نور حريري: كيف تصف علاقتك باللغة العربية من جهة واللغة الروسية من جهة أخرى؟
غسَّان مرتضى: لا يمكنني الحديث عن علاقة تربطني باللغة العربيَّة، لأنَّ العلاقة تكون بين طرفين أو مكونيِّن، أمَّا أنا فلا أراني منفصلًا عن العربيَّة، ولا أرى العربيَّة خارجي. مثلي والعربيَّة كمثل خمرة الشاعر والزجاج، ولا فرق أن يكون الشاعر أبا نواس أو السهرورديَّ أو غيرهما:
رَقّ الزُّجاجُ وَرَقَّت الخَمرُ فَتشابَها فَتَشاكل الأَمرُ
فَـكَـأَنَّما خَـمرٌ وَلا قَدح وَكَـأَنَّمـا قَـدحٌ وَلا خَـمرُ
أمَّا علاقتي بالروسيَّة فهي علاقة محبَّة تصل أحيانًا إلى درجة العشق، فعندما أقرأ ((معطف)) غوغول أو افتتاحيَّة دوستويفسكي في روايته ((مذلون مهانون)) أو أقرأ تشيخوف أو آخماتوفا، أشعر بحالة عاطفيَّة خاصَّة لا يمكن التعبير عنها إلا بكلمات العشق والوجد.
نور حريري: ترجمتَ الأدب والفكر، كيف تختلف ترجمة الأدب عن ترجمة الفكر؟ هل يحتاج أن يكون مترجم الأدب أديبًا ومترجم الفكر مفكّرًا؟
غسَّان مرتضى: تعرفين أنَّ الترجمة هي إعادة كتابة نصٍّ ما بلغة أخرى، فلا يكفي المترجم أنْ يكون عارفًا باللغة المنقول منها، بل لا بدَّ أنْ يكون متعمِّقًا بالخلفيَّات والأسيقة الثقافيَّة التي أنتجت هذا النصَّ، ولا بدَّ أنْ يقدِّمه في اللغة الهدف محافظًا على أقرب ما يكون النصِّ الأصليِّ ومعبِّرًا بأعلى ما تكون عليه لغة الهدف. وبالانتقال إلى سؤالك فإنَّ ترجمةَ الأدب بأنواعه المتباينة تختلف اختلافًا جوهريًّا عن ترجمة النصوص الفكريَّة أو العلميَّة. فالأدب لا ينقل كلمة بكلمة أو جملة بجملة، بل ينقل معنى بمعنى وصورة بصورة، إنَّ لغة الأدب مجازيَّة ومن العبث نقلها بلغة غير مجازيَّة، بل إنَّ بعض الأنواع الأدبيَّة فد يستحيل ترجمته كالشعر الذي – كما قال الجاحظ – لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب منه.
ومن هنا يمكن القول إنَّ المترجم الذي لا حظَّ له من الكتابة الأدبيَّة قد يخفق في تقديم حالة متميزة في الترجمة، وتبقى حالة ترجمة الشعر خاصَّة جدًّا فإذا لم تكوني سليمان البستاني أو أحمد رامي أو أدونيس، فإنّني أدعوك أنْ تفكِّري مئة مرَّة قبل أنْ تشرعي بترجمة نصٍّ شعريٍّ.
أمَّا لغة الفكر والعلوم فهي لغة اصطلاحيَّة ودقيقة، تتطلب تحديًا وبحثًا دؤوبًا عن المقابلات المطابقة، لكنَّ هذا البحث لا ينحصر في استجداء المعاجم ثنائية اللغة، بل في الإبحار في عوالم لغة النصِّ الأصليَّة والغوص في تاريخها، وفي الاستخدامات المختلفة والمجازيَّة للمفردات.
أمَّا أنا شخصيًّا فأميل إلى ترجمة العلوم الإنسانيَّة، وقد ترجمت نصوصًا أدبيَّة نثريَّة، لكنَّني أتهيب تقديم نصٍّ شعريٍّ مترجم إلى الملأ.
نور حريري: ألَّفت كتبًا وترجمت أخرى، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك أو كيف يختلف مزاج الكتابة عن مزاج الترجمة لديك؟ وأيهما أقرب إليك؟
غسَّان مرتضى: لكلِّ منهما جماله ومتعته. ولكلٍّ منهما طبيعته وخصوصيَّته. الترجمة فنٌّ؛ لكنَّها قبل ذلك حب. وفي التفصيل الترجمة مزيج معقد من الفنِّ والطموح والموهبة والإبداع والحب هو الطاقة المغذية لكلِّ ذلك، لكنَّها في نهاية المطاف عمل ينتهي في لحظة الإنجاز، وإذا ما عاد إليه المرء، فلكي يضبط كلمة، أو يصحِّح أخرى. أمَّا التأليف فعمل مستمِّر لا ينقطع؛ فقد ينجز المرء عملًا ما، لكنَّه ما يلبث أنْ يعود إليه ليضيف معلومة وصل إليها حديثًا، أو ليحذف معلومة يعتقد أنَّها غدت مستهلكة، فالتأليف عمل متواصل، ما دام المرء يطوِّر أساليبه وأدواته، بل يطوِّر أفكاره وقناعاته التي ظنَّ في يوم ما أنَّها ثابتة ومبدئيَّة، وتبيَّن له بإنعام النظر أنَّ ثبات الأفكار يعني بقاءها في الماضي.
أعمل الآن على ترجمة كتاب لفلاديمير بروب عن الضحك، وفي أثناء عملي مع بروب أظنني في سعادة لا تفوقها سعادة، وأعمل في الوقت نفسه في تأليف كتاب يتناول بعض قضايا الأدب الجاهلي تناولًا مقارنيًّا، وفي أثناء ذلك أظنني في سعادة لا تفوقها سعادة.
نور حريري: أنت تترجم عن اللغة الروسيَّة، هل لك أنّْ تحدِّثنا عن انطباعاتك عن تاريخ الترجمة عن الروسيَّة، وأهم ما اعترضته من هموم ومشاكل.
غسَّان مرتضى: تعرفين أنَّ حركة الترجمة الحديثة إلى اللغة العربيَّة قد بدأت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وأغلب الكتب المترجمة إلى العربيَّة ترجمت عن الفرنسيَّة والإنكليزيَّة، أمَّا تاريخ الترجمة عن الروسيّة فليس طويلًا وليس غنيًّا، ويمكن في أثناء الحديث عن ترجمة الثقافة الروسيَّة إلى العربيَّة أنْ نتوقف عند ثلاث نقاط:
الأولى أنّ الجزء الأكبر ممَّا تُرجم إلى العربيَّة من الروسيَّة تُرجم عبر لغة وسيطة، والحديث عن الترجمة عبر لغة وسيطة قد يفضي إلى تأليف كتاب كامل، لكنني سأكتفي هنا بالإشارات الآتية: إنَّ الترجمة عبر لغة وسيطة تعني أن النصَّ المترجم قد خضع لعدَّة تأويلات وتعني أنَّه يحتَمَل أنَّه لم يعدْ ذاك النصَّ الأصليَّ. والمترجم عن اللغة الوسيطة قد لا يكون متعمِّقًا بثقافة النصِّ الأصليِّ وهي شرط لا مناص منه في أيَّة ترجمة، وهنا تمكن الإشارة إلى أنَّ الذين ترجموا الكتب الروسيَّة عن الفرنسيَّة والإنكليزيَّة لم يكونوا جميعًا سامي الدروبي، لذا لا تستغربي أن يجهل أحدهم – وهو يترجم غوغول الشديد الالتصاق بالثقافة الروسيَّة – الفرق بين القوقازيين والكوزاكيين ويبني على هذا الجهل استنتاجات مثيرة للضحك، ولا تستغربي أن يترجم أحدهم اسم مجلَّة فكاهية ((المنبِّه)) باستخدام كلمة اليقظة بمعنى النهضة، لأنَّ معرفته اللغة الفرنسيَّة حرمته من معرفة دلالات تسميَّات المجلَّات الروسيَّة القديمة، والأمثلة على ذلك كثيرة. ومن ألطف ما قرأت عن الترجمة عبر لغة وسيطة قول الدكتور فؤاد مرعي ((إنها كالقبلة عبر الزجاج)).
الثانية: إنَّ تاريخ الترجمة عن الروسيَّة محكوم بالأيديولوجيا والانتقائيَّة، فقد رعت مؤسسات النشر والترجمة السوفياتيَّة كداري التقدم ورادوغا ترجمة ما يلبي العقيدة الماركسيَّة اللينينيَّة ونشره، فكنَّا نرى في واجهات بعض المكتبات في دمشق كتب لينين وتروتسكي وآيتماتوتوف وأدباء سوفيات من الدرجة الرابعة والخامسة، وكتبًا عن ثورات الفلاحين لم تعد تعني أحدًا، وكنَّا نرى بعض الرعاية من الاتجاه المقابل في إصدار أعمال قليلة لسولجينتسين وباسترناك. أمَّا الضحيَّة الحقيقيَّة لهذه الترجمة المؤدلجة فتجلت في أنّ العرب لم يعرفوا شيئًا عن أدب عشرات الأدباء الذين عاشوا في القرنين التاسع عشر والعشرين وأذكر هنا اسمين من أدباء القرن التاسع عشر الذين لم يترجم شيء من أعمالهما إلى العربيَّة هما سالتيكوف شيدرين ونيكولاي ليسكوف، على الرغم من أهميتهما وشهرتهما في روسيا التي لا تقلُّ عن أحد من عظماء الروس الكلاسيكيين، وأذكر من أدباء القرن العشرين ميخائيل زوشينكو وإسحق بابل. ولعلَّ من أهمِّ ضحايا الأيديولوجيا والانتقائيَّة أيضًا أنَّ العرب لم ينقلوا عشرات الكتب في تاريخ الأدب ونظريته التي ظهرت مع نهاية القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، والتي تعدُّ كتب الشكلانيين الروس – وهي عدَّة عشرات – من أهمِّها، لكنَّها كتب لا ترضى عنها دار التقدم.
الثالثة: إنَّ ما ترجم عن اللغة الروسيَّة حتَّى الآن لا يشكِّل سوى جزء بسيط من حجم ما تُرجم إلى العربيَّة، وإذا كان حجم ما تُرجم إلى العربيَّة حتَّى الآن من اللغات جميعها ما يزال قليلًا جدًّا إذا ما قورن باللغات الأخرى، فلنا أن نتصور أين نحن، وأين نصرف أموالنا. وثمَّة معوقات أخرى يمكن أن أسميها لوجستيَّة، تجعل أيَّ مترجم محبٍّ لعمله يصرف النظر عن الترجمة عن الروسيَّة ومن هذه المعوقات النشر والتسويق والحصول على حقوق النشر وهلمَّ جرَّا.
نور حريري: أكّدت على أهمية ترجمة النصوص والأعمال الأدبية والفكرية الكلاسيكية، فما سبب هذا التأكيد؟ وما هي معايير اختيارك للأعمال التي تترجمها إلى العربية؟
غسَّان مرتضى: هذه قضيَّة على غاية في الأهميَّة فكثيرٌ من دور النشر تشترط لنشر الكتاب المترجم أنْ يكون من الإصدارات الحديثة، أما المجلات والدوريَّات فتشترط لعرض الكتب المترجمة ألّا يكون قد مضى على نشرها أكثر من خمس سنوات. أعتقد في هذه المسألة أنَّ مفهوم الحداثة بالمعنى الزمني الكرونولوجي مفهوم مختل، فالحداثة كما أرى تكمن بما ينطوي عليه العمل من أفكار حداثيَّة. لقد مضى على كتب أرسطو أكثر من ألفي سنة لكنَّها ما زالت تترجم إلى لغات العالم كافة لأنَّها لم تكف عن كونها حديثة.
الترجمة إلى اللغة العربيَّة من اللغات الأجنبيَّة ليست ضعيفة، بل شديدة الضعف والتخلف على المستويات جميعها، ولم تنقل إلى العربيَّة عشرات الكتب التأسيسية لعصر النهضة وما تلاها، لذا فإنَّ العودة إلى كلاسيكيَّات الثقافة العالميَّة ونقلها إلى العربيَّة على الرغم من مرور فترات زمنيَّة طويلة على نشرها أمر لا مناص منه.
وفي هذا السياق أطرح المسائل الثلاث الآتية:
المسألة الأولى: ماذا ترجم العرب من الأعمال الكلاسيكيَّة لأهم المستشرقين في العالم؟ في الحقيقة لم يترجموا ما يتجاوز 5 في المئة من هذه الأعمال، لذا فإنني أرى ضرورة العودة إلى هذه الأعمال وترجمتها ومعرفة ما تنطوي عليه، ولا يجوز لنا الاكتفاء بشتم المستشرقين من دون أن نعرف ما قالوه.
المسألة الثانية: تعدُّ الدراسات التي نشأت منذ بدايات القرن الثامن عشر حول قضايا ملحمتي الإلياذه والأوديسه، وحول مؤلفها المفترض هوميروس دراسات مؤثِّرة في مجمل علوم الأدب الحديثة (نظرية الأدب – تاريخ الأدب – النقد الأدبيِّ) على الأقل، ومع ذلك لم ينقل العرب كتابًا من أهمِّ ما كُتب في هذا المجال إن لم يكن الأهم، وأقصد كتاب ف. أو. وولف F. Au. Wolf (مقدمات نقديَّة إلى هوميروس Prolegomena to Homer) الذي نشره قبل أكثر من مئتي سنة والذي لا يخلو كتاب ذو شأن في الدراسات الأدبيَّة العالميَّة من ذكر له. أتعتقدين أن العرب ليسوا في حاجة إلى ترجمة هذا الكتاب؟ اعرضي على أيِّ مؤسسة عربيَّة للترجمة والنشر ما عدا ((المركز القوميِّ للترجمة)) أنْ تترجمي هذا الكتاب، وانتظري اعتذارًا.
المسألة الثالثة: تُعدُّ الشكلانيَّة الروسيَّة أهمَّ ما وصلت إليه الدراسات الأدبيَّة في الربع الأول من القرن العشرين، وتكاد تشكِّل زبدة الزبدة التي انتهت إليها الدراسات الأدبيَّة واللسانيَّة في ذلك الوقت، وكانت إحدى اللبنات الأساسيَّة في تكوين جميع مدارس الدراسات الأدبيَّة اللاحقة. ماذا تُرجم من أعمال هذه المدرسة إلى العربيَّة؟ لا شيء تقريبًا. ترجمي كتابًا لشكلوفسكي وهو صائع البيان الشكلانيِّ وأحد مؤسسي ((أبوياز)) واعرضيه على الناشرين، وانظري ماذا سيقولون.
أعتقد أنّ ترجمة كلاسيكيَّات الأدب وعلوم الأدب إلى العربيَّة أمرٌ لا يجوز الاستغناء عنه، لأنَّ السطح لا يُبنى قبل القاعدة أو بدونها.
وأنا إذ أتحدث هنا عن الأدب وعلومه فلأنني أتحدث عن المجالات التي أعمل بها، لكنني أظن أنّ الأمر لا يقف عند هذا، فنحن في أمسِّ الحاجة إلى ترجمة الكلاسيكيَّات في الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والإثنوغافيا وعلم النفس والتاريخ…إلخ.
نور حريري: في المقدمة التي وضعتها لترجمة كتاب “الأدب: نظرية – نقد – جدل”، من تأليف باريس ميخائيلوفيتش إِخِنباوم، والصادر عن ميسلون للثقافة والترجمة والنشر عام 2021 تقول:
“حرصتُ في هذه الترجمة أن أكتب بلغة واضحة مفهومة، لا إغراب فيها ولا معاظلة، وحرصت على ترجمة المصطلحات العلمية بالمقابلات العربية الخالية من التكلف والغموض، والخالية من شطحات الحداثويين في النحت والاشتقاق أو الإمعان في الإبهام، وآثرت في أثناء ذلك أن أبقى أقرب ما يمكن من النص الأصلي”. هل يمكنك أن توضّح لنا موقفك من الترجمة هنا ومن الترجمات التي تقوم على الغموض والإفراط في النحت والاشتقاق؟
غسَّان مرتضى: جاءتني طالبة إلى غرفة المدرسين ذات مرَّة وسألتني وهي تحمل كتابًا في يدها عن الفرق بين لذَّة النص ومتعة النصِّ؟ فعجزت وقتها عن الإجابة. وقرأت كتابًا مترجمًا إلى العربيَّة لرولان بارت يتحدث فيه عن هذا الموضوع لكنني لم أخرج من بفائدة.
أعتقد أنَّ كثيرين ممن يترجمون – ولا سيَّما عن الفرنسيَّة – يمتلكون ناصية اللغة الفرنسيَّة لكنَّهم لا يتمكنون من نقل ما يعرفونه إلى العربيَّة بلغة فصيحة مفهومة، لذا يتعذّر على المتلقين العرب قراءة ما يترجمون. والأمثلة لديَّ كثيرة لكنني لا أرغب في ذكر الأسماء.
كنت أقصد مما ذُكر في سؤالك أنْ أصل في ترجمتي إلى مستوى ((التدجين)) وهذا مفهوم يمكن إرجاعه إلى الفيلسوف فريدريش شلايرماخر الذي يعني عملية تغيير الكلمات والتلميحات في نقل النص إلى اللغة الثانية لجعل النص الجديد أكثر ألفةً للجمهور المستهدف.
أمَّا مسألة الإغراق في النحت والاشتقاق فلا أريد أن أضرب عليها أمثلة لأنني لا أرغب في التشهير بأحد وسأكتفي بمثال واحد: ما معنى أنْ نترجم – في خلال ترجمة كتاب بروب مورفولوجيا الحكاية – مصطلح motif باستخدام المقابل العربي (حويرك)؟ ماذا تفهمين من هذا الاشتقاق العجيب؟! كيف سيصبح النصُّ الفرنسيُّ ذو الأصل الروسيِّ مفهومًا لدى متلقٍ عربيٍّ باستخدام مقابلات كهذه. وبالمناسبة فإنَّ مصطلح motif محوريٌّ وذو أهميَّة كبرى، ولا يمكن أن يُفهم كتاب بروب مع غموضه.
نور حريري: في ترجمتك لكتاب “الفولكلور والواقع” الصادرة عن ميسلون للثقافة والترجمة والنشر أيضًا عام 2022، يقول المؤلِّف، فلاديمير ياكوفليفيتش بروب:
“إن التشكيل والموضوع لا ينفصلان، وإن الموضوع لا يمكن أن يوجد خارجًا عن التشكيل، وإن التشكيل لا وجود له دون موضوع، وانطلاقًا من هذا نستطيع تأكيد حقيقة عامة ومعروفة وهي أن الشكل والمضمون لا ينفصلان.”
هل يمكننا إسقاط الحقيقة نفسها على الترجمة؟ ما أهمية الشكل في الحفاظ على مضمون النص المترجَم؟
غسَّان مرتضى: هذا ليس كلامي بل كلام بروب وله سياقه في الكتاب. الشكلانيُّون عمومًا – ومعهم بروب علمًا أنَّه ليس شكلانيًّا – يرون أنَّ الفصل بين الشكل والمضمون بدعة اخترعها النقد الجامعيُّ الكلاسيكيُّ. وقد سبقهم الجاحظ قبل ألف ومئتي سنة إلى هذه الفكرة عندما قال في ((الحيوان)): ((المعاني مطروحة في الطريق… وإنَّما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ)). وإذا كنت قد فهمت سؤالك جيدًا فإنَّ إسقاط الحقيقة نفسها على الترجمة أمرٌ لا بدَّ منه، فبدون الشكل لا يمكن الحفاظ على مضمون أيِّ نص، بما في ذلك النصُّ المترجَم.
نور حريري: ما النصائح التي يمكن أن توجهها للمترجم/ة المبتدئ/ة؟
غسَّان مرتضى: لا أمتلك حقَّ تقديم النصائح إلى الآخرين، فأنا – ودون أيِّ تواضع – ما زلت أتعلم وأبحث، وأظنني ما زلت أسعى إلى الاختمار، وكثير من طلابي يكتبون ويترجمون أفضل منِّي. ومع ذلك إنْ كان لديَّ نصيحة أوجهها للمترجمين الشبَّان فهي: أن يقرؤوا أولًا، ثم أن يقرؤوا ثانيًا، وأن يقرؤوا ثالثًا، وليبدؤوا بالشنفرى والمعلَّقات والجاحظ والتوحيديِّ ولا بأس أن يقرؤوا بروية ما كتبه الجاحظ في الحيوان عن نظرية الترجمة، فإذا وجدوا لديهم ما يحقق شروط الجاحظ على الأقل، فليبدؤوا بالترجمة عند ذلك. أمَّا إذا وصلوا إلى مستوى جيمس جويس فهذا حديث آخر.
ما هو مستوى جيمس جويس؟
يصف ستيفان تسفايغ في مذكراته غنى المعرفة اللغوية لدى جويس وتمكنه من فقه اللغة على النحو الآتي: ((كنتُ كلما ازددت تعرّفًا عليه ازداد إدهاشًا لي بمعرفته الرائعة باللغة… فوراء هذه الجبهة المستديرة، التي كانت تأتلق في النور الكهربائي شأن الخزف الصيني، نُقشت كل مفردات التعبيرات، وكان يداخل بينها بطريقة بالغة التألق. وذات مرة، حين سألني كيف عساي أن أعبّر عن جملة صعبة وردت في كتابه ((صورة الفنان في شبابه)) بالألمانية، جربنا الصياغة معًا بالإيطالية والفرنسية. كان لديه، مقابل كلِّ كلمة أربع أو خمس جاهزات في كل تعبير، وحتى الكلمات التي ترد في اللهجات المحلية، كان يعرف قيمتها، ووزنها، حتى أدق لويناتها)). هذا هو المستوى المثاليُّ الذي ينبغي أنْ يصل إليه المترجم في لغتي المصدر والهدف.
نور حريري: هناك دعوات إلى اتخاذ اللهجات العامية والمحكية لغة للترجمة أيضًا؟ ما رأيك بهذه الدعوات؟ هل تصلح اللهجات المحكية للترجمة الأدبية أو الفكرية؟
غسَّان مرتضى: اللهجات المحكيَّة تصلح بكلِّ تأكيد لترجمة المسلسلات التلفزيونيَّة، بل هي الأصلح لذلك، فالحديث بلغة جميل بثينة عندما نترجم حواريَّة عشق رومانسيَّة في مسلسل تركي، قد يبدو نابيًا، غريبًا، خاليًا من طلاوة الحديث التلفزيوني الرومانسي.
أمَّا ترجمة الكتب الأدبيَّة والعلمية باللهجات المحكيَّة فيطرح علينا أسئلة تصعب الإجابة عنها، ومن ذلك: أولًا: بأيِّ لهجة من اللهجات المحكية سنترجم؟ إذا كان أهالي بعض مدن ريف دمشق وقراها – مثلًا – لا يفهمون كثيرًا من الكلمات التي يستخدمها أهالي القرى المجاورة، ولا يفهمون لكنتهم، فكيف سيفهمون لغة القرى المحيطة بمدينة طنجة؟ تصوَّري أن نترجم فيكتور هيجو باللهجة الوهرانيَّة أو اللهجة الحضرميَّة؟ ماذا سيفهم المتلقي الشامي أو المصري؟! وأيُّهما أصعب على المتلقي أنْ يتعلَّم اللهجة الوهرانيَّة أم اللغة الفرنسيَّة؟ ثانيًا: هل تنطوي اللهجات المحكيَّة على إمكانات تعبيريَّة تجعلها قادرة على استيعاب المضمونات الفكريَّة العالية المستوى؟ وهنا أستطيع أنْ أسأل نفسي ماذا لو أنني نقلت (بروب) إلى اللهجة الشاميَّة أو الحومصيَّة بدلًا من الفصحى؟ أعتقد أنَّ الأمر لا يمكن أن يثير إلَّا الضحك. لقد أثيرت مسألة الازدواجية اللغوية في مرحلة منصرمة من القرن العشرين وكان بعض من أثارها من الأدباء والمفكرين الكبار أمثال سعيد عقل الذي كان يجيد العربيَّة إجادة ما بعدها إجادة ويعبِّر بها بطريقة لا أفصح ولا أجمل. أمَّا الذين يثيرونها الآن وأنا لا أعرف غير قلَّة منهم، فيبدو أنَّ لديهم مشكلات كبرى مع تعلُّم أصول النحو، لذا فالعامية ملاذهم الحصين حيث يعفون أنفسهم من معرفة قواعد الممنوع من الصرف والعدد والمعدود.
إنَّ الحديث عن ترجمة الأعمال العلميَّة اليوم باللهجات المحكيَّة يعبِّر بصورة من الصور عن حالة خواء، وعن عوز نعانيه يتجاوز اللغة إلى مجالات الثقافة والفكر والسياسة.