفة جديدة من خلال التعلّم، وإدراك “نسبيّة قيم الأشياء”.

نور حريري: تحدّثتَ سابقًا عن التبلّد، ما أثر الانتقال دفعة واحدة من بيئة مُحافظة ومجتمع يسودُ فيه القمع والقهر والخوف إلى بيئة منفتحة حرّة، إلى مكان لا وجود فيه لما هو محظور أو مرفوض؟ هل يمكن أن يكون سبب هذا التبلّد هو الانتقال المفاجئ أو غياب السلطة بكل معانيها (السياسية، الأبوية.. إلخ)؟ ما أثر السلطة على النفس وما أثر غيابها المفاجئ على النفس؟

نظير حمد: لا يوجد ثقافة أو حضارة من دون سلطة، لكن هناك فرق بين السلطة والتسلّط، فالسلطة هي التي تقدّم لنا المقوّمات، وكل هذه المقوّمات تسمح لنا بأن نثقّف أنفسنا، وعندما تعترضنا مشكلة ما، تتوفّر لدينا مرجعيّات (قانونية، حكومية، طبية، علمية) يمكننا اللجوء إليها.

نور حريري: ما أقصده هنا هو غياب الأمر الواجب القامع، الصوت الذي ينادي دائمًا بأن هناك ما يجب فعله أو عدم فعله.

نظير حمد: السلطة هي التي تفرض علينا الواجبات وتضع لنا الحقوق، والنقاش الدائم حول السلطة هو أنه كيف يمكن للسلطة أن تخدم الإنسان وتحميه من نفسه ومن جيرانه ومن السلطة. وبخلاف ذلك تتحوّل السّلطة إلى تسلّط، أي نصبح جميعًا في خدمة السلطة، لدينا واجبات فقط ولا نمتلك الحقوق. لا ثقافة من دون سلطة، لا يقدم خدمة لأولاده إطلاقًا مَن يتركهم من دون وضع حدود لهم، لكن يجب أن يكون هناك حدود تُحتَرم (اختلاف العمر، الدين، الجنس، القانون.. إلخ) لا ثقافة من دون نوع من أنواع القانون، لذلك لا يمكن لأي مجتمع أن يحيا من دون سلطة. أيضًا هناك مجتمعات كثيرة تعيش تحت التسلّط، ما يؤدي إلى انحطاط المجتمع وإلى الحروب الأهلية. كيف لي أن أستخدم القانون وأقوم بالواجبات وأتوجّه إلى الآخر؟ يُعَدّ ذلك من المقوّمات الأساسية للمجتمع ويجب تعلّمها يومًا بعد يوم.

نور حريري: ماذا عن الاستحقاق أو ما يسمّى بالاضطهاد المركّب؟ أي عدم وجود مساواة بين الأوروبي والعربي مثلًا؟ فما يبذله اللاجئ أضعاف ما يبذله الأوروبي، ومع ذلك يبقى الاعتراف باللاجئ إشكاليًّا؟

نظير حمد: الاعتراف لا يكون من البداية، بل يأتي كنتيجة من خلال الخبرة والعمل والمعرفة. في البداية لا أحد يعترف بالآخر، حتى الفرنسي لا يعترف بالفرنسي نفسه في البداية، وكي نستطيع التفاهم حول الاعتراف بالآخر، برأيي أنّ الإنسان الجدير يُعترف به لأنه أثبت جدارته، والعامل النشيط أيضًا يُعترف به. هناك جدارة، والاعتراف ليس بالشخص في حدّ ذاته، إنما بعمله ومدى إتقانه لهذا العمل، وإلا تحوّلت المسألة لشيء آخر (يحبّونني أو لا يحبّونني)، ونحن لسنا بحاجة إلى الحبّ هنا، إنما نحتاج إلى الاعتراف بنا وبمقدّراتنا.

نور حريري: قبل الانتقال إلى فقرة الأسئلة والمناقشة، سؤال أخير حول مسألة الاندماج، هل الاندماج الكامل ممكن من الناحية النفسيّة؟ وإن كان ممكنًا بطريقة ما، ما هو المقابل النفسي، نحن نعرف ماذا نربح حين نندمج في المجتمع الجديد، لكننا لا نعلم ما يمكن خسارته، فماذا نخسر من وجهة نظرك؟

نظير حمد: عندما نهاجر من الوطن نخسر أشياء كثيرة، نخسر حتى قبل الوصول إلى المجتمع الجديد (العلاقة بالأهل، بالبلد، بالطعام، بالأصدقاء، بالطبيعة، بالبيت، وبأشياء كثيرة)، ربما نخسرها كلّيًّا. فمثلًا حين يصل السوري أو اللبناني، الذي يتناول خبزًا طازجًا في بلده، إلى فرنسا ويتناول الخبز المحمَّص “التوست”، تكون أول صدمة بالنسبة له هي تشقّق غشاء الفم لديه نتيجة لتناول الخبز، وهنا تكون الصدمة الأولى، (الخبز الذي يمدّني بالغذاء، يجرح غشاء فمي من الداخل). نحن نحتاج إلى الوقت لتعلّم الأذواق المختلفة، هنالك شيء لا نخسره إطلاقًا وهو رائحة طعام “الأم”، يبقى حيًّا في داخلنا، لا نستطيع نسيانه، وفي الوقت نفسه رائحة الطعام والموسيقى خاصةً موسيقى الطفولة لا تُنسى على الإطلاق، لأنها على علاقة بموسيقى لغة الأم، فلغة الأم هي الموسيقى، نطق الأم، أغنية الأم. فحتى لو بقي الشخص في بلد أجنبي لمدة أربعين سنة، حين يتعرّض لمشكلة ويشتم بسبب الألم، فبالتأكيد سيشتم باللغة العربية، وإذا أردنا أن يحصي الأعداد، فحكمًا سيحصي بالعربية. لذلك، حتى لو قلنا إننا تأقلمنا مئة بالمئة، هناك أشياء ملحّة تبقى لدينا ولا مهرب منها، ستبقى معنا وترافقنا حتى الموت. ولكنّ التأقلم ليس ضدّ اللغة الأمّ أو ضدّ ثقافة المجتمع القديم. أطرح هنا مسألة نظرية، هل هناك إمكانية انفتاح ثقافة على أخرى؟ ربما ذلك ممكن على الصعيد الفرديّ مثلًا، فأنا لديّ إمكانية أن أصالح ما كنت عليه مع ما أنا عليه اليوم، وأن أصنع من نفسي هذه الشخصية ذات الانتماء المتعدّد، فأنا فرنسيّ في فرنسا ولكنني عربي في البلدان العربية، لا واحد منهما ضدّ الآخر، بل أنا الاثنان معًا بكفاءة، لكن الأشخاص الذين لا يمتلكون مرونة تعدّد الثقافات يصعب عليهم فهم ذلك، لا يفهم ذلك إلا من عاش تعدّدًا في الثقافات، ومن لم يعش هذه التجربة ولم ينفتح على ثقافة أخرى برأيي هو إنسان “جاهل”، طبعًا ليس بمعنى أنّه غبيّ أبدًا، بل بمعنى أنه يجهل الثقافات الأخرى، لذلك العنصريّون في أوروبا يتكلمون لغة الجهل، لأنهم لا يعرفون شيئًا عن الثقافات الأخرى.

  • مهندسة وكاتبة ومترجمة. ماجستير في الفلسفة. حائزة على المركز الأول في مسابقة القصة القصيرة لعام 2016 التي ينظمها المعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط في برشلونة، إسبانيا. لها عدة ترجمات منشورة منها: مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية لجوديث بتلر، سُبُل النّعيم: الميثولوجيا والتحوّل الشخصي لجوزيف كامبل، الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع لجوديث بتلر؛ وعدة أبحاث منشورة منها: الترجمة تفكيكيًا: الخطاب النسوي نموذجًا، جوديث بتلر: أدائيات الذات.

مشاركة: