قراءة في كتاب (خارج المكان) لإدوارد سعيد

 فادي كحلوس

اسم الكتاب: خارج المكان (مذكرات)

اسم المؤلف: إدوارد سعيد

ترجمة: فوّاز طرابلسي

مراجعة: ميسلون للثقافة والترجمة والنشر

الناشر: دار الآداب للنشر والتوزيع

مكان النشر: بيروت

تاريخ النشر: عام 2000

هذا الكتاب، هو رحلة في ذاكرة “إدوارد سعيد”، ذاكرة تجوب تفاصيل الأشخاص والأمكنة، وتستعرض صراعات طفوليّة بريئة؛ هزائم وانتصارات. ذاكرة تعوم على سطح تناقضات الهوية والثقافة. ما دوّنه “إدوارد” في كتابه هذا، يتعدّى، بالتأكيد، حاجز النوستالجيا، فقد ذهب إلى ما هو أبعد من حنين إلى ماضٍ، وشوق لأشخاص فقدهم، وأماكن خلت من أُناسها. فعلى الرغم من ألم ذلك الحنين إلى التاريخ والجغرافية، فإنّ استرجاعًا للهوية بهدف توكيدها قد سيطر على مجمل هذه الذاكرة، إن لم نقل إنّ هذا الاسترجاع للهويّة هو مسبّب لتلك العودة إلى سنوات “إدوارد” الأولى. أو لعلّ أثقال المنفى هي من حفّزته إلى نبش ماضيه واستيضاح ذاتيته في سبيل تدوينها وتثبيتها وتوثيقها.

فصول هذا الكتاب الأحد عشر هي حكاية حياة نُفيت، وتم اكتشاف اقتلاعها من أرضها خلال زيارة “إدوارد” الأولى لحي الطالبية في القدس. هي حكاية “خارج المكان” بعد فقدان البيت والوطن، وبعد سلسلة من الارتحالات، وبعد شعور عميق بصعوبة العودة. عنوان الحكاية البحث عن المكان، عن اللغة، عن الثقافة، وعن الهوية وعن الدور. لقد استجاب “إدوارد” وخضع لإلحاح ذاكرته، فكتب تلك الحكاية، مدوّنًا مشاهد ومشاهدات تعود لزمن طفولته، وإلى نكبة عام 1948، وسار بنا إلى مراهقته، وإلى نضجه، ووصل بسردياته إلى هزيمة حزيران 1967، وتخطّاها وصولًا إلى سنيّ مرضه، وهي سنين كتابة هذا الكتاب. ولعلّ حكاية “إدوارد” وإن كانت أقلّ أو أكثر ألمًا من غيرها، فإنّها حكاية ملايين الفلسطينيين، امتزجت فصولها، وتلازم عنوانها ومقدّمتها وصلبها وحبكتها وخاتمتها بالبحث عن “المكان” والشعور المزمن بالاغتراب والنفي.

عن اغتراب طفولته، يحدّثنا “إدوارد”: “وقع خطأ في الطريقة التي تمّ بها اختراعي وتركيبي في عالم والديّ وشقيقاتي الأربعة. فخلال القسط الأوفر من حياتي المبكّرة، لم أستطع أن أتبيّن ما إذا كان ذلك ناجمًا عن خطئي المستمرّ في تمثيل دوري أو عن عطب كبير في كياني ذاته. وقد تصرّفت أحيانًا تجاه الأمر بمعاندة وفخر. وأحيانًا أخرى وجدت نفسي كائنًا يكاد أن يكون عديم الشخصية وخجولًا ومتردّدًا وفاقدًا للإرادة. غير أن الغالب كان شعوري الدائم أنّي في غير مكاني.”

ويتناول الكاتب بعضًا من تاريخ عائلته؛ والده ووالدته وجدّتيه وآخرين. ويتحدّث عن إشكاليته الأولى المتمثّلة باسمه وتناقضاته “إدوارد سعيد”. وعن لغتَيه “العربية والإنكليزية” الّلتَين لا يعرف أيًّا منهما تعلّمها أولًا.

يتناول الكاتب في الفصل الثاني من كتابه ولادته في القدس عام 1935 وإقامته المتقطّعة هناك حتى عام 1947، حيث كان أبواه يقيمان في القاهرة. وعن فلسطين، يقول: “ذكرياتي الأولى عن فلسطين ذكريات عاديّة، والغريب أنها غير لافتة، قياسًا إلى عميق انشغالي اللاحق بالشؤون الفلسطينية. كانت فلسطين مكانًا أُسلّم به تسليمًا، بما هو الوطن الذي أنتمي إليه، يعيش فيه أقرباء وأصدقاء بطمأنينة لا تحتاج إلى تفكر”. وينتقل إلى وصف القدس وصفد ورام الله، والأجواء العائلية هناك. كما تناول وصفًا للقاهرة، ولحيّ الزمالك، حيث يقطن، وعن وروتينه اليوميّ هناك.

في الفصل الثالث، يركّز الكاتب على أيام دراسته في مدرسة الجزيرة الإعدادية: “حيث لم يكن في المدرسة أيّ أستاذ مصري، كما لم أعاين أيّ حضور عربي مسلم؛ فالتلامذة أرمن ويهود مصريّون وأقباط ويونانيون، إضافة إلى عدد غير قليل من أولاد الإنكليز”.

في الفصول المتعدّدة التالية، تناول الكاتب هيمنة أبيه القوي، كما أجرى مقارنات بينه وبين ما يملكه الكاتب من خجل وانكماش وتردّد وضعف. كما تحدّث عن القيم العائلية، من محرّمات وتوجّسات. كما تحدّث عن أثر مدرسة القاهرة للأطفال الأمريكيين التي ارتادها في خريف العام 1946: “المدرسة الأمريكية أجبرتني على أخد “إدوارد” على محمل الجدّ أكثر من ذي قبل بما هو كائن معطوب وفَزِع وضعيف الثقة بالنفس. وكان الشعور العام المسيطر عليّ هو شعوري بامتلاك هوية مضطربة، أنا الأمريكي الذي يُبطن هوية عربية أخرى لا أستمد منها أية قوة، بل تورّثني الخجل والانزعاج.”

ويضيف: “يومًا بعد يوم في المدرسة أخذت أشعر بالفرق بين حياتي الشخصية، أنا “إدوارد” ذو الهوية المزوّرة بل والأيديولوجية، وبين حياتي في البيت.”

كما يفرد الكاتب مساحةً وافرةً للحديث عن عام 1947 وما بعده، وعن “معالم الأزمة الزاحفة التي تحدق بنا”. ويضيف: “عندما أسمع الآن إشارات إلى القدس الغربية، فإنها تعني دومًا بالنسبة إليّ الأحياء العربية لمرابع طفولتي. وما يزال يصعب عليّ أن أتقبل حقيقة أنّ أحياء المدينة تلك، حيث ولدت وعشت وشعرت بأني بين أهلي، قد احتلّها مهاجرون بولونيّون وألمان وأمريكيّون غزوا المدينة وحوّلوها رمزًا أوحد لسيادتهم، حيث لا مكان للحياة الفلسطينية التي انحسرت إلى المدينة الشرقية التي أكاد لا أعرفها. فلقد أضحت القدس الغربية الآن يهودية بالكامل، وطرد منها سكّانها السابقون نهائيًا في أواسط العام 1948.”

وعن الفترة الزمنية التي تلت النكبة مباشرة يقول الكاتب: “لاحقًا، في القاهرة، حافظ مقدار من الرسميات على التماسك السابق للعلاقات بين أفراد الأسرة الموسّعة. على أنّي اكتشفت شروخًا وتباينات وانتكاسات لم تكن موجودة من قبل. وبدا وكأننا جميعًا قد تخلّينا عن فلسطين بما هي مكان لا عودة إليه، لا يكاد يرد ذكره في الأحاديث، ولكننا نفتقده بصمت وبلوعة باعثة على الشفقة”.

كما استعرض الكاتب أحوال عوائل كان يعرفها؛ كيف كانوا وكيف أصبحوا بعد اللجوء؛ من فقر إلى تكرار الانتقال من منزل لآخر، إلى تخبط أعمالهم وتعاستهم وغير ذلك من مآسيهم.

ينوّه الكاتب مرارًا إلى أن والده تعامل مع “خسارة فلسطين” بالصمت حيالها، وأنّ المجدي بالنسبة إليه هو التفكير بالحاضر. ولذلك لم يكن للكاتب أنّ يسأل أو يعرف أكثر عن حجم تلك الخسارة، وهو في ذلك العمر الصغير. ولكن وجود عمّته نبيهة، والتي كان لها نشاط كثيف وجهود كبيرة في متابعة أمور مخيّمات اللجوء، والاهتمام الخاص بالحالات الطبية والأطفال من اللاجئين، ساعده على معرفة تاريخ فلسطين والقضية الفلسطينية، فيقول: “بفضل عمّتي نبيهة، اختبرت فلسطين تاريخًا وقضية من خلال الغضب والاستنكار اللذين أثارهما فيّ عذاب اللاجئين، هؤلاء “الآخرين” الذين أدخلَتهم هي إلى حياتي. وهي أيضًا أوّل من نقل إليّ مشقّات أن يكون المرء بلا وطن أو مكان يعود إليه، محرومًا من حماية سلطة أو مؤسّسات وطنية، عاجزًا عن أن يعطي ماضيه أي معنى غير الأسف المرير العاجز، وعن أن يعطي أيّ معنى لحاضره غير الوقوف في الصفّ يوميًّا والبحث القلِق عن العمل ومعاناة الفقر والجوع والمذلّة. وكان إحساسي حادًّا جدًا بكل هذا من خلال الاستماع إلى أحاديثها، ومراقبة تنظيم عملها اليومي المحموم”. ويضيف الكاتب: “كنت قد تجاوزت الثالثة عشرة من عمري حينها، وما أزال أذكر عشرات التفاصيل والوجوه والخطابات المقتضبة الباعثة على الشفقة ونبرة عمّتي التنفيذية. ولكنني لا أذكر أبدًا أننّي أدركت بوضوح أنّ هذا المشهد المحزن إنما هو النتيجة المباشرة لسياسةٍ ولحربٍ كانت لهما كل تلك العواقب الوخيمة على عمّتي وعلى عائلتنا نحن بالذات. وكانت تلك تجربتي الأولى في محاولة التخفيف من عذابات الهوية الفلسطينية بواسطة عمّتي، وبناءً على التعرّف إلى بؤس وضعف هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين الذين تستدعي حالتهم المساعدة والعطف والمال بقدر ما تستثير الغضب.”

غادر الكاتب وعائلته القاهرة للاستقرار في “المنفى الأمريكي” عام 1951، وعند وصولهم إلى نيويورك واجهتهم مشكلة الوضع القانوني لأمّه “فقد أضحت بلا جنسية بعد سقوط فلسطين”. وليسترسل الكاتب في وصف دقيق لمشاعره تجاه هذا المنفى وانطباعاته عنه “كانت فلسطين تلوح كلمح البصر ثم تختفي سريعًا حياتنا النيويوركية”.

مما أورده الكاتب عن حياته في المنفى ننقل الآتي:

“نجحت في أن أفصل ذهنيًّا بين الدعم الأمريكي لإسرائيل وبين كوني مواطنًا أمريكيًا يمارس مهنته في الولايات المتّحدة وله أصدقاء وزملاء يهود”.

“كنت أعاني أنا نفسي فصامًا تجاه فلسطين، ولم أنجح في محاولاتي تجاوزه، ولم أدركه تمام الإدراك إلا مؤخّرًا، عندما أقلعت عن المحاولة. وحتى في هذا الوقت الحاضر، فإن تلك الازدواجيّة المستمرّة في نظرتي إلى المكان وإلى خسارته المحزنة بالاقتلاع المركّب والتمزيق، ونظرتي إلى موقع فلسطين بما هي بلد رائع لهم هم، يوجعني على الدوام ويورثني شعورًا مُحبطًا بأني وحيد وأعزل ومعرّض لاعتداءاتِ أشياء تافهة، تبدو مع ذلك هامّة وخطيرة، ولا أملك تجاهها أيّ سلاح”.

“من العام 1951 إلى حين وفاتها في العام 1990، عشت أنا وأمي في قارتين مختلفتين، ولم تكفّ عن ندب حظّها العاثر لكونها الوحيدة بين صديقاتها التي تعاني آلام الانفصال عن أولادها”.

“إلى هذا اليوم، أشعر بأني بعيد عن البيت، مهما بدا الأمر مضحكًا. ومع أني لست متوهّمًا أني كنت سأعيش حياة أفضل لو بقيت في العالم العربي، أو عشت ودرست في أوربا، فما يزال يلازمني بعض الندم. وهذه المذكرات هي، في وجه من وجوهها، استعادة لتجربة المغادرة والفراق، إذ أشعر بوطأة الزمن يتسارع وينقضي. ولما كنت قد عشت في نيويورك بإحساس مؤقّت على الرغم من إقامة دامت سبعة وثلاثين عامًا، فقد فاقم ذلك من ضياعي المتراكم، بدلًا من مراكمة الفوائد”.

يختم الكاتب مذكّراته هذه بالقول: “إنّ الأرق عندي حالة مباركة أرغب إليها بأيّ ثمن تقريبًا، فليس عندي ما هو أكثر تنشيطًا من أن أطرد عنّي فورًا ظلال الوسن لليلة خسرتها غير إعادة تعرّفي، في الصباح الباكر، على ما كدت أخسره كليًا قبل بضع ساعات أو استعادتي إياه. بين الحين والآخر، أرى نفسي كتلة من التيارات المتدفّقة. أؤثر هذه الفكرة عن نفسي على فكرة الذات الصلدة، وهي الهوية التي يعلّق عليها الكثيرون أهمّية كبيرة. تتدفق تلك التيارات، مثلها مثل موضوعات حياتي، خلال ساعات اليقظة. وهي، عندما تكون في أفضل حالاتها، لا تستدعي التصالح ولا التناغم. إنها من قبيل “النشاز” وقد تكون في غير مكانها، ولكنها على الأقل في حراك دائم في الزمان وفي المكان، وبما هي أنواع مختلفة من المركبات المختلفة، لا تتحرك بالضرورة إلى الأمام، وإنما قد يتحرك أحيانًا واحدُها ضدّ الآخر، على نحو طباقي، ولكن من غير ما محورٍ مركزي. إنه ضرب من ضروب الحرّية، على ما يحلو لي أن أعتقد، على الرغم أني بعيد كل البعد عن أن أكون مقتنعًا كليًا بذلك. ونزعة التشكيك هذه هي أحد الثوابت التي أتشبث بها بنوع خاص. والواقع أنني تعلّمت، وحياتي مليئة إلى هذا الحدّ بتنافر الأصوات، أن أؤثِر ألّا أكون سويًا تمامًا، وأن أظل في غير مكاني.”

إنّ ما أورده إدوارد سعيد بين سطور حكايته، ودون أيّ ذكر صريح له، هو أن الانتماء يحتّم علينا، نحن المنتمين، أن نبقي المكان داخلنا، نحمله أنّى ارتحلنا، نعود إليه في لحظاتنا الوجدانية، قد نعمل من أجله أو قد لا نفعل، ولكن نسيانه أو إفراغ ذاكرتنا من تفاصيله، هو ضرب من العبثية. لقد نُفي الكاتب عن مكان، ككثيرين غيره، ولكن هذا “المكان” قد استقرّ بداخله، وتبقى الذاكرة هي تذكرة السفر المتاحة والمفتوحة لانتقالنا وتجوالنا داخل أمكنتنا المفضّلة. ويبقى أمل العودة الشريان الذي يغذّي الحياة في حياتنا خارج المكان.

مشاركة: