الترجمة وتحدّي تقمص شخصية الكاتب

في الحقيقة ما من بداية واضحة المعالم للحظة البدء في الترجمة، ولكن ما أدركه تمامًا أنها لم تقترن أبدًا بحصولي على شهادة جامعية من قسم اللغة الفرنسية من كلية الآداب، ولم تكن خيارًا مطروقًا أو حتى فكرة خطرت على البال، لا أعرف السبب الحقيقي وراء هذا، لكنني أظنه البحث عن مصدر دخل ثابت والخوف في دخول مضمار الترجمة، وغياب البوابات التي تقود إلى هذا الأمر، حيث كانت التكنولوجيا في بداية دخولها إلى المجتمع السوري. في عام 2009 قمت بإرسال سيرتي الذاتية للمرة الأولى عبر البريد الإلكتروني إلى مجلة دبي الثقافية على أمل العمل معهم في مجال الكتابة أو قراءة الكتب أو ترجمة قصائد، وحين أضفت إليها أنني أتقن الفرنسية كتابةً ولفظًا، أحسست بأنني أكتشف هذا أول مرة، وبدأت بترجمة القصائد بين الحين والآخر لعدة مجلات، وبعض قصص الأطفال الفرنسية، ثم اتجهت بعدها إلى قراءة الكتب أو المقال الأدبي، ولم أتوقف طوال تلك الفترة وحتى هذه اللحظة عن الاطلاع على الأدب الفرنسي وتصفح إصداراته، وترجمت أثناء ذلك كتاب فاطمة المرنيسي الحب في البلدان الإسلامية، وكتاب الحب الخالص ونصوص أخرى لكريستيان بوبان، دون أن أفكر بالنشر أو أتواصل مع دور لهذا الغرض، كان الدافع هو أهمية ما قرأته داخل غلافيهما من رؤى ووقائع وفلسفة، وبعد ذلك أي منذ 3 سنوات فقط، قررت التخلص من العمل الوظيفي وخوض هذا المجال الذي كثيرًا ما كان مخيفًا لي بطريقة أو أخرى. راسلت عدة دور نشر وتم الاتفاق على العمل وعلى نشر كتاب المرنيسي، ولكن الخوف زاد ولم ينقص، والتحدي بات يوميًا والمنافسة ذاتية بحت.

لا أعرف إن كان باستطاعتي الحكم على التجربة بعد، لكنها كانت بمنزلة ولادة جديدة على الصعد كافة، الانتقال من ساعات عمل محددة وراتب محدود يحكمه الروتين، إلى ساعات تتحكم أنت في طريقة تعاملك معها لتضع في رواق حياتك سلّمًا يكسر أفقيتها الرهيبة، عمل تتواتر برفقته ويضيف إليك الكثير ويجدد سيرتك الذاتية كما لغتيك الأم والثانية، وُيدخِل مفهوم التحرر بشكل أو بآخر إلى روحك، ويُشعرك بالاستقلالية، ويمدّك بالثقة وتحمل المسؤولية والقلق والتعب والفرح بمعدلات متساوية. أصبحت أختار أوقات العمل المناسبة والتي هي “الليل” بوصفي كائنًا ليليًا بامتياز، وأعمل بثياب المنزل المريحة (وأنا الكائن البيتوتي جدًا) ومع الموسيقا التي أحب. لم يتغير الوضع المادي تقريبًا كون الاقتصاد يتردى بسرعة تفوق نمو الدخل وكون المردود المادي يصل بعد إنجاز العمل والذي قد يستغرق شهورًا عدة، إضافة إلى المبلغ غير العادل الذي يتقاضاه أغلب المترجمين في البلدان العربية (حيث لا قيمة مادية توازي الجهد المتواصل). كل هذا إذا ما تغاضينا عن الحالة التي نعانيها كسوريين تحديدًا على صعيد الخدمات والعمل على ضوء الشمعة ودفئها في كثير من الأحيان.

كانت رواية فرسان الريح رواية للفتيان من تأليف رينيه غويوت هي فعليًا آخر رواية سلمتها إلى دار نشر الأهلية في الأردن، أما كفعل ترجمة فقد ترجمت مؤخرًا عدة فصول من كتب مختلفة، كنماذج وقد أرسلتها إلى دور نشر بغية العمل معها، وعدة مقالات عن الترجمة ستنشر عما قريب، إضافة إلى دخولي مجال الترجمة عن الإنكليزية من خلال ترجمة عدة تقارير ودراسات، وربما كتب لاحقًا، من يدري؟!

أنا لا أطلق عليها مشكلاتٍ بل تحديات، تختلف في كل كتاب عن آخر، فمرة تصادفنا لغة فرنسية أكل الزمان وشرب على مصطلحاتها كما حصل معي في رواية جيزابيل لايرين نيميروفسكي، ومرة تتداخل مع اللهجة فتغض الطرف عن الكثير من القواعد وتمتلأ بالحكم كما حصل معي في نيران الخريف للكاتبة ذاتها، ومرة يكون الكتاب مشبعًا بالاقتباسات وعلينا أن نلتقطها كما جاءت في المصدر وقد قاربت المئتي مقولة تقريبًا في تجربتي مع كتاب فاطمة المرنيسي الحب في البلدان الإسلامية، ومرة تحتاج معرفة متخصصة في شيء أو مهنة معينة كما حصل معي في كتاب فرسان الريح لغويوت، إنما هناك تحديات مستمرة تتعلق بتقمص شخصية الكاتب والتلبّس بها حد التطابق والنطق بلسان حاله وهذا يحتاج إدراكًا واسعًا بالحقبة الزمنية ومرجعيته المعرفية لكاتب العمل الأصلي وسبر عوالمه السرية، ليقودنا هذا الاختراق إلى الكشف والخروج من سجن اللغة وغوامضها ثم إضفاء الألفة على العمل المترجَم ليظهر عبر إخصاب الذات بالآخر، إنه نمو مستمر للعمل الأصلي وحالة حركة مستمرة له.

لعل الإشكالية الأهم في رأيي تكمن في طريقة الوصول إلى الكاتب المهم والذي غالبًا ما يكون صعب المنال بسبب وجود لجنة تدير شؤونه أو تكفل دار النشر الفرنسية بكل الترتيبات اللازمة الخاصة به بعيدًا عنه، على عكس التواصل مع الكتّاب الشباب الذين ككتّابنا يرغبون في الوصول إلى العالم العربي والانتشار نحو رقعة أخرى وجمهور مختلف. إن هذا لشيء مهم للغاية فمهما حاول المترجم أن يندمج بشخص الكاتب الأصلي تبقى هناك أشياء خفية تتعلق بخصوصيته وشخصيته لا يمكن الإفصاح عنها إلا بالحوار المباشر. بانتظار فرص اللقاء المباشر يتم الاستعاضة بالحوارات المنشورة أو المرئية للكاتب كتعارف عن بعد، ومن خلالها تتمكن أواصر العلاقة المستمرة مع اللغة الأصل، والتي على المترجم بدوره أن يبحث فيها الشمولية من حيث اللغة وعلم لسانياتها وقواعدها وإسقاطاتها وموت مفردات وولادة مصطلحات جديدة، والتغير المتواصل الذي يشوب الثقافة وتوجهاتها، كما الظرف السياسي والاقتصادي الذي لا يمكن فصله عن المنجز الثقافي المرافق له.

 إن حالة الترجمة هي حال أي عمل إبداعي، حيث تعاني المعضلات ذاتها في ما يتعلق بالنشر: من اختيار دار النشر للكتاب المراد ترجمته لكون حقوقه قد سقطت بالتقادم من دون الالتفات إلى معطيات أخرى، والتعامل مع المترجم ماديًا تبعًا لأسعار موحّدة ومتفق عليها تقريبًا خاصة في البلدان العربية التي تعرضت لأزمات كحالة من الاستغلال للظرف الاقتصادي السيء وضعف سوق العمل، بينما يصبح السعر مضاعفًا والمترجم يقترح الكتاب الذي يراه مناسبًا حين يكتسب خبرة لا تقل عن ثلاثة أرباع عمره عبر ترجماته الكثيرة أو أنه دكتور جامعي من خريج السوربون، على احترامي الشديد لهؤلاء المترجمين إلا أن الفرص تبقى حبيستهم كما هي حبيسة دور النشر حيث يتحكمون فيها كيفما يشاؤون رامين عرض الحائط جودة الترجمة أو الشغف بها، لاهثين خلف أسماء لها وقعها لضمان استثمارهم، وكي لا ننسى -كما يقال- تطلعات دور النشر وعلاقاتها التي لا تحكمها سوى المزاجية العالية، وعلى هذا فإن الكثير من الكتب المهمة من عدة أجناس أدبية كالنقد والعلوم والسير الذاتية والمسرح تبقى شبه معدومة، كما يصبح البحث عن العمل هو العمل الأصعب في هذا الزمن. فإما أن نقبل بالقليل أو بكتب لن تضيف إلينا أو إلى الساحة الثقافية كون الترجمة تعايشًا وقوة يؤسّسها فهم الآخر وأدواته وبالتالي نمو على المستويات كافة، وإما أن نناضل على حساب قوتِنا كي ننتصر لمبادئ يبدو التمسك بها في ظل هذه الظروف ضربًا من الجنون. وعلى هذا فأنا أتوسم خيرًا في القادم من الأيام بإنشاء مركز معتمد للترجمة كمجمع اللغة العربية، يعتبر مرجعًا ومصدرًا لكل المترجمين العرب كما هو مكان التقائهم بنظرائهم الغربيين وبكتّابهم المنشود ترجمتهم وإيجاد برنامج عمل موحّد ومنح وآفاق لمؤتمرات جامعة لا خاصة، وبذلك لا يتم احتكار العمل وتتساوى الفرص، وعلى وجود عدة تجارب من هذا النوع إلا أن حضورها الفعلي الجامع ما زال غائبًا.

ربما الشيء الوحيد الثابت في فعل الترجمة هو قراءة النص كاملًا لعدة مرات، حيث وفي كل مرة تتراءى معالمه بشكل أوضح وربما تتكشف خباياه وتنتقل من اللغة نحو الميتا لغة، ثم أقوم بوضع ملخص يتضمن فكرة النص ومعطياته من حيث شخصياته وأفكارها وسماتها الجسدية والنفسية في حال وجدت، ثم البدء بالترجمة والبحث عن المفردات التي تحتمل معاني أكثر جودة تبعًا لمكانها وتأويلها، وكل ذلك بعيدًا عن الأحكام المسبقة، هكذا ينشأ النص وهو ابن سياقه الخاص وسيد نفسه، أما ما يلي الترجمة الابتدائية فهو الأصعب، وهي القراءات الكثيرة المتتالية وفي أوقات مختلفة وأمزجة مختلفة من أجل وضع النص تحت مجهر لا تحكمه الحالة النفسية للمترجم، والانتقال إلى المرحلة التي أراها أجمل ما في الأمر وهي لعبة المترجم الخاصة (مساحة الخيانة المسموح بها للنص الأم) وبصمته من حيث الصياغة الكلية وانسلاخه عن النص ليصبح قارئًا يبحث عن مواطن الجمال والإشباع اللغوي والتصويري أو حتى التوثيقي والفكري الذي يعتمد على بحث واستقصاء وجدية ودقة. على الرغم من كل ما ذكرت فإن الكتاب الذي أعمل على ترجمته ولولا أن هناك عقدًا ملزمًا بالمدة الزمنية لإنهاء الترجمة لقضيت عمرًا كاملًا في إجراء التعديلات عليه، ولما كنت انتهيت إلى الآن من عملي الأول.

إن حركة الترجمة في الوطن العربي ليست على المستوى ذاته بالاتجاهين فغالبًا ما تكون الترجمة من اللغة الأجنبية إلى العربية، وهذا يجعل استراتيجية الترجمة غير متوازنة من حيث النقل من وإلى، ويجعل الاتجاه الواحد يساهم في اكتشاف الكتّاب الغربيين على حساب الكثير من الكتّاب العرب الذين لا يقلّون أهمية عنهم تبعًا لإنجازاتهم، وعلى مدار التاريخ نلاحظ أن من اشتهر من المبدعين العرب غالبًا هم من هاجروا تاركين بلدانهم نحو الغرب، وربما هذا شبيه بما يحصل الآن بعد أن سافر معظم الشباب السوري الى الخارج حاملين معهم شغفهم وأحلامهم، ولكن مع ذلك تبقى هناك هوة واضحة لا يمكن ردمها من حيث نسبة الترجمة وكم تناسبها مع الإصدارات، والأسوأ من ذلك هو استسهال بعض المترجمين الأجانب للنصوص السهلة شعريًا والروايات التي تعتمد على الفكرة بعيدًا عن التقنيات والفنيات والتي غالبًا ما تكون خاوية من الإبداع الحقيقي إذا ما قورنت بغيرها من المهمل ترجمته بسبب ثقل اللغة ومحتواها، وهذا بالتالي يساهم في تسطيح الإبداعي بغية حصوله على فرصة للترجمة، وطبعًا هذا بالعموم لكن هناك تجارب مهمة استحقت ونالت استحقاقها وفعل النقد كما الاستمرارية كفيلان في فرز هذه النتاجات لاحقًا.

إن علاقتي مع الترجمة لم تأت وليدة اللحظة، بل كانت خيارًا حملته المحاولات والرغبة في خلق مكون يتفرّع عنه إبداع من نوع خاص، قوامه انسحاب على ثقافتين ولغتين وحضارتين كأنما نبحث التوهج في هذا الموضع حين الالتحام والتنافس في إيصال المبتغى بشكل يفوق الشكل الأصلي لغةَ ويوازيه محتوى. إنّ هذا الخلق لمناخ ثنائيّ متكافئ لنص واحد تبعًا للزمان والمكان والدلالات المعرفية، وإعادة إنتاجه وتحوله على مستوى الخطاب من أسلوبه غير المباشر إلى أسلوب مباشر، يجعل الحضارة تتخذ مفهومها البشري حيث تنساب بين ضفتين نهرًا مجراه الاعتدال والتعايش بعيدًا عن إبراز العضلات والقوى المتباينة. لذا وعلى الرغم من كل ما سبق من إرهاصات وإشكاليات مضافة إلى هذا الأرق الممتد من لحظة البدء في قراءة النص الأصلي حتى ما بعد نهايته (المفترضة)، إلا أنني أعتمد الترجمة مهنة قد جعلتني مهنتها بطريقة أو بأخرى، علّنا يومًا نباغت الموت بتاريخ حيّ.

مشاركة: