في علاقة اللغة بالفكر والسلطة

شاع النظر إلى الترجمة على أنها عملية تُعنى بالتكافؤ الشكلي والنصي والديناميكي بين اللغات، حيث ركّزت نظريات الترجمة التقليدية على الاختلافات بين اللغات وإشكالات نقل الرسائل من لغة إلى أخرى. غير أن ظهور الدراسات بعد الكولونيالية في القرن العشرين ثم انعكاسها على نظريات الترجمة وولادة دراسات الترجمة بعد الكولونيالية قد كشف، لا عن البُعد الثقافي فحسب، بل عن البُعد السياسي والاجتماعي للترجمة أيضًا. وقد تطرّق إدوارد سعيد في كتاب الاستشراق إلى البُعد الأيديولوجي للترجمة وإلى إمكانية تورّط الترجمة في مشروع هيمنة ثقافية عند غياب النقد الفعال الذي يكشف عن هذه الهيمنة التي تمارسها ثقافات قوية على ثقافات أضعف منها من خلال اللغة، ويميط اللثام عن تباينات القوة بين اللغات التي من خلالها تبتلع لغات “كبرى” لغات أخرى “صغرى”، وتُعيَّن اللغات في ثنائيات متضادة وتراتبية (مركزية/هامشية، متحضرة/همجية، عقلية/حسّية).

في هذا السياق، ومن خلال النظر في الاتهامات الموجَّهة إلى اللغة العربية، التي من نافل القول إنها تستخدِم المنطق الثنائي التراتبي إيّاه، فتقول بهامشية وبدائية ولاعقلانية اللغة العربية، ومن خلال التمعّن في الدعوات المتزايدة إلى التحرّر من سلطة اللغة العربية وإحلال اللهجات العامية المحلية محلّ العربية الفصحى في الكتابة والترجمة، تنبثق أسئلة كثيرة، هل هذه الدعوات محقّة؟ هل تنبع من حاجات واعية بنفسها إلى التغيير والتطوير؟ هل الحلول المطروحة عملية وقابلة للتطبيق، أم أنها تلجأ إلى أساليب تساهم في خلخلة المعنى أو زيادة الفقد الحتمي الذي تفرضه عمليتا الترجمة والكتابة؟

هنا تمامًا، تبرز أهمية الترجمة، والترجمة الثقافية بصورة خاصة، التي تفصح عن نفسها كإجابة حاسمة عن أسئلة اللغة العربية والاتهامات الموجَّهة إليها بالقصور والعجز، حيث تنكشف من خلال الترجمة طواعية اللغة ومرونتها وقدرتها على استيعاب مختلف العلوم والمعارف. لكن موقفنا هذا من اللغة العربية لا يعني التبرؤ من مشكلات اللغة الكثيرة، وارتباطها بمشكلات السلطة والإيديولوجيا عبر التاريخ، وما يترتب على ذلك من ظهور فجوة واضحة، بين اللغات العامية المنطوقة واللغة المكتوبة، تزداد اتساعًا يومًا بعد يوم، أو الإغفال عن تقصير مؤسسات ومجامع اللغة العربية في عملها، غير أن عملها نفسه يخضع بدوره لاعتبارات سياسية، ما يحيلنا من جديد ومن خلال اللغة إلى السلطات السياسية الحاكمة والمتحكّمة في زمام الأمور.

اعتمد النقد الموجَّه إلى اللغة العربية على حجة أساسية هي حسّية اللغة العربية وبدائيتها وعدم قدرتها تاليًا على استيعاب العلوم وذلك بالاعتماد على العلاقة بين اللغة والفكر التي تناولتها الفلسفة واللسانيات. لكن قبل الخوض في هذه الحجة، وبالعودة إلى الثنائيات المتضادة، إذا افترضنا بشكل تعسّفي أن العربية حسّية فعلًا ولا تصلح لما هو عقلي، كما زعم محمد عابد الجابري، فالسؤال الواجب طرحه هنا، قبل التصدّي لهذا الزعم: مَن أو ما الذي وضع هذا المعيار؟ مَن أو ما الذي جعل الحسّية دليلًا على التخلّف، والعقلانية دليلًا على التطوّر؟ والغاية من هذا السؤال ليست التقليل من شأن العقل أو الإعلاء من شأن الحِسّ، بل توجيه الانتباه نحو معيارية سائدة في حاجة إلى النقد، وتحويل السؤال نحو مشروع الحداثة الذي يُنظَر إليه بوصفه مثالًا يُقتدى به، والذي وُجدَ بأنه مشروع غير مكتمل ويحتاج في حدّ ذاته إلى النقد والمساءلة. يقول الفيلسوف الألماني فيلهلم فون همبولت، الذي استعان به الجابري لتشريع مشروعه في نقد العقل العربي: “ليس للغات أن تأمل في ملء تفتحها إلا أن تكون عرفت، لمرة واحدة على الأقل، انطلاقة الروح الشعري والروح الفلسفي”. ويكمل طرابيشي الذي نقَدَ نقْدَ الجابري للغة العربية بالقول، “وذلك هو _ربما حصرًا_ شأن السنسكريتية واليونانية والعربية”.

هذا النوع من الأسئلة هو الذي يجب الانطلاق منه قبل الخوض في النقاش، هذا النوع من الأسئلة هو الذي يوقظ الذات من غفلتها الإنسانوية والعلموية، هذا النوع من الأسئلة هو الذي يعيد الذات الناطقة بالعربية إلى المركز وموقع الفاعلية، وهو ما يمهّد السبيل الصحيح لكي تنتقد هذه الذات ذاتها أو لغتها بموضوعية وحيادية، وهو ما تركّز عليه دراسات الترجمة الثقافية وبعد الكولونيالية وتتناوله رواق ميسلون في عددها هذا.

في علاقة اللغة بالفكر

يُعَدُّ سؤال العلاقة بين اللغة والفكر، وإمكان استقلال الفكر ووجوده خارج اللغة أم لا، من أقدم الأسئلة في تاريخ الفلسفة، فقد جعل أرسطو المقولات اللغوية مقولات عقلية، أي قال بعدم إمكان التفكير إلا بالكلمات، ووحَّد بذلك بين اللغة والفكر من خلال إسقاط مقولات اللغة اليونانية على الفكر. وهنا، وقبل الخوض في مدى صحة هذا الزعم، تنبغي الإشارة إلى أن هذا التوحيد قد جاء بنتيجة أخرى غير متوقَّعة، فقد بُنيت الخصوصية اليونانية على أساس هذا التوحيد، وعمَّت التفرقة بين الناس بناءً عليه، فأصبح اليوناني هو الذي يفكّر ويفهم، وكل مَن يتكلم لغة أجنبية هو بربريّ لا يفهم. استمدّ محمد عابد الجابري هذه الفكرة الأرسطية، معتمدًا على عدد من الفلاسفة الألمان مثل هردر وهمبولت، في مشروعه الفكري لنقد العقل العربي، فقد رأى أن اللغة العربية التي تأثرت بمحيطها الطبيعي الصحراوي لغة فقيرة، حسيّة ولاتاريخية، ومعجمها “لا ينقل إلينا على ضخامة حجمه، أسماء الأشياء الطبيعية والصناعية ولا المفاهيم النظرية”. وبذلك استنتج أن النسق الفكري العربي، الذي يراه مطابقًا للنسق اللغوي، مغلق على نفسه، مطلِقًا أحكامًا تعسّفية تبخيسية على العقل العربي. وقد جاء ردّ جورج طرابيشي على الجابري، في كتابه إشكاليات العقل العربي، وافيًا وكاشفًا لغائية واضحة في مشروع الجابري، وعدمِ دقة في الاقتباس والرجوع إلى الشواهد، واعتمادٍ على مرجعيات لاهوتية غير علمية. وعلى الرغم من أن طرابيشي قد أوضح المغالطات في فكر الجابري، وأسهب في شرح الإبستميات التاريخية التي حكمت ثقافات العصور القديمة والوسطى في ما يتعلق بعلاقة الفكر باللغة والتي تكشف عن النزعة الثقافية القومية التي تتخذ من اللغة أداة للتفريق بين الأمم والقوميات، ودافع عن العربية بوصفها لغة كغيرها من اللغات تحمل رؤية أصيلة للعالم، فقد عاد النقاش ليطفو إلى السطح من جديد في ما يتعلق باللغة والثقافة العربيتين مع انطلاق الثورة التي أحدثتها أعمال تشومسكي في عالم اللسانيات، ووَضْع قواعد النحو التوليدي التحويلي، وقيام حوار جديّ بين اللسانيات والترجمة. حيث وُظِّف النموذج التشومسكي الجديد، الذي يربط اللغة إلى العقل، لشنّ الاتهامات نفسها على اللغة والترجمة العربيتين مرة أخرى.

وبصرف النظر عن مدى صحة نظرية تشومسكي في اللسانيات التي قد لا نتفق معها في رؤيتها إلى اللغة بوصفها “غريزة” بشرية طبيعية، وفي إغفالها كلًا من البُعد الاجتماعي الأساسي للغة والصيرورة الخاصة بها، إلا أن تناوُل هذه النظرية وربطها بمشكلات الترجمة إلى العربية كان عاريًا من الصحة، فتشومسكي قد فرّق بين البنى العميقة والبنى السطحية للغة، ووجد أن البنى العميقة مشتركة بين جميع اللغات، وأن الاختلاف يكمن في البنى السطحية فحسب، وأن مشكلات الترجمة تنجم عن تنوع البنى السطحية التي يحاول المترجم حلّها من خلال عملية “غطس” في البنى العميقة، فحتى حين تغيب كلمات ومفردات من معجم لغة معينة، هذا لا يعني عدم القدرة على التعبير عن هذه المفردات الغائبة أو ترجمتها، فبسبب البنية العميقة المشتركة بين اللغات، يمكن العثور على بدائل. غير أن موقف تشومسكي الصارم تجاه الترجمة، التي كان ينظر إليها بوصفها “ممارسة علمية ترمي إلى مقاربة اللغة كآلية صورية”، قد تغيَّر في ما بعد، حيث ركّز بدلًا من ذلك على “المبدأ الإبداعي” الذي يوسّع من هامش الحرية المتاح للمترجم.

من ناحية أخرى، من خلال النظر في مدارس لغوية أخرى معاكسة للتراث الأرسطي الذي يربط الطبيعة باللغة ومن ثم بالفكر، يسلّط جاك دريدا الضوء على أثر الإنسان، أي الدور الاجتماعي، في بناء اللغة، ويكشف عن “معنى” الطبيعة الذي هو في حدّ ذاته أيضًا مبني ومؤسَّس بواسطة الإنسان، ويجد أن اللغة مصمَّمة للتواصل البشري ووصف الفاعلية البشرية؛ وعليه، هي غير قادرة على وصف الطبيعة وصفًا صحيحًا فهي لم تُصمَّم لهذا الغرض. ومع ذلك، فإن دريدا لا ينكر التأثير الذي قد تمارسه لغة ما على الفكر والترجمة، لكنه يؤكّد على أهمية تحديد هذا التأثير بدقة، ويرى أن هذا التأثير لا يجعل اللغة مغلقة أو جوهرًا ثابتًا، وأن اللغات، على الرغم من اختلافاتها البنيوية الجوهرية، تبقى قادرة على استيعاب مختلف المفاهيم والمقولات العقلية، مستشهدًا بما قاله إيميل بنفنيست: “بوسع اللغة الصينية أن تكون وضعت مقولات خاصة مثل التاو واليين واليانع: لكنها غير قاصرة عن استيعاب مفهوم الجدل المادي أو الميكانيكا الكوانتيّة (الكمية) دون أن تشكّل البنية الخاصة باللغة الصينية عائقًا دون ذلك”.  

في علاقة اللغة بالسلطة

كثرت الدعوات إلى اتخاذ اللهجات المحكية والعامية لغة للكتابة والترجمة في الآونة الأخيرة، على الرغم من قدم هذه الدعوات والإقبال السابق عليها من طرف عدد من كبار الكتّاب والمثقفين والمستشرقين. تفاوتت أسباب هذه الدعوات بين الحاجة إلى التحرّر من قبضة اللغة الصارمة، والتحرّر من السيطرة والاستبداد الذي تمارسه الأنظمة والسلطات السياسية من خلال اللغة، أو حتى التحرّر من الطابع النخبوي والديني والقومي الذي انطبعت به اللغة العربية. تتمثّل الحجة الأساسية لهذه الدعوات في أن اللغة العربية ليست لغتنا الأم، بل هي لغة نكتسبها مع الوقت ولا نتقنها تمامًا، وأنها من الصعوبة بحيث لا تقبل الإتقان، ولا يمكن أن يعبِّر من خلالها الفرد عن، كما يزعم المحلّل النفسي المصريّ مصطفى صفوان، “وجداناته وهمومه وتطلعاته”.

شأنها شأن هذه الدعوات، كثيرة هي الدراسات والمشروعات التي حاولت الردّ على محاولات استبدال العامية بالفصحى ونقدها والدفاع عن الفصحى. غير أن النقد الذي وُجِّه إلى هذه المحاولات كان على نوعين: النقد الأول غلب عليه الطابع السياسي والقومي والديني، فراح يُعلي بشكل تحيزيّ مفرط من أهمية اللغة العربية وخصوصيتها ويحطّ من شأن اللغات الأخرى، أما النقد الثاني فقد تعامل بشكل براغماتي مع الأمر، واستبعد مشروع التحوّل نحو العامية لأنه مشروع غير قابل للتطبيق لكثرة اللهجات واللغات المحكية وصعوبة المفاضلة بينها.

ولعلّ السؤال الواجب طرحه هنا، هل من سبيل آخر للحديث عن اللغة على نحو عقلانيّ من دون تبجّح أو تنكيس؟

قبل الخوض في الموضوع، يُحتَّم على المرء، باسم المنطق والأمانة العلمية، أن يسائل المقولات والأسئلة نفسها التي وُجِّهت إلى اللغة العربية قبل التسليم بها والإجابة عنها. ومن خلال النظر في المنطق الأبرز والأعم الذي استُخدم من كلا الطرفين، الطرف المُدافع عن العربية الفصحى والطرف المناهض لها، نجد أن هذا المنطق الثنائي يضع اللغة العربية في قطب واللغة العامية في القطب المقابل. فنرى مثلًا أحد الكتّاب يُسمّي العربية الفصحى “لغة الخاصة” و “لغة النخبة”، ونرى كاتبًا آخر يسميها “لغة السلطة” مقابل جعله العامية “لغة الشعب”. وما يترتب على ذلك، بعيدًا عن الشعبوية الفاقعة في توصيف الفصحى والعامية، هو التعامل مع اللغة العربية الفصحى ككتلة صمّاء ونظام لغوي لاتاريخي لم يتغيّر أو يتبدّل أو يتفاعل مع غيره من اللغات واللهجات المحلية القديمة واللغات الحديثة الخارجية، كجوهر ثابت لم يتأثر بالظروف التاريخية والعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة. غير أن نظرة واحدة غير متعمّقة إلى الكتابة الصحافية اليوم أو الشعر الحديث أو الترجمات المعاصرة أو إلى أي نوع من أنواع الكتابة ومقارنته بالكتابات العربية الفصحى القديمة سابقًا تكفي لإدراك أن الفصحى تغيّرت وما زالت قيد التغيّر. إن نظرة واحدة غير متبصّرة إلى الصور الشعرية والاستعارات والأمثال الشعبية القديمة والحديثة واللغة المستخدمة فيها تكفي للتأكد من أن اللغة العربية الفصحى قد سبقتنا وشكّلت قطيعة رشيقة مع ماضيها، من دون أن تخبرنا، ومن دون أن تنتظر منا ثوراتنا عليها. وذلك ليس لميزة خاصة بها، بل لأن اللغة بطبيعتها حيّة أيضًا، تتكلم أيضًا، ولها منطقها الخاص وآليات عملها النفسية للشفاء والبقاء. يقول الشاعر رينيه شار: “الكلمات التي سوف تولد تعرف عنّا ما نجهله عنها”. ولأن اللغة أصلًا ليست جوهرًا ثابتًا، ولأنها لا تُقعَّد في لحظة زمنية معيّنة، ولأنها ذات طبيعة خاصة تتمثّل في تفلّتها الدائم من الضبط والعقلنة والقوننة، تكون اللغة في حالة تغيّر تلقائي دائم، خاضعةً لآليات لاواعية وغير غائية أو محدَّدة سلفًا، وهنا يقول جان جاك لوسركل: “إن تطوّر اللغة لا يعكس تشكلًا سابقًا غائيًا لها بقدر ما يعكس تغيرًا اعتباطيًا يحكمه تضافر الظروف التاريخية والاجتماعية واللغوية”.

هنا تمامًا، نسأل المدافع عن اللغة العربية الفصحى الذي يحمل دفاعه نزعة نرجسية استعلائية، ونسأل أيضًا المناهض للغة العربية الفصحى الذي يحمل نقده لها شططًا حداثويًا علمويًا كارهًا للذات، عن أي لغة عربية فصحى تتحدثان؟ فقبل الحديث عن العامية، يجدر بالمرء هنا تحديد ما “الفصحى”. ومِن هنا تمامًا، بعد خلخلة المفهومين الجوهرانيين للفصحى والعامية، وبعد الاعتراف بالتغيّر الكامن في كل لغة، يمكن للمرء الآن الانطلاق ومحاولة الخوض في النقاش. 

في النظر عميقًا في بنية اللغة العربية الفصحى أو اللغات العامية أو حتى أي لغة أخرى، يجد المرء أن هناك نزاعات ضمن اللغة الواحدة، وهناك أقليات وأكثريات داخل اللغة الواحدة تحكمها علاقات القوة، أي أن هناك تخريب وسيطرة وتهميش وقتل أيضًا، فتختفي كلمات وتراكيب وتشيع أخرى _مَن منّا يعرف اليوم أسماء الأسد الثلاثمئة؟_ ضمن اللغة العربية الفصحى، لأسباب عدة قد تكون اجتماعية تفرضها العادات والتقاليد ومعايير السلوك والأخلاق أو سياسية تفرضها المؤسسات ونظام الحكم في دولة معينة، ما يجعل العربية الفصحى في داخلها وفي حدّ ذاتها مجالًا للصراع، ويكون تاليًا من الإجحاف جعلها لغة للسلطة وفي صراع مع الشعب ولغاته العامية. غير أن المقارنة بين الفصحى في بلاد الشام والفصحى في المغرب العربي مثلًا خير دليل على أن الفصحى ليست واحدة هنا، وهي بالأحرى لغات عربية فصحى كما هي حال اللهجات العامية، وتخضع لصراعات داخلية محلية. هذه الصراعات ضمن اللغة الواحدة، وفي حالتنا ضمن اللغة العربية الفصحى، هي تحديدًا ما أكسَبَ، ويُكسِب، اللفظة معناها. فالمعجم يبقى محدودًا في تفسيره لمعنى كلمة معينة، ولا يقدّم لنا إلا العلاقة بين كلمة وأخرى، إلا أن التوتر والصراع الكامن في اللغة والذي يرتبط بالظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية هو ما يجعلنا نصل إلى فهم عميق لكلمة معينة. وفي ما يتعلق باللغات العامية المحكية، فكل ما سبق ذكره على الفصحى ينطبق عليها أيضًا، والصراعات قائمة ضمن اللهجات العامية وبين اللهجات العامية، وغالبًا ما تنتصر فيها اللهجات البيضاء الواضحة والمفهومة من طرف عامة الناس، وبذلك تُهمَّش وتُقتل كلمات وتراكيب ولهجات، وتبقى اللهجة “الأقوى والأصلح”، بحسب قانون التطوّر إن جاز لنا القول، والأكثر مفهومية ومقروئية.

إن الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية قد دفعت اللغة العربية الفصحى إلى تبسيط نفسها تلقائيًا في المكتوب والمنطوق، وإن التقدم والازدهار العلمي والفكري والانفتاح على العالم قد دفع اللهجات العامية إلى تفصيح المنطوق كحاجة بديهية لاواعية إلى المقروئية والوضوح. وعليه، إن الفجوة القائمة بين العامية والفصحى، أو بالأحرى بين اللغات العامية واللغات الفصحى، تتقلص تلقائيًا يومًا بعد يوم من دون إقحام أو تدخّل تعسفي، فقد دخل كثير من المفردات العامية الجميلة والإبداعية إلى قاموس الفصحى، ولا بأس في دخول مزيد من إبداعات العامية إلى الفصحى، وانتقل كثير من التراكيب الفصيحة إلى العامية، ولا بأس في ذلك أيضًا، فالفصحى تعني قبل أي شيء الوضوح. وما على المرء ذي الرغبة الحقيقية في الإصلاح والتطوير إلا توجيه أصابع الاتهام نحو المؤسسات الحاكمة السياسية والدينية المسؤولة عن اللغة وكل ما له علاقة بها والتي تُعَدُّ السبب الأساس في عُسر النحو وأزمة المعاجم وعدم انفتاح اللغة على حاجات العصر المتنامية، وفي هذا الصدد يقول هادي العلوي: “إن شطرًا وافيًا من الفوارق بين العامية والفصحى هو من عمل الصناعة ليس الطبع، ويمكن القول إنها لم تكن لتظهر بهذا القدر من الاتساع لولا الجموح الأرستقراطي الذي ساق الكتّاب واللغويين إلى اصطناع الحواجز عن لغة الكلام وتسييج الكلام ولغة الكتابة بأصول وتحريمات مبالغ بها”.

أما  في ما يتعلق بمقارنة مشروع الحداثة الغربي بصورة مجحفة مع مشروع الحداثة العربي المبتغى، أو مقارنة اللغة العربية مع اللغة اللاتينية، التي كانت لغة العلم والفلسفة والطب ولغة الكنيسة والسلطة أيضًا والتي كانت مسيطرة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية ثم تحوّلت مع حلول عصر النهضة إلى لغات ولهجات رومانية عامية، وهذا ما فعله الكاتب والمحلّل النفسي مصطفى صفوان في كتابه “لماذا العرب ليسوا أحرارًا؟”، يغيب عن ذهن صفوان وغيره، ممّن يوظّفون هذه المقارنة للترويج للغات العامية، ما آلت إليه العربية بعد انهيار الحضارة الإسلامية، والدخول في عصر الانحطاط، وحالة الانحسار التي طالت جميع وجوه الحياة في المنطقة، حيث اختفى النشاط الكتابي والعقلي، وتوقفت العلوم تمامًا، وأُلغي ديوان الإنشاء، وانتهى علم الكلام. وقد حلّ العصر الحديث والعربية مهدّدة بالانقراض، فما كان ممكنًا للعربي الذي كان يجابه العالم ويواجه صدمة حضارية أن يفعل ما فعله الشاعر الإيطالي “دانتي أليغييري” بأن يكتب رائعته “الكوميديا الإلهية” بالإيطالية وليس باللاتينية، وأن يطالب بالتحوّل نحو الإيطالية العامية. على العكس تمامًا، بل للخروج من المأزق الذي كان يعيشه العربي في المنطقة، كان عليه أن يعود إلى الكتابة والتدوين وأن يتمسّك بلغته، وهذا ما حصل في حركة الإحياء اللغوي التي ظهرت في القرن التاسع عشر وانتهت باسترداد المعاجم والكتابة والمشروعات التأليفية الطموحة.

يطول الحديث في هذا الأمر، ولا يمكن الإلمام بجوانبه كافةً هنا، وهو بلا شك في حاجة إلى كثير من الأبحاث التي تلتزم النقد المادي الذي ينظر في العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية كافةً قبل الخروج بنتيجة معينة. غير أنه يجدر بالذكر هنا، بالعودة إلى الدراسات السطحية والثنائيات التبسيطية التي تستسهل تسمية الفصحى بـ “لغة الخاصة والنخبة” والعامية بـ “لغة الشعب”، أن اللغة الفرنسية، التي جاءت أساسًا لتثور على اللاتينية التي عُدّت لغة النخبة، أصبحت “لغة نخبة” ولغة الطبقات العليا في حدّ ذاتها، وبحلول الثورة الفرنسية لم يكن سوى نصف الشعب الفرنسي قادرًا على التحدث بالفرنسية..

مشاركة: