قصة قصيرة (دفء لاجئ)

لم تكنْ لاجئًا من قبل. وربما الفتى الذي ترقبه من علٍ هو كذلك. لا يولد المرء لاجئًا. بالتأكيد ليس شخصًًا مثلك على أيّ حال. تُذكِّرك بما تكونه قِراءتك لمنشورٍ في فيسبوك. ويبدو لك أنّ ذاك الفتى يقرأه: (متُّ متجمدةً بينكم! سأشكوكم إلى الله).  تُجبرك عضة البرد هذه، إضافة إلى السيول الجارفة في الخارج، على التقوقع في شقتك الدافئة. بينما الفتى -الذي تجهل كلّ شيءٍ عنه حتى اسمه- يقف في الخارج هناك. فتعوِّض انطواءك بمراقبتك للسيول وللفتى من نافذتك في الطابق الثاني، لتدرك عبث حياتك في صباح تلك الجمعة الباردة. إنك تشعر بالدفء الخارجي لكنك تشعر بالصقيع الداخلي.

اسمك سوري الحمدان. دلعتك حبيبتك السابقة “أبو السوس”. أنت جراحٌ تعلم مقدار الألم الذي يتحمله الجسم البشري. لكنك لم تتصور قط أنّ عضة بردٍ ستُهلِك بدن طفلة، وستلفت انتباهك إلى حقيقتك. حقيقتك؛ هذا الجرح سيكون مؤلمًا لك أكثر من أي جرحٍ آخر. وسرعان ما تكتشف أنّ للألم اسمًا ولقبًا هو دفء العلاقة التي يفترض أنك وهبتها لحبيبتك، أو دفء أبٍ لاجئ منحه لابنته ولم يفِ بالغرض. بينما أنت المواطن لم تمنحها شيئًا. وترى بوضوح أنّ الألم أشبه بحيوان مفترس! إمّا تروضه أو يلتهمك. لكنك تسكت.

كانت السيول وقراءة المنشور ورحيل حبيبتك بمنزلة خنجرٍ سلبك روحك البالية. رحتَ تتخيل نفسك وسط تدفق السيول:

تعانق حبيبتك السابقة وأنتما ملوثان بالطين، وباردان كقطعة جليد، وشارباك كشاربيّ فقمةٍ، متجمدتان! أمّا أنفاسها فتخرج من بين شفاهها المزرقّة كبخارٍ دخانيّ لتعكر وجهها المصفرّ والشاحب! لقد فاضلتْ منذ سنوات بينك وبين ألمانيا فهجرتك. إلّا أنّها علقتْ بمخيمات اللجوء في إدلب شمالًا.

تتساقط بقايا ورق الشجر أمامك فتجرفها السيول. تسمع ضجيجها يرحب بتلك الأوراق فتستغرب. تطبق عينيك هربًا من تلك الصورة. وتسدّ أذنيك كتمًا لذاك الصوت. ثم تقذف بنفسك إلى حافة السيول لتنجو. ها أنت ذا، وجهك في الطين، فلم تر ولم تسمع. لكن ويا لتعاستك! تشعر برطوبة الأرض تبلِّل روحك، وتشمّ رائحة السيول الطينيّة. فيتصاعد شهيقك وزفيرك. ويبدأ تنفسك بالتوافق مع برودة السيول ورائحتها العابقة، حتى أنك لا تستطيع التفريق بين سعة حركتها وضيق تنفسك. بينما أنت، أساسًا، منغّصٌ على ضياع صباح هذه الجمعة في البيت، لا في القهوة لرؤية الأصدقاء ولعب طاولة الزهر. وفوق هذا كلّه ترقب مستهجنًا، ذاك الفتى في الخارج هناك.

أُسمِّيك الفتى لأننا لا نعرفك. ربما أنت طالب، فأنت في “الطعشات”[1] من عمرك. إنك واقفٌ كالعادة، في أحد الأركان المرتفعة قليلًا، رغم أنف البرد والسيول. تضع يديك في جيوب سترتك الجلدية السوداء مدهوشًا من قوة السيول وارتفاعها. وأحيانًا تنزع القفازات وتنفخ على يديك لتدفئتها. ثم تركّز الطاقيّة الصوفية لتغطي أذنيك. ربما أنت من أبناء الحارة نفسها، تقف تحت لافتةٍ مكتوبٍ عليها “سورية الأسد”، بجزمتك الجلدية ذات الساق الطويلة المغطيّة لنصف بنطالون الجينز، مستطلعًا الوضع، فتُذكِّر مراقبك سوري بعجزه.

يكاد سوري يصيح بك:

أمجنون أنت لتتجمد في الخارج هناك؟ قد تصيبك عضة برد!

إلّا أنّه لم يصرخ. حسنًا! فهل لك يا سوري الحمدان أنْ تدعو فتانا إلى شقتك لتسقيه بعض الشاي الساخن؟ (هيه سوري هل تسمعني؟) غير أنّه عليك الحذر فقد يهاجمك الفتى لتدخلك في أموره الشخصيّة. من يعرف؟ وربما يتهمونك باختطافه! لم تكن متسامحًا مع من تدخل في خصوصياتك أبدًا ولا سيّما حبيبتك. أليس من حقه ألّا يتسامح معك؟ إنك تعزف عن دعوته.

كنا وقتها في شهر شباط/ فبراير من عام 2020. وهو الشهر الذي تبدأ فيه رسميًّا خماسينيّة الشتاء، أو ما يسمى محليًّا “سعد ذابح”. وخماسينيّة الشتاء في الواقع هي من أقسى الأيام برودةً في سورية! وأحيانًا نافست المربعانيّة وتفوقت عليها في شدّة الصقيع! وسورية هذه لمن لا يعرفها، ممتدة بين خطوط العرض 32 حتى 37 شمالًا، وبين خطوط الطول 35 حتى 42 شرقًا. حتى لا نقول إنّها محاذية لإسرائيل.

لكن على غير عادة “سوريّينا” في أيام الجمعة، فإنّ أحدًا لم يكن في الخارج هذا الصباح، حتى ولا من أجل الصلاة في الجامع! وباستثناء فتانا وبعض المضطرين العالقة سياراتهم في السيول، كانت شوارع العاصمة خالية (ما فيها الدومري!). في دمشق حيث يسكن سوري الحمدان من دون سكينة، كان البرد قارسًا! وأمّا السيول فتكتسح الشوارع والأزقة والحارات والدخلات.

كانت ندف الثلج المخلوطة بالماء طوال الليلة السابقة قد جعلت الدروب جميعًا مجارٍ للسيول لا للبشر! ولهذا التزمت الناس بيوتها مثل سوري الحمدان. لكن اللاجئين لم يلتزموا خيمهم التي اخترقتها السيول مثل ذاك الفتى، وأخذوا يساعدون بعضهم بعضًا.

عادةً يوم الجمعة هو يوم عطلة وراحة بالنسبة إلى العاملين في الدولةِ والقطاعِ الخاصِّ والمتاجر والمكاتب… كما بالنسبة إلى الطلاب والتلاميذ ورياض الأطفال… إلّا أنه بالنسبة إلى اللاجئين كان بمنزلة يوم روتيني آخر في حياة الانتظار! وفي الحقيقة، مارس السوريّون متعة الكسل والاسترخاء بعد أسبوعٍ شاقّ من العمل والكدّ والتعب والدراسة… غير أنّ جميعهم، في هذه الجمعة بالذات، خاب أملهم لشدة الصقيع والسيول، فالتزموا بيوتهم/خيمهم.

أوه! لو كانت هذه الجمعة كسائر الجُمع؛ لكان السوريون سيفطرون فيها الحمص والفول والفلافل مع شرب الكولا/البيبسي أو الشاي، وسيتكاسلون في النهوض، وسيذهبون إلى صلاة الجماعة… غالبًا ما كان صباح الجمعة حيويًا في دمشق وإنما بتثاؤبٍ! ولو كان الطقس مختلفًا لاجتمع الأهل والأصدقاء والجيران على القيل والقال وشرب القهوة الحلوة أو المرة أو شرب “المتة”، ولذهبت الأسر في “سيران” أو أخذت أطفالها إلى مدن الملاهي وحدائق الحيوان؛ وربما لفتح سوق الحرامية، وقصدت الناس الجوامع والمطاعم والمقاهي، وانتشر الباعة المتجولون في الحارات والأحياء وعلى زوايا المفارق وفي أماكن معلومة تشبه الأسواق ولكنها مؤقتة وموسميّة.

لو كان الجو مختلفًا لكان اللاجئون سيجترون ذكرياتهم فيما بينهم لتمضية الوقت؛ وسيشكون أعمال الإغاثة، وسيتذمرون من أداء المنظمات الدوليّة… لكن، “لو” هذه تفتح الباب على مصراعيه للشيطان. فالجو بارد جدًا في الحقيقة!

أمّا هذه الجمعة فعلى العكس تمامًا، كانت جميعها خالية. لا يخلو الأمر في المخيمات من مضطرٍ إلى الدفء يخرج من خيمته حتى لا يتجمّد جلوسًا أو استلقاءً على وسادته. وهكذا كانت دمشق خالية تقريبًا تحسبًا لساعة نحس، مثلما كانت يوم كسوف الشمس منذ أكثر من عقدين من الزمن! وكانت بقايا الثلوج تجد طريقها كيفما اتفق لتتماوج سيولًا في الشوارع والأزقة والحارات نزولًا.

يشترك كلاهما، “أبو السوس” مع فتانا، بمراقبة السيول ومتابعة الفيس بوك. ويفترق سوري بردة الفعل الجامدة تجاه الفتى، وبكونه يراقب الفتى وهو غير دارٍ به. على أي حال، يُخرج فتانا هاتفه الذكي ليلتقط “سيلفي” مع السيول. ثم يلتقط صورة أو ربما فيديو للسيول. ومن المحتمل أنّه يشارك الصورة أو يغيّر صورة بروفايله أو يبث الفيديو مباشرة على فيسبوك. وبعد قليلٍ، يظهر فتانا كمن يتصفح حسابه في فيسبوك.

أنت يا فتى مستغرقٌ تمامًا كما استغرقت سابقًا أيام الطقس الطبيعيّ. ويبدو غضبك حينًا أو ابتسامتك حينًا آخر، علامةً أكيدة على اهتمامِك الشديد بما تقرأ وترى وتسمع في صفحتك. وأخذت تنزل تدريجيًّا في هاتفك الذكي محركًا شاشة موبايلك للأعلى بسبابتك اليمنى. فتتوالى الأحداث تباعًا؛ البوستات والمشاركات والتفاعلات والإشعارات، علّك تجد تفاعلًا يزيل عنك غمامتك ويمنحك الدفء. لكن فجأةً تقع يا فتى على منشورٍ كان سوري الحمدان قد وقع عليه توًّا:

(لاجئ عجوز سار بطفلته عدة كيلومترات ليصل بها إلى أقرب وحدة طبيّة من خيمته في إدلب؛ حملها وضمّها إلى صدره قدر الإمكان، ولفّها بما ملك من بطانيات الإغاثة ليمنحها الدفء المزدوج؛ دفء جسده ودفء البطانيات. كانت الطفلة ميتة عندما كشف عليها أطباء الوحدة الطبيّة!).

وعلى الرغم من أنك يا سوري لم تصادف -مثلك مثل الفتى- جثة الطفلة على قارعة الطريق، بل تخيلتها وحسب، إلّا أنك لم تعر اهتمامًا لهويتها الفرديّة. إذ إنك تفكر بحبيبتك وبما تمثله الجثة وما تعنيه معاناة اللاجئ المجرد، ولا تفكر في الحياة الشخصيّة للعجوز وابنته. وبعكسك فإنّ فتانا قد تأثر كثيرًا بما قرأه في المنشور لدرجةٍ تقطع قلبه فيها. وراح يتخيّل معاناة اللاجئ المسكين يحمل فلذة كبده ليقطع بها تلك المسافة في الثلوج، وكيف كان وقع الخبر عليه بينما كان كلّه أملًا أنْ يدفئها…

تشعر يا فتى بغضب يفور في داخلك يكاد ينفجر. تحسّ بالإشفاق يكتسحك وتلوم كلّ شيء. ينصبّ حقدك على النظام السياسيّ، المحليّ والدوليّ والإقليميّ، الذي ولّد هذا اللجوء. تتمنى لو أنّ هذا اللاجئ امتلكَ جملاً بدل الخيمة؛ لكان ذبحه آنئذٍ، وشق أحشاءه واختبأ فيها حتى تتحمل طفلته الصقيع وتنجو، كما فعل “سعد ذابح” في بدايات التاريخ، وفق ما ينقل الموروث الشفاهي إلينا.

تصفن يا فتانا حوالى تسع ثوانٍ من دون تفكير، كأنك في عالمٍ موازٍ لعالمنا! تغور عيناك متحجِّرة ومركِّزة على السيول في الشارع أمامك، وكأنّك في بثٍ مباشر مع السيول! تطفئ هاتفك وتضعه في جيب سترتك اليمين. تستدير وتمشى خطوتين بتثاقل. تتوقف فجأةً مثل شخص ناداه أحد ما، وتستدير إلى جهتك السابقة، جهة الشمال. تكزَّ على أسنانِك وتُحكِمَ إطباق قبضتيك، وتخطو خطوة واحدة متردِّدة… ثم تتوقف. تفكّر:

(هذه تاسع خماسينيّة لا يوفر الأب فيها الدفء لأولاده!).

تعود وتستدير وتذهب أدراجك بخطى عاجزة، وبمنكبين غير مشدودين، وبذراعين مسبلتين إلى جنبيك، تتحركان وتتمفصلان مثلهما مثل ذراعيّ دمية مفككة. غير أنك أخيرًا تقف لترى وجهًا يتهادى نزولًا على وجه السيول الترابية اللون! إنّه يشبه أكثر ما يشبه زورقًا من لحاءِ الشجرِ البنيّ الموشّح بورق الشجر الأصفر! أكان وجه الطفلة؟ أم دفء أبيها اللاجئ وقد امتطى السيول على هيئة وجه؟ لم يسألك سوري ليعرف الجواب.

السيول تحملك يا سوري بعيدًا! وأنت ما زلت تنتظر. لكن منذ صباح تلك الجمعة لم يعد فتانا ليقف في مكانه في الخارج هناك. وتردد في ذهنك على شكل صدى:

إنْ تلجأ تندم. إنْ تبقى تندم. في الحالتين ستندم. هذا جوهر حياتنا هنا.

انتهت


[1] – [هو لفظ الأعداد من 13 إلى 19 باللهجة العامية].

مشاركة: