لا حاجة إلى القول إن الوصف التالي متحيز، وربما يكون مضللًا إلى حد ما، لأنني حاولت أن أصنع من شيءٍ غير واعٍ وغريزي، في معظم الأحيان، شيئًا واعيًا ومنطقيًا. في مواجهة الاختيار بين “ربما – Perhaps” و “يمكن – Maybe”، لا يضع المترجم الكلمات قيد المحاكمة ويوكل محامين للدفاع والاتهام. في الأرجح، يسمع المترجم الكلمات في زاوية من عقله، فيحب رنين إحداها أكثر من الأخرى. بالطبع، قراره غريزي في الظاهر فقط. تسترشد غريزته بمعرفته بعمل المؤلف، وبما يقرأ في تلك الفترة. يكاد يكون من المؤكد أنها لن تسترشد بأي قواعد، حتى تلك التي يضعها بنفسه.
ويليام ويفر William Weaver، “The Process of Translation” (1989)
هكذا يفتتح ويليام ويفر مقالةً يقدم فيها وصفًا تفصيليًا للاختيارات التي قام بها عند ترجمته لفقرة من قصة قصيرة إيطالية. بحلول عام 1989، اشتهر ويفر كمترجم اللغة الإنكليزية الأول للرواية الإيطالية الحديثة، حيث نشر ما يقرب الستين ترجمة وحصل على جوائز مرموقة من مؤسسات ثقافية مثل جمعية المترجمين الأميركيين والمركز الأميركي للقلم PEN American Center. بالنظر إلى سعة خبرته، يجب أن نأخذ رأيه بجدية في أن الترجمة عملية غير متناظرة إلى حد بعيد، حيث لا تظل أسباب اختيارات المترجم مبهمة فقط، ولكنها غير معروفة له، و”غير واعية”، مع اتخاذ القرارات “في زاوية من عقله”. في الواقع، مع أنّ ويفر يعطي أسبابًا لاختياراته في وصف إحدى عمليات الترجمة هذه، إلا أن أيًا من هذه الأسباب لا يتخذ شكل تفسير يمتد إلى ما بعد التعليق الدلالي أو الأسلوبي المختصر على كلمة إيطالية (“atti هي أقرب إلى “أفعال – deeds” أكثر من كونها “أعمال – actions”) أو على ما يشبهها في اللغة الإنكليزية (“طنان أو رنان -highfalutin”، “مبتذل جدًا – too banal”، ” رنين فخم – a pompous ring”) (Weaver 1989: 119, 118, 120, 123). يبدو أن العديد من الاختيارات تستند إما إلى القيم اللغوية والثقافية التي لم يتم ذكرها أو تستند إلى التفضيل الشخصي المطلق: “[باختيار ” خَفْق/خَبْط – beat” على “خفقان/خبيط – beating”] يمكنني تجنب التكرار -ing، التي ربما يوجد الكثير منها في هذا المقطع”؛ “المقطع يحتوي على عدة كلمات أكرهها”؛*”الترجمة الحرفية (’ فكرة، فكرة …’)، تبدو خاطئة لي” (المرجع نفسه: 122، 118، 119). توثق مقالة ويفر بالتأكيد عملية الترجمة الخاصة به، حتى لو لم يشرحها بالفعل. لكنه يؤكد شيئًا أكثر من ذلك، أن الترجمة “في معظم الأحيان” هي “غير واعية”، ليس فقط بالنسبة إليه أو إلى مترجمي جيله، ولكن إلى “المترجم” عمومًا. أي أن التفضيل الشخصي للمترجم هو الأساس في الاختيار بين كلمتين متشابهتين في المعنى والمبنى.
هذه فرضية استفزازية، ولكن نادرًا ما تم النظر في تطبيقاتها في دراسات الترجمة (الاستثناءات البارزة هي المشاريع النظرية لـ Gavronsky 1977 وFrota 2000). درس علماء الترجمة الموارد اللغوية والثقافية التي يستوعبها المترجم على مدار حياته المهنية، وهي موارد تُستخدم عفويًا في عملية الترجمة، ولكن يمكن التعبير عنها في الترجمة، وعلى هذا يمكن القول إنها تشكل التفكير الكامن للمترجم، ويمكن استردادها بسهولة بدلًا من كبتها (انظر، على سبيل المثال، the treatment of “norms” in Toury 1995: 53–69). ومع ذلك، مع أنّ مقالة ويفر تشير بوضوح إلى مثل هذه الموارد (“معرفة عمل المؤلف”، “قراءات المترجم في تلك الفترة”)، فإنه يؤكد على النفور الشخصي أو التفضيلات الشخصية (“كلمة أخرى يبدو أنها تسبب لي مشكلات دائمًا [….]”؛ “أنا كره صيغتي جمع متعاقبتين”: Weaver 1989: 119, 120) التي لم يحدد جذورها. يتساءل المرء لا محالة، ليس فحسب إذا ما كانت مثل هذه الخيارات قد تم تحفيزها دون وعي، ولكن أيضًا إذا ما كانت “القواعد” التي ينفي ويفر تطبيقها هي أيضًا غير واعية، أو لا شعورية، أو ربما مكبوتة في حالته ومع ذلك فهي نشطة في عملية الترجمة.
وبالمثل، يميل علماء نظرية التحليل النفسي إلى التغاضي عن مثل هذه الاعتبارات. لقد اختاروا بدلًا من ذلك اتباع فرويد في فهم الترجمة إما كعملية نفسية (ترجمة المواد اللاواعية إلى أعراض، على سبيل المثال، أو إلى المحتوى الظاهر للأحلام) أو كعملية تأويلية تحدث في أثناء التحليل (ترجمة الأعراض والأحلام في لغة المحلل) (انظر بشكل خاص Mahony 1980; cf. the dissenting view of Amati Mehler et al. 1990: 297–301). يقدم ألان باس Allan Bass (1985) دراسة استثنائية لفرويد كمترجم بين اللغات، حيث تعامل مع الخطأ اللغوي على أنه علامة على وجود دافع لاواعٍ. كما تقترح هذه الدراسة أنه يجب إيلاء المزيد من الاهتمام لفكرة أن اللاوعي، وهو فئة عالمية في نظرية التحليل النفسي، قد يعمل بطريقة ما في اختيارات المترجم ويكون مرئيًا في النص المترجم والمتاح لإعادة الصياغة.
هدفي في هذا البحث بالتحديد هو متابعة هذا النوع من التفكير. ومع ذلك، فإن نقطة انطلاقي لن تكون نظرية التحليل النفسي، ولا عرضًا لمفاهيم التحليل النفسي الأساسية، بل ستكون نظرية الترجمة، وهي صياغة للقضايا اللغوية والثقافية الأساسية التي تثيرها الترجمة. إذا كان لاوعي المترجم يعمل في عملية الترجمة، فمن المهم أن نفهم كيف أن الممارسة اللغوية والثقافية المميزة -التي هي الترجمة- تعطي شكلًا ومعنىً محددين لمفاهيم التحليل النفسي. سيمكّن هذا النهج من التمييز بين جوانب مختلفة من اللاوعي لدى المترجم، وبين المترجم المحترف والشخصي، والثقافي والسياسي. سأبدأ بعد ذلك بتقديم عرض للمفاهيم النظرية في الترجمة وبتوضيحها بمثال معين من أجل إرساء أساس نصي لتطوير نهج التحليل النفسي.
الاختلافات غير القابلة للاختزال في الترجمة
على الرغم مما قد يبدو كهياكل لغوية واستطرادية متناظرة بين النص الأصلي وترجمته، لا يوجد تشابه في الشكل والمعنى أو في الاستقبال قبل عملية الترجمة. يتم إنشاء أي تشابه على أساس الاختلافات غير القابلة للاختزال التي تكون موجودة مسبقًا، بشكل دائم، قبل بدء الترجمة التي قد يعمل المترجم على حلها أو التحايل عليها ببساطة -كما هو الحال مع وهم الشفافية الناتج عن الترجمة الفورية- ولكنها تظل حاضرة في النص المترجم وتعقِّد وظيفته التواصلية (Venuti 2008: 1-5). الاختلافات هي تلك الموجودة بين اللغات والثقافات، وعلى الرغم من أنها ما يفترض أن تتباحثها الترجمة أو تحلها في المقام الأول، فإنها تنتهي في النهاية بمضاعفتها ومفاقمتها، أحيانًا من دون وعي المترجم، وفي كثير من الحالات من دون وعي الجمهور الذي أُنتجت الترجمة من أجله والذين، منذ القرن التاسع عشر فصاعدًا، لم يعد بمقدورهم الوصول إلى النص الأصلي. يجب أن ندرس هذه الاختلافات، حتى عندما تحدث من دون وعي، ولكن ليس على أمل القضاء عليها، لأنه لا يمكن استئصالها، وبعضها في الواقع لا يجب أن يستأصل لأنه ضروري لفهم أو إدراك اغتراب النص المصدر، أي ما يجعل هذا النص مختلفًا عن النصوص المكتوبة أصلًا باللغة المترجم إليها وحضارتها. إن الهدف الذي يجب أن نحدده لدراسات الترجمة في نهاية المطاف هو بالأحرى الهدف الأخلاقي لتطوير أساليب البحث في الترجمة والممارسة التي تصف وتشرح وتتحمل المسؤولية عن الاختلافات التي تحدثها الترجمة لا محالة.
لاستكشاف هذه التأكيدات، سأعتمد، أولًا، على نظريات ما بعد البنيوية للغة والنصية، وتحديدًا على عمل جاك دريدا Jacques Derrida. إنها النظريات التي سعت إلى مراعاة الاختلافات اللغوية والثقافية ومكنتنا من التفكير فيها بأكثر الطرق ثباتًا وتعقيدًا. من بين العديد من تعليقات دريدا الإيحائية حول الترجمة مقطع يشير إلى الأهمية المادية للنص المترجم:
Or un corps verbal ne se laisse pas traduire ou transporter dans une autre langue. Il est cela même que la traduction laisse tomber. Laisser tomber le corps, telle est même l’énergie essentielle de la traduction. Quand elle réinstitue un corps, elle est poésie. En ce sens, le corps du signifiant constituant l’idiome pour toute scène de rêve, le rêve est intraduisible.
(Derrida 1967: 312)
The materiality of a word cannot be translated or carried over into another language. Materiality is precisely that which translation relinquishes. To relinquish materiality: such is the driving force of translation. And when that materiality is reinstated, translation becomes poetry. In this sense, since the materiality of the signifier constitutes the idiom of every dream scene, dreams are untranslatable.
لا يمكن إجراء ترجمة مادية لكلمة ما أو نقلها إلى لغة أخرى. المادية هي بالضبط ما تهجره الترجمة. هجر المادية: هي القوة الدافعة للترجمة. وعندما تُعاد تلك المادية، تصبح الترجمة شعرًا. بهذا المعنى، بما أن مادية الدال تشكل لغة كل مشهد حلم، فإن الأحلام غير قابلة للترجمة.
(Derrida 1978: 210)
من وجهة نظر دريدا، لا يمكن إعادة إنتاج جسد (“le corps”) النص الأصلي، وماديته بمعنى السلسلة المحددة من الدلالات الصوتية أو الخطية التي تشكله في الترجمة، لذا يتم إسقاطها بشكل حتمي من قبل المترجم. هذه الإزاحة، لكي نكون أكثر دقة، تنطوي على خسارة مزدوجة: فقدان التأثيرات داخل النصية، التي تشكل النسيج الفريد أو عملية الدلالة للنص المصدر، وفي الوقت نفسه فقدان العلاقات بين النصوص، التي تضيف الأهمية من أجل قراء اللغة المصدر الذين قرأوا على نطاق واسع بهذه اللغة. بإسقاط الجوهر المادي للنص المصدر، تعمل الترجمة على نزع السياق بشكل جذري: فهي تفكك السياق الذي يقوم عليه ذلك النص. إن نزع السياق هذا هو الاختلاف الأول الناتج من عملية الترجمة نفسها.
يلاحظ دريدا أيضًا أنه عندما تسترجع الترجمة جسد النص وماديته، بمعنى سلسلة أخرى من المعاني في لغة أخرى، تغدو الترجمة “شعرًا” (“poésie”). من الواضح أن مصطلح “الشعر” يمكن تحميله بمعانٍ مختلفة تعتمد على المواد التي يجلبها المترجم للتأثير فيه، مع أنّنا لا نستطيع التأكد من الحمل الذي قام بتحميله، دريدا نفسه، لهذا المقطع. بقدر ما أنه فيلسوف مطلع على تاريخ الفلسفة، لذا سآخذ المصطلح بالمعنى الفلسفي اليوناني القديم ποίησις (poiesis): تتضمن كتابة الترجمة فعلًا معينًا للإبداع أو الاختراع. تُنشئ الترجمة سلسلة دلالات أخرى مصحوبة بتأثيرات ضمن النص وعلاقات بين النصوص مصممة لإعادة إنتاج النص المصدر، ولكنها تعمل أيضًا في لغة الترجمة وثقافتها. نتيجة لذلك، تتجاوز الترجمة الاتصال بأي دلالة أحادية اللغة يؤسسها المترجم في النص المصدر، مهما كانت مختزلة أو منزوعة السياق. يؤدي إنشاء سلسلة دلالية مختلفة إلى تكاثر الاحتمالات الدلالية حيث يسعى المترجم لإصلاح دلالة لا تدل على النص المصدر فحسب، ولكن أيضًا على الإدراك والمصالح في موقف المتلقي للنص. في استعادة المادية، عند إنشاء نص، فإن الترجمة تعيد صوغ السياق بشكل جذري، منتجة بذلك فرقًا ثانيًا، في الواقع مجموعة من الاختلافات اللغوية والثقافية التي تم نقشها في النص الأصلي.
يمكن توضيح هذه النقاط من خلال نسخة ألان باس Alan Bass الإنكليزية لمقطع دريدا الفرنسي. لم يكتف باس بإسقاط سلسلة الدوال الفرنسية، ولكنه أيضًا لم ينقل النحو الفرنسي، ووضع الصفات بعد الأسماء، على سبيل المثال، كما في “un corps verbal” و”l’énergie essentielle”، أو بناء الجمل على المجاورة الذي يبدأ الجملة الأخيرة: “le corps du signifiant concuant l’idiome [….].” لم يستعد باس هذه السمات المادية لكتابات دريدا لأن الفرنسية والإنكليزية يُعبر عنهما بشكل مختلف، وفقًا لتراكيب لغوية واستطرادية مختلفة. يعد وضع الصفات بعد الأسماء استخدامًا قياسيًا في اللغة الفرنسية المعاصرة، ولكنه قديم في اللغة الإنكليزية، وهو يقتصر اليوم على بعض الأمثلة الأدبية. وهكذا كان باس متمسكًا باللغة الإنكليزية القياسية الحالية عندما عكس ترتيب الصفات الفرنسية. يعتبر البناء على التجاور نموذجًا لما سمّاه فيليب لويس Philip Lewis “العلاقات الأكثر مرونة والأقل صرامة التي تسود في الفرنسية”، بينما تميل اللغة الإنكليزية إلى “تفضيل مجموعة دقيقة صارمة ومتجانسة من العلاقات” (Lewis 1985: 35). هنا كان باس يتبع تفضيلًا للدقة والتماسك المميزين للغة الإنكليزية عندما تجنب المجاورة وبدلًا من ذلك أنشأ جملة وصل، وأدخل الكلمة الرابطة “منذ ذلك الحين – Since”.
يمكن رؤية التفضيل نفسه في معجم باس. ومع ذلك، تكشف اختياراته هنا انحرافًا أكثر وضوحًا عن مقطع دريدا: في حين أن الفرنسية ملموسة ومجازية في آن واحد في استخدام كلمات مثل “الجسد – Corps” للإشارة إلى اللغة و”laisser tomber” (السماح بالسقوط- to let fall، والإسقاط عمدًا – to drop) للإشارة إلى الخسارة التي تفرضها الترجمة على النص المصدر، تكون اللغة الإنكليزية أكثر تجريدًا ودقة في استخدام كلمات مثل “المادية – materiality” و”الهجر – relinquish”. لم يقم باس بإعادة اختراع لغة دريدا الفرنسية وفقًا للتفضيلات اللغوية التي تميز اللغة الإنكليزية؛ لقد قام أيضًا بتحويل الأسلوب بعيدًا عن الأدبي إلى الفلسفي حيث تم رسم هذا التمييز العام منذ فترة طويلة في الفلسفة البريطانية والأميركية، واستيعاب لغة النص الفرنسي في اللغة المستخدمة عادةً في التقاليد الفلسفية الناطقة بالإنكليزية. على الأقل منذ نهاية القرن التاسع عشر، مالت الفلسفة القارية إلى طمس التمييز بين الكتابة الأدبية والفلسفية: لا تفكر في ما بعد البنيوية فقط، ولكن أيضًا الظواهرية (الفينومينولوجيا) الوجودية، ليس فقط دريدا، ولكن أيضًا نيتشه Nietzsche وهايدجر Heidegger. على النقيض من ذلك، هدفت الفلسفة البريطانية والأميركية إلى الحفاظ على التمييز من خلال بناء المصطلحات الفنية على نموذج الكتابة العلمية: فكر في المنطق الرمزي ونظرية الفعل الكلامي لبرتراند راسل Bertrand Russell وجون أوستن John Austin. يمكن ملاحظة هذا الاختلاف في عمل فيلسوف واحد، فيتجنشتاين Wittgenstein، ربما لأنه نمساوي يكتب باللغة الألمانية إلا أنه عاش طويلًا في إنكلترا. تحول فتجنشتاين من الأسلوب المنطقي الصارم لـ Tractatus Logico-Philosophicus (1922) إلى أسلوب التخاطب، والأسلوب المجازي أحيانًا للتحقيقات الفلسفية Philosophical Investigations (1953) (يناقش Perloff 1996 هذا التحول).
تسلط ترجمة باس الضوء على الأهمية المادية المميزة للنص المترجم، إضافة إلى قصدية المترجم في إنتاج هذا النص. إنه يلتزم المعيار الذي يقولب معظم الترجمة اليوم، بغض النظر عن اللغة والثقافة، وهو توقع سائد بأن الترجمة المقبولة ستكون مناسبة للنص المصدر من خلال احتوائها تقريبًا على عدد الكلمات أو الصفحات نفسه. على الرغم من أن المترجمين المعاصرين غالبًا ما يبتعدون عن التركيبات الإعرابية للنص المصدر والعناصر المعجمية بسبب الاختلافات بين اللغات، إلا أنهم مع ذلك يحاولون الحفاظ على تشابه دلالي قائم على التعاريف الحالية للقاموس، أو بعبارة أخرى التكافؤ المعجمي. كما يجادل دريدا في مكان آخر، فإن هذه النية هي مسألة “البقاء على مقربة قدر الإمكان من تكافؤ ’كلمة بكلمة’ وبالتالي احترام الكمية اللفظية كمجموعة من الكلمات، يشكل كل منها جسدًا لا يقبل الاختزال، الوحدة غير القابلة للتجزئة لشكل صوتي يتضمن أو يشير إلى الوحدة غير القابلة للتجزئة للمعنى أو المفهوم” (Derrida 2001: 181). وبذلك، فإن الجهد المبذول للحفاظ على التكافؤ المعجمي يعتمد على مفهوم معين للمعنى في اللغة، ومع ذلك، فإن مادية النص المترجم، وحتى فعل الترجمة نفسه، تكون موضع تساؤل دائم لأن الترجمة تحل محل الدلالات التي تشكل النص المصدر وتنشر الاختلافات التي تستجيب للغة وثقافة المتلقين. يمكن اكتشاف التكافؤ المعجمي بين استخدام دريدا للكلمة الفرنسية “جسد – corps” واختيار باس للكلمة الإنكليزية “المادية – materiality” – ولكن فقط إذا تم اختزال الكلمات إلى معنىً مشترك، وتجريدها من التنويعات والاختلافات الرسمية والدلالية، التي تمكنها من الإشارة إلى المزيد من الاحتمالات باللغتين الفرنسية والإنكليزية وربط النصوص التي تظهر فيها بتقاليد فلسفية مميزة.
الباقي ولاوعي المترجم
إذًا، لا يستطيع المترجمون تجنب الفقد الذي تفرضه عملية الترجمة على النص المصدر، وعلى معانيه وهياكله، واستعاراته وتقاليده. ولا يمكن للمترجمين تجنب الزيادة في ترجمتهم، وبناء المعاني المختلفة، والتراكيب، والاستعارات، والتقاليد، وبالتالي إنشاء تأثيرات نصية تتجاوز كثيرًا إنشاء التكافؤ المعجمي للدال في المقام الأول على مصطلحات لغة الترجمة وحضارتها. بعد العمل المهمّ لجان جاك ليسيركل Jean-Jacques Lecercle (1990)، أُطلق كلمة “الباقي” على هذه التأثيرات في الترجمة.
وفقًا لنظرية ليسيركل Lecercle، الباقي موجود دومًا في استخدام اللغة: إنه مجموعة من الاختلافات الصوتية والمعجمية والنحوية المحتملة في اللهجة القياسية الحالية، والتي يتم استثمارها بحكم التعريف مع مثل هذه القيمة الثقافية والاجتماعية لاستبعاد أو كبت أي أشكال غير قياسية أو قصرها على استخدامات ومواقف معينة. في حين أن اللهجة القياسية تدفع مستخدم اللغة نحو التجانس، والتزام قواعد النحو على سبيل المثال، ومعايير المغزى السائدة، فإن الباقي يوجه الانتباه إلى التباين التام للغة. يتكون الباقي من اختلافات مثل اللهجات الإقليمية والاجتماعية، والشعارات والكليشيهات، والمصطلحات الفنية واللغة العامية، والعبارات القديمة والكلمات الجديدة، والتشابيه الأدبية مثل الاستعارات والتورية، والابتكارات الأسلوبية، والكلمات المقترضة من اللغات الأجنبية. في تغيير اللهجة القياسية، فإن الباقي يُعقّد الاتصال أحادي المعنى من خلال لفت الانتباه إلى الظروف اللغوية والثقافية والاجتماعية لأي فعل تواصلي، إلى حقيقة أن اللهجة القياسية هي مجرد واحدة من بين مجموعة متنوعة من الأشكال الممكنة. الباقي ليس ما تبقى من اللهجة القياسية أو من المعنى الذي يتم إيصاله في تلك اللهجة، ولكنه بالأحرى مكون للمعيار وأي معنى معبر عنه – حتى لو كان عن طريق الإقصاء أو التقييد.
في الترجمة، يتكون الباقي من أشكال لغوية وتأثيرات نصية تختلف في الوقت نفسه عن اللهجة القياسية الحالية للغة المنقول إليها والأبعاد الرسمية والدلالية للنص المصدر. الاختلافات التي تشكل الباقي تُعقّد إنشاء مكافئ معجمي مع النص المصدر لأنها تعمل فحسب في لغة الترجمة والثقافة، وتعكس الظروف اللغوية والثقافية والاجتماعية للمتلقين. الباقي هو العلامة الأكثر وضوحًا لعملية التدجين دائمة الوجود في الترجمة، واستيعاب النص المصدر لما هو مفهوم ويثير اهتمام القراء في الثقافة المستقبلة. لكن الباقي يمكن أن يكون أيضًا نقطة مهمة لتأثيرات التغريب من خلال الانحراف عن اللهجة القياسية الحالية، وهو شكل لغة الترجمة الأكثر شيوعًا للقراء والتي يفرضها المحررون على المترجمين بشكل شائع. يمكن وصف تقديم باس لمقطع دريدا الفرنسي بأنه إطلاق باقٍ فلسفي مميز حيث تعمل الاختيارات المعجمية الإنكليزية على استيعاب الفرنسيين في التقاليد الفلسفية البريطانية والأميركية. في النهاية، ومع ذلك، فإن خيارات باس ليست تدجينًا بقدر ما هي تغريب لأن التشابه اللغوي الذي أنشأته بين تلك التقاليد وفلسفة دريدا ينتهي إلى تعزيز ما يميز تفكيره.
يمكن أن يُطلق مستخدم اللغة الباقي عمدًا. قد يرغب الشاعر أو الروائي، على سبيل المثال، في تغيير اللهجة القياسية الحالية للتأثير الأدبي؛ وقد يرغب عالم أو مهندس في تطوير مصطلحات متخصصة لوصف قانون علمي أو عملية تكنولوجية بدقة أكبر. وبالمثل، قد يقرر المترجم إطلاق الباقي، لتغيير شكل ومعنى النص الأصلي، لأن السمة اللغوية أو التأثير الأدبي لا يمكن أن يكونا أكثر من تقريب في الترجمة أو لأنه لا يمكن إعادة إنتاجهما في النقطة نفسها بالضبط كما في النص المصدر. يُطلق على هذا النوع من التنويع المتعمد أحيانًا اسم التعويض، وهو إنشاء ميزة أو تأثير يعوض فقدان بعض جوانب النص المصدر الناتج عن الاختلافات اللغوية والثقافية (راجع Harvey 1995).
قد يُطلق أيضًا سراح الباقي من غير قصد. يمكن أن ينتج من المحادثة والكتابة اختلافات في اللهجة القياسية تهرب من التحكم الواعي لمستخدم اللغة، ولكن هذا يشير مع ذلك إلى المعاني التي يفهمها المحاورون والقراء. يقترح ليسيركل Lecercle، في الواقع، إن الباقي يمكن عدّه “المعادل اللغوي للاوعي الفرويدي، المستبعد أو المكبوت من قواعد القواعد، ولكنه يحاول العودة في النكات، وزلات اللسان، والهفوات، والشعر” (Lecercle 1990: 23). في الترجمة، على المنوال نفسه، قد يكون الباقي من لاوعي المترجم، ولكنه مهم للغاية فيما يتعلق بالنص المصدر والثقافة المستقبلة. على سبيل المثال، يمكن للمترجم أن يخطئ من دون قصد في فهم عنصر معجمي في النص المصدر أو في فهم بناء نحوي ضمنه، وقد يتردد صدى الخطأ مع المعاني التي تظهر التفسير المكبوت للنص المصدر.
ضع في اعتبارك الخطأ الذي يظهر في ترجمة باس، وهو خطأ في تفسير الصيغة الفرنسية. في الجملة الرابعة من المقطع، كتب دريدا، “Quand elle réinstitue un corps, elle est poésie”، والتي قد تقرأ في النسخة الإنكليزية الحرفية، “عندما تعيد [الترجمة] الجسد، تغدو [الترجمة] شعرًا – When it [translation] reinstitutes a body, it [translation] is poetry “. الضمير المؤنث المتكرر “elle” الذي أعتبره إشارة إلى الاسم المؤنث “la traduction” (“الترجمة”)؛ تشير أداة التنكير “un” قبل كلمة “corps” إلى أي جسد أو مادة لفظة في لغة الترجمة، أي إلى سلسلة من الدلالات في تلك اللغة، والتي قد يبتكرها المترجم لترجمة النص المصدر. تقدم نسخة باس عدة عمليات خروج عن الفرنسية، اثنتان منها -هما عكس ترتيب الكلمات وتغيير الفعل من صيغة المبني للمعلوم إلى المبني للمجهول- وهي ليست عمليات ترجمة خاطئة لأنها لا تؤثر بشكل ملحوظ في المعنى. يحدث سوء التفسير في استبدال أداة التنكير “un” بالصفة التوضيحية “that” حيث تشير كلمة “that” بوضوح إلى مادية النص الأصلي المذكور في الجمل الثلاث الأولى من المقطع. يعد التحول من “un” إلى “that” خاطئًا لأنه يعكس المعنى: الجملة الأولى من دريدا في النسخة الإنكليزية، والتي تنص على أنه لا يمكن نقل مادية النص المصدر، تتناقض مع الجملة الرابعة، التي تشير إلى إمكانية ترحيل المادية أو “إعادتها” في الواقع. لأكثر من عقدين من الزمن، على ما يبدو، لم يلاحظ القراء أي خطأ في هذا المقطع لأنهم فهموا “that” على أنها إشارة إلى النص المترجم. ومع ذلك، فإن مثل هذه القراءة تتجاهل القوة الإلهية للصفة التوضيحية، التي تشير إلى الإشارات الثلاث السابقة إلى “مادية” النص المصدر.
كيف نفسر هذا الخطأ؟ من المهم استبعاد انعدام الكفاءة كسبب: باس هو مترجم واسع الاطلاع على كتابات دريدا وحصل على درجة الدكتوراه في الأدب الفرنسي من جامعة جونز هوبكنز Johns Hopkins ثم تدرب كمحلل نفسي في نيويورك، حيث يعمل حتى الآن. ترجم باس أربعة من كتب دريدا: الكتابة والاختلاف Writing and Difference (1978)، مصدر المقالة التي أخذ منها المقطع الذي ننظر فيه؛ المواضع Positions (1981)؛ هوامش الفلسفة Margins of Philosophy (1982)؛ والبطاقة البريدية: من سقراط إلى فرويد ومن بعده The Post Card: From Socrates to Freud and Beyond (1987). تتضمن ترجمات باس دومًا شروحًا توضيحية مضيئة، وقد علّق بعمق على فلسفة دريدا وتحليله النفسي في كتاباته الخاصة. إضافةً إلى ذلك، فإن باس مترجم دقيق يستشير بشكل روتيني الترجمات المنشورة سابقًا. في حالة المقالة قيد المناقشة، فحص باس نسخة منشورة مسبقًا بواسطة جيفري ميهلمان Jeffrey Mehlman، أستاذ اللغة الفرنسية في جامعة بوسطن ومترجم النصوص النظرية الفرنسية، بما في ذلك نظرية التحليل النفسي (Derrida 1978: xx). مع ذلك، تحتوي نسخة ميهلمان الخطأ نفسه، سوء التفسير ذاته للنحو، وحتى الصياغة نفسها (Derrida 1972: 90–91).
قد يتغاضى المرء عن خطأ باس (وخطأ ميهلمان من قبله) على أنه مجرد سهو لم يتم اكتشافه في التدقيق اللغوي، سواء من المترجم نفسه أو من المحرر في مطبعة جامعة شيكاغو، التي نشرت هذا الكتاب وغيره من ترجمات باس الأخرى لدريدا. لكني أريد أن أجادل أن المزيد على المحك، حتى لو اعتبرنا الخطأ سهوًا. وهذه الإضافة التي تنبع من الباقي، من الواضح أنها لاواعية، ولكنها مع ذلك مهمة. تكشف الترجمة الخاطئة لباس (وميهلمان) عما يمكن تسميته حلم المترجم: أن الترجمة ستعيد النص المصدر بالكامل، في ماديته، دون فقد أو زيادة، وأن الترجمة ستؤسس مثل هذا التشابه مع النص المصدر للتغلب على الاختلافات غير القابلة للاختزال بين اللغات والثقافات. الترجمة هي مشهد حلم في حد ذاتها، حيث يمكن أن يظهر لاوعي المترجم في الاختلافات بين الهياكل اللغوية والخطابية من خلال الباقي. لا تترجم سلسلة الدلالة التي أنشأها المترجم أي حلم مجسد في النص المصدر، ولكنها بدلًا من ذلك تستبدله برغبة المترجم اللاواعية، أو الرغبة في الحصول على معنى معين، أو، كما في هذه الحالة، نظرية معينة عن المعنى في الترجمة. ومع ذلك، فإن هذه الرغبة ضمنية، وليست صريحة، ولا يمكن إدراكها إلا من خلال سوء فهم النحو.
أنا أقرأ خطأ المترجم بشكل عرضي، كدال يحفزه اللاوعي، وبذلك أعتمد على المعالجة التحليلية النفسية لفرويد لمثل هذه الظواهر الشائعة مثل الهفوات اللفظية وسوء القراءة (ينظر Frota 2000 للأمر بطريقة مماثلة). الخطأ في ترجمة باس يشكل في الواقع قراءة خاطئة للنص الفرنسي. يلاحظ فرويد ذلك:
في عدد كبير جدًا من [الأخطاء في القراءة]، فإن استعداد القارئ هو الذي يغير النص ويقرأ فيه شيئًا يتوقعه أو يشغل باله. إن المساهمة الوحيدة في سوء القراءة التي يحتاج إليها النص نفسه هي توفير نوع من التشابه في الصورة اللفظية، والتي يمكن للقارئ تغييرها حتى توافق المعنى الذي يحتاج إليه.
(Freud 1960: 112–13)
وهكذا في ترجمة المقطع الذي علق فيه دريدا على الترجمة، غيّر باس التركيب النحوي من خلال إنشاء بنية مشابهة كانت قادرة على نقل معنى مختلف يتعارض في الواقع مع وجهة نظر دريدا. هذه المعارضة ضرورية لفهم التحليل النفسي لسوء القراءة لأنه، كما يشير فرويد، فإن النص “يحتوي على شيء يثير دفاعات القارئ -بعض المعلومات أو الافتراضات التي تزعجه- وبالتالي يتم تصحيحها عن طريق إساءة فهمها حتى تتناسب مع رفضها أو لتحقيق رغبة” (المرجع نفسه: 114). إن المقطع الذي يلقي بظلال الشك على إمكانية الترجمة، والذي يؤكد حتمية فقد غير قابل للاسترداد في أثناء عملية الترجمة، قد يزعج المترجم الذي يترجمها إلى لغة أخرى. ومن ثم، أقترح أن خطأ باس حصل تحت تأثير نفي وقوع أي فقد في الترجمة بافتراض إمكانية استعادة مادة النص المصدر. (يمكن قول الشيء نفسه عن الخطأ في نسخة ميهلمان).
تسمح ترجمة باس بالحصول على وصف أكثر دقة لعقل المترجم اللاواعي. ربما تكون النقطة الأولى الجديرة بالتوضيح هي أن اللاوعي لدى المترجم نصي: فهو لا يوجد خارج لغة الترجمة، ولكنه يظهر إلى الوجود عندما تُستخدم تلك اللغة في عملية الترجمة. كما لاحظ جاك لاكان Jacques Lacan، “اللاوعي ليس بدائيًا ولا غريزيًا؛ إن ما يُعرف عن الأولي/الأساسي لا يتجاوز عناصر الدال” (Lacan 1977: 170). في إنتاج سلسلة من الدلالات لترجمة النص المصدر، يطلق المترجم الباقي الذي يفضح منتوجات اللاوعي لديه – ولكن فقط فيما يتعلق بهذا النص أو بفقرة معينة فيه فحسب. وقد يشمل هذا الباقي العديد من الصلات بين النصوص. وهكذا يوضح باس أن ترجمة فرويد الخاطئة وغير المقصودة حدثت “لأنها تتلاءم جيدًا مع النظريات ذات الصلة” التي كان يناقشها في المقالات والمراسلات حينها، والتي كان زملاؤه مثل كارل يونغ Carl Jung يعالجونها في أبحاثهم الخاصة (Bass 1985: 137).
فضلًا على ذلك، يجادل لاكان بأن السلسلة الدالة هي موقع نقص ينتج رغبة الذات (Lacan 1977: 256–65). لا تنشأ الرغبة في الذات، ولكن فيما يسميه لاكان “الآخر”، الدلالات التي استوعبتها الذات خلال اكتساب اللغة، بما في ذلك المعاني التي استخدمها الشخص الأول الذي رغب في الموضوع (أي الأم)، ولكن أيضًا المعاني التي تنتظر منها الذات استجابة طلب الرضا (المرجع نفسه: 263). الآخر هو النظام الرمزي، سلسلة المعنى التي تشكل الذات من خلال عملية تحديد الهوية. وهذا الدستور في اللغة يحدث دون وعي الفرد. في صيغة لاكان، “اللاوعي هو خطاب الآخر”؛ أو بعبارة أخرى، “إن وجود الدال في الآخر هو، في الواقع، حضور مغلق عادةً عن الذات، لأنه عادةً ما يستمر في حالة من الكبت” (المرجع نفسه: 193، 200).
في حالة المترجم، تنتج الرغبة في مرحلة دلالات النص المصدر. يخلق النص المصدر نقصًا في المترجم الذي يطلب من دون وعي أن يلبي هذا النص النقص ويطلب من يغير صياغته لينال الرضا. إذًا، يتم الكشف عن رغبة المترجم بشكل أساسي في تلك الحالات التي يتم فيها خلع لغة الترجمة أو حيث تنحرف الترجمة عن النص المصدر مما يؤدي إلى وقوع الخطأ. ومع ذلك، فإن هذا يعني أن رغبة المترجم لا تجد هدفها أبدًا، ولا يتم إشباعها البتة. يشكل الخلع في الترجمة والانحراف عن النص المصدر “وهم” المترجم، والذي يعرِّفه لاكان على أنه “ذلك الذي تحافظ فيه الذات على مستوى رغبتها التي تتلاشى بقدر ما يخفي إرضاء الطلب ذاته الهدف منه” (المرجع نفسه: 272؛ راجع Easthope 1999b للاختلافات بين نظريات فرويد ولاكان حول هذه النقطة).
وهكذا أثار نص دريدا الفرنسي طلبًا غير واعٍ في ترجمة باس، الرغبة في أن يكون النص المصدر قابلًا للترجمة بأكمله. ومع ذلك، تم رفض هذه الرغبة على المستوى الموضوعي للنص من خلال تأكيد دريدا على عدم قابلية الترجمة، فكرة أن الجسد اللفظي لا يمكن نقله. وقد تجلى الإنكار بشكل أكبر على المستوى المعجمي والنحوي للترجمة، وفي لجوء باس إلى المصطلحات التي توحي بالفلسفة البريطانية والأميركية وفي سوء الفهم الذي كشف عن رغبته في قابلية ترجمة النص. كان الباقي الذي أطلقه اللاوعي وهمًا بدا أنه يرضي رغبة باس، لكنه أخفى إحباطه الفعلي.
مع أنّ نظرية التحليل النفسي تهدف إلى دراسة علم النفس الفردي، فإن تطبيقي لهذه النظرية على الترجمة يشير إلى أن رغبة المترجم ليست شخصية تمامًا، ولكنها عابرة للأفراد أيضًا، ومن المحتمل أن يتشاركها العديد من المترجمين المختلفين لأنها توجد من خلال نظرية وممارسة الترجمة. وهكذا فإن الخطأ نفسه الذي يعبر عن النوع نفسه من الرغبة، رغبة غير واعية لمفهوم معين عن الترجمة، يحدث في الترجمات التي قام بها مترجمان مختلفان في وقتين مختلفين: مهلمان وباس. من المؤكد أن النص المترجم يمكن أن يعبر عن الرغبات الشخصية للمترجم لأنها تتعلق بنصوص وثقافات مصدرية معينة ومقاطع محددة في تلك النصوص. ولكن بما أن الرغبة كما تصورها لاكان تنبع من الآخر، والآخر يفترض وظيفة رمزية تمثل أشخاصًا مختلفين من تجربة الذات، وتعمل من خلال تحديد الهوية والانتقال أو الاستبدال (حيث، على سبيل المثال، تأتي امرأة بالغة لتحل محل الأم في عاطفة الرجل)، يجب أن نعترف باحتمالية أن تأخذ رغبة المترجم أشكالًا جماعية، تحددها التقاليد الثقافية والمؤسسات الاجتماعية (هذه النظرة تتعارض ضمنيًا مع التأكيد على فردية المترجم في Frota 2000). في مثل هذه الحالات، قد لا تكون رغبة المترجم شخصية فحسب، بل سياسية أيضًا.
المؤثرات الصوتية غير المقصودة واللاوعي السياسي
إضافة إلى الأخطاء في القراءة، ينظر فرويد في زلات اللسان التي تنطوي على تشابه في الصوت. يتم استبدال أو تلويث الكلمة أو العبارة التي يُتوقع حدوثها في نقطة معينة من الكلام بأخرى تبدو مشابهة، ولكنها ليست جزءًا من السياق وتكشف في النهاية عن قلق أو رغبة مكبوتة. يلاحظ فرويد أنه “ليس تأثير ’تأثيرات اتصال الأصوات’ ولكن تأثير الأفكار التي تقع خارج الخطاب المقصود هو الذي يحدد حدوث الانزلاق، ويقدم تفسيرًا مناسبًا للخطأ” (Freud 1960: 80). هذه الزلات لها تأثير مباشر على الترجمة: نظرًا إلى أن عملية الترجمة تحل محل سلسلة أخرى من الدلالات لتلك التي تكوّن النص المصدر، فقد تنتج الترجمة مؤثرات صوتية غير مقصودة لا تعمل إلا في ترجمة اللغة والثقافة، أو جناس الصوت، أو جناس الكلمة، أو القوافي، أو الأصداء التي تؤسس اتصالات بين النصوص وبالتالي تقدم لمحة عن اللاوعي لدى المترجم.
ضع في اعتبارك الترجمة التالية، “In You The Earth”، النسخة الإنكليزية لدونالد دي والش Donald D. Walsh في عام 1972 من قصيدة بابلو نيرودا Pablo Neruda، “En Ti La Tierra”:
الصغيرة Little
وردة، Rose
وريدة، Roselet
بين آن وآخر، At times
صغيرة وعارية، Tiny and naked
يبدو it seems
كما لو كنت ملائما as though you fit
في إحدى راحتي، in one of my hands
كأنني سأحضنك هكذا as though I’ll clasp you like this
وأحملك إلى فمي، and carry you to my mouth
لكن but
فجأة suddenly
قدماي تلمس قدميك وفمي يلمس شفتيك. My feet touch your feet and my mouth your lips
لقد كبرتِ، you have grown
أكتافك ترتفع كتَلّين، your shoulders rise like two hills
ثدياك يجولان فوق صدري، your breasts wander over my breast
ذراعي بالكاد تستطيع تطويق رقتك my arm scarcely manages to encircle the thin
خط قمر جديد لخصرك: new-moon line of your waist
في الحب أرخيت نفسك مثل ماء البحر: in love you have loosened yourself like sea water
بالكاد أستطيع قياس عيون السماء الأكثر فساحة I can scarcely measure the sky’s most spacious eyes
وأنحني إلى فمك لتقبيل الأرض. And I lean down to your mouth to kiss the earth
Pequeña
rosa,
rosa pequeña,
a veces,
diminuta y desnuda,
parece
que en una mano mia
cabes,
que así voy a cerrarte
y llevarte a mi boca,
pero
de pronto
mis pies tocan tus pies y mi boca tus labios:
has crecido,
suben tus hombros como dos colinas,
tus pechos se pasean por mi pecho,
mi brazo alcanza apenas a rodear la delgada
linea de luna nueva que tiene tu cintura:
en el amor como agua de mar te has destado:
mido apenas los ojos mas extensos del cielo
y me inclino a tu boca para besar la tierra.
(Neruda 1972: 2–3)
توضح نسخة والش تمامًا نوع استراتيجية الترجمة التي كان ينوي اتباعها. بالنسبة إلى الجزء الأكبر، اختار الحفاظ على التقيد الوثيق بالنص الإسباني، واحترام معجم نيرودا، والنحو، والتسطير. كما أنه يلتزم باللهجة القياسية الحالية للغة الإنكليزية، على الرغم من وجود استثناءين يعملان بشكل فعّال على زيادة تجانس لغته: كلمة “وريدة – roselet”، والتي يمكن عدّها اليوم شاعرية قديمة بعض الشيء، والاختصار “سـ – I’ll”، وهو شكل عامي في الإنكليزية. نسخة والش قريبة جدًا من اللغة الإسبانية، ولغته الإنكليزية متجانسة جدًا ومألوفة، لدرجة أنه كان يهدف بوضوح إلى طمس تدخله الحاسم، ليفترض -كما قال الشاعر والمترجم بن بيليت Ben Belitt ذات مرة في مراجعة نقدية- “دَوْر أن تكون ’لا أحد تحديدًا’” (Belitt 1978: 48). صرّح والش بنفسه عن هدفه في أثناء تقديم نسخته من مجموعة نيرودا الإقامة على الأرض Residence on Earth:
تتمثل المسؤولية المزدوجة للمترجم في معرفة ما قاله المؤلف بلغته، ثم قول ذلك بلغة المترجم الخاصة بالقدر نفسه من الإخلاص لكلمات المؤلف ومقصده كما تسمح به الاختلافات بين اللغتين. باختصار، يجب عليه أن يجعل الستار اللغوي شفافًا قدر الإمكان، بحيث يتيح للمؤلف أن ينطق بنفسه بلسان جديد.
(Neruda 1973a: vii(
من وجهة نظر الحجة التي قدمتها، فإن تصريح والش عن نيته مشكوك فيه بشدة. فهو يقر بأن الاختلافات اللغوية تعقد عملية الترجمة، لكنه يبدو غير مدرك أن هذه الاختلافات تجعل أي شفافية تأثيرًا وهميًا ينتج من المترجم بينما يضمن أن نيرودا لا يمكنه أبدًا “أن ينطق بنفسه” في الترجمة. والش أيضًا غير مدرك أن ممارسته تتعارض مع نيته. على سبيل المثال، لا يعيد استخدامه للشعرية القديمة “وريدة – roselet” إنتاج السطور الافتتاحية لنيرودا، “Pequeña/rosa,/rosa pequeña”، والتي تخلق تأثيرًا بسيطًا، متكررًا، شبيهًا بالأغنية، يتم تمكينه من خلال تحديد الموضع المرن للصفات في اللغة الإسبانية. هنا يتم استبدال بساطة نيرودا من خلال اصطناعية شعرية اتبعها والش، والتي بسبب جودتها القديمة جدًا تلفت الانتباه إلى نفسها ككلمة، وبالتالي تمنع ظهور السطر بشفافية أمام قارئ اللغة الإنكليزية.
يحدث انحراف آخر عن النص الإسباني في سطر والش قبل الأخير، “عيون السماء الأكثر فساحةً”. لا تعتبر كلمة “فسيح” اختيارًا غير معتاد للكلمة الإسبانية “extenso”، والتي قد تكون أقرب إلى كونها “واسعة” أو “شاسعة”، ولكن بالنسبة إلى القراء الأميركيين، يمكن أيضًا أن تصدر العبارة الإنكليزية الباقي الصوتي. من المحتمل أن يردد الباقي صدى السطر الافتتاحي لكاثرين لي بيتس Katharine Lee Bates “أميركا الجميلة America the Beautiful” (1893-1913)، وهي قصيدة مألوفة تشبه النشيد الوطني تُغنى أحيانًا في المناسبات العامة:
يا جميلة لسماواتك الفسيحة، O beautiful for spacious skies
لأمواج العنبر من القمح، For amber waves of grain
لجلالة الجبل الأرجواني For purple mountain majesties
فوق السهل المثمر! Above the fruited plain
أميركا! أميركا! America! America!
أنعم الله عليك God shed his grace on thee
وتوّج خيرك بالأخوة And crown thy good with brotherhood
من البحر إلى البحر المشرق! From sea to shining sea!
لاختبار هذا الصدى في ترجمة والش، عرضت النصين على بعض المترجمين البارعين في شعر اللغة الإسبانية، بما في ذلك إليوت واينبرغر Eliot Weinberger، المترجم الأميركي للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث Octavio Paz. وافق واينبرغر مضيفًا بعض الملاحظات المفيدة:
لا أحد يعرف أبدًا، لكن تخميني هو أن “للسماوات الفسيحة for spacious skies” لم تكن واعية – ولكنها أحد تلك الأشياء العالقة في الجزء الخلفي من الدماغ والتي تخرج فجأة. بالتأكيد ليست “الفسيحة – spacious” هي الطريقة الواضحة لترجمة “mas extenso”. لكنك محق في أن الجمع بين السماء والفساحة لا يسعه إلا أن يردد صدى قصيدة “يا جميلة – oh beautiful”. غالبًا ما أجد كلمات الأغاني تظهر فجأة في إحدى ترجماتي، ولا بدّ لي من تغييرها – حتى عندما تكون هي الترجمة الأكثر حرفية.
(مراسلات بالبريد الإلكتروني، 9 تشرين الأول / أكتوبر 2000)
إن اعتراف واينبرغر بحدوث تأثيرات غير مقصودة مماثلة في ترجماته يجب أن يجعلنا حذرين من مجرد رفض نسخة والش بوصفها غير كافية أو غير كفؤة. كان والش (1903–1980) مُعلمًا أميركيًا متميزًا وتخصص بتعليم اللغة الإسبانية، إضافة إلى عمله كمترجم. شغل منصب رئيس قسم اللغة الإسبانية في مدرسة شوات Choate الحصرية. كما أدار برنامج اللغات الأجنبية لجمعية اللغات الحديثة في أميركا كما عمل كمحرر في مجلة هيسبانيا Hispania، وهي مجلة الجمعية الأميركية لمدرسي اللغتين الإسبانية والبرتغالية. في الأربعينيات من القرن الماضي، بدأ والش النشر، وأنتج عددًا من الكتب المتنوعة: كتيبان لمعلمي اللغة الإسبانية، وثلاثة كتب مدرسية إسبانية، وطبعات من ثمانية نصوص أدبية إسبانية للطلاب، وترجمات لثمانية أعمال من أدب أميركا اللاتينية، من الشعر والنثر على حد سواء لمؤلفين مثل إرنستو كاردينال Ernesto Cardenal وأنجيل غونزاليس Angel Gonzalez وبيدرو مير Pedro Mir ونيرودا Neruda. بصرف النظر عن إنجازات والش المهنية العديدة، فقد جلب سذاجة أدبية ونظرية إلى ترجمته، سواء اعتبرنا عمله في سياق الاتجاهات الحديثة في دراسات الترجمة أو قبول حكم المعاصرين مثل بيليت (“دلالات مبسطة وتشبيهات مضللة مع منهج علمي قاده إلى التعرف على حقيقة القصيدة بشكل جوهري مع ’ كلماتها’ و’قصدها’ مع بياناتها “(Belitt 1978: 46). وكان والش بلا شك غير واعٍ بالباقي الذي أطلقته ترجمته، والتشابه في الصوت بين سطره قبل الأخير ومطلع قصيدة “أميركا الجميلة”.
بعد مقاربة فرويد لهفوات اللفظ، أريد أن أزعم أن هذا الصدى هو أحد أعراض رغبة المترجم اللاواعية، على الرغم من أن الرغبة هنا تحمل آثارًا سياسية أكبر. إن قصيدة “En Ti La Tierra” لنيرودا هي قصيدة حب يختتم فيها الشاعر العاشق وصفًا حسيًا للمرأة التي يحبها من خلال مقارنتها بالأرض. يحدث هذا النوع من التشبيه في العديد من التقاليد الشعرية: على سبيل المثال، كان الشاعر الإنكليزي جون دون John Donne في القرن السابع عشر مولعًا بالاستعارات التي جعل فيها الحب كلًا من العاشقين بمنزلة عالم كامل في أعين بعضهما بعضًا. تم الإبقاء على التشبيه بالتأكيد في ترجمة والش، لكن الباقي الصوتي يغير أهميته: ينحي العاشق ليقبل، ليس فقط الأرض، أو المرأة التي يحبها ويرى فيها الأرض، ولكن أميركا الجميلة، الولايات المتحدة، الأمة التي تخضع لدرجة معينة من التجسيد في قصيدة بيتس. الرغبة اللاواعية في ترجمة والش هي أن شاعر تشيلي كبير، مشهور بهجماته اليسارية على الرأسمالية الأميركية في أعمال مسرحية كمسرحيته في عام 1966 Splendor and Death of Joaquín Murieta، يجب أن يعبر بدلًا من ذلك عن عاطفته تجاه الولايات المتحدة من خلال تلميح إلى تمثيل وطني لهذه الأمة.
وهكذا يكشف الباقي الصوتي عن اللاوعي السياسي للمترجم، والذي يمكن التركيز عليه بشكل أوضح بتفاصيل تاريخية إضافية. تعاقدت دار النشر نيو دايركشنز New Directions ومقرها نيويورك مع والش لترجمة اثنين من كتب نيرودا، وهما The Captain’s Verses، والذي يحتوي على قصيدة “In You The Earth” وResidence on Earth. سلم والش المخطوطة الكاملة للكتاب الأول في عام 1971 (مراسلات بالبريد الإلكتروني مع ديكلان سبرينغ Declan Spring، في 16 شباط/ فبراير 2001). هذا يعني أنه كان يعمل على هذه الترجمات خلال الفترة التي فاز فيها نيرودا بجائزة نوبل للآداب (1971)، والتي انتخب فيها السياسي الاشتراكي سلفادور أليندي Salvador Allende، وهو صديق مقرب للشاعر، بشكل ديمقراطي ليكون رئيسًا لتشيلي (1973–1970). تم ترشيح نيرودا نفسه للعمل كمرشح رئاسي للحزب الشيوعي التشيلي (1970)، لكنه انسحب لاحقًا لأن ترشيح أليندي بدا أكثر قابلية للتطبيق (Sigmund 1977: 84–85, 91).
أرسل انتخاب أليندي موجات من الصدمة عبر الديمقراطيات الغربية، وخاصةً الولايات المتحدة. لقد أثار مخاوف لم تكن سياسية فقط -انتشار الشيوعية في أميركا اللاتينية- ولكن اقتصادية أيضًا – نهاية المصالح الأجنبية في تشيلي. بدا أن المخاوف قد تحققت عندما تحرك أليندي بسرعة لإعادة تنظيم الاقتصاد التشيلي، وإقامة الإصلاح الزراعي وتأميم الصناعات التي كانت في بعض الحالات ملكًا لشركات أميركية. ردّ ريتشارد نيكسون Richard Nixon، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، بتنفيذ عقوبات اقتصادية دولية ضد تشيلي. أنتج نيرودا في النهاية نصًا دعا إلى موت نيكسون بينما امتدح “الثورة” الاشتراكية التشيلية (Neruda 1973b).
يمكن وصف الباقي الصوتي في ترجمة والش بأنه تمنيات من واقع سياسي مزعج، المعارضة بين تشيلي والولايات المتحدة والتي تدخل فيها الشاعر نفسه الذي كان يترجم أعماله. تجسد ترجمة والش اللاوعي السياسي الذي يعمل في النصوص الأدبية، وقدرته على تقديم تعويضات خيالية عن الصراعات الاجتماعية الحقيقية من خلال السمات الشكلية والموضوعية التي تشكل قرارًا أيديولوجيًا (بالنسبة إلى هذا المفهوم، انظر Jameson 1981: الفصل الأول). كانت أيديولوجية قرار والش محافظة بشكل واضح، ومليئة بالأمل في ألا يقبل شاعر يساري، مثل نيرودا، الموقف المهيمن للولايات المتحدة فقط، بل أن يعتز به أيضًا.
تعكس ترجمة والش حقبة الحرب الباردة، عندما كان الصراع الأيديولوجي بين الديمقراطية الليبرالية الأميركية واشتراكية الدولة السوفيتية شديد التوتر. كانت الآثار الثقافية لموقفه المحافظ في هذا الصراع واضحة في تقرير عن تعليم اللغة الأجنبية شارك في تأليفه كمسؤول عن جمعية اللغات الحديثة في أميركا (Starr et al. 1960). عدَّ التقرير دراسة اللغة الأجنبية وسيلة مهمة لتجنب النهج الإثني للثقافات الأجنبية. أكد المؤلفان أن “تعلم لغة أجنبية يشرك الطالب في الثقافة التي تكون اللغة تعبيرًا عنها ويحرره من المواقف التي ترتكز على العرق في مجتمعه ومن التحيزات التي يجب أن يتغلب عليها إذا أراد أن يكون مواطنًا مسؤولًا في العالم” (المرجع نفسه: 20). ومع ذلك، فإن كونك “مواطنًا مسؤولًا في العالم” يعني خدمة المصالح الأميركية في الوضع الجيوسياسي الحالي. قام والش، في مقدمته الموقعة، بمواءمة التقرير صراحةً مع قانون تعليم الدفاع الوطني لعام 1958، مشيرًا إلى “الإدراك المهني والعام أنه من المصلحة الوطنية أن يكتسب عدد أكبر من الأميركيين الكفاءة في العديد من اللغات الأجنبية” (المرجع نفسه: 9؛ للأهمية السياسية لقانون الكونجرس، انظر Clowse 1981). خلال الخمسينيات من القرن الماضي، في أثناء عمله في برنامج اللغات الأجنبية التابع لجمعية اللغات الحديثة، ساعد والش أيضًا في صياغة العديد من البيانات السياسية التي ينظر فيها إلى فكرة أن “الولايات المتحدة تحتل الآن موقعًا في الريادة العالمية” بمنزلة تبرير “مألوف” لزيادة تدريس اللغات الأجنبية (المرجع نفسه: 83).
لا يمكن تكثيف هذه النزعة المحافظة السياسية إلا خلال فترة رئاسة أليندي المثيرة للجدل، مما جعل ضغطها محسوسًا في ترجمة والش من خلال إطلاق الباقي الصوتي الذي كان بمثابة قرار أيديولوجي لاواعي. تكشف الترجمة في الواقع هذا القرار بطريقة ذروية من خلال الانحرافات الدقيقة عن النص الإسباني، والانحرافات التي يمكن ملاحظتها بشكل خاص في ضوء التقريب المتعمد لوالش. بينما في بداية القصيدة، يستخدم نيرودا الأفعال في زمن المضارع لاستحضار العلاقة الحميمة بين الحبيب والمرأة، يعتمد والش على الحالة الشرطية وصيغة المستقبل، مما يوحي -حتى لو كان التناقض موجودًا في هذا السياق- أن العلاقة الحميمة لم تتحقق بعد. هكذا:
parece
que en una mano mia
cabes,
que así voy a cerrarte
y llevarte a mi boca,
والتي يمكن ترجمتها بشكل حرفي:
يبدو it seems
انك تلائم that you fit
إحدى راحتي، in one of my hands
أني سأضمك هكذا that I am going to clasp you like this
وأرفعك إلى فمي and lift you to my mouth
تصبح في ترجمة والش:
يبدو it seems
كما لو كنت مناسبًا as though you would fit
إحدى راحتي، in one of my hands
كأنني سأشبكك هكذا as though I’ll clasp you like this
وأحملك إلى فمي، and carry you to my mouth
هنا، ولا سيّما في تكرار “كأن/ كما لو – As though”، يبدو أن الحبيب يتخيل فحسب اتصاله الجسدي بالمرأة. من خلال الكشف عن هذا الاتصال بشكل تدريجي أكثر من النص الإسباني، تركز ترجمة والش بشكل أكبر على القبلة في السطر الذي يرجع صدى النشيد الأميركي. هذا التأكيد، كما أقترح، هو أحد أعراض شدة رغبة المترجم اللاواعية في إيجاد حل أيديولوجي محافظ للأزمة التشيلية.
تُظهر ترجمة والش، مرة أخرى، أن النص المصدر ينتج رغبة المترجم من خلال إنشاء المرحلة التي يمكن فيها الكشف عن اللاوعي من خلال التأثيرات النصية، وهنا تُلوث من خلال الصوت. لكن هذه الحالة تشير أيضًا إلى فعالية شبكة واسعة بين النصوص في إنتاج الرغبة: لم يشمل النص البيني لترجمة والش “أميركا الجميلة” فحسب، بل شمل أيضًا نصوص نيرودا الأخرى والتغطية المثيرة لرئاسة أليندي في الوسائط المطبوعة والإلكترونية. عمل والش في موقف ثقافي واجتماعي متقلب بدرجة كافية لإضعاف سيطرته الواعية على استراتيجيته المعلنة المتمثلة في التقيد الوثيق بالنص الإسباني.
الدافع اللاواعي للأصدقاء الزائفين (الكلمات المشتركة بين اللغات)
تمثل الكلمات المشتركة بين اللغات نوعًا آخر من الهفوات اللفظية أو سوء القراءة الذي يحدث أحيانًا في الترجمات، واعتمادًا على خبرة المترجم والنص المصدر المراد ترجمته، فقد تكشف عن رغبة لاواعية. الكلمات المتشابهة هي كلمات في اللغة المترجم إليها تشبه شكليًا إلى حد بعيد كلمة في لغة النص الأصلي، غالبًا بسبب أصل مشترك، ولكن هذا مع ذلك يشير إلى معنى مختلف تمامًا لأن اللغتين قد خضعتا لتطورات تاريخية مختلفة (انظر Shuttleworth and Cowie 1997: 57-58). نظرًا لأن التشابه يميل إلى أن يكون سطحيًا، ويعتمد عادةً على الصوت أو الإملاء، فمن الوارد أن يتم اختيار الكلمات الخاطئة من قبل المترجمين المبتدئين الذين قد تكون معرفتهم باللغة المصدر غير كاملة والذين تكون خبرتهم في مشكلات الترجمة محدودة. ومن ثم عندما توجد كلمة مشتركة خاطئة في عمل مترجم أنتج بالفعل عددًا كبيرًا من الترجمات، عندها لا يمكن أن يُعزى هذا ببساطة إلى معرفة لغوية غير كاملة أو خبرة ترجمة محدودة أو إلى ما يسميه فرويد “قوانين التشابه أو التراخي أو الميل إلى التسرع “(Freud 1960: 221)، حينها يجب البحث عن دافع لاواعي. يضاف إلى ذلك، في مثل هذه الحالات، قد يكون من المفيد النظر في علاقة الكلمة المشتركة بمعنى النص المصدر كليًّا، نظرًا لأن الخطأ قد يكون أحد أعراض التعليق الضمني للمترجم على هذا النص.
لنأخذ مثالًا من عملي كمترجم للغة الإيطالية. في عام 1983، نشرت ترجمتي الرابعة في كتاب يضم مجموعة مختارة من القصص القصيرة لكاتب القرن العشرين دينو بوزاتي Dino Buzzati. في إحدى القصص التي تحمل عنوان “البعبع The Bogeyman” (عنوانها الإيطالي ““Il Babau”)، يتأسف مهندس يعمل في مجلس المدينة لجهد جليسة الأطفال في تأديب ابنه بـ “foolish superstitions الخرافات الحمقاء” (“stolte superstizioni”) مثل شخصية عنوان القصة (Buzzati 1983: 118). في النهاية، يقنع المهندس زملاءه المستشارين أن يأمروا بإعدام الكائن الخيالي. بعد تنفيذ الإعدام تنتهي القصة بإصدار الراوي تحذيرًا لأي كائن خيالي لا يزال حيًا:
Galoppa, fuggi, galoppa, superstite fantasia. Avido di sterminarti, il mondo civile ti incalza alle calcagna, mai più ti darà pace.
(Buzzati 1971: 12)
Hurry, fly away, superstitious fantasies. The civil world, eager to exterminate you, follows in hot pursuit. It will never let you rest.
أسرعي، حلقي بعيدًا، أيتها الأوهام الخرافية. العالم المتحضر، متلهف لإبادتك، يتبعك في مطاردة حثيثة. لن يسمح لك بالراحة أبدًا.
(Buzzati 1983: 122)
تحتوي ترجمتي لهذا المقطع على مرادف خاطئ: لقد استخدمت كلمة “خرافي superstitious” لترجمة الكلمة الإيطالية “superstite”، والتي تعني في الواقع “الناجية”. الخطأ، الذي لم أكن على علم به تمامًا في ذلك الوقت والذي أفلت أيضًا من ملاحظة محرر الناشر، ليشير إليه لاحقًا المراجع الذي لاحظ أن:
التخيلات التي تم تناولها هي تلك التخيلات التي تمكنت بطريقة ما من النجاة، بشكل خفي، متجاوزة كل حد، في ما يراه بوزاتي أوقاتنا التحليلية والوضعية. المؤمنون بالخرافات، للأسف، هم أنفسنا، نحن الذين نعتقد بأننا أكثر واقعية.
(Cary 1983: 120)
خطئي، في الواقع، يعكس معنى القصة: في حين يهدف بوزاتي إلى التشكيك في اتهام المهندس بأن البعبع هو خرافة حمقاء، تنتهي ترجمتي بالاتفاق مع هذه التهمة.
منذ بدأت في هذا المشروع، كنت قد اكتسبت بالفعل خبرة كبيرة في الترجمة، وبما أنه لم يتم اكتشاف أي مرادفات خاطئة أخرى في هذه الترجمة أو ترجمات سابقة، أريد أن أقترح أن الخطأ اللغوي عبارة عن باقٍ ذي دوافع لاشعورية تشكل تعليقًا نقديًا حول قصة بوزاتي. إنه ينقل حكمي المكبوت بأن معاملته للبعبع يجب أن يُنظر إليها على أنها خرافية لأن العمليات النفسية التي يمثلها على أنها خارقة للطبيعة أو سحرية يمكن أن تُعطى تفسيرات عقلانية. في الواقع، إن تمثيل بوزاتي للبعبع غير متسق: فمن ناحية، يُطلق على الكائن الخيالي “صديق/ عدو هزلي” ويوصف بأنه “حيوان أسود ضخم يبدو شكله كما لو نتج عن تزاوج بين فرس النهر والسّناد” (Buzzati 1983: 122، 118)؛ من ناحية أخرى، يعمل على غرار ما يعتقده فرويد كحلم عقابي مؤلم، حيث يحقق الحالم رغبته “في أن يعاقب على رغبة مكبوتة أو ممنوعة” (Freud 1953: 710 انظر أيضًا 613، 708-713). وهكذا يقال إن البعبع “يثير الخوف، بل وحتى الرعب” في “الطفل الذي كان يجب أن يوبخ”، كما أنه يتسبب في “لحظات قليلة من القلق للمهندس” من خلال الظهور على هيئة رئيس يهدد طموحاته المهنية، و”مكانته البارزة” في الشركة حيث يعمل (Buzzati 1983: 118–19). يجمع تمثيل بوزاتي للبعبع بين المفهوم الفرويدي للمحددات النفسية للأحلام مع المفهوم الخرافي للتأثيرات الخارجية على الفكر والفعل البشري (فرويد نفسه رسم هذا التمييز في Freud 1960: 256–60). يشير استخدامي للكلمة المشابهة إلى هذا التناقض وفي الوقت نفسه ينكره.
في هذا السياق، ومع ذلك، يتردد صدى الباقي الذي أطلقته الكلمة المشابهة مع المعاني التي يتبين في النهاية أنها متناقضة. في ترجمة الكلمة الإيطالية “fantasia” على أنها “خيال – fantasies”، تتضمن نسختي الإنكليزية تحولًا دلاليًا آخر، ليس فقط من المفرد إلى الجمع، ولكن من التعميم إلى التخصيص، من الملكة الذهنية لـ “الخيال – fantasy” أو “التخيل – imagination” إلى “الخيالات fantasies” تحديدًا، وهو مصطلح يمكن أن ينطبق على كل مظهر خيالي في القصة، سواء أكان البعبع الخيالي أو أحلام العقاب التي يقاسيها الطفل والمهندس نفسه. نتيجة لذلك، فإن الترجمة الخاطئة، “التخيلات الخرافية – superstitious fantasies”، ترقى إلى رفض شامل للمفاهيم الفرويدية التي يمكن إدراكها في قصة بوزاتي، ونبذ عمل الأحلام، وحتى وجود اللاوعي، وبالتالي إنكار إمكانية أن يؤثر في أي فكر أو عمل بشري، بما في ذلك عمل المترجم. ما تظهره الترجمة الخاطئة، إذًا، هو أنني كمترجم أشارك عقلانية المهندس القمعية في التشكيك في احتفال بوزاتي الحزين بالخيال. كنت أستجيب لتصوير الكاتب الإيطالي للاوعي بالطريقة نفسها التي يستجيب بها المحللون أحيانًا للتحليل النفسي: بمقاومته، وهنا باختيار دال يخطئ في الترجمة ويكبت دلالة رئيسة في النص الإيطالي، بينما يكشف في الوقت نفسه كبتي الخاص من خلال التناقض الذي أحدثته ترجمتي الخاطئة.
كيف يمكن أن تفترض ترجمتي للأخطاء العرضية نفسها في ترجمتي الملاءمة بين مفاهيم التحليل النفسي ونبذها؟ تقدم نظريات فرويد في الواقع تفسيرًا لهذا التناقض. يلاحظ أولًا أن الكشف عن المخاوف والرغبات المكبوتة في ظواهر مثل الزلات اللفظية وسوء القراءة يتوافق مع “آلية تكوين الحلم”: في كليهما، “بواسطة مسارات غير مألوفة، وعن طريق الارتباطات الخارجية، تجد الأفكار اللاواعية تعبيرًا عنها على أنها تعديلات على أفكار أخرى” (Freud 1960: 277–78). ثانيًا، توضح دراسة فرويد للأحلام أن اللاوعي يفتقر إلى أي شكل أو عملية نفي أو مصالحة بين الأضداد المنطقية. على العكس من ذلك، فهو يعمل بواسطة التجاور المطلق:
الأفكار المتناقضة لا تحاول التخلص من بعضها البعض، بل تستمر جنبًا إلى جنب. غالبًا ما تتحد لتشكل تكاثفًا، تمامًا كما لو لم يكن هناك تناقض بينها، أو تصل إلى حلول وسطى لن تتسامح معها أفكارنا الواعية أبدًا، ولكن يتم الاعتراف بها غالبًا في أفعالنا.
(Freud 1953: 755, his italics)
إذًا، قد تكشف الدوافع اللاواعية التي يمكن اكتشافها في أخطاء المترجمين عن قرارات متعددة ومتضاربة، اعتمادًا على الباقي الذي تصدره الترجمة، على التأثيرات النصية والصلات بين النصوص التي تنتج من الخطأ غير المقصود. وقد يكون الخطأ من أعراض الرغبة، ليس في الاستجواب فحسب، ولكن لتحدي أو مقاومة الخطاب الذي تم الكشف عنه في النص الأصلي. ما قد يكون على المحك في نهاية المطاف في رغبة المترجم هو السلطة الاجتماعية والمكانة الثقافية لمؤلف النص المصدر، إن لم يكن الأمر كذلك، عمومًا، الرغبة في الوصول إلى اعتراف المؤلف بعمل الترجمة.
المترجم واسم الأب واللغة الأم
يمكن استكشاف هذه النقطة بشكل أكبر إذا قدمنا، أخيرًا، مثلث أوديب الذي يقع في قلب التحليل النفسي الفرويدي، لكن بعد إعادة التفكير فيه وفقًا لنظريات لاكان القائمة على اللغة. بالنسبة إلى لاكان، “يجب أن ندرك، باسم الأب، دعم الوظيفة الرمزية التي حددت، منذ فجر التاريخ، شخصه بشخصية القانون” (Lacan 1977: 67). يستخدم لاكان مصطلح “اسم الأب” لا ليشير إلى شخص حقيقي، الأب الفعلي للذات، ولكن إلى الوظيفة الرمزية التي يأتي الأب لتوليها في سلسلة الدالات المكونة للذات. يمثل “اسم الأب” مختلف مظاهر “القانون”، والشخصيات والمؤسسات والقيم والمعتقدات التي تحمل سلطة اجتماعية أو هيبة ثقافية، بدءًا من التحريم القديم لسفاح القربى الذي ينظم الزواج.
في مراجعة لاكان اللغوية لعقدة أوديب، يُعرَّف اسم الأب على أنه دال يستبدل في النهاية “الرغبة في الأم”، وهي رغبة ظهرت في الذات عندما انفصل طلب الحب عن مجرد الرغبة الجسدية وبات هذا الطلب مجرد عوز. كما يلاحظ لاكان، إضافةً إلى ذلك، “إذا كانت رغبة الأم هي عضو الذكر”، بقدر ما ترغَب هي الأب، “يرغب الطفل في أن يكون هو العضو من أجل إشباع تلك الرغبة” (المرجع نفسه: 289). إن العضو الذكري في تفكير لاكان ليس عضوًا جسديًا، وليس قضيبًا، ولكنه دلالة تشير إلى الاختلاف الجنسي مع دخول الذات إلى اللغة. يتدخل اسم الأب في التطور النفسي للطفل لإعادة توجيه رغبة سفاح المحارم مع الأم إلى أشكال مقبولة اجتماعيًا، وبناء هوية جنسية للفرد داخل اللغة (يظل ما إذا كانت نظريات لاكان تنطبق على النساء أمرًا مبهمًا ومثيرًا للجدل: من أجل تقرير موجز، ولكنه حاسم، انظر Easthope 1999b). بالنسبة إلى الطفل الذكر، يعتبر التدخل الأبوي في الواقع تهديدًا بالإخصاء يدفع الذات إلى حصر رغبة العضو الذكري في أشياء أخرى.
في التحول إلى الترجمة، يمكننا أن نلاحظ أن المترجم يتم وضعه بين نقطتي دلالة: (1) اسم الأب في شكل مؤلف النص الأصلي، والذي لا يمثل فقط مُنشئًا أصيلًا وتكوينًا أصليًا فيما يتعلق بالمكانة من الدرجة الثانية لعمل المترجم، والتي قد تكون قد اكتسبت أيضًا سلطة اجتماعية كبيرة ومكانة ثقافية؛ و(2) اللغة الأم والترجمة المنتجة فيها، اللغة التي لا يحوطها المترجم فحسب ولكن يحددها أيضًا بشكل مفرط من خلال التعريف الشهواني لشخصية الأم التي علمتها في البداية، اللغة التي لا تكون الموضع الأساسي للكفاءة اللغوية والمعرفة الثقافية للمترجم، ولكن أيضًا موقع نظريات وممارسات الترجمة السائدة حاليًا في ثقافة الترجمة (للحصول على دليل إكلينيكي للعلاقة بين الأم واللغة الأم، انظر Amati Mehler et al. 1990: 90–105). يضع المؤلف الأصلي ونصه قانونًا للترجمة بواسطة مطالبة المترجم بإبداء الاحترام الكافي للتركيبات اللغوية والخطابية لذلك النص لتقليده وبالتالي إيصاله؛ تقود اللغة الأم المترجم نحو استخدام لغة مألوفة ومختصة كانت تلبي في الماضي حاجة المترجم إلى فاعلية التواصل، خاصة في الترجمات، وهذا محكوم بمعايير الترجمة في موضع المتلقي. يتدخل “اسم الأب” الذي يمثله المؤلف الأصلي والنص لمنع استثمار المترجم في اللغة الأم من استيعاب هذا النص بشكل وثيق جدًا مع تشويه كبير للغة المترجمة وثقافتها. في تأمل التحليل النفسي لسيرج جافرونسكي Serge Gavronsky حول عملية الترجمة، “يضطر المترجم إلى تقييد نفسه (بالمعنى الدقيق للكلمة) من أجل احترام الحظر على سفاح القربى. التلاعب بالنص سيكون بمنزلة القضاء جزئيًا أو كليًا على الأب-المؤلف (وسلطته)، ووجوده المهيمن “(Gavronsky 1977: 55).
ومع ذلك، قد تكشف عملية الترجمة عن رغبة المترجم المكبوتة في تحدي المؤلف الأصلي من خلال إطلاق باقٍ غير واعٍ. قد تكون هذه الرغبة في تولي منصب مرجعي في الترجمة، لمحاكاة حالة المؤلف الأصلي كمنشئ أصلي و -اعتمادًا على المؤلف- كشخصية مرجعية من خلال إنتاج ترجمة تشكك ضمنيًا في هذه الحالة. تحتوي ترجمة باس لمقالة دريدا، وترجمة والش لقصيدة نيرودا، وترجمتي لقصة بوزاتي على اضطرابات وانحرافات لفظية حيث قاوم المترجمون المكانة الثقافية للمؤلفين الأصليين من خلال مراجعة نصوصهم بطرق تستجيب لرغبات المترجمين اللاواعية – وبالتحديد، لقبول نظرية قابلية الترجمة، لدفع أيديولوجية سياسية محافظة، لرفض تفسير التحليل النفسي للأوهام. في كل حالة، تشير مراجعة المترجم إلى رغبة أكثر جوهرية وإلحاحًا على العمل كمؤلف أصلي فيما يتعلق بالنص المصدر.
من الواضح أن هذه الترجمات تنطوي على اكتساب معانٍ لا تتجاوز ببساطة التكافؤ المعجمي، ولكنها تتعارض مع المعاني المشار إليها في النصوص الأصلية. ومع ذلك، فإن الترجمات تؤثر حتمًا في فقدان شكل النص المصدر والمعنى أيضًا، وهنا أيضًا قد يكون هناك دافع لاواعي. كما يشير فرويد، فإن الزلات اللفظية التي تكشف عن طريقة عمل اللاوعي قد تتضمن إغفالًا للكلمات أو العبارات الرئيسة. ومثاله، المناسب بما فيه الكفاية، يستند إلى ترجمة وثيقة قانونية:
في أحد أقسام القانون التي تتناول الالتزامات المالية للنمسا والمجر، والتي تم حلها في “تسوية” لعام 1867 بين البلدين، تم استبعاد كلمة “فعلية – actual” من الترجمة المجرية؛ و [المحلل النفسي] داتنر Dattner يجعل من المعقول افتراض أن الرغبة اللاواعية لكاتب البرلمان المجري في منح النمسا أقل المزايا الممكنة أدّت دورًا في التسبب في هذا الإغفال.
(Freud 1960: 128)
يشير تعليق فرويد إلى أن الرغبة اللاواعية التي تم الكشف عنها في الإغفال كانت جماعية، وربما قومية، وسياسية بشكل واضح. قد يشير الحذف في الترجمة أيضًا إلى دوافع أخرى أكثر شخصية أو تتعلق عمومًا بوضع المترجم والترجمة في ما يتعلق بالمؤلف الأصلي والنص المصدر.
خذ في الحسبان مثالًا من نسخة ويليام ويفر William Weaver لعام 1968 من مجموعة القصص القصيرة التي كتبها إيتالو كالفينو Italo Calvino، بعنوان Cosmicomiche (Cosmicomics). تتمثل الاستراتيجية السردية لكالفينو هنا في إعطاء شكل مجسم يشابه الإنسان للأفكار العلمية، باستخدام العلم لاستكشاف التجارب البشرية وإبطال مألوفها. تستند القصة التي تحمل عنوان “العم المائي” Lo zio acquatico” (“The Aquatic Uncle”) إلى نظرية التطور: يلتقي زاحفان يعيشان على الأرض -صبي وفتاة- ويقعان في الحب، لكن علاقتهما تواجه صعوبات عندما تنجذب الفتاة إلى عم الصبي، الذي، كما يوحي العنوان، لم يصل بعد إلى مرحلة تطورية تسمح له بمغادرة بيئته المائية. يختتم النص مع تفكّر الصبي الزاحف في التغيرات البيولوجية التي يراها تحدث من حوله:
Ogni tanto, tra le tante forme degli esseri viventi, incontravo qualcuno che “era uno” più di quanto io non lo fossi: uno che annunciava il futuro, ornitorinco che allatta il piccolo uscito dall’uovo, giraffa allampanata in mezzo alla vegetazione ancora bassa; o uno che testimoniava un passato senza ritorno, dinosaurosuperstite dopo ch’era cominciato il Cenozoico [ ….]
(Calvino 1965: 83)
Every now and then, among the many forms of living beings, I encountered one who “was somebody” more than I was: one who announced the future, the duck-billed platypus who nurses its young, just hatched from the egg; or I might encounter another who bore witness to a past beyond all return, a dinosaur who had survived into the beginning of the Cenozoic [….]
أواجه بين الحين والآخر، من بين العديد من الكائنات الحية، أحدًا “كان شخصًا ما” أكثر مما كنت عليه: شخص أعلن المستقبل، البلاتبوس ذو منقار البط يرعى صغيره الذي فقس توًّا من البيضة؛ أو قد أواجه شخصًا آخر شهد على ماضٍ يفوق كل عودة، ديناصور نجا حتى بداية حقب الحياة الحديثة [….]
(Calvino 1968: 81–82)
تلتزم النسخة الإنكليزية لويفر بشكل وثيق النص الإيطالي، حيث تتبع النحو الإيطالي بأقل قدر من الاختلاف. ومع ذلك، هناك إغفال كبير، عبارة “giraffa allampanata in mezzo alla vegetazione ancora bassa”، والتي قد تقرأ في الترجمة الحرفية: “نمت الزرافة هزيلة وسط الغطاء النباتي الذي لا يزال منخفضًا – the giraffe grown emaciated amid vegetation that is still low”. تشير هذه العبارة إلى النظرية التطورية لعالم الأحياء الفرنسي جان بابتيست لامارك Jean-Baptiste Lamarck (1744-1829)، الذي تقول أطروحته Philosophie zoologique (1809) إن الكائنات الحية تطور سمات تشريحية استجابة للحاجة التي أوجدتها بيئتها. وهكذا، وفقًا للامارك، نتج عنق الزرافة الممدود عن الحاجة إلى أكل أوراق الشجر في مناطق من أفريقيا حيث كان ينقصها العشب. في نهاية المطاف، فقد لامارك صدقيته نتيجة نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي، والتي تشكل أساس قصة كالفينو. ومع ذلك، في المقطع الختامي تلميح كالفينو هو سمة من سمات روح الدعابة السخيفة: هنا نمت الزرافة اللاماركية، ومن المفارقات، أطول من الغطاء النباتي.
كيف نفسر إغفال ويفر لهذه العبارة؟ من المهم أن نلاحظ، أولًا، أن هذا الإغفال كان غير واعٍ بشكل مؤكد. بحلول منتصف الستينيات من القرن الماضي، لم يكن ويفر مجرد مترجم ذي خبرة عالية عمل في مجال الرواية الإيطالية لأكثر من عقد من الزمان. كانت ترجماته أيضًا شديدة البراعة، وكان هناك طلب كبير عليها بين الناشرين الأميركيين والبريطانيين ولاقى استحسان القراء. في الواقع، فازت نسخته من Cosmicomiche بجائزة الكتاب القومي الأميركي للترجمة عام 1968. وفي محادثة هاتفية (13 آذار/ مارس 2001)، وصف ويفر نفسه الإغفال بأنه غير واع، “مجرد سهوة” لم يستطع تفسيرها.
كما قدم بعض المعلومات الإضافية التي توضح الأوضاع التي كان يعمل في ظلها. قال إنه على الرغم من ترجمة كتابات كالفينو إلى الإنكليزية منذ الخمسينيات، كان Cosmicomiche أول كتب الكاتب الإيطالي التي ترجمها بنفسه. ولاحظ ويفر، بشكل مثير للاهتمام، أن كالفينو قد اختاره بعد أن رفض مترجمًا إنكليزيًا آخر على أنّه غير كفؤ للمهمة. بعد الإشارة إلى أن الحذف “أكبر من أن يتم إجراؤه بمفردي”، ذكر ويفر أن كالفينو قام أحيانًا بمراجعة النصوص الإيطالية المنشورة مسبقًا قبل ترجمتها إلى الإنكليزية. لكن لم يكن لدى ويفر أي وسيلة لإخبار ما إذا كان الحذف ناتجًا عن مثل هذا التنقيح، ولم يتذكره، وهي نقطة تبدو مهمة لأن الذكريات المؤلمة، كما لاحظ فرويد، “تستسلم بسهولة خاصة للنسيان المقصود” (Freud 1960: 147). فالحقيقة هي أن المراجعة الكتابية تبدو غير محتملة، بالنظر إلى الفكاهة التي تميز الكثير من أعمال كالفينو ومن ثم احتمال رغبته في الاحتفاظ بها هنا. لا تُظهر أي من الطبعات الإيطالية من Cosmicomiche أي تغيير في المقطع المعني.
يجب إضافة حقيقة أن نسخة ويفر من نص كالفينو موضع ثقة كبيرة، وتتميز بمفردات عامية ونحو حر إلى حد ما، ولكنه متسق عمومًا في الحفاظ على التكافؤ المعجمي. التعبيرات الإيطالية الشائعة – “Vedrà che ci si trovava bene” (“سترون مدى توافقكم جيدًا – You’ll see how well you’ll get along”)، “Mica storie” (“[إنها] ليست كذبة – (“[It is] not a lie”)، “Se ci stai stella” (“إذا بقيت معنا، يا جميل – If you stay with us, Beautiful”) – يتم استبدالها بالعامية الإنكليزية الملونة: “ستكون لطيفًا ومريحًا – You’ll be nice and snug”، “أنا لست خادعًا – I’m not fooling”، “إذا كنت لعبة، يا حلوتي – If you’re game, sweetie” (Calvino 1965: 74, 77, 81; 1968: 74, 77, 79). تُظهر ترجمة ويفر بالكامل قيادة رائعة لسجلات وأنماط مختلفة من اللغة الإنكليزية. وهكذا، بعبارة مثل “mi precipitai a riconquistarla”، والتي يمكن ترجمتها ببساطة مثل “لقد أسرعت لاستعادتها – I hurried to win her back”، يلجأ ويفر إلى فصاحة أكثر أدبية: “عجلت لأظفر بها مجددًا – I hastened to woo her back” (Calvino 1965: 81; 1968: 80). وقد وُهبت الترجمة بوضوح أكبر من النص الإيطالي وفقًا لتفضيل الدقة والتماسك المميزين للغة الإنكليزية. على سبيل المثال، يتم ترجمة عبارة “all’asciutto” (في المكان الجاف – in the dry place” أو “على الجفاف – on the dryness”) إلى “على الأرض الجافة – on dry land”، وعبارة “i nostri vecchi” (“كبار السن”) إلى “أسلافنا – our ancestors”، والفعل “viene؟” (في هذا السياق يعني “هل ستأتي؟ – Will you come?”) يترجم إلى “ألن تعود إلى المنزل معنا؟ – Won’t you come home with us” (Calvino 1965: 71, 72, 74; 1968: 71, 72, 74). تعرض ترجمة ويفر مثل هذا التحكم الهائل، فهي طليقة ومعبرة للغاية، بحيث يصبح الإغفال أكثر وضوحًا ويصعب تفسيره على أنه مجرد سهو.
أريد أن أزعم أن الحذف هو أحد أعراض رغبة المترجم اللاواعية في التنافس ضد المؤلف الأجنبي. الظروف المحيطة بالترجمة -ولا سيّما أن Cosmicomics كانت أول ترجمة لويفر لكتابات كالفينو المشهود لها، وأن المؤلف الإيطالي اختار المترجم بعد رفضه مترجمًا آخر، وأن المترجم نفذ المشروع بمثل هذه السيطرة الواثقة- تشير جميعها إلى أن المترجم كان يبحث عن رضا كالفينو عن عمله. ومع ذلك، كان يحاكي أيضًا سلطة كالفينو في التأليف وحتى، في الدقة المتزايدة والصراحة للنسخة الإنكليزية، متجاوزًا السمات اللغوية والأسلوبية للنص الإيطالي. كان الإغفال، بشكل أكثر تحديدًا، استفزازيًا بمهارة: من خلال حذف عبارة تلميح هي سمة مميزة جدًا لأسلوب المؤلف الإيطالي المضحك الساخر، تحدى ويفر بشكل لاشعوري هوية كالفينو ككاتب، وكذلك المكانة الثقافية التي اكتسبتها كتاباته بالفعل في إيطاليا وفي أي مكان آخر في ذلك الوقت. بقدر ما تشكل رقبة الزرافة الطويلة صورة عن عضو الذكر، يمكن عدِّ الإغفال بمنزلة إخصاء رمزي للمؤلف الأب، والذي تم توفيره من خلال طلاقة أكبر في اللغة الأم. لتحسين الاتساق وتعزيز قابلية قراءة اللغة الإنكليزية، أدخل ويفر عبارة “قد أواجه – I might encounter”، الغائبة من الإيطالية ومكررة للعبارة السابقة “واجهت – I encountered”.
بعض الاستنتاجات
يمكن فهم مفهوم “التشابه” في الترجمة على أنه نوعان مختلفان من العلاقة: أولًا، على أنه تشابه بين النص الأصلي والنصوص المترجمة، وثانيًا، على أنه تشابه بين الترجمة والقيم والممارسات الأخرى في الوضع المتلقي. لا تتعارض هاتان العلاقتان فحسب، بل غالبًا ما تقوضان بعضهما بعضًا. ومع ذلك، فهما تعملان معًا لتوجيه كل عملية ترجمة. لم يكن أي منهما موجودًا قبل عملية الترجمة؛ كلاهما بالأحرى إنشاءات. التشابه الأكثر شيوعًا اليوم بين النص الأصلي والترجمة هو التكافؤ المعجمي؛ يتم بناء التكافؤ المعجمي دومًا على أساس الاختلافات غير القابلة للاختزال، والاختلافات الهيكلية والخطابية بين اللغات، والاختلافات في القيم والأيديولوجيا بين الثقافات. دائمًا ما يتم إنشاء التشابه بين الترجمة وحالة التلقي على أساس اختلافات غير قابلة للاختزال بشكل متساوٍ، والفرق بين شكل وموضوع النص الأصلي والنصوص المكتوبة أصلًا باللغة المترجم إليها وثقافتها، ولكن أيضًا شبكة مختلفة من الاتصالات -داخل النص وبين النصوص- عن تلك التي تشكل النص الأصلي في ثقافة المصدر. في الترجمة، يسبق الاختلاف التشابه دومًا. إن الاختلاف هو الذي يحفز البحث الاختزالي عن أوجه التشابه، حتى مع وجود أمل مناقض في نقل اختلاف النص الأصلي.
يرجع سبب الاختلافات غير القابلة للاختزال في الترجمة إلى لاوعي المترجم. يجب أولًا تمييزه عما قبل الوعي، مما تعلمه المترجم، ولكن لا يصوغه بوعي في أثناء عملية الترجمة. يشمل اللاوعي معرفة المترجم بالمصدر ولغات الترجمة، ولكن أيضًا ما يسميه جيديون توري Gideon Toury (1995) المعايير الثقافية والاجتماعية التي تقولب عملية الترجمة، وخاصة تقاليد الترجمة، والاتفاقات، والممارسات السائدة حاليًا في الوضع المتلقي. على الرغم من أن هذا الكم من المعرفة يتم تطبيقه تلقائيًا في الترجمة، إلا أنه يمكن جعله واعيًا ومعبرًا عنه بوضوح إذا تراجع المترجم عن العملية أو المنتج ودققهما نقديًا بعد فصل نفسه عنهما. ومع ذلك، يظل اللاوعي بحكم التعريف بعيدًا عن الاستيعاب الإدراكي للمترجم وهو متاح فقط لمحقق آخر – أو ربما للمترجم في وقت لاحق وفي موقف تحليلي آخر.
يقدم لاوعي المترجم، بتعنت، اختلافات في الترجمة لأنها تظهر داخل لغة وثقافة الترجمة وفي ما يتعلق بالمؤلف والنص الأصلي، وهي علاقة قد تكون تعارضية. اللاوعي، خاصة في حالة ممارسات الكتابة مثل الترجمة، هو في الأساس لغوي ونصي، “بالفعل”، كما يصفه دريدا، “نسيج من الآثار النقية، والاختلافات التي يتحد فيها المعنى والقوة – نص لا يوجد في أي مكان، يتكون من أرشيفات تكون دومًا نسخًا مكتوبة مسبقًا” (Derrida 1978: 211). لاوعي المترجم “غير موجود في أي مكان” لأنه يظهر إلى الوجود في عملية الترجمة ويتم الكشف عنه باستعراض الباقي في الترجمة، بواسطة التأثيرات النصية والصلات بين النصوص التي أنشأها المترجم في محاولته تقديم النص المصدر.
في الواقع قد تكون بعض التأثيرات والصلات مقصودة؛ يتجاوز الآخرون حتى المترجم المتمرس النية الواعية، ويتخذون شكل سوء الفهم أو سوء القراءة التي هي من أعراض الدافع اللاواعي، والقلق المكبوت، والرغبة غير المشبعة. قد تكون هذه الأخطاء مدفوعة بالنص الأصلي، بواسطة سماته الشكلية والموضوعية، من خلال المقطع المحدد الذي تحدث فيه الأخطاء. ومع ذلك، قد تتم استثارتها أيضًا نتيجة شيء يقع خارج السياق المباشر للخطأ ولكنه مع ذلك مرتبط به، وهو الوضع الثقافي والاجتماعي الأكبر الذي يتم فيه إنتاج الترجمة. في مثل هذه الحالات، قد تكشف الأخطاء العرضية عن لا وعي المترجم السياسي، وهو رغبة مكبوتة في حل نزاع اجتماعي على المستوى التخيلي للترجمة. الأخطاء المعنية هي أخطاء عرضية لا معرفية، وليست مجرد أخطاء أو هفوات، لأنها ارتُكبت من قبل مترجمين متمرسين وعندما تُعطى سياقًا مفصلًا فإنها تكشف عن العملية اللاواعية للعوامل العابرة للفرد (راجع Timpanaro 1976، الذي أخالفه الرأي). تضمن هذه العوامل أن اللاوعي سيعمل دائمًا ضد أوجه التشابه التي يسعى المترجم إلى إرسائها ومنع الترجمة من أن تكون فعلًا بسيطًا للتواصل.
ومع ذلك، يجب أن يظل فحصي للاوعي المترجم موقتًا في حالة عدم وجود المزيد من الحالات. ولا تزال هناك قضايا مهمة يتعين النظر فيها، على الرغم من أنه لا يمكن صوغها إلا بشكل عام هنا. وهكذا فإن الحالات التي قدمتها كلها تتعلق بالمترجمين الذكور، ويطرح هذا التقييد، خاصة بالنظر إلى الانعكاسات النسوية للتحليل النفسي (انظر، على سبيل المثال، Mitchell 1975 وMitchell and Rose 1982)، السؤال عما إذا كانت الهوية الجنسية للمؤلف أو المترجم ذات تأثير على طبيعة وأهمية السمات النصية العرضية التي قد تحدث. هل سيصدر النص الأصلي الذي كتبته كاتبة متعارف عليها أخطاءً من نوع معين في نص يترجمه ذكر؟ في ضوء التمثيلات القديمة للتأليف كذكر (انظر Chamberlain 1988)، هل يمكن لمترجمة أن تقوم دون وعي بتحدي “تأليفي” في ترجمة كاتب ذكر؟ الأدلة السريرية التي تثبت وجود صلة بين الاستثمار الشهواني في شخصية الأم وعلاقة الموضوع باللغة الأم تثير تساؤلات حول استخدام المترجم للغة الأم. هل عمق الاستثمار الشهواني له آثار على ميل المترجم لتجربة لغته الأم؟ هل يؤثر هذا الاستثمار في الترجمة من لغة المترجم الأم إلى لغة ثانية؟ هذه الأسئلة تحتاج إلى معالجة؛ أذكرها بهذه الطريقة السريعة فقط لأقترح إلى أي مدى قد يكون نهج التحليل النفسي للترجمة مثمرًا ومنيرًا.
أخيرًا، كلمة عن طرق البحث في الترجمة. من أجل دراسة لا وعي المترجم، يجب على الباحث في الترجمة أن يرفد بوضوح عملية الترجمة أو المنتج بمجموعة من الافتراضات النظرية المستمدة من التحليل النفسي التقليدي. من دون هذه الافتراضات، لا يكون لاوعي المترجم مرئيًا أو متاحًا للتحليل، ولن تكتسب الأخطاء، حتى في الترجمات التي ينتجها أفضل المترجمين، أي أهمية تتجاوز وضعها كأخطاء. إضافةً إلى ذلك، إذا لم يتم قبول افتراضات التحليل النفسي كفرضيات عمل، فمن غير المرجح أن يدفع أي قدر من الأدلة التجريبية عالم الترجمة لقبول حجة تستند إليها. بالطبع، يقدم التحليل النفسي تفسيرًا لرفض قبول الافتراضات الرئيسة مثل وجود وعمل اللاوعي: مقاومة التحليل هي شكل من أشكال الكبت. وقد نتساءل جيدًا عما يخفيه الكبت بالضبط في الخطاب الأكاديمي، وما المصالح الفردية أو المؤسسية التي يتم خدمتها. ربما يكون أكثر ما يوصي بتقليد التحليل النفسي لدراسات الترجمة هو أنه يمكن أن يساعد المترجمين وأبحاث الترجمة وممارستها في تجنب الوقوع رهائنَ هذه الأجندات الخفية.
[*] هذا النص هو الفصل الثاني من كتاب (Translation Changes Everything; Theory and Practice)، لمؤلفه لورنس فينوتي Lawrence Venuti، وصدر عام 2013 عن روتليدج Routledge. والعنوان الأصلي للفصل:
The difference that translation makes: the translator’s unconscious