اليسار المتشظي أمام الثورات

إن تفاوت مواقف اليساريين، أفرادًا وأحزابًا، من قضايا جوهرية تواجههم، ليس شيئًا استثنائيًا، إذ توجد دومًا مروحة واسعة من الآراء المتباينة التي تعبر عن تعدد وتناقض مواقفهم في المنعطفات التاريخية التي تواجه بلدانهم أو العالم.
ولعلّ المثال الأبرز الذي يعبِّر عن انقسامهم تاريخيًا هو الانقسام الذي جرى خلال الحرب العالمية الأولى بين أولئك “الانتهازيين” من جهة، الذين بشكل أو بآخر ساندوا حروب حكومات بلدانهم الرأسمالية، و”الثوريين”، من جهة أخرى، الذين دعوا إلى تحويل هذه الحرب بين الضواري الإمبريالية إلى ثورات اجتماعية وإلى تضامن البروليتاريا في كل البلدان المتحاربة.
بيد أن اليسار في العقد الأخير، على الأقل، قد ازداد تشرذمًا وتخبطًا في مواقفه. ونعتقد أن حدثًا كبيرًا هو ما فاقم التشوش اليساري المرتبط عضويًا بالتحولات التي جرت في الاتحاد السوفياتي بعد انتصار ثورة أكتوبر 1917 بسنوات، حيث سيطرت بيروقراطية الحزب على السلطة، وقامت فعليًا بثورة مضادة على السلطة العمالية التي تمخضت عنها الثورة الروسية. ويلي ذلك، في الأربعينيات من القرن الماضي، تشكيل بلدان الكتلة الشرقية في أوروبا، في إثر الحرب العالمية الثانية، بفضل تدخل الجيوش السوفياتية وإقامتها أنظمة “اشتراكية”، وهكذا حولت الدعاية السوفياتية روسيا إلى الوطن “الأم” للاشتراكية، وصار حلف وارسو “المعسكر الاشتراكي”، ومارست الدولة السوفياتية سطوتها سياسيًا وأيديولوجيًا على اليسار عالميًا.
إن أغلبية الأحزاب الشيوعية الرسمية، وتلك القومية التي كانت تعرف نفسها بالاشتراكية، وقفت إلى جانب “المعسكر الاشتراكي” حتى انهيار الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية في التسعينيات من القرن الماضي. كل ما كان يفعله هذا المعسكر في سياساته الداخلية والخارجية كانت تنظر إليه هذه القوى المذكورة بوصفه السياسات الصحيحة والماركسية الحقة. وهكذا تحولت إلى ملحق تابع يخدم ويبرر سياسات “المعسكر الاشتراكي” في كل الفظاعات التي قام بها: غزو هنغاريا، والقضاء على الثورة المجرية عام 1956، وغزو تشيكوسلوفاكيا عام 1986، وغزو أفغانستان 1979، وقائمة طويلة من التدخلات العسكرية في العالم لمصلحة بيروقراطية الدولة السوفياتية على حساب مصالح العديد من شعوب العالم، في إطار التنافس السوفياتي – الأميركي فيما سمي بالحرب الباردة.
هذا لا ينفي أن أقسامًا أخرى من اليسار العالمي، وإن كانت نسبيًا ضعيفة عددًا ونفوذًا، اتخذت مواقف وسياسات نقيضة لمواقف وسياسات الأحزاب الشيوعية الرسمية. وهي مجموعات وأحزاب تعرف نفسها بالماركسية (أو الاشتراكية) الثورية تمايزًا عن القوى الستالينية بتنويعاتها، حيث انتقدت سياسات ما يسمى بالمعسكر الاشتراكي، ودعا بعض منها إلى ضرورة قيام ثورات “سياسية” لإطاحة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية سابقًا، وبعضها الآخر دعا إلى ثورات “اجتماعية” فيها، لكون هذه الدول المسماة “اشتراكية” ليست إلا شكلًا من أشكال رأسمالية الدولة.
على الرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي ومعه دول أوروبا الشرقية في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، لم تنهر معه تمامًا تأثيرات ما عرف بالماركسية “السوفياتية” التي ما تزال فاعلة في بقايا هذه الأحزاب والقوى الشيوعية التقليدية. وما تزال هذه الأيديولوجيا البائسة تعبر عن نفسها في ممارسات وسياسات هذه الأحزاب التي وإن غاب داعمها المادي والسياسي السابق (الاتحاد السوفياتي)، وجدت حضنًا لها في أنظمة فاسدة وبرجوازية مستبدة تدعي معاداة الإمبريالية. لكن لم يقتصر انهيار الاتحاد السوفياتي على ذلك، فقد أدى انهياره إلى فقدان كثيرين من اليساريين المخلصين لقناعتهم بالاشتراكية نفسها، وانتقل قطاع مهم منهم إلى مواقع تعرف نفسها بالليبرالية، وإن بقي أسير المنظومة التحليلية للماركسية. وهو ما يمكن أن نسميه، ربما تجاوزًا، اليسار المتحول ليبراليًا. بيد أن الهزة الهائلة التي تعرض لها اليسار عالميًا بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي وصلت إلى داخل القطاعات التي حافظت على قناعاتها الاشتراكية، وطرحت قضية البديل الاشتراكي موضع تساؤل كبير، كما فتحت الباب واسعًا لأطروحات عديدة تخرج، كثيرًا أو قليلًا، عن التراث الماركسي والاشتراكي الكلاسيكي.
هذا المدخل ضروري لفهم وتفسير مواقف عديدة صدرت عن أطراف يسارية تجاه ثورات المنطقة أو “الربيع العربي”.
حينما اندلعت الثورات في منطقتنا في نهاية عام 2010 بدءًا من تونس لتصل إلى ليبيا والبحرين ومصر واليمن وسورية وغيرها من البلدان. أطلق عليها الإعلام والإنتلجنتسيا السائدة مصطلح “الربيع العربي” مقارنة، على الأرجح، بما عرف بربيع الشعوب في أوروبا في القرن التاسع عشر، عندما اجتاحت البلدان الأوربية سلسلة من الثورات عام 1848، ولا سيما أن سمتها الأساسية أنها كانت ثورات “ديمقراطية”. هكذا سلفًا وضع توصيف الثورات في منطقتنا بـ “الربيع العربي” قالبًا لهذه الثورات وسقفًا لها، إنها تقتصر على التغيير السياسي “الديمقراطي” متجاهلًا- عن قصد أو غير قصد، والأغلب عن قصد- الطابع الاجتماعي العميق لها، وهذا ليس موضوع مقالتنا هنا.
فيما يلي نحاول أن نصنف، وإن كان بكثير من الاختزال والتبسيط، كيف تمايزت مواقف الأفراد والأحزاب اليسارية من الثورات والأنظمة في منطقتنا، وإبراز بعض المقولات أو المبادئ المقر بها منهم أو تلك الخفية التي تدفع بهم إلى اتخاذ مواقف معنية، وسنجد أن هذا التمايز في مواقف اليساريين يتجاوز التصنيفات السابقة بين تلك التي توصف بالإصلاحية، وتلك التي تصف نفسها بالراديكالية.

توفر قائمة الشروط اللازمة للثورة!
عانى بعض اليسار في مقاربته، أو بالأحرى لتبرير تخاذله في أغلب الأحيان، للثورات في منطقتنا من ادعائه بأن هنالك قائمة شروط يلزم توافرها للإقرار بأن ما يجري هو ثورات أو احتجاجات شعبية يجب الوقوف معها ودعمها على الأقل، إن لم يكن الانخراط فيها.
ينطلق هذا من قائمة شروط يعتقد أن عدم توافرها جميعها أو حتى جزء منها، ينفي عما يجري صفة الثورة، من بين قائمة الشروط هذه مثلًا: هل الطبقة العاملة في أماكن عملها في المصانع قامت بإضرابات أو نزلت إلى الشارع بصفتها طبقة؟ هل يوجد حزب يساري “شيوعي” يقود “الثورة”؟ هل تألفت مجالس عمالية؟ هل تألفت فصائل مسلحة عمالية؟ هل تدعو شعارات الجماهير الثائرة إلى “الاشتراكية”؟ ويمكن أن نضيف، هل النظام القائم محبوب أو مكروه من الإمبرياليات الغربية؟ ما موقف “الثورة” من تحرير فلسطين؟
استخدم العديد من الأفراد أو الأحزاب اليسارية غياب واحدة أو أكثر مما يعده شروطًا للثورة لتبرير مواقفه المتخاذلة من “الاحتجاجات” التي عمت بلدان المنطقة، منتظرًا “ثورته” النقية المتخيلة. وفي الواقع فإن أغلب هذه الأحزاب والأفراد أصحاب “الشروط اللازمة” وقفوا ضد الثورات الشعبية، أو مع بعضها خارج بلادهم.
وإن كان أي يساري أو ماركسي يدرك تمامًا بأنه لم ولن توجد أبدًا ثورات نقية وفق تصوراتنا أيًا كانت، لأن الثورات هي تكثيف، وعلى صعيد واسع، للصراعات الاجتماعية الكبرى والحادة، التي تقلب المجتمع بأكمله، وعلى كل الصعد رأسًا على عقب، إنها دخول الجماهير الواسعة إلى مسرح التاريخ في القضايا التي تمسّ حياتها. والثورات لها معادلاتها الجبرية المعقدة والقاسية، لا تعنيها الفذلكات اللفظية والحشو الكلامي، ولا يضير هنا الإشارة إلى ما قاله لينين قائد أهم الثورات الاجتماعية في عصرنا بهذا الخصوص: “إن من يتوقع ثورة اجتماعية (نقية)” لن يعيش مطلًقا حتى يراها. مثل ذلك الشخص، يتحدث بلا انقطاع عن الثورة، دون أن يفهم معنى الثورة.”

نمطان من معاداة الإمبريالية!
يسود مفهوم تقليدي شائع لدى أوساط يسارية، يشمل ذلك الأحزاب الشيوعية الرسمية، ولكنه لا يقتصر عليها وحدها، بل يتجاوزها إلى حد كبير. يتمحور هذا المفهوم حول أن الإمبريالية هي الدول الغربية الكبرى فقط، وغيرها ليست كذلك. وكأن العالم لم يصبح بأكمله رأسماليًا، أو كأن الاتحاد السوفياتي ما يزال قائمًا، أو أن الصين ما تزال هي صين (ماو) الثورة الثقافية.
هذا التصور الضيق لمعاداة الإمبريالية ينظر بعين واحدة، ويقف على لحظة من تاريخ العالم أصبحت من الماضي، ولم يبق لوجودها أثر.
لأن عالمنا الراهن عالم رأسمالي معولم، تشكل فيه كلًا من الصين وروسيا جزءًا مهمًا وقويًا لا يتجزأ من الدول الإمبريالية والرأسمالية العالمية، مثلهما مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا وغيرها، تتنافس فيما بينها وتتصارع وتسعى كل منها لزيادة نفوذها العسكري والاقتصادي والجيوسياسي في العالم. بل أكثر من ذلك، إننا نشهد، إضافة إلى الدول الإمبريالية الكبرى المشار إليها، بزوغ إمبرياليات إقليمية- من دون الدخول في تفاصيل هذا الموضوع، ننصح بالاطلاع على دراسة الباحثة الاشتراكية البريطانية آن الكسندر حوله- مثل تركيا وإيران والهند والبرازيل والسعودية التي فسح لها التنافس المحتدم بين الإمبرياليات الكبرى وتأثيرات الأزمة الاقتصادية للنظام الرأسمالي العالمي المستمرة منذ قرابة عقد ونصف، هامشًا أكبر لتحركها ونموها. هنالك إذًا تغيرات كبرى جرت في العالم منذ أكثر من ثلاثة عقود لا يمكن قراءة وقائع اليوم وكأنها في عصر آخر مضى.
لذا نجد أن عددًا من الأحزاب الشيوعية والقومية اليسارية تتعامل اليوم مع روسيا والصين على أنهما روسيا البلاشفة وصين ماو. حيث تحابي هذه الأحزاب مواقف هاتين الدولتين في أي مواجهة بينهما والإمبرياليات الغربية، ولا ترى الإمبريالية إلا في الإمبرياليات الغربية ولا أحد سواها.
وبالنسبة إليها، أي لهذه الأحزاب، فإن معسكر “التقدم والاشتراكية” ما يزال في روسيا والصين، حيثما يكونان يكون الموقف الصحيح. ونجد في سورية مثالًا فظًّا ومفجعًا على مواقفهم المعادية للثورات الشعبية.
ولمزيد من التفاصيل يمكن القول بوجود فرعين لمقولة معاداة الإمبريالية (الغربية)، الأولى تقوم على مفهوم أن هنالك أنظمة تواجه الإمبرياليات الغربية، ولا سيما في دول ما يعرف بالعالم الثالث، بشعارات قومية وشعبوية، وبالتالي لا بدّ، بالنسبة إلى هذا اليسار، من الوقوف مع هذه الأنظمة في مواجهة “عدوان الدول الإمبريالية (الغربية) عليها. ويشط بعضه إلى حد أن أي بلد يعاديه الغرب يجب دعمه. وفي منطقتنا كل من يدعي دعم “مقاومة الشعب الفلسطيني” ومواجهة “إسرائيل” يجب دعمه، أيًا كانت طبيعته الاجتماعية والسياسية وسياساته بحق شعبه.
هذه المعاداة البدائية للغرب شائعة في منطقتنا، ولكن لها امتدادات عالمية. بعض اليسار العالمي يلوي عنق مقولة ماركسية ثورية مهمة أطلقها كارل ليبكنخت عام 1915 في مواجهة الحرب الإمبريالية العالمية الأولى، حين كتب كارل ليبكنخت “إن العدو الرئيس للبروليتاريا هو في بلدها”، أي إن عدو شعب ما هو أولًا النظام الحاكم في بلاده نفسها.
يلوي “يسار معاداة الإمبريالية الغربية” عنق هذه المقولة، عندما يستنتج، مثلًا، الموقف التالي: ما دامت أميركا أو بريطانيا تقف ضد النظام السوري، إذًا يجب الوقوف مع هزيمة أميركا وبريطانيا وانتصار النظام السوري. لأن عدونا هو نظامنا في أميركا وبريطانيا … إلخ. هذا المنطق الأعوج، القائم على تقديراته لصراع الدول الكبرى والإقليمية بشكل أساس أدى حتى ببعض الراديكاليين إلى التخلي عن التضامن مع كفاح الجماهير الشعبية السورية من أجل تحررها، أو عدها ضحية طبيعية في هذا الصراع العالمي الدامي (جون ريز اليساري البريطاني، مثالًا).
في المقابل، نجد على الضفة الأخرى ميلًا مشابهًا، لكن معاكسًا عند بعض اليساريين، لنصفهم الآن بـ “الأكاديميين”، يقوم على التركيز على بشاعة ووحشية الإمبرياليتين الروسية والصينية، ونجد له تعبيرًا في العريضة الأخيرة حول الوضع السوري وإدانته لما سماه “أنتي إمبريالية حمقاء”، حيث خفف بشكل واضح من الدور الأميركي في سورية بوصفه “غير مركزي”. وكان قد عبر بعضهم عن “تفهم” مطالب بعض المعارضات للتدخل الغربي في ليبيا وسورية ولو مشروطًا، لكن لأسباب إنسانية، أي لمنع أنظمة دكتاتورية من ارتكاب مجازر بحق شعبها. في حين أنه بلا هوادة يدين الإمبريالية الروسية والصينية بشكل مطلق، وكأنهم يستعيرون زمن ماركس، حيث كانت روسيا القيصرية هي “قلعة الرجعية” في أوروبا.
هذان الموقفان المعاديان، كلٌ منهما على طريقته، للإمبريالية يتشابهان في أحادية نظرتهما. حيث إن الأولين يرون أن روسيا والصين هما “أهون الشرين”، والأخيرين يرون، بشكل مباشر أو غير مباشر، أن الدول الغربية، مقارنة بروسيا والصين، هي “أهون الشرين”.
المهم، إن لكلا الموقفين تبعات سياسية وعملية على كفاح الشعوب وحاجات تحررها وتخلصها من كل وصاية واحتلال.

أهون الشرين مجددًا!
لم تقتصر سياسة أهون الشرين، للطرفين المشار إليهما أعلاه، على المفاضلة، أحيانًا النسبية، وأحيانًا أخرى دون إعلانها صراحة، بين الإمبرياليات، بل هي أسّست لسياسات قوى سياسية عديدة محسوبة على اليسار، وهناك أمثلة عديدة على ذلك في أحداث بلدان المنطقة، حيث إن منطق أهون الشرين انطبق على سياسة بعض اليساريين تجاه الصراع الدائر داخل البلدان. نجد مثالًا على ذلك اصطفاف بعض اليسار والعلمانيين “الديمقراطيين” مع العسكر في مصر في مواجهة ما عدوه تهديدًا من الإخوان المسلمين. ومثال آخر حيث وقف بعض منهم في تونس مع بقايا النظام البائد ضد حركة النهضة الإسلامية، وفي سورية وقف قسم من اليسار والعلمانيين مع النظام خشية انتصار الإسلاميين.
واضح أن ثمة ميل لدى بعض اليسار في كل وضع معقد ومركب، إلى اختزال الممكنات أو أطراف الصراع إلى ثنائيات، وفي أفضل حالاته يدعو إلى درب ثالث بينهما ذي ماهية وسطية.
يقدِّم لنا عام 2012 درسًا في هذا السياق حينما تقدم حمدين صباحي بترشيحه لانتخابات الرئاسة في مصر في مواجهة مرشح الإخوان محمد مرسي من جهة، وممثل النظام المصري أحمد شفيق من جهة أخرى، لم تقتصر دعوة بعض اليساريين إلى دعم وانتخاب حمدين صباحي الناصري في مواجهة المرشحين المذكورين بل حثوا على أهمية التحاق كل اليساريين بحركة حمدين صباحي السياسية. نشهد اليوم أن لا حياة تذكر لحركة صباحي الذي أصبح هو نفسه بدوره داعمًا لحكم العسكر.
هذا الاختيار بين ثنائيات، طبع بشكل مأساوي سياسات المعارضة السورية الرسمية في السنوات العشر الماضية، إذ انطلق بعض اليساريين والليبراليين من مقولة إن هناك خيارًا بين طرفين إما النظام أو “الإخوان المسلمون” فاختاروا التحالف مع الإخوان المسلمين ضد النظام بوصاية تركية – قطرية مع تشكيل المجلس الوطني عام 2011 ثم الائتلاف الوطني عام 2012، وانتهى بهم الأمر إلى أن جميع هذه الهياكل المعارضة السياسية كانت تابعة ومطيعة لما يقرره النظام التركي.
في المقلب الآخر، الوجه الآخر من عملة معاداة الإمبريالية العوراء، ارتأى يساريون وقوميون آخرون في سورية أن الإمبريالية الأخطر هي أميركا، فتوجهوا “شرقًا” إلى موسكو والصين لإيجاد حل سياسي تفاوضي لـ “الأزمة”، كما يروجون. في تكرار ممجوج لمقولة “المعسكرين” القديمة. معسكر “اشتراكي” سابقًا مقابل المعسكر الغربي الإمبريالي. وعلى الرغم من انهيار هذا المعسكر المسمى “اشتراكيًا” إلّا أن هذه القوى المحسوبة على اليسار ما تزال تتعامل مع الصين، الشديدة الرأسمالية، وروسيا الإمبراطورية البوتينية بصفتهما المعسكر “الجيد” مقابل المعسكر الغربي الشرير.
هنالك لازمة متكررة وشائعة في أي نص يصدر عن القوى السياسية المذكورة، وهي أنها تتحدث عن مصالح الشعب المعني، كموجِّه لمواقفها المذكورة. ولكنها في الواقع غريبة عنه تمامًا. كلمتا “مصالح الشعب” اللتان نجدهما في كثير من كتاباتهم هي مجرد ذريعة هدفها الواضح تبرير مواقف يصعب، أو يستحيل، تبريرها، من وجهة نظر الخبرات والتراث الثوري للحركة العمالية العالمية.
والحال، يبدو واضحًا أن الثورات في منطقتنا وضعت اليسار، بمعناه العام، إقليميًا وعالميًا، على محك جديد، وفاقمت من اهتزاز جعبته الفكرية وسياساته، وغيرت من بعض اصطفافاته الكلاسيكية، وزادت من تمزقه وارتباك هويته اليسارية. واللافت للنظر أن هذه اللخبطة في المواقف المتفاوتة لليسار من الثورات لم تقم على أسس كلاسيكية معهودة، لأن بعض القوى والشخصيات التي كانت توسم بالثورية والاشتراكية لم تقف كلها مع الثورات والاحتجاجات الشعبية، في حين أن بعض تلك التي كانت تعرف بإصلاحيتها أو وسطيتها وقفت مع الثورات. هذا الأمر ضاعف من التشوش العام الفكري والسياسي والعملي والأيديولوجي لليسار.
يبدو أن هذه الأحجية و”اللخبطة” في مواقف اليسار المتعدد الميول من الثورات تحتاج إلى مقاربة، ولو سريعة، في محاولة أولية لتفسيرها.
نعتقد أن الصدمة التي سببها سقوط الاتحاد السوفياتي، وبالشكل الذي تم فيه، سبب انقلابًا عميقًا في مرجعيات وثوابت وأفكار اليسار والماركسية، لدى قطاعات كبيرة من اليساريين. ونعتقد أن ما زاد من عمق هذه الصدمة والانقلاب المفاهيمي والأيديولوجي هو الهيمنة الأيديولوجية الليبرالية والنيو ليبرالية منذ أكثر من ثلاثة عقود على الصعيد العالمي.
ونتج من ذلك إلى حد ما مراجعات، تبدو وكأنها تقدم مخرجًا جديدًا، لكنها، من وجهة نظرنا، لا تقدم في الحقيقة جديدًا، بل أعادت بعث ما كان يرشح في بعض كتابات إنجلز والأممية الثانية ولا سيما كاوتسكي، الذي علينا ألّا ننسى أنه كان ينادي بالثورة، ولكن كيف؟ على طريقته. حيث يرى أنه يجب أن تسود الرأسمالية لتحمل معها قيام طبقة عاملة قوية تسود الأخيرة فيه من خلال النظام الديمقراطي وتقيم نظامها الاشتراكي، أو وفق مقولة شهيرة له تقول إن “الديمقراطية ضرورة للثورة كضرورة الماء والهواء للجسم الحي”. ما حمل بعضهم على الحديث عن أن خصوصية نمط الإنتاج الرأسمالي في بلدان “الربيع العربي” تتميز فيه الأنظمة السياسية بالاستبداد وفرضها علاقات إنتاج تعيق نمو وتطور قوى الإنتاج. ما يعني، بالنتيجة، دعوتهم لضرورة الثورة على هذه الأنظمة الدكتاتورية التي تكبح تطور الرأسمالية “الكلاسيكية”. يتقاطع هذا الطرح، بشكل أو بآخر، مع أطروحات اليساريين المتحولين ليبراليًا، على الأقل، في قضية ضرورة الخلاص من النظام السياسي الاستبدادي الكابح للحريات والمعيق لتطور الاقتصاد الرأسمالي.
في محاولة أولية لتصنيف هذه المواقف اليسارية المتنوعة، والتي تحتاج لاحقًا بالتأكيد إلى مزيد من التدقيق، يمكن القول إن من وقف من اليساريين ضد الثورات الشعبية بحجة غياب دور واضح وقيادي للطبقة العاملة، أو بحجة أن الأنظمة التي هبت ضدها الثورات الشعبية هي أنظمة “معادية” للإمبريالية – الغربية طبعًا- إنما يمكن عدّهم استمرارًا للمواقف الستالينية المعادية للثورات، وهي اجترار لمعتنقي أيديولوجيا “المعسكرين” في زمن لم تعد فيه هناك دول “اشتراكية”. ويمكن لتسهيل العرض دمج هذين الميلين من اليساريين، وإطلاق تسمية الستالينيين-المعسكرين عليهم.

“الأداة اللاواعية للتاريخ”!
ثمة ما لا بدّ من ذكره، وهو أن لدى عدد من اليساريين والمتحولين ليبراليًا منهم، واعين بذلك أم لا، ميل للاعتقاد بأن التدخل الإمبريالي (الغربي) لإسقاط بعض الأنظمة الدكتاتورية التي تجد الشعوب صعوبة في إسقاطها يعدّ فضيلة لا يجب الوقوف ضدها بالمطلق، وهي تستند، كما نعتقد، إلى تفسيرها الخاص لبعض مقولات ماركس التي وردت في بعض مقالاته في جريدة نيويورك ديلي تريبيون عام 1853عن الاستعمار البريطاني للهند، والدور البريطاني في تحطيم النظام القديم، وفتح آفاق التقدم للهند على الرغم من الآلام العظيمة، حيث كتب ماركس “صحيح أن إنكلترا، حين تسببت باندلاع ثورة اجتماعية في الهند، لم تكن مدفوعة إلا بأحط المصالح، وكانت غبية في فرضها تلك المصالح، ولكن ليس هذا هو السؤال. إنما السؤال هو، هل بوسع البشرية بلوغ مرامها من دون ثورة أساسية في وضع آسيا الاجتماعي؟ إن كانت الإجابة بالنفي، فأيًا تكن جرائم إنكلترا، كانت أداة التاريخ غير الواعية في إحداث تلك الثورة”. صدى مقولة الأداة اللاواعية للتاريخ نجدها في مقولة المعارض السوري المعروف رياض الترك عن “الصفر الاستعماري”، إذ رأى في تصريح له لجريدة النهار اللبنانية أن الغزو الأميركي- البريطاني للعراق عام 2003 سيرفع العراق “من الناقص إلى الصفر”. والواقع إن موقفه هذا لم يكن، بالمناسبة، حكرًا عليه وحده، بل كان فكرة شائعة لدى قطاعات واسعة من النخب المعارضة (ومنها اليسارية) السورية وغير السورية. ويمكن بشيء من الاختزال أيضًا وصف هذه التلوينات من اليساريين والمتحولين ليبراليًا باليساريين النيو كاوتسكيين- والمتحولين ليبراليًا.
يتمايز جلبير أشقر، اليساري المعروف والأستاذ الجامعي، في تناوله للموقف من التدخلات الإمبريالية حيث يضع للموقف منها شروطًا وإطارًا “استثنائيًا”، إذ يكتب في مقالته المنشورة في جريدة ذي نيشون في 6 نيسان/ أبريل 2021: “حتى في الحالات الاستثنائية حينما يكون تدخل قوة إمبريالية هو لمصلحة حركة تحرر شعبية- وحتى عندما يكون هذا هو الخيار الوحيد المتاح لنجدة الحركة من التصفية الدموية، فإن على المعادين للإمبريالية التقدميين أن يعلنوا عن عدم ثقتهم الكاملة بالقوة الإمبريالية ويطالبوا بتقييد تدخلها لأشكال تضيق قدرتها على فرض سيطرتها على أولئك اللذين تدعي إنقاذهم”.
بيد أن اليسار لا يقتصر على ما تم ذكرهم أعلاه، فقد نشط، وإن بقي دوره وحجمه ضعيفًا، يسار اشتراكي ثوري، وقف بحزم مع الثورات الشعبية داعيًا إلى تعميق مطالبها الاجتماعية وليس الاقتصار على التغيير السياسي الديمقراطي فحسب. كما وقف بحزم ضد الأنظمة الدكتاتورية داعيًا إلى إطاحتها، رافضًا، في الوقت نفسه، كلَّ تدخل إمبريالي عالمي أو إقليمي. وتجلى ذلك بمواقف مشتركة للمنظمات الاشتراكية الثورية في عدد من بلدان المنطقة (الاشتراكيون الثوريون في مصر، تيار اليسار الثوري في سورية، المنتدى الاشتراكي في لبنان، تيار المناضلة في المغرب ورابطة اليسار العمالي في تونس، واتحاد الشيوعيين في العراق) التي لم تكتف باللقاءات والتشاور والبيانات المشتركة، بل أصدرت مجلة فكرية – سياسية باسم “الثورة الدائمة”. كذلك، تجاوز التشاور وتبادل الخبرات والتضامن الإطار الإقليمي إلى الإطار العالمي أيضًا.
هذا اليسار الاشتراكي المنظم والثوري الذي انخرط في النضال والثورات الشعبية، في اعتقادنا، هو الذي حافظ على التراث الثوري والأصيل للماركسية، وكان التعبير الأكثر إخلاصًا للتقاليد والإرث الكفاحي والأرقى للحركة الاشتراكية والعمالية الثورية في منطقتنا والعالم، ولا شك أن خبراته ومواقفه وسياساته، خلال لهيب الثورات، تستحق الدراسة والعرض والتحليل في مقالات أخرى.

مشاركة: