حول الربيع العربي في موجته الثانية

أولًا: مقدمة
قبل عقد من الزمن، حين أضرم “البوعزيزي” النار في نفسه، احتجاجًا على واقعه المزري الخالي من أدنى معايير الكرامة والعدالة والحرية، كان يضرم بذلك شعلة الحرية والكرامة في واقع عربي “هشيم” متشابه، فسرعان ما تناقلت شعوب عربية عديدة هذه الشعلة، وتلقفتها بعطش وتوقٍ إلى واقع مغاير يضمن الحريات وحقوق الإنسان والعدالة والمواطنة للأفراد. أضاءت تلك الشعلة وافتتحت مرحلة عربية جديدة عنوانها الأبرز “الشعب يريد إسقاط النظام”. وما إن هرب زين العابدين بن علي، بضغط من حناجر الشارع التونسي، حتى فجّرت بلاد عربية عديدة حراكًا شعبيًا، أو حضّرت لحراك مشابه آت. وما هي إلا أيام قليلة حتى قامت ثورة 25 يناير في مصر، فأطل حسني مبارك معلنًا عن تنحيه عن الرئاسة، بضغط من حناجر الشارع المصري، لتفضي الثورة المصرية إلى فوز محمد مرسي في أول انتخابات ديمقراطية مصرية، ومن ثمّ لينقلب عبد الفتاح السيسي على هذه الديمقراطية، ويقود ثورة مضادة، معيدًا مصر إلى عهد أسوأ من عهد مبارك.
تستمر دائرة الثورات العربية في الاتساع، ويسقط معها القذافي في ليبيا، بضغط السلاح؛ بعد أن تحول الحراك الثوري الشعبي السلمي إلى حراك مسلح، نتيجة حملة العنف التي تعرض لها، لكن الحراك المسلح تبعه التدخل الدولي العسكري المباشر أيضًا. أما ثورة البحرين فقد تم وأدها خليجيًا، بينما استمر الحراك الثوري السلمي في اليمن، وأجبر علي عبد الله صالح على التنحي، لتندلع صراعات دامية بين الحوثيين والحكومة الجديدة، وتزداد جرعة العنف بدخول الإمارات العربية والسعودية وإيران الساحة اليمنية عسكريًا، ويُقتل علي عبد الله صالح. في العراق، تمت تصفية جنين الحراك الثوري إيرانيًا بحجة القضاء على تنظيم “داعش”. أما سورية، أكثر ثورات الربيع العربي دموية، فقد انتصر فيها نظام الأسد على معارضيه، بدعم إيراني وروسي مباشرين.
تمركُز الموجة الأولى من الربيع العربي في البلاد الآنفة الذكر، واكبه حراك شعبي خجول في بلاد عربية أخرى، لكن سرعان ما تم استيعابه من الطغم الحاكمة، كحراك الأردن على سبيل المثال. كما قامت حكومات عربية عديدة بإجراءات احترازية طالت مناحٍ ضيقة من الحياة السياسية والاقتصادية، بغية تخفيف الغليان الشعبي الحاصل، وتقليل التأثر بالثورات القائمة، مثل ما حدث في المملكة المغربية.
مآلات الموجة الأولى من الربيع العربي، وحصائلها، لم تكن ضمن المأمول، كما كانت بعيدة كل البعد عن تصورات أو توقعات الشارع الثائر ذاته. فمن هذه الثورات ما قوبلت بثورات مضادة أعادت إنتاج الأنظمة البائدة، ومنها ما دخلت في اقتتال داخلي، ومنها ما سيطر عليها الإسلام السياسي فتحولت إلى عقبة جديدة تضاف إلى عقبة الأنظمة القائمة، ومنها ما أصبحت ضحية تدخلات إقليمية ودولية. في الحصيلة؛ هُزمت الموجة الأولى من الربيع العربي، وساد شعور عام يخلط بين الهزيمة والفشل من جهة، وإنكار الهزيمة من جهة أخرى، وتنامى حس عام بعدم جدوى الثورات، خصوصًا مع ارتفاع تكاليف إزالة الأنظمة المُثار عليها، ونتيجة ذلك، أصبح الربيع العربي يُنعت بالخريف العربي، كما جرى تقييم الشارع العربي بأنه دون مستوى الثورات، وليس أفضل حالًا من حاكميه.
عانى هذا الشارع بطش الطغم، وتواطؤ المجتمع الدولي، كما عانى انحرافه الذاتي عن الخط الإنساني التقدمي للثورة، حيث خاض خلال ثوراته إرهاصات واقتتالات دموية ذاتية، يقبع مسببها الرئيس في عمق ثقافتنا السائدة، ليسود بعد ذلك كله شعور عام بالخذلان ممزوجًا بعار الهزيمة.

ثانيًا: موجة الربيع العربي الثانية، أهميتها وفضائلها
كانت انطلاقة الربيع العربي نتيجة واقع مفرط الفساد ومشبع باستبداد استمر لعقود عديدة، لم تنجز خلالها الطغم الحاكمة إلا البطالة، وكم الأفواه، وتردي جميع مناحي الحياة، الاقتصادية والثقافية والسياسية، ما عمّق تهميش الشبان، ووصولهم إلى حالة إحباط كلي. إن استمرار هذه الأوضاع في باقي البلاد العربية، جعل إمكانية نشوء موجة جديدة من الربيع العربي قائمة وواردة، وهذا ما حدث بعد ثماني سنوات من انطلاقة الموجة الأولى، وأُطلق عليها تسمية “الموجة الثانية من الربيع العربي”. ففي 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018، انطلقت الثورة السودانية ضد عمر البشير، وتدخل الجيش وعزل البشير واعتقله، لتتبعها ثورة الجزائر في 22 شباط/ فبراير 2019 التي جاءت رفضًا لترشح بوتفليقة لعهدة خامسة، وتم إجباره على التنحي. ثم قامت ثورة العراق في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وأجبرت رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي المسؤول الأول عن مقتل أكثر من 700 متظاهر، على الاستقالة. ودمرت وأحرقت مكاتب المليشيات المتنفذة، خصوصًا في النجف وكربلاء والناصرية والبصرة، كما حاول بعض السياسيين من النواب، أو قادة الكتل، ركوب موجة التظاهرات والتظاهر بتبنّيها، لكن تنسيقيات التظاهرات رفضتهم. لتعقبها الثورة اللبنانية في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 التي بدأت احتجاجًا على الضرائب المتزايدة على الوقود والتبغ والإنترنت، ليرتفع سقف المطالبات والاحتجاجات، ويستهدف إسقاط النظام الطائفي السياسي الذي حكم لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية في بداية تسعينيات القرن المنصرم.
بعد سقوط البشير وتنحي بوتفليقة، دخلت الموجة الثانية في حالة ركود، حالها حال العالم كله، فقد اجتاح وباء كورونا العالم، وأجبره على اتخاذ إجراءات وقائية حالت دون التجمعات والتجمهر. أتى وباء كورونا بشعار التباعد الاجتماعي بدلًا من التباعد الفيزيائي، فحكم على العالم، وعلى ثورات الموجة الثانية من الربيع العربي، بدءًا من نيسان/ أبريل 2020، بحظر تجول طويل الأمد، ما أعاق مسارات هذه الموجة. فالزمن الفعلي الذي عاشته هذه الموجة، أي منذ انطلاقتها إلى انتشار وباء كورونا، يُقدر بسنة واحدة، وعلى الرغم من ذلك، فقد ظهرت أهمية هذه الموجة، كما اختصت بخصال نوعية متفردة.
مما لا شك فيه، أن الموجة الثانية للربيع العربي، كانت أقل دموية بما لا يُقاس من الموجة الأولى، وعلى الرغم من قصرها الزمني نسبيًا، وكونها لم تُمتحن عنفيًا؛ إلا أنها قد عبّرت عن ثلاث نقاط أساس في هذا الربيع. الأولى؛ عبّرت عن الحقيقة الثورية لهذا الحراك، أي إنها جسّدت جوهر المنطق التاريخي لمفهوم الثورة، بوصفها سيرورة تاريخية. فالموجة الأولى للربيع العربي، لم تكن “هبّة” منفلتة من شروط وأوضاع واقعها ومنطوقها التاريخي، وليست سياقًا عبثيًا، بل حركة مستمرة، تملك إرادة التغيير، ولها من وضوح الأسباب والمقدمات، ما حملها بإصرار على الانتقال إلى خطوتها الثانية مستكملة النضال نحو تحقيق رؤاها وتصوراتها في الحرية والكرامة والعدالة والمواطنة.
النقطة الثانية، وهي ما دحضته هذه الموجة من “يأس” خيّم على الشارع العربي، نتيجة مآلات الموجة الأولى، وضربت بعرض الحائط كل المنهجيات الرامية إلى تكريس الإحباط، ووسم الشبان العرب بالفشل. فقد أعلنت الموجة الثانية، أول ما أعلنته، عن عظمة هذا الحدث وأصالته من جهة، وعن فشل كل الأساليب الهمجية والإجرامية التي مورست من الطغم الحاكمة بتواطؤ من المجتمع الدولي في سبيل وأد هذا الربيع من جهة أخرى، كما دحضت ونقضت نظرية المؤامرة التي حاولت أجندات إعلامية موالية للأنظمة القائمة إلصاقها بالمحتجين وثوار الربيع العربي. كما نبّهت أصحاب المعتقد القائل بانتصار الثورات المضادة إلى أن المسار النهائي للثورات لم يُحسم بعد، كما أكدت انطلاقة الموجة الثانية حيوية الشارع العربي وعنفوان شبانه، إضافة إلى تأكيد احتمالية حدوث موجات أخرى، ثالثة ورابعة..إلخ.
النقطة الثالثة، تمثلت بما عبرت عنه الموجة الثانية من مسارات تقدمية، على صعيدي الخطاب والممارسة، وهذه النقطة هي ما يمكننا تسميتها بـ “التمايزات الإيجابية لموجة الربيع العربي الثانية”، أو “فضائل الموجة الثانية”.

ثالثًا: فضائل الموجة الثانية للربيع العربي على المستوى الذاتي
تتكثف في مسألتين مركزيتين؛ الأولى تعبيرها عن تراكم تجارب الموجة الأولى واستيعابها. والثانية، في تأصيل وترسيخ مرجعية الموجات اللاحقة في إطار الوعي الوطني. وتجلى ذلك بما عبّرت عنه في جوانب عديدةٍ، أهمها:
نبذ الواقع المتشظي ولفظه؛ فقد أكد حراك الموجة الثانية أهمية الوطنية، رافضًا أي اعتراف بما دونها، فقد رُفعت شعارات “العلمانية” إلى جانب شعارات “لا للطائفية”، كما خلت ساحات المتظاهرين من أي مظاهر دينية أو مناطقية أو حزبية جهوية أو فئوية.
فلبنان مثلًا، بلد معروف بنظام المحاصصات الطائفية الذي تسيّد الحياة السياسية والاجتماعية في نهاية الحرب الأهلية اللبنانية استنادًا إلى “اتفاق الطائف”، لكنه على الرغم من ذلك خرج في ثورة شعارها الأوحد “كلن يعني كلن”، داعيًا إلى إسقاط النظام الطائفي بشخوصه ومؤسساته وقواه. وكما هو حال شعارهم؛ لم يستثنِ الثائرون اللبنانيون أحدًا من تلك “الزعامات”، بل لم يُفوتوا فرصة لتأكيد البعد الوطني لثورتهم وإجماعهم عليه، كما رفضوا في ساحات التظاهر أي محاولة، من أي “زعيم” لأي طائفة بالتودد للشارع المنتفض أو التقرب منه. فجسّدوا بذلك حقيقة خلعهم ثوب الطائفية والمناطقية. أَرغمت الثورة اللبنانية في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 سعد الحريري على تقديم استقالة حكومته التي تضم “حزب الله” و”حركة أمل” مع قوى أخرى. أما “حزب الله” المعروف بسيطرة سلاحه على مفاصل الحياة في لبنان، فقد “وجد نفسه في وضع جديد مربك في مواجهة الشعب اللبناني. فأنهى نصرالله خطابه الذي “تساهل” فيه مع التظاهرات و”تفهمها” بتهديد اللبنانيين، داعيًا اللبنانيين إلى العودة إلى بيوتهم وانتظار الإصلاحات بعد أن أبدوا رأيهم، وإلا فإنه سينزل إلى الساحات (يعني احتلالها) ولن يخرج منها. وهذا ما ضاعف حركة الاحتجاج.
وفي العراق، المُنهك من جرّاء طبقته السياسية الطائفية الفاسدة، كان الشعار الرئيس لتظاهراته “نريد وطنًا”، وهو تكثيف لخطاب عراقي ينبذ الطائفية، ويتبنى العلمانية والوطنية. فلم تعد الخطابات الطائفية الشعبوية التحريضية تجدي نفعًا مع عراق الثورة، خاصة الخطابات التي تصدر من رجالات دين “سنّة” و”شيعة”، يتزعمون الميليشات، ويدعمون سياسيين يتغذون على الطائفية.
على الرغم مما واجهته الموجة الثانية من عنف نسبي، إلا أنها حافظت على سلميتها، وعلى شعاراتها الوطنية الأصيلة، ولم نشهد أي انزياحٍ لها عن خطها الإنساني التقدمي. في المقابل، في الموجة الأولى، كان النضال السلمي خيارًا مؤقتًا (كما في ليبيا وسورية) سرعان ما تحول إلى صراع مسلح بضغط من العنف الدموي الموجه من نظامي هذين البلدين.
في العراق، على سبيل المثال، حاولت “قوى الملالي” وممثلوها الذين قرؤوا في حراك الشارع العراقي الثائر دعوة جدية وفاعلة إلى الاستقلال والسيادة العراقية، أن يجروا الحراك إلى التسلح عبر تطبيق سياسات عنيفة، من تفجيرات واغتيالات وملاحقات لأبرز ناشطات وناشطي الحراك، إلا أن الشارع تمسك بسلميته وصانها، مركّزًا، على الهوية العراقية، ومعلنًا عن ذلك عبر هتافاته، “إيران برا برا.. بغداد تبقى حرة”، “هذا العراقي آني.. يا قاسم سليماني”، “لا طائفية ولا حصص.. الشعب مو صبره خلاص”.
مسألة التكاتف الذاتي والإيمان به، فلم نسمع أصوتًا طالبت بتدخلات خارجية. إن كنا قد شاهدنا خلال الموجة الأولى للربيع العربي، مطالبات بتدخل خارجي (كما في سورية)، أو بحصوله نتيجة تلك المطالبات (كما في ليبيا)، فإن الموجة الثانية، لم تبادر إلى ذاك إطلاقًا، بحكم وعيها لخطورة وكارثية ذلك التدخل الذي ساق الدول المُتدَخل فيها عن طريق دولي أو إقليمي مباشر أو عن طريق التسليح، إلى ساحة الدول الفاشلة، كما في ليبيا وسورية واليمن.
انطلاقًا من مقولة “الوعي أساس التغيير” يبدو أن الشارع العربي، وعبر وعيه لكوارث الاستبداد، واستلهامًا من الموجة الأولى، قد قرر بوعيه الجمعي القطيعة مع تلك الأنظمة الشمولية والطغم الفاسدة، وأن مسألة إغلاق ملف أنظمة الاستبداد والفساد قد بدأت، ولن تنتهي إلا بانتهاء تلك الأنظمة، وقد طالت الموجة الثانية بنضالها ليس الأنظمة السياسية القائمة فحسب، بل بُناها، وفكرها، وثقافتها أيضًا.
إن ثورات الربيع العربي فعلت فعلها على مستوى الوعي، وعلى مستوى التغيير الواقعي، فالخطوة التي تبدأ لقطع الألف ميل قد خطاها الربيع العربي الذي يمثل مدخلًا للتغيير السياسي، فالتغيير السياسي في حاجة إلى سنوات مديدة كي يُنجز، وعلى الصعيد التاريخي، لا تعدّ عشرة أعوام أو عشرون عامًا مدة طويلة، وقياسًا بمدة “عقد” على الثورات، فمن الموضوعي القول إن الأوضاع الراهنة ليست مثالية، ولكنها لن تعود إلى ما كانت عليه قبل الربيع العربي. فمسارات الشعوب، تاريخيًا، مسارات متعرجة، ومعقدة، ومرتبكة، ولكنها تراكمية أيضًا. ولا سيما أن الأنظمة والطغم العربية الحاكمة التي يواجهها الربيع العربي، ذات سلطات متجذرة في الحكم لأكثر من نصف قرن، ولن تتنازل عن سلطتها بسهولة، إضافة إلى أن معسكر الثورات المضادة لم يوفر جهدًا لإجهاض ثورات الربيع، ولم يتوقف عن إفساد منجزاته، وهذان الأمران يوضحان، بشكل جلي، الأمد الطويل لمرحلة الثورات العربية، وتعدد موجاته. وهذا ما أفضى إلى فضيلة إضافية للموجة الثانية؛ تتمثل باستمرار استشعار الأنظمة القائمة لخطر يستهدف وجودها.
تصدر النساء الصفوف الأولى في الحراك الشعبي؛ لم تخلُ موجة الربيع الأولى من مشاركة نسائية متفاوتة في ساحات نضالها، فقد شاركن في حقول الثورة المختلفة؛ الميداني والطبي والسياسي والإعلامي وغيرها، وأبرزت الموجة الأولى العديد من الثائرات والناشطات اللواتي أصبحن أيقونات ثورية. كما تعرضت النساء للاعتقال والتنكيل والملاحقة والتعذيب والقتل، حالهن كحال كل فئات الشارع الثائر، إذ لم تفرّق آلة قمع الأنظمة القائمة بين رجال ونساء وأطفال ومسنين. في الموجة الثانية، يمكننا إضافة عاملين مهمين في هذا الإطار، هما كثافة المشاركة في الفاعليات الثورية، والكثافة النسبية في قيادتها. وإن خير تمثيل للمرأة ودورها الوازن في الموجة الثانية، هو ما مثلته مشاركة المرأة السودانية. تقول الكاتبة إسراء الشاهر في صحيفة إندبندنت عن تاريخية نضال المرأة السودانية، ودورها في الثورة ضد البشير: “في عام 1996، صدر قانون قضت المادة 152 منه بضرب النساء إذا ارتدين ملابس فاضحة من دون توضيح ماهية تلك الملابس التي راح يحدِّدها رجل الشرطة وفق (مزاجه). وحُرمت من ممارسة النشاط السياسي بصورة طبيعية بضغط من الجانبين (الأهل والحكومة)، حيث كان رائجًا اعتقال الناشطات السياسيات فترات طويلة، وتعذيبهنّ وحرمانهنّ من الدراسة، وفصلهنّ من الجامعات الحكومية، وغيرها من أساليب الضغط لمنع النساء من حقهنّ في التعبير، لأنهنّ يلهبن الشارع دائمًا، ويقمن بأدوار تُحقق نجاحات ثورية. بانطلاق ثورة ديسمبر، شكلت النساء الأغلبية العظمى في التظاهرات حتى وصلت أعدادهنّ إلى 70 في المئة بمختلف مستوياتهنّ التعليمية والاجتماعية. وقد تعرضن خلال فترة الثورة لأساليب قمع قاسية، فتم اعتقال آلاف الفتيات وحلاقة شعرهنّ وإدخالهن السجون فترات طويلة، وجلدهنّ ووسم أجسادهنّ بآلات حادة، وتمزيق ملابسهنّ وحتى اغتصابهنّ. توجد نماذج لفتيات كان لهنّ دور عظيم في الثورة في مجالات مختلفة، تم الاحتفاء بهنّ، وأصبحن شخصيات ملهمة في المجتمع السوداني. آلاء صلاح، وهي طالبة جامعية، ارتدت ثوبًا سودانيًا أبيض اللون، وهو زي يُعبر عن هوية المرأة السودانية، كانت ترتديه الطالبات والموظفات زيًا رسميًا. قدمت صلاح هتافًا ثوريًا يعبر عن المرأة السودانية (الكنداكة) من داخل ميدان الاعتصام، صُوِّر وانتشر ليصل إلى أنحاء العالم كلها. ومن خلاله تم التعرف إلى المرأة السودانية التي تعبر عن مطالبها داخل ميدان يُهدد فيه الناس بالقتل والقنص بالرصاص. وهناك صحافيات تعرضّن للقمع والتهديد المستمر والفصل من العمل في أثناء الاحتجاجات. فمثلًا، تعرضت لينا يعقوب، مراسلة قناة العربية، لتمزيق قميصها من أفراد الأمن في أثناء تغطيتها موكبًا يطالب بإسقاط البشير، بينما تعرضت يسرا الباقر، مراسلة القناة الرابعة البريطانية، لتهديد صريح من جهاز الأمن بتوجيه تهمة التحريض على الكراهية ضد الدولة، وتصل عقوبتها إلى الإعدام، ما أجبرها على مغادرة السودان. أما نبأ محي الدين، مراسلة “صوت أميركا”، فقد واجهت مضايقات من جهاز الأمن السوداني وتهديدًا مستمرًا بالإيقاف عن العمل وسحب بطاقتها وملاحقتها بوساطة أفراد يتبعون للأمن. والقائمة تطول. لم يكتفِ النظام السابق بقتل المحتجين، بل مارس حصارًا وضغطًا كبيرين على أمهات الشهداء، اللواتي كنّ من أبرز المساهمات في نجاح الثورة. فقد طالبن بإسقاط النظام ولم يتنازلن عن مطلبهنّ الأساس الذي هو القصاص، وكانت منازلهنّ نقطة انطلاق دائمة للمتظاهرين الذين يبثون لهنّ من وقت إلى آخر الطمأنينة بقرب سقوط النظام الذي قتل أبناءهنّ. كانت المرأة السودانية ركيزة أساس في اعتصام القيادة العامة للجيش السوداني، حيث شاركن في إعداد الطعام وتنظيم الندوات التثقيفية والتنويرية، وحتى المبيت في ساحة الاعتصام لضمان استمراريته ونجاحه. كل هذا التفاني قوبل بتقدير من الحكومة الجديدة، فكانت المرأة حاضرة في مجلسي الوزراء (أربع وزيرات) والسيادة الذي ضم سيدتين، هما عائشة موسى السعيد ورجاء نيقولا. وتقلدت مولانا نعمات عبدالله رئاسة القضاء، وهي أول امرأة تتولى المنصب في العالم العربي وأفريقيا. وقد سعت الوزيرات لتمكين النساء في العمل السياسي والاجتماعي وتأكيد حقوقهنّ والعمل على تقديم الفرص لهنّ، حيث تم إطلاق دوري كرة قدم السيدات بصورة رسمية عبر وزيرة الشباب والرياضة، وإلغاء قانون النظام العام. وعملت وزيرة العمل لينة الشيخ على إطلاق مشروعات مختلفة لمساعدة النساء، خصوصًا في مناطق النزاع.
لعل أحد أهم الجوانب الذاتية للموجة الثانية هو انتفاضها في وجه الإسلام السياسي ومناهضته، فثلاثةٌ من الأنظمة المُثار عليها خلال هذه الموجة، تنتمي إلى الإسلام السياسي، كما في السودان ولبنان والعراق. كما تجلت هذه المناهضة، من خلال ما طرحه شارع الموجة الثانية من أهداف ومطالب وهتافات وشعارات ذات بعد وطني. ليكون الانتقال من ضيق الطائفة إلى آفاق الوطنية، بمنزلة البوصلة والموجّه، وهو ما يفسر عدم الارتهان لمشاريع أو أجندات إقليمية حاولت التودد للشارع الثائر أو الالتفاف عليه. وإذا ما أقرينا بركوب الإسلام السياسي لثورات عديدة في الموجة الأولى، فإننا سنقرُّ بقدرة الموجة الثانية على وعي هذه الحالة من جهة، وعلى مدى حيويتها في تصحيح وتصويب ومراكمة مسارات الموجة الأولى من جهة ثانية.

رابعًا: فضائل الموجة الثانية للربيع العربي على المستوى الموضوعي
تتكثف في استكمال تعرية الواقع الذي أنتجته الطغم الحاكمة وذيولها، فقد وسّعت هذه الموجة مساحة كشف زيف خطابات وممارسات مدّعي “المقاومة والممانعة”، كما زادت من تعرية الدور الإيراني المعادي للشارع العربي وطموحاته، فقد وصلت المساحة المكشوفة حدود “جمهورها” أو “حاضنتها الشعبية”، فـأغلبية “شيعة” لبنان كانوا السبّاقين إلى الساحات، كما هو حال أغلبية “شيعة” العراق، الذين أعلنوا انضمامهم إلى ثورة بلدهم ضد فساد واستبداد رجالات السياسة العراقيين وتبعيتهم لملالي إيران، وليقف الشارع العراقي واللبناني بأطيافه كافة متكاتفًا ومطالبًا بحقوقه المشروعة. كما نجحت الموجة الثانية في كسر “القدسية” التي طوق زعماء الطوائف أنفسهم بها، مبشّرة بأفول أصنام الطائفية، والطائفية ذاتها معهم، وبدء مرحلة جديدة تمتاز بمدنيتها ووطنيتها.
إضافة إلى ذلك؛ كشف وعي حراك “الموجة الثانية” عن “بروباغندا” الإعلام العربي، الرسمي وغير الرسمي الذي حاول عبثًا بث روح الكراهية والبغضاء والتفرقة ضمن صفوف الشارع العربي، داخل البلد الواحد أو بين بلدين، فقد صنّع ذلك الإعلام وهوّل وصدّر ما بات يُعرف بـ “العنصرية اللبنانية” و”الصراع السني الشيعي” و”عراق قاسم سليماني”، وهذا ما دحضته ثورات هذه البلاد، فقد امتلأت ساحات التظاهر اللبنانية بلافتات وهتافات تعبر عن تضامن واسع مع السوريين والفلسطينيين. ولم تخلُ الساحات العراقية من رفض وتحقير لإيران الملالي و”منتجاتها” الفاسدة. وفي الجزائر، فضح حراكها الثوري ما حاكه النظام الحاكم من بث لروح التفرقة بين العرب والأمازيغ.
لا يمكن لمتتبع مسار الموجة الثانية، أن يتجاهل البُعد العروبي فيها، ولا نعني هنا بعدًا أيديولوجيًا قوميًا للعروبة، بل بعدًا حيويًا لها، وهذا ما أفصحت عنه حالة التضامن العربي التي عبّرت عنها أغلبية الشارع العربي عمومًا، وما عبّرت عنه ساحات الموجة الثانية خاصة، فكثيرًا ما رأينا لافتات تضامنية، أو هتافات معبرة عن “وحدة الحال” بين الثورات، ففي الجزائر رأينا تضامنًا مع لبنان والسودان، وفي السودان تضامنًا مع الجزائر والعراق، وفي العراق تضامنًا مع سورية ولبنان، وهكذا.
لقد عمل الربيع العربي خلال موجتيه، الأولى والثانية، كأداة فرز في قطاع الوعي الجمعي العربي، نتج عنها ذاك الانقسام/التصنيف الرئيس في المجتمعات العربية، فقبل الربيع العربي، كان التشظي الهوياتي والعقائدي والأيديولوجي التقليدي، هو المعبر السائد عن الانقسامات والشروخ الأفقية والعمودية الحاصلة داخل المجتمعات العربية، فركائز هذه الانقسامات كانت قائمة على أسس “ما قبل وطنية” أي على أسس طائفية وعشائرية ومذهبية ودينية وإثنية، وهذا الواقع هو ما أنتجه الاستبداد ودأب في المحافظة عليه، شاركه في ذلك تأخر البنى المجتمعية العربية ولبسها لبوسات تقليدية، أما بعد الربيع العربي، فقد ارتقت تلك الانقسامات تبعًا لمعايير الدولة الوطنية الحديثة وأسسها؛ ما بين مناضل في سبيلها، ومناهض لها. فالتصنيف اليوم هو بين وطني حداثي، وما قبل وطني وتقليدوي. وإذا ما كان الفضل للموجة الأولى من الربيع العربي في إعادة اكتشاف قيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني ومفهوم الدولة الحديثة، فإن للموجة الثانية منه الفضل في بلورتها وتجسيدها نسبيًا، وإن كان هذا التجسيد لم يصل بعد إلى المستوى السياسي، إلا أن لسان حال الشارع المنتفض ومؤيديه يمثل ذاك التجسيد، لتبقى مسألة تجسيده سياسيًا مسألة وقت.
إن تآكل ثقافتي الخوف والخنوع يعني احتمالية حدوث موجة ثالثة، قد تكون بلادها وأزمانها غير معروفة، إلا أن الشيء الوحيد المعروف والمؤكد، هو أن روح الربيع العربي ستبقى تحوم فوق البلاد العربية وفوق رؤوس الطغم الحاكمة، تنتظر وضعًا مواتيًا في بلد، أو شرطًا ناضجًا في بلد آخر لتحل به وتسكنه. وإذا ما اتفقنا على أن مسار الربيع العربي يأخذ صفات تصاعدية تراكمية، فإننا بذلك نقرّ بأن الموجة الثالثة، أو بتعبير أدق، خصائص الموجات التالية ستكون أكثر نزوعًا إلى القطع مع الوعي المحلي التقليدي، وأكثر التصاقًا بقيم الحداثة، ومعاييرها.
إن كل حركة ذات نزعة تغييرية تقدمية، نهضوية، لها بوصلتها في الوعي الجمعي، ويمكن إدراك ملامح هذه البوصلة أو بعض ماهيتها، من خلال ما ترفعه من مطالب، وتنادي به من شعارات، ومن خلال سلوكاتها في أثناء حراكها. وإذا ما تناولنا ما تم في هذا الإطار خلال الموجة الثانية، فإننا سنرى: حرية التعبير، وحقوق الإنسان بشقيها المدنية والسياسية، والعدالة، والمواطنة، والديمقراطية، وغيرها من قيم الحداثة. إذًا فالربيع العربي ذو نزعة حداثية، عفوية أو غير عفوية، وقد عُبّر عن ذلك بلسان أهله، وبإرادتهم. ومهما يكن توصيف المنتمين إلى الربيع العربي، من ثوار أو ناشطين أو مؤيدين له، فإن التعبير الأكثر التصاقًا بهم والمعبر عنهم هو مصطلح الحداثيين، ليكون في المقابل، التعبير الأكثر التصاقًا وتعبيرًا لمناهضي الربيع العربي، هو مصطلح التقليديين. لقد أوضحت الموجة الثانية من الربيع العربي أكثر من الموجة الأولى، مدى انتماء الربيع العربي إلى الحداثة ووقوفه في وجه التقليد والتقليدوية. وإن جزءًا أساسًا من الصراع البيني داخل ثورات الموجة الأولى، كان أحد أبعاد هذا الصراع، فقد كان في الموجة الأولى ثوار، لكن قسمًا كبيرًا منهم كانوا من ذوي النزعة التقليدية، وهذا ما لم نشهده في الموجة الثانية. ومن هذا المنطلق، فإن الوعي المحلي التقليدي يجري تجاوزه، أو في الأحرى، يجري هجره، مقابل تنامي وعي حداثي، ولكن على الرغم من أهميته، يبقى عفويًا.
مما أُخذ على ثورات الموجة الأولى من الربيع العربي من العديد من المُنظرين، أن الثورة، كي تكون ثورة، وكي تحدث تغييرها المنشود، عليها أن تستند إلى فكر تقدمي، أي تأثُر الثورة بأفكار تقدمية، تثور بسببها ومن أجلها، وتعيد إنتاجها. وقد استقوى أصحاب هذا الرأي بأمثلة تاريخية لعل أهمها الثورة الأمريكية 1775-1783، والثورة الفرنسية 1789، فهاتان الثورتان تأثرتا بمفكري وفلاسفة عصر التنوير، من أمثال فولتير، المُدافع عن “الإصلاح الاجتماعي” والمنتقد لدوغمائيات الكنيسة الكاثوليكية. كذلك جان جاك روسو صاحب كتاب “العقد الاجتماعي” وغيرهما. ولا سيما أن ثورات الربيع العربي ليست ثورات جوع، أو ثورات خبز، بل ثورات نتجت عن واقع تغيب فيه مفاهيم إنسانية أصيلة، كالحرية والكرامة والعدالة وغيرها. وما يحملنا على التساؤل حول مدى معرفتنا بهذه المفاهيم معرفة حقة، هو ما شاب الموجة الأولى من اختراقات لها، فكم من مدعٍ قبول الآخر، تطيف وتمترس حول هويته المتأخرة، وانتهك حقوق الإنسان/ الآخر، وكم من مدعٍ الديمقراطية لم يوفر فرصة سانحة لاعتقال خصومه أو تصفيتهم. وكم من مدعٍ المواطنة يصنّف الناس بحسب طائفتهم أو مناطقهم. والأهم من ذلك، ألم تكن هذه العفوية التي قبعت وراء تلك الإدعاءات هي أحد أهم نقاط ضعف الموجة الأولى، وأحد الأسباب الرئيسة لانهزامها؟!
يقول المفكر ياسين الحافظ: “إن شعبًا يعي مغزى تجربته لا يمكن، على المدى الطويل، أن يُغلب. بل سيجعل من الهزيمة محركًا نضاليًا، عبر عملية مراجعة نقدية وجذرية لتجربته الماضية، تتيح شق طريق جديدة للثورة العربية”. فالأهمية على هذا الصعيد تتوجه إلى خروج معرفتنا بوصفنا نخبًا ومثقفين وثائرين، من إطارها العفوي ووضعها ضمن إطار تأصيلي لها، عبر شحذ معرفتنا بتناول مفاهيم الحداثة، وعن طريق نقد وعينا التقليدي، الذي أغرق بلادنا بما هي فيه من تأخر، وأنتج أوضاعًا رديئة استدعت ثورات هذا الربيع.

خامسًا: خاتمة
تتجلى الفضيلة الأعظم لموجة الربيع العربي الثانية -في اعتقادي- في استمرارية الربيع ذاته، فقد اخترقت هذه الموجة، شعور اليأس الذي اعترى الشارع العربي بُعيد الموجة الأولى وما رافقها من موت ودمار وكوارث، وثورات مضادة. فالموجة الثانية، كانت بمنزلة إحياء أمل ثورات الموجة الأولى من جهة، وامتدادًا لها وتصحيحًا لأخطائها وتقدمها نحو الحداثة من جهة أخرى. تؤكد موجة الربيع العربي الثانية بذلك، على المنطق التاريخي للربيع العربي، بوصفه سياقًا وصيرورة وديموية لن تتوقف إلا بتحقيق مطالبه المحقة، والنهوض بواقعه. ومهما كان “سيناريو” سياق الموجة الثانية للربيع العربي، ومهما كانت أدوات ووسائل أعدائها في قمعها أو تحريفها، فلن يغير هذا من حقيقة انطلاقتها الحداثية، فالوعي المرافق لها هو الوازن، ولا تعويل إلا عليه.

  • كاتبة سورية، تخرجت في كلية الإعلام بدمشق عام 2010، مهتمة بقضايا الحريات والديمقراطية.

مشاركة: