مشكلة البديل الديمقراطي في الربيع العربي

ملخص
لماذا كان البديل إسلاميًا أو عسكريًا وليس ديمقراطيًا في الأنظمة العربية التي سقطت بعد ثورات الربيع العربي؟ تكمن مشكلة البديل الديمقراطي، قبل الربيع العربي، في أنه لم يقدم مشروعًا مكتوبًا، ولا انتظم تنظيمًا يتصف بالفاعلية والمرونة واتساع النطاق. وعلى الرغم من المحاولات التي قامت لكتابة المشاريع وإنشاء التنظيمات بعد ثورات الربيع العربي، إلّا أنّها انهارت تدريجيًّا لافتقارها إلى المرونة وزيادة حدة الاستقطاب بين ولاءات مكونات الشعب نفسه. ما استبعد البديل الديمقراطي عن المنافسة، بعدما طرحت تلك الثورات، مشكلة البديل من أنظمة الاستبداد والفساد العربية. ومع أنّ الترجيحات المتبصرة تتوقع أن يكون البديل إسلاميًا أو عسكريًا، إلّا أننا سندرس هنا إمكانية انتظام القوى الديمقراطية والمدنية والليبرالية والعلمانية في جسد سياسيّ ما؛ حتى تطرح تعاونها المنظم بديلًا منافسًا مع البدلاء الآخرين.
وهكذا يفترض البحث وجود تيار وطني ديمقراطي مختلف عن التيار القومي واليساري والإسلامي. وقد عبرت ثورات الربيع العربي عنه أفضل تعبير، عندما حاولت انتزاع الحرية والكرامة والديمقراطية في كلّ بلد على حدة. ولكنه تيار يتصف بالتفكك؛ لأنه غير متعين في حزب أو تنظيم أو شبكة تعاون أسوةً بالتنظيمات القومية والإسلامية واليسارية. لهذا فهو مبعثر بين الأنظمة العربية المستبدة والفاسدة بحجة الإصلاح؛ وبقايا اليسار بشقيه القومي والأممي، والإسلام السياسي المعادي للتحول الديمقراطي؛ أو في المراهنة على المجتمع الدولي للتدخل والوصاية وفرض الديمقراطية؛ كما في المراهنة على الجيوش العربية لتحقيق مطامحه. وهو بهذا يحفر قبره بيده؛ لكونه لم يتحول إلى تنظيم فاعل بعد، وما زال ضائعًا بين التيارات الأخرى.
سيحاول البحث دراسة مشكلة التنظيم هذه على أنها واحدة من مشكلات البديل الديمقراطي الكثيرة، لا الاكتفاء بتحليل العقبات التي تقف إزاء إنشائه أو ما يترتب على ضعفه من نتائج.
ولدراسة هذه المشكلة سلك البحث طريقين؛ الأولى قبل الربيع العربي، وتتناول وضع البديل الديمقراطي ككل. والأخرى بعد الربيع العربي، وتدرس محاولات تشكيل تنظيمات جديدة. علّنا نجد التشابهات والقواسم المشتركة والاختلافات التي قد تساعد في إضاءة بعض جوانب مشكلة البديل الديمقراطي لإبراز الدور الوظيفي الذي يمكن أن يؤديه في عملية التحول إلى الديمقراطية وترسيخها في البلدان العربية.
وتجدر الإشارة إلى تجاوز الربيع العربي كثيرًا من التنظيمات الديمقراطية السابقة، وإبداع أشكال جديدة من التنظيمات. فالتنظيمات الديمقراطية كانت ضعيفة قبل الربيع العربي، وانتظمت بعده في تشكيلات جديدة، لتعود وتضعف من جديد، وتظل المشكلة راهنة.

كلمات مفتاحية
التعاون الفاعل المرن الواسع النطاق. البديل الديمقراطي. التيار الوطني الديمقراطي. الربيع العربي. انقلابات الوصاية العسكريّة Guardian. الإسلام السياسي. صراع الأجنحة. الدولة العميقة.

المحتويات
أولًا: مقدمة
ثانيًا: حالة البديل الديمقراطي قبل الربيع العربي
تحديدات أولية
ما البديل الديمقراطي؟
لماذا المفاضلة بين البدائل؟
ما مشكلة البديل الديمقراطي؟
ما الربيع العربي؟
ضعف البديل الديمقراطي
تفسير ضعف البديل الديمقراطي
مشكلة الفصل بين المفاهيم المترابطة
احتكار الأنظمة العربية جميع شبكات التعاون
مصدر قوة الأنظمة العربية
نقطة ضعف الأنظمة العربية
حصيلة احتكار الأنظمة العربية شبكات التعاون
مقارنة بين البدائل
في ضرورة البديل الديمقراطي
ثالثًا: محاولات تنظيم البديل الديمقراطي بعد الربيع العربي
المجالس الوطنية والعسكرية في ليبيا وسورية
تداخل التنظيمات في سورية
المجلس الانتقالي الليبي والجيش الليبي
رابعًا: انقلابات الوصاية العسكرية
موجة الربيع العربي الأولى في مصر
مشكلة الإخوان المسلمين
انقلاب الوصاية العسكرية في مصر
موجة الربيع العربي الثانية
انقلاب الوصاية العسكرية في الجزائر
انقلاب الوصاية العسكرية في السودان
خاتمة
المراجع والمصادر

أولًا: مقدمة
تبلورت في ماضي العالم العربي الحديث ثلاث نزعات هي، القومية والإسلامية واليسارية. ولكن في حين أنشأت هذه التيارات تنظيماتها وأحزابها وأنظمتها الفاعلة لتكون رأس حربة لتياراتها، ظل تيار رابع هو التيار الديمقراطي من دون مشروع متكامل ومكتوب، ومن دون تنظيم فاعل. وما زال منثورًا بين التيارات.
وبالعودة مئة سنة إلى الوراء، نجد أن الاستقلال هو ما كان على جدول الأعمال في بداياتها. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية تحول جدول أعمالنا إلى الوحدة. ولكن مع هزيمة 67 طُرح علينا الجهاد والدولة الإسلامية ليكونا جدول أعمال الشعوب العربية. أمّا مع بداية الألفية الثالثة فاستمر الجهاد متحولًا إلى إرهاب دولي تنافسه مشاريع إصلاح الأنظمة العربية.
غير أنه مع الربيع العربي أظهرت الشعوب العربية توقها إلى التحول الديمقراطي ضمن بلدانها فحسب. وبعد أن وضع الربيع العربي التحول الديمقراطي على جدول أعمال الشعوب العربية، أعطى زخمًا كبيرًا للتيار الديمقراطي. ولكن للأسف لم يكن التيار الديمقراطي قد كتب مشروعه وتحول إلى حزب كبير بعد!
من هذا المدخل سنبحث في واحدة من مشكلات البديل الديمقراطي وهي ضعف تنظيمه، أو افتقاره إلى شبكة تعاون تنتظم فيها قوى المجتمع المدني والمعارضة السياسية الديمقراطية والليبرالية قبل الربيع العربي وبعده.
1- مشكلة البحث
تتعين مشكلة البديل الديمقراطي في غياب تنظيم له، وغياب مشروعه المكتوب أيضًا.
كان من الشروط الوجودية لاستمرار الأنظمة العربية المستبدة والفاسدة قبل الربيع العربي، عدم إتاحة الفرصة لتشكل بديل ديمقراطي. ولكن في الجهة المقابلة كانت الشروط الوجودية تشترط على التغيير الديمقراطي أنْ يشكل بديلًا من هذه الأنظمة. ولهذا رأينا المحاولات الضعيفة لتشكيل بديل ديمقراطي. أمّا بعد الربيع العربي فاستمرت الأنظمة في إضعاف تنظيمات البديل الديمقراطي، وساعدها في ذلك التنظيمات الإرهابية والجيوش العربية والمجتمع الدولي. ولهذا فشلت الشبكات الجديدة جميعها التي كان من المفترض أن تصبح بديلًا ديمقراطيًا.
لماذا نضع مشكلة البحث في تنظيم التيار الديمقراطي لا في قمع الأنظمة، ولا بالتدخل الدولي كما هي العادة؟ لأننا لاحظنا أن الواقع يمتد على ثلاثة مستويات؛ مستوى الواقع الموضوعي، ومستوى الواقع الذاتي، ومستوى ثالث بينهما يشتبك معهما. فهناك مشكلات موضوعية كالأنظمة والمجتمع الدولي، لكن هناك مشكلات ذاتية أيضًا يختص بها التيار الديمقراطي، وهناك مشكلة بين الواقعين هي مشكلة تنظيم القوى الديمقراطية. كما أنّ إسقاط بعض الأنظمة العربية ابتداءً بالعراق 2003 ثم ليبيا واليمن، على الرغم من اختلاف الإسقاط وأوضاعه، لم يأت بالبديل الديمقراطي. كما أنّ انحياز الجيش التونسي والمصري إلى المتظاهرين لم يمنع الإسلام السياسي من أن يكون بديلًا، ولم يمنع أيضًا أن يقوم الجيش بانقلاب الوصاية على التحول الديمقراطي في مصر والجزائر والسودان. كما أن انقسام الجيش الليبي واليمني لم يصبّ في التحول الديمقراطي. إضافة إلى أن هجوم الجيش السوري والبحريني بمعية جيوش خارجية على الشعبين السوري والبحريني، بدد إمكان الانتقال الديمقراطي في هذين البلدين.
فما وضع شبكات التعاون قبل الربيع العربي وبعده؟ ولماذا كانت بهذا الضعف؟ وما إمكانية بناء شبكات تعاون الآن بعد انهيار شبكات ما بعد الربيع العربي؟ تلك هي الأسئلة التي يحاول البحث الإجابة عنها؛ لجعل وظيفة تلك الشبكات متابعة التحول الديمقراطي من جهة، وتكوين بديلًا عن الأنظمة الأوتوقراطية من جهة أخرى.
2- أهداف البحث
تقوية البديل الديمقراطي بتحديد أولوياته التنظيمية وعلاقاتها، وليس لفهم مشكلته فحسب، ولكن لتقدير ما قد يحمله المستقبل له من معوقات للمساهمة في إنجاز التحول الديمقراطي.
3- أهمية البحث
تكمن الأهمية المعرفية في التقاط أن احتكار الأنظمة العربية شبكات التعاون كان من الأسباب الرئيسة لاستمرارها، ولغياب البديل الديمقراطي حتى الآن. أمّا الأهمية العملية فتنبع من كونه بحثًا جديدًا يؤسس لانتظام التيار الديمقراطي والديمقراطيين في شبكة تعاون فاعلة ومرنة وواسعة النطاق. ويبين صفات هذه الشبكة أو هذا التنظيم. ولهذا يفترض البحث وجود تيار ديمقراطي منتشر في المجتمع المدني والليبرالي يضمن حقوق الإنسان وحرية اعتقاده، ولكنه غير متحد أو مفروز بعد.
4- فرضية البحث
إن عدم قدرة الديمقراطيين على إنتاج شبكات تعاون بديلة أو منافسة، أو حتى مشاركة، أدى إلى هزيمة الربيع العربي هزيمة مأساوية.
وسيظل مشروع إنتاج شبكة تعاون راهنًا ما دام الوضع على ما هو عليه من انحطاط بلا قعر. وستتحقق هذه الدراسة من فرضية أنّ غياب شبكة التعاون الديمقراطية أطال بعمر بعض الأنظمة، وساهم في أنْ تؤول مقاليد الحكم إلى الوصاية العسكرية أو إلى الإسلام السياسي، وأن مهمة إنتاج شبكة تعاون ديمقراطيّة ما زالت راهنة أمام قوى المجتمعات العربيّة التي تطمح إلى الحفاظ على أوطانها أو بلدانها أرضًا وشعبًا، لتضعها في سيرورة الديمقراطية.
5- التصور المفاهيمي ومؤشرات البحث
ثورات الربيع العربي هي ثورات وطنية ديمقراطية. وليست ثورة قومية ديمقراطية لتحقيق الوحدة القومية، ولا ثورة إسلامية لتحقيق دولة الخلافة. إلّا أنّ القوميين والإسلاميين استغلوها أكثر من الديمقراطيين. وقد طالبت فيها الشعوب العربية بالحرية والكرامة والديمقراطية. كما ضحت في سبيل مساواتها بالحقوق والكرامة. إنّ انتظام شتات التيارات الديمقراطية في تنظيمٍ ضمن كل بلد هو الخطوة الأولى لإنجاز التحول الديمقراطي وترسيخه.
تم الاعتماد على مؤشرات البحث التي استخدمها مجموعة من الباحثين في بحث “تفسير العجز الديمقراطي في الوطن العربي”، مثل مؤشر “نظام الحكم”، ومؤشر “دار الحرية”.
6- منهجية البحث
تم تبني طريقة تحليل ثنائية تجمع بين التحليل الوصفي والتحليل البنائي معًا، على مستوى العالم العربي عامة، وبلدانه منفردة خاصة. وقد جمع بينهما مشكلة غياب التنظيم الوطني الديمقراطي. وتم اختيار مصر والجزائر والسودان لانقلابات الوصاية العسكرية، وسورية واليمن وليبيا والعراق لاختلاف الأوضاع وتشابه النتائج، وتونس ومصر للإسلام السياسي والإشارة إلى البحرين ولبنان؛ إذ إن الأولى أفشلتها السعودية، والثانية أفشلتها إيران. أمّا الإشارة إلى دول الخليج فكانت لعدم قيام ثورات فيها باستثناء العراق والبحرين. وأحيانًا لا يلتقط النموذج العام بعض البلدان، ومنها لا يشملها النموذج الخاص لكل بلد على انفراد.
7- التحليل والنتائج والاستنتاجات
كان تنظيم البديل الديمقراطي ضعيفًا قبل الربيع العربي؛ بسبب عوامل موضوعية تعود إلى استبداد الأنظمة العربية واحتكارها شبكات التعاون كافة؛ وعوامل ذاتية رأت في ضعف التنظيم ونسبية الثقافة وخصوصيتها ونفورها من الديمقراطية وغياب الطبقة البرجوازية المعوقات الأساس.
خلقت التيارات الديمقراطية تنظيمات جديدة بعد الربيع العربي، كالمجالس الوطنية والعسكرية والانتقالية والتنسيقيات والمجالس المحلية…إلخ، واتصفت هذه التنظيمات بصفتين هما الفاعلية والأعداد الكبيرة، ولكنها افتقدت المرونة التي تتطلبها ممارسة السياسة.
فشلت هذه التنظيمات الجديدة لشدة القمع والتنكيل، وكانت وراء هزيمة الربيع العربي. وأتاحت بفشلها الفرصة للإسلام السياسي أن يكون بديلًا من الأنظمة الساقطة في تونس ومصر، وانقلابات الوصاية العسكرية في مصر والسودان والجزائر. وبما أن الربيع العربي يصب في التحول الديمقراطي، فإن النتائج كانت تعاند وتعرقل التحول الديمقراطي بغياب أي بديل ديمقراطي عن ساحة المنافسة. وبعد البحث في الواقع الموضوعي والذاتي وما بينهما، تبين أنّ تنظيم البديل الديمقراطي في شبكة تعاون فاعلة ومرنة وواسعة النطاق هو ما يجعل منه منافسًا مع المنافسين الآخرين، وربما يجعل منه أيضًا بديلًا مرموقًا من الأنظمة المستبدة والفاسدة.

ثانيًا: حالة البديل الديمقراطي قبل الربيع العربي
تحديدات أوليّة
لا بدّ من تحديد المقصود بالمفاهيم، حتى نزيل كل التباس، ولكي يدور البحث حول مشكلة معلومة لا مجهولة.
ما البديل الديمقراطي؟
يُقصد بالبديل الديمقراطي التنظيم الفاعل، صاحب المشروع المكتوب الذي يشكل نقيضًا لأنظمة الاستبداد والفساد العربية في كل بلد على حدة. وهو حصيلة تنظيم تعاون قوى المجتمع المدني وحقوق الإنسان والقوى الديمقراطية والعلمانية والليبرالية مجتمعة. فـ”المعضلة المركزية للدمقرطة في الوطن العربي تكمن في متانة الأنظمة الاستبدادية ومصادر قوتها، وهو وضع شاذ، إذا أخذنا في الحسبان غربة الدولة والمعارضة الواسعة للاستبداد والسيطرة الأجنبية”.
البديل وطني لا قومي؛ لأنّ الوحدة القومية أكلت الوطنية الديمقراطية، وكذلك الدولة الإسلامية أكلت الوطنية الديمقراطية. وسيتعين هذا البديل في شبكة تعاون بين متشابهين في الأهداف ومتعاونين فيما بينهم لتحقيق أهدافهم، وتلقف أي تراجع للأنظمة العربية المستبدة. أمّا حدود البديل الديمقراطي الجغرافية فهي حدود دولته الوطنية. وستكون سيادته من سيادة شعبه فحسب، لا من سيادة العرب والمسلمين. وستكون وطنيته أو دولته، هي جنسية شعبه لا ثقافاتهم ولا إثنياتهم ولا طوائفهم. (الوطنية السورية هي الجنسية السورية، والوطنية المصرية هي الجنسية المصرية، والوطنية الجزائرية هي الجنسية الجزائرية…إلخ،). وظيفة البديل الديمقراطي هي العمل على تحقيق المواطنة ضمن دولة القانون والمؤسسات والدستور؛ أي إقامة دولة لمواطنيها جميعهم. إنّه المشروع القائم على تداول السلطة، وتقاسم الثروة والانتخابات، وفصل السلطات والقضاء المستقل. ولأنّ البديل الديمقراطي في حاجة إلى ديمقراطيين أفرادًا أكانوا أم منظمات، فهو حصيلة تعاون وتحالف وعقد بين كوادر المجتمع المدني والنخبة الليبرالية والمعارضة السياسية الديمقراطية والعلمانيين. وعليه الحذر من التحالف مع الإسلام السياسي، ومع الجيش، ومع الخارج، ومع الأنظمة، لأنهم جميعًا يعيشون على إضعافه، ويعملون على تشتيته. ولو كان البديل الديمقراطي غير فاعل لما احتاجت ثورات الربيع العربي إلى كل هذا القمع من الأنظمة والتدخلات الدولية، واستشراس الإرهابيين ووصاية الجيوش.
لماذا المفاضلة بين البدائل؟
أظهر الواقع أنّ البديل من الأنظمة العربية، في حال استمرار تشتت البديل الديمقراطي، سيكون واحدًا من أربعة؛ إما الأنظمة نفسها بعد إعادة تدويرها، أو الإسلام السياسي، أو وصاية الجيش، أو الوصاية الدولية. وربما سيكون البديل هؤلاء الأربعة مجتمعين أو خليطًا منهم.
والمفاضلة هنا لأسباب عديدة:
لأن البديل الديمقراطي هو المطلب الأساس للشعوب العربية مع انبثاق الربيع العربي في الدرجة الأولى؛ فلم نجد في موجتي الربيع العربي مطلبًا شعبيًا يطالب بالدولة الإسلامية، ولا بالدولة القومية، ولا رأى المتظاهرون في الإسلام حلًا، ولا طالبوا بانقلابات عسكريّة أو بوصاية دولية. إنما اقتصرت المطالبات على إسقاط الأنظمة والحرية والكرامة. وظنت الشعوب العربية أنّ التحول إلى الديمقراطية سيكون تلقائيًا بعد إسقاط الأنظمة.
2- تحقق الديمقراطية نمو البلاد، إذ بينت الدراسات “أنّ الأنظمة الديمقراطية قادرة أكثر على معالجة الصدمات الاقتصادية الضارة، وأنها تدفع أجورًا أعلى، وتساهم في الحد من عدم المساواة، وتشجع الاستثمار والتعليم، وهو ما يمكن أن يقود إلى تحقيق النمو الطويل المدى”.
تضمن الديمقراطية عدم إعادة إنتاج الأنظمة العربية بلبوس آخر إسلامي أو عسكري بالدرجة الثالثة.
ما مشكلة البديل الديمقراطي؟
من بين مشكلات كثيرة عاناها البديل الديمقراطي سنختار مشكلة تنظيم وتعاون وتحالف الديمقراطيين بين بعضهم بعضًا لندرسها هنا.
تفترض هذه الدراسة أنّ ثورات الربيع العربي هي ثورات وطنيّة ديمقراطيّة، على الرغم من التأثير المتبادل فيما بينها، وتجديد الأمل بكسر حدود سايكس بيكو عند القوميين والإسلاميين، وعلى الرغم من المشاركة الواسعة للإسلاميين فيها. ومع أن بعض الباحثين من ذوي الميول الديمقراطية قد حددوا العقبات بالنفط والحرب، أو بنفور الثقافة العربية من الديمقراطية، أو بأولوية المجتمع المدني والليبرالية بوصفها شروطًا مسبقة للديمقراطية…إلخ، إلّا أننا سنرى أهمية تحالف وتعاون الديمقراطيين مع بعضهم في المنافسة على البديل، والمساهمة في تقويض الاستبداد والفساد.
ما الربيع العربي؟
يقصد بالربيع العربي احتجاجات وانتفاضات وثورات الشعوب العربية خلال السنوات العشر الماضية. فإذا كان النصف الأول من القرن العشرين قد امتاز بالاستقلال، والنصف الثاني بالوحدة أولًا ثم بالجهاد والدولة الإسلامية ثانيًا، والعشر سنوات الأولى من الألفية الثالثة بالإصلاح من جهة، والإرهاب من جهة ثانية، فإن الربيع العربي يمتاز بالوطنية الديمقراطية. أول مرة تشهد البلدان العربية، تنظيمًا لتعاون أعداد كبيرة في فيسبوك، لشبان وشابات تشعر بالاستياء، لانتزاع الاعتراف بمساواتهم في الحقوق والكرامة الإنسانية. فالربيع العربي هو تنظيم تعاون هؤلاء الشابات والشبان على الرغم من أنهم لا يعرفون بعضهم بعضًا وجهًا لوجه.
بدّد الربيع العربي مجموعة من الأطروحات التي كانت مستقرة في ذهن النخب العربية. مثل تعارض الثقافة العربية مع الديمقراطية لخصوصيتها ونسبيتها. كما كشف أن النفور العربي من الديمقراطية أطروحة كاذبة وزائفة، وبيّن ألاعيب الأنظمة العربية في تعزيز ودعم مثل هذه الأطروحات المزيفة لمحاربة الديمقراطية وتعزيز الاستبداد. “إنّ نظام الاستبداد في الوطن العربي ليس انعكاسًا للتفضيلات الثقافية للمنطقة”. فلو كان الأمر كذلك، لما كانت هناك حاجة إلى العنف الشديد الذي تمارسه تلك الأنظمة للمحافظة على قبضتها على السلطة. بل على العكس من ذلك فقد قامت تلك الأنظمة بتحدي الميول والنزعات الثقافية. فجيشت الروابط الطائفية والعشائرية لعزل نفسها عن المجتمع المستقطب، مستغلة الموارد الهائلة والدعم الدولي والإقليمي والعربي.
فلا يفسر النفور من الديمقراطية استمرار أنظمة القمع. كما لا يفسرها غياب الطبقة البرجوازية.
ضعف البديل الديمقراطي
اتسم البديل الديمقراطي في مرحلة ما قبل الربيع العربي بالضعف قياسًا بقوة الأنظمة العربية المستبدة والفاسدة من جهة، وبقوة بديل الإسلام السياسيّ المنظّم من جهة أخرى. وهما معاديان للديمقراطية والليبرالية والمجتمع المدني والوطنية وحقوق الإنسان والعلمانية.
تفسير ضعف البديل الديمقراطي
ومن آخر الأبحاث التي أكدت هذا الضعف، ونُشِرت مع بداية الربيع العربي في محاولة تفسير عجز الديمقراطية، نجد بحث “تفسير العجز الديمقراطي في العالم العربي” الذي قام به مجموعة الباحثين. وعلى الرغم من أنّ الكتاب لم يهتم بمشكلة بحثنا هنا؛ أي التحول الديمقراطي والبديل الديمقراطي، إلّا أنّه ركّز على العجز الديمقراطي فحسب، وعزا أسباب هذا العجز مثل فرانسيس فوكوياما إلى النفط والحروب البينية والخارجية ولا سيّما “الصراع العربي الإسرائيلي”. إذ وجد الباحثون أنّ التحديث لا يتعارض مع الديمقراطية، وأنّ الانشغال بالتمهيد للديمقراطية بالليبرالية أو بالمجتمع المدني نافلٌ.
مشكلة الفصل بين المفاهيم المترابطة
درجنا على الفصل بين المفاهيم من دون إعادة الوصل بينها. وهذا ساهم في إضعاف البديل الديمقراطي، وجعل الديمقراطيين متخندقين ضد بعضهم بعضًا. كما أن اشتراطات التحول الديمقراطي كانت كثيرة. فمن جهة يحتاج إلى تمهيد من المجتمع المدني، ومن جهة أخرى يحتاج إلى مكتسبات الليبرالية؛ وهكذا قام الفصل بين الديمقراطية والليبرالية والعلمانية والمجتمع المدني من دون الوصل بعد الفصل.
إن من النتائج التي توصل البحث إليها “تفسير العجز الديمقراطي”، نستنتج أن البديل الديمقراطي هو مدني وليبرالي وعلماني معًا. وهذا لأنّ تقويض الأنظمة العربية الأوتوقراطية للبديل الديمقراطي، يتضمن حكمًا، تقويضًا للمجتمع المدني والليبرالية والعلمانية.
ففرضيات السبق الخاصة بتطور بعض المجتمعات الغربية تعيق تبلور البديل الديمقراطي؛ إذ سبق الديمقراطية في الغرب مجتمع مدني قوي وليبرالية قوية. وما زال البديل الديمقراطي المدني الليبرالي العلماني غير متبلور في أحزاب أو تنظيمات أو شبكة تعاون، لأنّ الأنظمة العربية اشتغلت على إضعافه بمساعدة المجتمع الدولي والإسلام السياسيّ.
كما أنّ اشتراط أسبقية الليبرالية على الديمقراطية، وأسبقية المجتمع المدني على الديمقراطية في الدول التي لا تسمح أنظمتها الأوتوقراطية للمجتمع المدني بأي دور، هو اشتراط غير ذي أهمية؛ لأنّ البراهين التي تؤكد أسبقية المجتمع المدني للبديل الديمقراطي في العالم العربي، لا تأخذ في الحسبان أوضاع القمع والاحتكار.
فالعمل على حل مشكلة الضعف الديمقراطي هو عمل على تفكيك الاستبداد لا العمل على التمهيد للديمقراطية. ولا سيّما أنّ القطاعات الخاصة ما زالت زبونًا تابعًا للدولة إلى حد بعيد، أو أنها تبقى بخلاف ذلك قطاعات “غير رسمية”، وتعمل في الخفاء لتعاني الأمرين من بطش الأنظمة.
ولعل الإجابة عن السؤال الآتي، هل يمكن اليوم إقامة الفصل بين الديمقراطية والليبرالية، وبين الديمقراطية والمجتمع المدني، وبين الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبين الديمقراطية والعلمانية؟ ستكون بالتسليم بأن لا مجال للفصل، ووضع مشروع التحول الديمقراطي على جدولنا اليومي، والخروج من الدائرة المفرغة المتمثلة بأيهما أسبق الديمقراطية أم المجتمع المدني؟ الديمقراطية أم الليبرالية؟ الديمقراطية أم العلمانية؟ الديمقراطية أم حقوق الإنسان؟ إن هذه المفاهيم مرتبطة ببعضها بعضًا، وما الفصل بينها إلّا فصلًا إجرائيًا، ولكن للأسف يتم الفصل عندنا بلا وصل! ولنهتم بإنشاء جسد ديمقراطي أو تنظيم مشروع ديمقراطي بوسائل ديمقراطية، فنجعل منه نموذجًا يحتذى به ومنافسًا مرموقًا. ووصل الأمر بالفكر السياسي العربي إلى حد تخويف العالم من تحول بلدانهم إلى الديمقراطية بحجة خوف الولايات المتحدة وإسرائيل من بلداننا إذا تحولت إلى الديمقراطية. وكأن الديمقراطية مثل الإرهاب، ستهدد الأمن والسلم الدوليين، وربما ستقضي على العالم. وهذه كلها حجج واهية ولا تصب في طاحون التحول الديمقراطي.
احتكار الأنظمة العربية جميع شبكات التعاون
سيطرت الأنظمة العربيّة على شعوبها لأنها ضمنت ثلاثة شروط فاعلة:
أولًا- السيطرة على شبكات التعاون جميعها، مثل الجيش والأمن والأحزاب والأعمال والنخب والنقابات والتنظيمات والمجالس والمنتديات والجمعيات والاتحادات الرياضية…إلخ، وذلك من خلال تعيين الموالين لها في هذه الشبكات.
ثانيًا- منعت وقوضّت إنشاء أيّ تنظيمات للتعاون قد تكون مناوئة ومنافسة أو موازية أو بديلة منها، سياسية أكانت تلك التنظيمات أم اقتصادية أم اجتماعية. ولهذا نجد تفتيت التنسيقيات وصفحات فيسبوك والمجالس المحليّة والمجالس الوطنيّة والمجالس العسكريّة والائتلافات…إلخ، بوصفها شبكات تعاون جديدة.
ثالثًا- اعتمدت تنظيم شبكة دعم خارجي أيضًا مع الأميركيين والروس والإيرانيين والأتراك والإسرائيليين، فضلًا عن الشبكات مع دول الخليج العربي التي لم يطلها الربيع العربي فعليًا، باستثناء البحرين والعراق.
مصدر قوة الأنظمة العربية
وبهذا ضمنت تلك الأنظمة سيطرتها على شبكات التعاون الداخلي والخارجي. وعلى الرغم من التوترات العرضية أو تلك العميقة جميعها في العالم العربي، فقد ساعدت هذه الشبكات الخارجية الأنظمة في أوقات حاجتها لها، في تقويض التعاون المناوئ لها، أو على الأقل ضمنت عدم وجود منافس خارجي يدس أنفه في مسائل الأنظمة الداخلية، كما ساعدتها شبكات التعاون الداخلية في مثل هذه السيطرة.
وعلى الرغم من كل المشقة والمعاناة التي لحقت بالشعوب العربية من أنظمتها وحلفاء هذه الأنظمة وشبكات تعاونها، فقد كان العرب غير قادرين على تنظيم أي معارضة متعاونة وفاعلة ترقى لأن تكون بديلًا مرموقًا من أنظمتها. ومن هذه الشروط بالذات سيكون إنتاج البديل لمثل هذه الأنظمة، بالإصرار على إنتاج شبكة تعاون بين المعارضة الديمقراطية والمجتمع المدني والليبرالية والعلمانية وحقوق الإنسان.
نقطة ضعف الأنظمة العربية
إذًا، ستسقط الأنظمة عندما لا تقبض على تلك الشروط الثلاثة. فعندما تسقط وتفلت السلطة من أيدي أحد الأنظمة، فإنها لن تذهب إلى الشعوب الثائرة على الرغم من كثرة عددها ومرونتها ومشاريعها البنّاءة في الحريّة والكرامة والديمقراطية وحماستها المنقطعة النظير؛ لأن هذه الحشود والجماهير لم تكن تعرف كيفية تنظيم تعاونها. وبالتالي ستنتقل السلطة إلى نخبة ما، أو مجموعة صغيرة من اللاعبين السياسيين الذين كانت مدخراتهم الوحيدة هي تنظيم التعاون الجيد، كما حدث في مصر إبان الثورة وإبان الثورة المضادة. فالجماهير العربية التي خاطرت بأرواحها وممتلكاتها، ستقبل بالفتات والفضلات والخردة، لأنها لم تعرف كيفية تنظيم التعاون في ما بينها، ولا كيفية إنشاء منظمة فاعلة للعناية بمصالحها. فالقيمة المضافة هنا تكمن في تنظيم السلوك الجمعي، وجعله سلوكًا متعاونًا، لا في التغني بالفروقات الفرديّة أو تأكيدها أهميتها.
نتيجة احتكار الأنظمة شبكات التعاون
وكانت النتيجة، في حال سقوط أحد الأنظمة العربية، أنْ تؤول مقاليد الحكم إلى أحد طرفين منظمين، هما الإسلام السياسي، أو المؤسسة العسكرية. وقد قوضت هذه الأنظمة العربيّة أي شبكة تعاون ديمقراطيّة، لأنها تخشى على نفسها من فقدان السلطة لمصلحة شبكات التعاون الديمقراطية المنافسة التي من المفترض أن تكون نقيضًا للأنظمة في الدولة الوطنية والديمقراطية. بينما غضت هذه الأنظمة النظر عن الإسلام السياسي لأنه يعيد إنتاج النظام القائم المتشابك معه أساسًا.
مقارنة بين البدائل
ظلت شبكات تعاون البديل الديمقراطي ضعيفة قياسًا ببدائل الإسلام السياسي والمؤسسة العسكرية. وعلى الرغم من أن الإسلام السياسي تعرض للقمع أكثر بكثير من التيار الديمقراطي، غير أنه استطاع تنظيم نفسه بدرجة أكبر من الديمقراطيين، لينتهز أي فرصة للوصاية على الشعب، وفرض نفسه بديلًا منافسًا.
ولكن من جهة ثانية، نجد أنّ الأنظمة العربية قوّت الجيش ووضعته في خدمتها ليعود إلى “صراع الأجنحة” أو إلى “الدولة العميقة” في اللحظات الحاسمة، وهذا ما يفسر دور الجيش في ثورات الربيع العربي، وكيف طرح نفسه بديلًا. كما أنّها حاربت الإسلام السياسي سياسيًا، إلّا أنها ثبتته اجتماعيًا. وهي بهذا فعلت كما فعل نظام جمال عبد الناصر كما يصفه ياسين الحافظ: “كان يحصد الإخوان المسلمين سياسيًّا، في حين أنّ سياسته التعليميّة والتربويّة كانت تزرعهم ثقافيًّا وأيديولوجيّا”.
وهذا الأمر يفسِّر لمَ احتفظ الإسلام السياسي، بل عزز، قواه الاجتماعية ومواقعه الأيديولوجية ونفوذه في المجتمع. مما أهله لاحقًا، بعد أن تراخى الضغط السلطوي عليه، ولاح في الأفق إمكان سقوط الأنظمة العربية، لطرح نفسه بديلًا منافسًا من سقوط الأنظمة العربية. والواقع أنّ الأنظمة العربية تتشارك مع الإسلام السياسي بعض العناصر الأيديولوجية كبعث الماضي الإسلامي أو القومي، واللاعقلانية في السياسة، ودوغمائية الاعتقادات، فضلًا عن الإدانة المشتركة للديمقراطية والسخرية منها. ومثل هذه العناصر المشتركة، وعلى الرغم من الصراع السياسي المرير بين هذه العناصر المشتركة، إلا أنها تفسر تعايشها الطفيلي أو حتى تصالحها الأيديولوجي وتحالفها المصلحي. (توظيف النظام السوري للإسلام السياسي إبان احتلال العراق 2003، دولة العلم والإيمان الساداتية مع نهاية السبعينيات لإرساله إلى أفغانستان بمعية السعودية، عمر البشير وأسامة بن لادن بعد حرب الخليج الثانية، السعودية والوهابية وأسامة بن لادن، حماس وقطر… إلخ).
في ضرورة البديل الديمقراطي
هل إنتاج شبكة تعاون ديمقراطيّة في كل بلد على حدة ما زال راهنًا؟ نعم. ولكن في الطرف المعاكس ثمة من يرى عدم ضرورة إيجاد البديل، لأنه سيتشكل بالسيرورة الثوريّة نفسها، مدعمين رأيهم بقول ينسب إلى ميشيل فوكو: “في زمن الثورات لا مكان للكلام عن ضرورة إيجاد البديل النظري من النظام الفاسد لأن عدم إتاحة الفرصة لوجود بديل نظري هو شرط وجودي لفساد هذا النظام واستمراره. لذلك فليس من واجب أهل الثورة والقائمين عليها طرح البديل من النظام، وإنما تكفي عملية هدم نظام فاسد لخلق بيئة صحية وبصورة تلقائية لتفرز بديلها أيًا كان”. ما يؤكد أن الأنظمة الاستبدادية لا تسمح بوجود بديل منها. فعملية خلق البديل تحتاج إلى بيئة ومناخ صحيين كي تتبلور، لأنها تنبع من رحم هذه الثورات وتتشكل في قلبها.
لكن الواقع، ليس البديل “أيًا كان” كما يقول فوكو. وهذا تجريد فارغ. البديل هو إما إسلام سياسي أو جيش أو احتلال أو بقاء الأنظمة. إذًا لا مناص من إنتاج البديل الديمقراطي في تنظيم فاعل. كما أنّ الثورات لا تحدث في الفراغ وإنما في مجتمع، ولا بدّ أن يكون المجتمع قد مانع وعاند الأنظمة قبل ثورات الربيع العربي، وربما كان قد حقق انتظامًا ما أو شبكة تعاون ما بين جموعه. ولكن في العالم العربي اقتصرت التنظيمات الفاعلة على القوميين أولًا ثم اليساريين ثانيًا ثم الإسلاميين ثالثًا. فالسؤال عن البديل من أنظمة الاستبداد والفساد هو سؤال مشروع، لأنه يشير إلى نوع البديل لا إلى انعدامه. والمقصود بغياب البديل هو انعدام البديل الديمقراطي الوطني لا انعدام البديل كليًّا. كما يحمل السؤال الإشارة إلى ضعف وتشتت البديل الديمقراطي. فعلى الرغم من الاختلاف في إسقاط بعض الأنظمة العربية، إلّا أنّ النتائج كانت متشابهة لغياب البديل الديمقراطي المنظم.
وبما أن هدف البحث هو تمكين البديل الديمقراطي، وذلك بحثّه على إنشاء تنظيم فاعل ومرن وواسع النطاق، فإنّ مهمة البديل الديمقراطي هي إنجاز التحول الديمقراطي ومن ثم ترسيخ الديمقراطية. وتبدأ استراتيجية تمكين البديل الديمقراطي بإقامة تنظيم فاعل ومرن وواسع النطاق. والجدير بالملاحظة أن إنجاز التحول الديمقراطي يختلف اختلافًا كبيرًا عن ممارسة السياسة في ظل نظام ديمقراطي، كما حصل مع “المجلس الوطني السوري” بانتخاب رئيس له كل ثلاثة أشهر! فهذه ممارسة ديمقراطية زائدة عن اللزوم لا تحصل عند عتاة الديمقراطية!
ويجب التنويه إلى التوظيف المتبادل بين الأنظمة والإسلام السياسي. فالأنظمة العربية المستبدة وظفت البدائل الإسلامية لإقناع العالم بأنها أهون الشرين، ثم تم تأمين الدعم الدولي والمحلي والإقليمي لها ضد الأخطار المحتملة على الأمن والاستقرار العالمييّن. “وتوظف الأنظمة المستبدة القسم القوي من المعارضة الراديكالية لإقناع النخبة بأن استمرارها أهون الشرين، ولتأمين الدعم الأجنبي ضد التهديدات المتصوّرة لـ”التطرف والفوضى”.كما وظفت البدائل الإسلامية الأنظمة العربية المستبدة لإقناع العالم بمظلوميتها، وبأنها في حال استلمت السلطة ستحقق الجنة لشعوبها، في حين أنها عادت التحول الديمقراطي.
ففي سورية مثلًا كان سقوط الرقة بيد أهاليها 4 آذار/ مارس 2013، ومن ثم استلام جبهة النصرة وبعدها داعش، بمنزلة انهيار شبكات التعاون الجديدة، مثل الجيش الحر والتنسيقيات والمجالس المحلية، لأن إدارة المناطق المحررة كانت من اختصاصهم. ثم صارت بيد “إدارة التوحش”، وقامت فيها إمارة إسلامية بدلًا من نواة مدنية ديمقراطية. فقد خطط تنظيم القاعدة لجبهة النصرة وداعش، قبل وجودهما بكونها تنظيمات إرهابية، لإدارة المناطق الساقطة مسبقًا واستراتيجيًا، بينما كان التيار الديمقراطي يخطط لحظيًا وتكتيكيًا.
ففي عام 2004 نشر “أبو بكر ناجي” كتابه “إدارة التوحش”، وهو بمنزلة دليل عمل للمجاهدين لإدارة المناطق والدول التي تخرج عن سيطرة الأنظمة أو سيطرة المجتمع الدولي. وعد هذه المرحلة مرحلة تعقب النكاية والشوكة، وأن الدولة الإسلامية ستعقب مرحلة “إدارة التوحش”. كما نشر “عبدالله بن محمد” كتابين هما “استراتيجية الحرب الإقليمية على بلاد الشام” و”المذكرة الاستراتيجية” لمخاطبة أسامة بن لادن، وكوادر تنظيم القاعدة آنذاك. ويحدِّد فيهما الطريقة الجهادية للانتقال إلى الخلافة الإسلامية، واستغلال ثورات الربيع العربي، لأن الشعوب العربية في رأيه ستستبدل شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” بشعار “الشعب يريد إعلان الجهاد”. وما هذا إلّا من فضائل التنظيم والإعداد الاستراتيجي. بينما افتقر البديل الديمقراطي إلى مثل هذه الاستراتيجيات بفضل غياب التنظيم الفاعل. لا يحد سيرورة تقدم البديل الديمقراطي أكثر من النقص الملحوظ في القدرة على التنظيم والعجز عن القيام بعمل مشترك. طبعًا فشلت “إدارة التوحش” بإقامة الخلافة بفضل التحالف الدولي، وحجزت الأنظمة العربية مقعدًا لها في محاربة الإرهاب كالعادة. وستحجز مكانًا لها في التحول الديمقراطي أيضًا إنْ ظل التيار الديمقراطي من دون تنظيم.
وحدث مصير مماثل للثورة المصرية عام ٢٠١١. وما فعله التلفزيون في عام ١٩٨٩ مع تشاوسيسكو/رومانيا، فعله الفيسبوك وتويتر في عام ٢٠١١ مع مبارك/مصر. ساعدت وسائل الإعلام الجديدة الجماهير على تنسيق نشاطها، لقد غمر مئات الآلاف من الناس الشوارع والساحات في اللحظة الملائمة وأطاحوا نظام حسني مبارك. ومع ذلك، فإن إحضار مليون شخص إلى ميدان التحرير شيء، والسيطرة على الأجهزة السياسية شيء آخر، فمن أجل الأخيرة، عليك إيجاد الغرفة الخلفية الصحيحة وهزها لتتمكن من قيادة الدولة بشكل فاعل. وبالتالي، عندما تنحى مبارك، لم يستطع المتظاهرون ملء الفراغ. لم يكن لدى المصريين سوى مؤسستين منظمتين بدرجة كافية لحكم البلاد؛ الجيش والإخوان المسلمين. ومن هنا تم اختطاف الثورة أولًا من الإخوان، وفي النهاية من الجيش.
لكي تنشئ شبكة تعاون تعمل على أنْ تكون بديلًا ديمقراطيًا من أنظمة مستبدة وفاسدة عليك بثلاثة أمور، هي التعاون البنّاء المرن الواسع النطاق. إنّ الأنظمة العربية حكمت لسنوات طويلة لأنها تعاونت وحدها تعاونًا بنّاءً مرنًا. وليس لأنهم أنبياء أو من ذوي الحظ الجيد. وبالفعل إذا كان حكم الشعوب يعزى إلى تعاونها المرن البنّاء الواسع النطاق، فهذا يقودنا إلى تخفيض المزايا الفردية في المجال السياسي، وإعلاء شأن التعاون الجمعي. ولشرح هذه الشروط لا بأس من الاستعارة من “يوفال نوح حراري” في كتابه “الإنسان الإله”.
أن تكون شبكة التعاون مرنة. لم يكن المجلس العسكري المصري والجنرالات أكثر ذكاءً أو رشاقة من الطغاة القدامى أو المتظاهرين في ميدان التحرير. ميزتهم تكمن في التعاون المرن. تعاونوا بشكل أفضل من الحشود، وكانوا على استعداد لإظهار مرونة أكبر بكثير من مبارك البليد.
أنْ تكون شبكة التعاون واسعة النطاق. يقدم التاريخ أدلة وافرة على الأهمية الحاسمة للتعاون على نطاق واسع. وقد ذهب النصر بشكل ثابت تقريبًا إلى أولئك الذين تعاونوا بشكل أفضل في الصراعات بين المجموعات البشرية المختلفة. لقد قهرت روما اليونان ليس لأن الرومان كان لديهم أدمغة أكبر أو تقنيات أفضل لصنع الأدوات، ولكن لأنهم كانوا قادرين على التعاون بشكل أكثر فاعلية. على مر التاريخ، دحرت الجيوش المنضبطة بسهولة الجحافل غير المنظمة، وسيطرت النخب الموحدة على الجماهير غير المنظمة. في عام ١٩١٤، على سبيل المثال، تحكم ثلاثة ملايين من النبلاء والمسؤولين ورجال الأعمال الروس بأكثر من ١٨٠ مليون من الفلاحين والعمال. لقد عرفت النخبة الروسية كيفية التعاون في الدفاع عن مصالحها المشتركة، في حين أن الـ١٨٠ مليون من عامة الشعب كانوا عاجزين عن التعبئة الفاعلة. والواقع أن كثيرًا من جهد النخبة ركز على ضمان أن الـ١٨٠ مليون شخص في القاع لن يتعلموا التعاون.
من أجل القيام بثورة، الأعداد وحدها ليست كافية أبدًا. فعادة من يقوم بالثورات هي شبكات صغيرة من المحرضين بدلًا من الجماهير. وإذا كنت ترغب في إطلاق ثورة، لا تسأل نفسك، “كم من الناس يدعمون أفكاري؟”، بل اسأل نفسك، “كم عدد المؤيدين القادرين على التعاون الفاعل المرن؟”. لم يفلت الإسلاميون قبضتهم عن تونس. لقد أبقاهم التنظيم الفاعل في السلطة لمدة عشرة أعوام، ولن يسقطوا في نهاية المطاف إلّا بسبب التنظيم المختل. لقد سقط نظام زين العابدين بن علي في تونس، ولم تذهب السلطة إلى بديلٍ ديمقراطي منظم وفاعل. وإنما ذهبت إلى حركة النهضة. كذلك سقط نظام حسني مبارك ولم تذهب السلطة إلى الشعب المصري بل إلى الجيش ثم إلى الإخوان المسلمين ثم إلى الجيش. والسؤال الذي يطرح نفسه على الربيع العربي هو لماذا؟ أي لماذا حدث ذلك؟ طبعًا الأسباب كثيرة جدًا، ولكن ضعف شبكات التعاون أو ضعف شبكة البديل الديمقراطي هي السبب. ولذلك ذهبت السلطة إلى الإسلام السياسي أو إلى وصاية الجيش فيما بعد.
قامت الأنظمة المستبدة جميعها بمحاولات حثيثة لتقويض التعاون المناوئ لها أو تعطيله أو التحايل عليه، وذلك لأهمية تنظيم التعاون في التحكم بفي الحاضر والمستقبل أولًا، ولأهمية توسيع نطاق المتعاونين وعددهم ثانيًا، ولأهمية جعل التعاون مرنًا وبنّاءً ثالثًا. ومن هنا نجد أن النظام السوري قوّض التعاون بين السوريين؛ لذلك ما زال متفوقًا عليهم ومستمرًا حتى الآن. ففي الصراعات البشرية والثورات كما في التقدم والتحكم، يذهب النصر إلى الذين لديهم قدرة على التعاون المرن البنّاء الواسع النطاق. فعلى مر التاريخ، دحرت الجيوش المنضبطة والمتعاونة بسهولة الجحافل غير المنظمة وغير المتعاونة، وسيطرت النخب الموحدة المتعاونة على الجماهير غير المنظمة وغير المتعاونة. ومن هنا كان ضمانُ عدم التعاون بين الآخرين هو طريق النصر والاستمرار عند منافسيهم. ومن هنا أيضًا كان التنظيم الفاعل القائم على التعاون المرن البنّاء الواسع النطاق ضد التنظيم المختل هو الذي ينتصر في النهاية.
قبل الربيع العربي أُسقط نظام صدام حسين على يد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ولكن السلطة لم تذهب إلى الشعب العراقي بل إلى معارضة نظمتها الولايات المتحدة الأميركية. وأُسقط نظام معمر القذافي بيد المجتمع الدولي بقيادة فرنسا بعد الربيع العربي، ولكن الحرب ما زالت قائمة ولم تذهب السلطة إلى المجلس الانتقالي الليبي. وكذلك أُسقط نظام علي عبدالله صالح وما زالت الحرب قائمة. ومن الجهة الأخرى لم يسقط نظام الأسدين، وعلى الرغم من ذلك لم تزل الحرب قائمة. وفي موجة الربيع العربي الثانية سقط النظامان الجزائري والسوداني ولم تذهب السلطة إلى شعبيهما، بل إلى انقلابات الوصاية العسكرية.

ثانيًا: محاولات تنظيم البديل الديمقراطي بعد الربيع العربي
حاولت المعارضات الوطنيّة الديمقراطيّة بعد الربيع العربي تشكيل شبكات تعاون تتصف بالفاعلية والنطاق الواسع مثل التنسيقيات والمجالس المحلية والمجالس الوطنية وهيئات التنسيق والائتلافات…إلخ، ولكنها كانت عبارة عن تجاوب مع الحدث تكتيكيًا وليس استراتيجيًا، ولم تتصف بالمرونة مع النظام ولا المجتمع الدولي ولا بين بعضها بعضًا. وسيبحث هذ الفصل في مشكلاتها.
المجالس الوطنية والعسكرية في ليبيا وسوريّة
تداخل التنظيمات وكثرتها في سورية
بدأ تنظيم التعاون في سورية بوساطة صفحات فيسبوك أولًا ثم انتقل إلى التنسيقيات ثانيًا. ولكنها انقسمت فورًا إلى؛ “اتحاد تنسيقيات الثورة السورية” وإلى “لجان التنسيق المحلية في سورية”. وظهر تنظيم “الضباط الأحرار” بقيادة الضابط المنشق حسين هرموش ثم “الجيش الحر” بقيادة الضابط المنشق رياض الأسعد، و”المجلس الوطني”، و”هيئة التنسيق الوطنية”، وائتلاف قوى الثورة والمعارضة”…إلخ.
وهي تنظيمات فاعلة وواسعة النطاق، ولكن على الرغم من كثرتها وتداخلها في الأهداف والوظائف والأشخاص وطرق العمل، إلّا أنها لم تنسق جهدها ولم تتوحد في تنظيم واحد بحكم الضرورة. بل على العكس شتتوا جهد السوريين للتحول الديمقراطي. وهذه هي المشكلة نفسها في عدم اتحاد شتات البديل الديمقراطي. وسرعان ما تحولت التنسيقيات والمجالس المحلية إلى رديف للجيش الحر والمجلس الوطني في البداية، ثم ترادفوا على الائتلاف لاحقًا، ثم انهاروا تدريجيًا من جراء حرب النظام وروسيا وإيران عليهم؛ بمعنى فقدوا التعاون الفاعل المرن الواسع النطاق.
المجلس الوطني الانتقالي الليبي والجيش الليبي
تألف المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا بتوافق مجالس البلدية وممثلي المناطق المحررة في 5 نيسان/ أبريل/2011 بقيادة وزير العدل المنشق عن نظام معمر القذافي مصطفى عبد الجليل. ونال اعترافًا دوليًا بالتتابع بوصفه الممثل الشرعي والوحيد لقوى الثورة الليبية. وحدد مهماته فيما يأتي:
ضمان سلامة التراب الوطني والمواطنين.
تنسيق الجهد الوطني لتحرير بقية ربوع الوطن.
تنسيق جهد المجالس المحلية للعمل على عودة الحياة المدنية.
الإشراف على المجلس العسكري بما يضمن تحقيق العقيدة الجديدة للجيش الوطني الليبي في الدفاع عن الشعب وحماية حدود ليبيا.
الإشراف على انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد يطرح للاستفتاء الشعبي.
تشكيل حكومة انتقالية تمهد لإجراء انتخابات حرة.
تسيير وتوجيه السياسة الخارجية وتنظيم العلاقات مع الدول الأخرى والمنظمات الدولية والإقليمية وتمثيل الشعب الليبي أمامها.
اتخذ ثلاثة مواقف؛ فدعا إلى ضربة جوية ضد قوات القذافي ومرتزقته مع رفض نشر قوات أجنبية بذريعة أن الثوار يغطون مساحة واسعة، وعندهم ما يكفي لتحرير البلاد من سلطة القذافي. ورفض عرض القذافي بتخليه عن السلطة في مقابل النجاة بنفسه مع أفراد عائلته وثروته من دون محاكمة. وتعهد باحترام الحقوق الشرعية للشركات الأجنبية العاملة في ليبيا وصون استثماراتهم.
كان المجلس الانتقالي الليبي فاعلًا واسع النطاق، ولكنه لم يكن مرنًا عندما رفض عرض القذافي. فربما استطاع وقتها حفظ الدماء والأموال والأعراض، ومنع انهيار الوضع في ليبيا، كما شهدت الأعوام العشرة على تداعي الوضع كليًا. وكان المجلس استجابة لحظية تكتيكية للثورة من دون عمق استراتيجي، وبمجرد أن تم قتل القذافي فقد المجلس شرعيته، ودخلنا في حرب أهلية إرهابية، حاولت فيها بقايا الجيش بقيادة “حفتر” السيطرة على الوضع ضد الشرعية.
فالتيار الأكثر توحدًا سيكون البديل. “وقد برزت تحالفات ناشئة بين الديمقراطيين، وبضمها الإسلاميين المعتدلين، أثبتت أنها مصممة على تحدي الأنظمة الاستبدادية. وعلى الرغم من القمع الوحشي، ومحاولات زرع التفرقة، فإنّ هذه الحركات تزداد قوة، وهناك كثيرون يحذون حذوها. وفي هذا يكمن مستقبل الوطن العربي”.

رابعًا: انقلابات الوصاية العسكريّة
إن انقلابات الوصاية Guardian العسكرية هي واحدة من أنواع الانقلابات العسكريّة التي يجعل الجيش فيها نفسه وصيًا على الشعب وثورته بوصفه قاصرًا، لتعود وتستقر سلطة الدولة التسلطيّة في يد واحد من قادة هذا الجيش، كما حدث في مصر في الموجة الأولى من الربيع العربي، والسودان والجزائر في الموجة الثانية من الربيع العربي.
وغالبًا ما تعيق هذه الوصاية عملية التحول الديمقراطي والسياسيّ والتوجه إلى الحياة الدستوريّة والبرلمانيّة الناتجة من تفويض الشعب لممثليه؛ أي إنها تعيق حرية التعبير والاعتقاد والانتخاب والتظاهر وحكم الأغلبية وحق محاسبة الحكام، والضمانات الدستورية كتحديد الحقوق والواجبات والصلاحيات، وفصل السلطات والمساواة أمام القانون وسيادة القانون على الحاكم والمحكوم. ويكرس انقلاب الوصاية قيم الجيش؛ فإضافة إلى البيروقراطيّة والانضباط والطاعة والولاء للجماعة والدولة التسلطيّة واحتقار الفردية في الجيش، أي ما يعادي القيم الديمقراطيّة، تجدر الإشارة إلى قيم غير مدنيّة أيضًا مثل احترام القوة بما هي قوة، واحترام التضامن الداخلي بين أفراده، حتى عند ارتكاب جريمة ما، وكذلك الذكورية واحتقار المرأة، والتعامل بلغة الأوامر، والاستخفاف بغير العسكريين من المدنيين والمثقفين.
والسؤال هنا هو، هل تساعد انقلابات الوصاية العسكرية في عملية التحول الديمقراطي؟
سأل خلدون النقيب في كتابة “الدولة التسلطية” أسئلة عديدة لامتحان جدوى وجدارة الانقلابات العسكرية عمومًا، في ظل ما سماه “الأمن الأميركي”، بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها أسئلة ما زالت راهنة لنستلهمها في امتحان جدوى هذا النوع من انقلابات الوصاية العسكرية، وفيما إذا كانت ستصب في التحول الديمقراطي أم لا.
أي كفة كانت مرجحة قبل انقلابات الوصاية العسكرية في مصر والسودان والجزائر؛ كفة البديل الديمقراطي أم كفة الإسلام السياسي؟ بالتأكيد كفة البديل الديمقراطي. وربما يعود السبب لكون نظام البشير/الترابي قدّم نفسه بديلًا إسلاميًا قبل الثورة السودانية لولا انقلاب الجيش عليه. وفي مصر تظاهر الديمقراطيون ضد ممارسة الرئيس محمد مرسي المنتخب والإخوان، وكان النصر حليفهم لولا تدخل انقلاب الوصاية العسكري بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي. وفي الجزائر أيضًا كانت كفة المتظاهرين غالبة لولا انقلاب الوصاية الذي قام به الجنرال قايد صالح. تبدو انقلابات الوصاية لإعاقة عملية التحول الديمقراطي بحجة الأمن القومي والإسلام السياسي والجهادي.
فهل كانت انقلابات الوصاية حتمية وضرورية لمنع البلاد من الدخول في المجهول أم لمنع البديل الديمقراطي من الوصول إلى السلطة؟ ولو لم يحدث انقلاب الوصاية العسكري ماذا كان يمكن أن يحدث؟ هل كان بإمكان البديل الوطني الديمقراطي أن يصل إلى السلطة بعد حسم الصراع لمصلحة الديمقراطية؟ أو لإنقاذ البلاد من حرب أهلية أو من كارثة اقتصادية أو لحل مأزق عملية التنمية؟ ما علاقة انقلابات الوصاية بالدول الكبرى دوليًا وإقليميًا؟ وما علاقة السيسي بالسعودية والإمارات، وغض النظر الأميركي عن اجتياح ساحة رابعة العدوية؟ أو علاقة عوض بن عوف أو خليفته عبد الفتاح البرهان بالسعودية والإمارات وإسرائيل وأميركا؟ أو علاقة أحمد قايد صالح بالدولة العميقة وصراع الأجنحة؟ ما المصالح التي تحافظ عليها انقلابات الوصاية العسكرية؟ طبعًا لا نملك أجوبة عن كل هذه الأسئلة التي تحتاج إلى تفاصيل وبحث تفصيلي. لكن إثارتها ربما تجعلنا نفكر في ما هو غير مفكر فيه.
موجة الربيع العربي الأولى في مصر
مشكلة الإخوان المسلمين في مصر
انحاز الجيش المصري إلى المتظاهرين في البداية. ثم مهد لانتخابات فاز بها الإخوان. لكن مشكلة الإخوان المسلمين تكمن في الالتفاف على المبادئ الديمقراطية. فقالوا بالدولة المدنية أي ليست علمانية ولا عسكرية وأصرّوا على أنّ “الإسلام هو الحل” لا “الديمقراطية هي الحل”. فبعد أنّ وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة في مصر بانتخابات نزيهة وبفارق قليل، سرعان ما فرضوا رؤيتهم على المؤسسات التي من المفترض أنْ تكون للمصريين جميعهم، مثل الجيش والقضاء والدبلوماسية، وتناسوا الدعم الذي قدمه الديمقراطيون لهم في الانتخابات.
انقلاب الوصاية العسكرية في مصر
في 3 تموز/ يوليو 2013 قام وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي بانقلاب الوصاية العسكرية. فوضع الرئيس محمد مرسي في السجن بذريعة تحقيق مطالب المتظاهرين. وعطل العمل بالدستور. وعين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسًا للبلاد.
يرى التيار الديمقراطي بالمعنى البراغماتي وضمن نظرية “صراع الأجنحة”، أنه من الأفضل انحياز الجيش إلى المتظاهرين، بل طالبوا به ورحبوا به إن حصل. لكن بمعنى التحول الديمقراطي وضمن نظرية “الدولة العميقة”، خاف التيار الديمقراطي والمتظاهرون من الجيش وحذروا منه. فمن الأفضل أنْ ينحاز الجيش إلى المطالب الشعبية كما في مصر وتونس. كما من الأفضل أن تحدث انقلابات الوصاية في مصر والجزائر والسودان مقارنة بويلات انقسام الجيش كاليمن وليبيا، أو بويلات هجوم الجيش على المتظاهرين كما في سورية والبحرين.
موجة الربيع العربي الثانية في الجزائر والسودان
انقلاب الوصاية العسكرية في الجزائر.
في 2 نيسان/ أبريل 2019 أنهى رئيس أركان الجيش الجزائري، أحمد قايد صالح، مماطلة الرئيس عبد العزيز بو تفليقة بتنحيته استنادًا إلى تظاهرات شعبية ونصوص دستورية. ثم أجرى انتخابات في كانون الأول/ديسمبر 2019 وفاز فيها عبد المجيد تبون وهو غير عسكري، ولكن الجيش يرضى عنه فقد شغل وزارات عديدة، كما شغل منصب الوزير الأول 2017 أيام بو تفليقة.
ويحمل انقلاب الوصاية في طياته إمكان قيام ثورة مضادة على الشعب الجزائريّ. كما يحمل معنى الوصاية في هذا الانقلاب معنيين:
المعنى الأول، هو وصاية رئيس الأركان أحمد قايد صالح على الشعب الجزائري لعده الشعب قاصرًا.
المعنى الثاني، هو وصايته على الرئيس الجزائري بوصفه مريضًا.
والمفارقة هنا هي أنّ انقلاب الوصاية هذا أتى في حين أثبت الشعب الجزائري في الشوارع والساحات وعلى مدار سبعة أسابيع، أنه شعب راشد لا قاصر، وقد اقترب من تحقيق مطلبه الأساس في عدم ترشح بوتفليقة لولاية خامسة، لتبدأ بعدها عملية التحول الديمقراطي التي ستطال الجيش نفسه لتحالفه مع القوميين المتطرفين، ومع التكنوقراط، وذهابه بعيدًا في الفساد والاحتكار وتمثيل مصالح الرئيس ودعمها.
فلماذا الوصاية على الشعب إذًا؟! وهل سيعود الجيش الجزائري إلى ثكناته مشكورًا؟! وهل على غير العادة سيدعم الجيش الجزائري التحولات الديمقراطية؟! إنّ هذه التساؤلات تستمد مشروعيتها من كونها تأتي في سياق أن رؤساء الجزائر السبعة منذ الاستقلال هم من الجيش، وكان أغلبهم رؤساء أركان كحال أحمد قايد صالح الآن. كما أنّ أغلبية رؤساء الجزائر (ستة منهم) انتهوا على يد الجيش الجزائري غيلة أو تنحية وانقلابًا، وكان الجيش هو الذي قد دعمهم في البداية ليصبحوا رؤساء.
إذًا، يتدخل الجيش ليس خوفًا على عملية الديمقراطية المرتقبة، بل خوفًا منها! وإذ ينال انقلاب الوصاية هذا ترحيبًا جماهيريًا لكسر حالة الجمود وقطع الطريق على تداعي الأمور باتجاه حرب أهليّة على السلطة، فإنه في الوقت ذاته، يؤكد انعدام الثقة بالشعب أساسًا، والنظر إليه نظرة استشراقيّة متعالية تؤكد أن الشعب قاصر، ويحتاج إلى وصيٍّ أو انتداب أو إلى من يقوده أو أنّه لا يستطيع تحمل مسؤولية قيادة نفسه بنفسه.
فالجيش تاريخيًا يرى أن فقدان الأمن والأمان وانعدام الاستقرار لا يأتي من الدولة التسلطيّة التي يشكل هو أحد أهم أركانها، بل يأتي من الشعب والتظاهرات وتعدد الآراء والأحزاب والتنظيمات، فلكي يتحقق الأمن والاستقرار، من منظور الجيش، لا بد من وضع الشعب تحت الوصاية وتعطيل التظاهرات الحاشدة. ثم يقوم بإشاعة أنّ هذه الحريات تنافي الدين الإسلامي، أو أنها مفاهيم غربية إمبريالية ورأسمالية لا تصلح للمجتمع العربي…إلخ. وما هذا إلّا للتأكيد على جهل الشعب، ودس المغرضين بين صفوفه؛ لتبقى الدولة التسلطية ونظام حكمها في مكانة الدولة الاجتماعيّة والشعبيّة والجماهيريّة.
في الواقع، لم تتحدد العلاقات المدنية-العسكرية في الجزائر على الرغم من أنّها تكتسب أهميّة كبيرة. فالظاهرة العسكرتارية ترتبط بظهور الجيش المحترف خلافًا لكل الأشكال التاريخيّة للجيوش من متطوعة ومرتزقة وميلشيا وغيرها. وفي حين يختص الجيش بمسألة الدفاع عن الوطن ضد المحتل الخارجي، ولا يتدخل في الشؤون المدنيّة الداخليّة للبلد في الغرب، نجد أن جيوش المنطقة على العكس من ذلك، تتدخل دائمًا في الشؤون المدنيّة الداخليّة، وتحارب شعبها بدلًا من محاربة العدو الخارجي. وبدلًا من الإجابة عن سؤال ما شكل العلاقات المدنيّة-العسكريّة الذي يتوافق مع نظام ديمقراطيّ؟ نجد الإجابات عن سؤال ما شكل العلاقات المدنيّة-العسكريّة التي تحافظ على الأمن والاستقرار؟ والمشروع هنا يكمن في مطابقة الديمقراطية مع الأمن والاستقرار.
إنّ العلاقات الوصائيّة من الجيش على المدنيين متوافقة مع قيم الأمن والاستقرار، ومع القيم القوميّة والدولة التسلطيّة. ولذلك يبقى الرهان على وعي وإرادة الشعب الجزائري واستفادته من التجارب، في أن يحذر من انقلاب الوصاية، وأن يقيم علاقات مع الجيش تصب في مصلحة التحول الديمقراطيّ.
انقلاب الوصاية العسكرية في السودان.
في 11 نيسان/ أبريل 2019 أعلن وزير الدفاع السوداني عوض بن عوف تحت وطأة التظاهرات السودانية، اعتقال البشير، وفرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وفترة انتقالية لمدة عامين، كما شكل مجلسًا عسكريًا مع ضباط آخرين لإدارة البلاد. وبعد يوم واحد استقال ليعهد برئاسة المجلس العسكري إلى الجنرال عبد الفتاح برهان الذي عاد وشكل المجلس السيادي السوداني في المرحلة الانتقالية وترأسه حتى الآن.
ليس انقلاب الوصاية هنا بالمعنى المألوف للتخلص من الحكم القائم بقدر ما هو مخرج. فقد تعودنا على انقلابات يكون الناس في بيوتهم، وإذ بالمجلس العسكري يصدر البيان رقم واحد. ولكن عندما تكون الساحات مليئة بالقوى والمتظاهرين فإنّ الانقلاب عنده يكون مختلفًا.
في البداية ينظر المتظاهرون بعين الريبة لتدخل الجيش، على الرغم من أن الحسابات البراغماتية تشجع عليه. ولكن استراتيجيًا لم يستبق انقلاب الوصاية مطالب الشعب في التحول إلى الديمقراطية. ويميل الناشطون إلى المراهنة على وعي الشعب، فهل يضمن الوعي عدم تكريس ثورة مضادة للشعب؟ وهل تضمن الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى تعزيز الجيش للتحول الديمقراطي؟
هل أعاقت انقلابات الوصاية العسكرية تحول شعوبها إلى الديمقراطية؟ الإجابة بنعم تأتي من الوقائع في مصر بعد نحو ثماني سنوات على انقلاب الوصاية العسكرية، ومن الوقائع في الجزائر والسودان بعد مرور ثلاث سنوات تقريبًا. اللوحة الكليّة هي إعادة إنتاج الأنظمة القديمة.

خاتمة
الآن، ما إمكان تعاون الديمقراطيين تعاونًا فاعلًا ومرنًا وواسع النطاق لمتابعة التحول الديمقراطي بالتضاد مع ما تبقى من أنظمة لم تسقط، وأخرى صارت تحت وصاية الجيش، وثالثة لم يطلها الربيع العربي؟
عملت أنظمة الاستبداد والفساد على محاصرة البديل الوطني الديمقراطي والتنكيل به قبل الربيع العربي. ولذلك لم يستطع أن يشكل تنظيمًا فاعلًا مرنًا واسع النطاق. ثم أتاحت له ثورات الربيع العربي أنْ يشكل تنظيمات فاعلة ومرنة وواسعة النطاق. ولكن الخذلان الدولي والإقليمي من جهة، والحرب الدولية والإقليمية من جهة أخرى، إضافة إلى بطش الأنظمة وبطش التنظيمات الإرهابية، ونفاق الإسلام السياسي على التحول الديمقراطي، والتفاف الجيش عليه بانقلابات الوصاية من جهة ثالثة، كل هذا حال دون إنجاز مهمة البديل الديمقراطي في التحول الديمقراطي بوصفه استجابة لفحوى الربيع العربي، ومطالب الشعوب العربية في الكرامة والحرية والديمقراطية.
وبعد أن أثبتنا أهمية تنظيم البديل الديمقراطي، علينا مقارنة محاولات البديل الديمقراطي للتنظيم قبل الربيع العربي مع محاولاته بعد الربيع العربي. وسنجد أنّ تنظيم البديل الديمقراطي قبل الربيع العربي كان غير فاعل وغير واسع النطاق، ولكنه يتصف بالمرونة مع الأنظمة والإسلام السياسي؛ المرونة الضرورية للمحافظة على النفس. بينما بعد الربيع العربي صار فاعلًا وواسع النطاق والانتشار، ولكنه غير مرن. رفض “المجلس الانتقالي الليبي” عرض القذافي بالتنازل عن السلطة، وربما لو تعامل بمرونة لكان وضع ليبيا أفضل مما صار عليه فيما بعد. رفض المجلس الوطني السوري بيان جنيف الداعي إلى تأليف هيئة حكم انتقالي، كما رفض “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية” قرار مجلس الأمن 2254 الداعي إلى الحل السياسي، ورفضت التنسيقيات السورية الحوار مع النظام أيضًا، ورفضت هيئة التفاوض تهدئة الأوضاع في الغوطة الشرقية…إلخ، وربما لو أبدت هذه التنظيمات استعدادًا للتفاوض مبكرًا لكان حال سورية مختلفًا عما هو الآن. كما رفض الإخوان المسلمون في مصر بزعامة مرسي التفاوض مع الكتلة الكبيرة المعترضة على أسلمة الدولة والقضاء والجيش والدبلوماسية، حتى تدخل الجيش بانقلاب الوصاية 2014، ووضع مرسي في السجن، وأفرج عن مبارك.
وهكذا، فإن تنظيم التعاون البنّاء المرن الواسع النطاق بين الديمقراطيين له أهداف ثلاثة:
إنتاج البديل الديمقراطي المنافس للأنظمة الحالية.
تمثيل مصلحة الشعوب العربية كما أظهرها الربيع العربي، وليس تمثيلًا لنخبة من نخبه فحسب.
ضمان عدم استمرار الأنظمة بواقعها الحالي والتصدي للبدائل غير الديمقراطية.
وهذا هو التعاون الذي يثبت جدارة الشعوب العربية وكفاءتها ومساواتها لغيرها من الشعوب، وينجز لها حلمها بالتحول الديمقراطي.

المراجع والمصادر
أبي بكر ناجي، إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة، من دون طبعة، (من دون مكان نشر: مركز الدراسات والبحوث الإسلامية، من دون عام نشر).
إبراهيم بدوي وسمير المقدسي (محرران)، تفسير العجز الديمقراطي في الوطن العربي، ترجمة حسن عبدالله بدر، ط1، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2011).
خلدون النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي، ط1، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991).
عبد الله بن محمد، استراتيجية الحرب الإقليمية على أرض الشام، ورقة بحث إلكترونية.
عبداللة بن محمد، المذكرة الاستراتيجية، من دون طبعة، (من دون مكان نشر: مؤسسة المأسدة الإسلامية، 2011).
عزمي بشارة، الجيش والسياسة: إشكاليات نظرية ونماذج عربية، ط1، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017).
فرنسيس فوكوياما، الإسلام والحداثة والربيع العربي، حاوره رضوان زيادة، ترجمة حازم نهار، ط1، (الدار البيضاء: المركز العربي، 2015).
وحدة الدراسات المستقبلية، الثورة والدولة والديمقراطية، تحرير محمد العربي، ط1، (الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2012).
ياسين الحافظ، الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة، ط1، (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1979).
يوسف فخر الدين، همام الخطيب، التوظيف في الصراعات الضدية: “سلطة الأسد” و”تنظيم الدولة الإسلامية” في محافظة السويداء، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، (2020).
يوفال نوح حراراي، الإنسان الإله: تاريخ موجز للغد، ترجمة عمر السعدي، ترجمة غير منشورة. Yuval Noah Harari, Homo Dues.

مشاركة: