الترجمة: التعبير عن الذات والبوح بمكنوناتها

قصتي مع الترجمة قديمة تعود إلى أيام الدراسة في المرحلة الإعدادية، أي إلى تسعينيات القرن الماضي. أخجل اليوم أن أبوح باسم مَن كانت مصدر إلهامي، لكنني سأتشجع وأقول إنها بثينة شعبان. أجل، كنت معجبة بها كونها المرأة المترجمة الوحيدة بين جموع المؤتمرين في جنيف، أيام مباحثات السلام التي لم تفض إلى أي شيء. كانت تأسرني بدخولها إلى تلك الأوساط السرية، التي ستبقى فيها outsider، أحدًا من الخارج، لكنه مطّلع على كل شيء. يومها قررت أن أصبح مترجمة، ثم سمعت من إحدى صديقات شقيقتي عن والدها، الذي امتهن الترجمة المحلّفة، فقررت أن أصبح مترجمة محلّفة، كنت في الخامسة عشرة من عمري آنذاك.

كان الطريق الذي أوصلني إلى حلمي هو دراسة الأدب الإنكليزي، وهذا ما حدث. بعد التخرج، خضت تجربة التخصّص في الترجمة، بدايةً عبر حصولي على دبلوم تأهيل وتخصّص في الترجمة، وبعدها عبر حصولي على درجة الماجستير في الترجمة، وبينهما حققت حلمي بعدما خضت امتحان الترجمة المحلّفة ونجحت فيه، كنت وقتها في السادسة والعشرين من عمري.

بعد التخرج، دخلت الميدان بصعوبة، فالمنافسة شديدة، والذكورية مسيطرة على سوق الترجمة، أجل سوق! صُدمت عندما اكتشفت بأن المسألة عرض وطلب وبأن الترجمة في سوريا تخضع لقوانين السوق لا قوانين الإبداع ونواميس الفرادة. أتذكّر عندما افتتحت مكتبي في المرجة في دمشق أن أحدًا سألني باستخفاف: بدّك تشتغلي مترجمة؟ (وكأن مؤهلاتي كلّها ليست كافية)، فأجبته: مو حقي؟ فردّ: حقك ومستحقك، وكأننا كنا نتناول موضوع مهر لا مهنة.

عرضتُ نفسي كمترجمة على الكثير من المترجمين الذين لم يقتنعوا بي، أولًا لأني خريجة جديدة، وليست لدي خبرة طويلة في الترجمة، وثانيًا لأنني فتاة، والفتاة في رأيهم من الصعب أن تستمر في هذا الدرب الصعب الذي تشوبه منافسة وذكورية شديدة متعبة. كانت نقطة التحول عندما افتتحت مكتبي الخاص في برج دمشق وسط العاصمة. بدأت بترجمات بسيطة وصلتني من زبائن رشحني إليهم أصدقاء ومعارف، وسرعان ما استطعت أن أكسب ثقة الناس بسبب إخلاص لعملي وحبي الكبير للمهنة، إلا أن الحرب قطعت نجاحاتي كلها كما يفعل أي مطب بسيارة مسرعة.

لا أنكر أن علاقتي بالترجمة طوّرت وعيي، وجعلتني أتقبل الرأي الآخر مهما كان، وهو أمر لم أنشأ عليه أبدًا. فكثيرًا ما ترجمت كتبًا لا تشبه تفكيري لا من قريب ولا من بعيد، فكنت فور انتهائي من ترجمتها أناقش كتّابها بمضمونها وبأنهم لم يستطيعوا إقناعي. كما أن العمل في الترجمة يُطلع الإنسان على أفكار ما كان له أن يطّلع عليها من دون معرفته باللغة الأخرى. فالترجمة هي عملية بحث وتنقيب في وجهات نظر الآخرين ومحاولة إظهارها كما هي من دون أي رتوش. تتعبني فكرة الرتوش كثيرًا، لأنني أحب الحقيقة كما هي من دون أي زيادة أو نقصان، ولعل هذا هو الشيء الذي أسعدني عندما أقسمت اليمين الذي جعل مني مترجمة محلّفة طبقًا للقانون: ألّا أخفي الحقيقة.

أغلب المشكلات التي قد تواجه المترجم هو غموض بعض ظلال المعاني أثناء عملية الترجمة، لكن هذه لم تعد مشكلة في زمننا، بوجود كل ما يساعد المترجم من أدوات لتتبع وتقصي المعنى المقصود. وبأسوأ الأحوال بات من المستطاع التواصل مع صاحب النص الأصلي، فهذه العملية لم تعد تكلف الكثير من الوقت أو الجهد.

أما بالنسبة إلى عملية النشر، فلاتزال أمور النشر صعبة ومعقدة، وتخضع لقوانين البلد التي أقيمت فيها دار النشر ولمزاجية الناشر أحيانًا. لا فرص متكافئة تُعطى للمترجمات والمترجمين المتميزين، فالأمور غالبًا ما تعتمد على العلاقات والمعارف والشللية، كما أن تكاليف النشر في العالم العربي تثني أي ناشر عن نشر كتب قد تكون مهمة لكنها ليست ضمن دائرة اهتمام دار النشر التي يديرها، فضلًا عن حقوق النشر والترجمة للكتاب الأصلي التي تعتبر باهظة الثمن ومكلفة في عين الناشر العربي. للأسف، يبدو أن هذا المجال في حاجة إلى وجود علاقات شخصية مباشرة في كثير من الأحيان بين الناشر والمترجم، مع العلم أن أغلب من نشروا لي وعلى رأسهم: الدار العربية للعلوم في لبنان، ودار الرحبة السورية، وأخيرًا مؤسسة ميسلون، تواصلوا معي عبر منصات التواصل الاجتماعي كمترجمة، من دون أن تربطنا أي معرفة شخصية مسبقة. وذلك طبعًا بعد خضوعي لامتحان قصير أثبتَ جدارتي في مجال الترجمة. إلّا أن ما دفعني إلى الحديث عن هذه المشكلات مع دور النشر هو أنني ترجمت رواية كتبها مؤلف أسكتلندي حول سوريا، وكان شرطه الوحيد أن يقوم بترجمتها مترجم ينحدر من دمشق. أنهيت ترجمة تلك الرواية وتواصلت مع الكثير من دور النشر، وعدني أغلبها بالنشر، إلّا أن أيًا منهم لم يوافق على نشرها في نهاية المطاف بسبب ظروف تذرعوا بها، منها أن المؤلف غير معروف في العالم العربي (على الرغم من أنه كتب روايتين عن سوريا)، وأن الرواية ضرب من الخيال (ومتى كانت غير ذلك؟!!) ولا حاجة للناس إلى الاستمتاع بهذا النوع من الأدب. التقيت منذ مدة قريبة بالكاتب في إسطنبول، طلب مني التعاون مع أمازون لنشر ترجمة روايته، إلا أنه لا وجود لسوق عربية حقيقية لدى أمازون، وإن وُجدتْ فستكون المبيعات ضئيلة ضآلة عدد المهتمين بالأدب والشعر من العرب في عصرنا هذا.

من مشكلات الترجمة أيضًا غياب المحفزات التي تشجع على ظهور المواهب في هذا المجال، وإن كنت لا أرغب في الحديث عن المحفزات المادية لأن هذا من نافلة القول، فلابد لي من التطرق إلى حقوق المترجم الأدبية والفكرية التي تقابَل بالإجحاف في أغلب الأحيان، إذ لا يزال كثيرون في عالمنا العربي لا يعتبرون المترجم شريكًا في إنتاج النص، ويظنون بأن غوغل ترانسليت يمكن أن يحلّ محل أي مترجم متميز، أي أنهم لا يستطيعون أن يميزوا بين الأداة والفاعل الحقيقي، وسؤالي لهؤلاء: إن كان لدي قدر رائع للطهو، فهل هذا يعني أنّ مجرد وضع المكونات في هذا القدر سينتج طبقًا لذيذًا؟ بالطبع لا.

من وجهة نظري، إن وجود مسابقات مهمة في مجال الترجمة ضروري لتطوير حركة الترجمة في الدول العربية، ولكم أود أن أشارك في إحدى المسابقات، حتى لو لم أنل أي جائزة، كما أن وجود جهات يمكن أن تقيم تلك المسابقات، إلى جانب تقديمها للتدريب والتطوير في هذا المجال، هو أمر ضروري لتقدّم حركة الترجمة.

من عادتي أن أتبع أسلوب الترجمة الحرفية ما لم يدفعني النص إلى غير ذلك، أحب أن أنقل وجهة نظر الكاتب كما هي، وأن أعبر عما يقوله كلمة بكلمة، فإن احتاج النص إلى أن أخرج عن تلك القاعدة فسأخرج بكل سرور، شريطة أن يلف ذلك لمسة من الإخلاص مع الإبداع تضفي على النص حيوية مميزة.

تطورت حركة الترجمة في العالم العربي اليوم عما كانت عليه في السابق، إلا أنها ما تزال ضعيفة مقارنة بحركة الترجمة في الدول المتحضرة، أدرك أنه من الصعب المقارنة بين هذين العالمين، إلا أن ذلك في نظري حافز يشجعني على ترجمة كل شيء تطاله يدي.

فور انتهائي من ترجمة كتاب عهدت به دار نشر إليّ لكي أترجمه، أبحثُ عن الكاتب أو الكاتبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لأزفّ لهم النبأ السار: لقد أنهيت ترجمة عملكم إلى اللغة العربية، آمل أن يسعدكم ذلك. كثيرون هم مَن شكروني على هذه البادرة، وقلة منهم لم تعبّر عن أي امتنان. إلا أني أحب أن أتواصل بشكل دائم مع الكاتب، أحب أن تكون القنوات كلها مفتوحة بيني وبينه، أحب أن أسأله عن كل شاردة وواردة، وعن مشاعره والأمور التي دفعته لكتابة ما كتبه، وهدفه من العمل كله الذي أقوم بترجمته، أقول لأي كاتب: أنا مرآتك، فأسهِبْ بالحديث عن كل شيء يتعلق بعملك. هذا ما حدث مع المؤلف كريستوفر ريان الذي ترجمت له رواية حكاية الطبل الدمشقي، حكى لي هذا الرجل عن رحلاته إلى دمشق وريفها، وجميع المناطق التي زارها في سوريا، وحدّثني عن تاريخه وتاريخ عائلته حتى الجد الرابع. حدثني بروح رحالة عن الفرق بين الشرق والغرب، بين اسكتلندا وانكلترا، بين دمشق واسطنبول، إذ يرى في الأولى خليلته وفي الثانية زوجته ولا غنى له عن كلتيهما. طلبتُ منه أن أغير أسماء الشخصيات لتناسب روح الرواية التي تتحدث عن دمشق، فوافق بعد نقاش حول المعاني التي حملها لأسماء شخصياته. أرسلَ إليّ مؤخرًا روايته الجديدة التي يأمل أن أترجمها هي أيضًا والتي تتحدث عن الشركس في سوريا، وتعتبر الجزء الثاني من روايته الأولى.

اكتشفت منذ مدة قريبة بأن علاقتي بالنص الذي أترجمه تختلف عن علاقتي بالنص الذي أقرؤه بلغة أخرى: إذ في الحالة الأولى أتعامل مع النص كتحدّ، كشيء في حاجة إلى اكتشاف ومن ثم نقل أمين يتبعه تهذيب بحسب الثقافة والبيئة المنقول إليها، أما في الحالة الثانية، فالغرض هو الاستمتاع والمعرفة قبل أي شيء. ولهذا أحسّ بأني أتعامل مع النص عندما أترجمه بوصفه شيئًا حيًا، أما الذي أقرؤه فأجده نصًا جامدًا لا يحتاج إلى أي جهد لأبذله من أجله، وكأنه مجرد منتج جاهز للاستهلاك.

أعترف أن مهنة الترجمة متعبة لكنها لذيذة. الترجمة بالنسبة إليّ حالة تعبير عن الذات وبوح بمكنونات دفينة داخل صدري، أخرجها بطريقة إبداعية ترضي شيئًا من غروري. مصاعب الترجمة في بلاد الشرق الأوسط كثيرة، لكنها لا توازي سعادة المترجم بنشر شيء اشتغل عليه ونفخ فيه شيئًا من روحه. أما آخر ما ترجمته فهو كتاب جمع العديد من المؤلفين من عدة جنسيات وبيئات، تحت عنوان Muslim Volunteering in the West لمصلحة مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر.  وأخيرًا، أتمنى أن تحظى مهنة الترجمة بالتقدير الذي تستحقه، لا أن تبقى رديفة لأعمال السكرتاريا كما هي عليه في عالمنا العربي، وآمل أن يتحد المترجمون، السوريون والعرب، تحت ظل مؤسسات وجمعيات تحاول أن تطورهم وأن تطلعهم على كل جديد، وأن تلبي طموحاتهم وتسعى لتحقيق مطالبهم ومصالحهم وتضمن حقوقهم الفكرية والأدبية، وتشجعهم على تقديم المزيد والأفضل والنهوض بكل ما يتصل بعملية الترجمة التي يرى بعض الأشخاص أنها، إن بقيت على حالها، فهي مهددة بالانقراض لا محالة.

مشاركة: