أفقأ عين الخوف

بدايةً أحب أن أعطي لمحة عني فأنا طبيبة متخصِّصة بطب العيون وجراحتها، عملت مدة ربع قرن في المستشفى الحكومي -المستشفى الوطني في اللاذقية- وكذلك في عيادتي الخاصة، وعلى الرغم من أن أمي أستاذة فلسفة وأبي أستاذ لغة عربية أحسست بالخيبة حين قررت أن أصير كاتبة وندمت لأنني لم أدرس الفلسفة أو الأدب العربي. ثم تبين لي أن التزاوج الأنجح في العالم هو تزاوج الطب والكتابة، فكنت أمارس الطب بعين كاتبة وأمارس الكتابة بموضوعية طبيب. كتبت عشرات القصص القصيرة عن حالات إنسانية واجهتني خلال عملي الطبي، كما كتبت روايتين من وحي عملي الطبي هما رواية نسر بجناح وحيد ورواية هوى وقد اشترتهما المؤسسة العامة للسينما وطلبتْ المؤسسة من المخرجة المبدعة والصديقة الغالية واحة الراهب إخراج روايتي هوى، كان ذلك في نهاية عام 2010. كنت أحضر أحيانًا مع واحة جلسات التصوير التي جرى قسمٌ منها في المشفى الوطني، لكن الفيلم لم يُعرض في سوريا إطلاقًا، حتى أنا لم أحضره والسبب غامض فلا يمكنك أن تعرف شيئًا في سوريا، وقد عُرض فيلم هوى في دول عدّة ونال التقدير لكنه لم يُعرض في سوريا.
كنت أمارس عملي الطبي بإنسانية ومتعة وحب، وكان معظم مرضاي من الأحياء الفقيرة البائسة في اللاذقية (الرمل الجنوبي – بستان السمكة – السكنتوري). كتبت عن كثير منهم قصصًا إنسانية -لدي 36 كتابًا منها قصص قصيرة وروايات طُبعت مرات عديدة- وقد حصلت مجموعتي القصصية الساقطة التي صدرت عن دار رياض نجيب الريس على جائزة أبي القاسم الشابي في تونس عام 2003 من بين 150 مخطوطًا. لكنني أحسست دومًا بعدم الرضى وبأنني أتوق لشيء رائع غامض لا أعرف تمامًا ما هو. وكنت أكتب مقالات كثيرة في صحف مختلفة كالسفير، الحياة، الدوحة القطرية، العرب القطرية، ونزوى، وكانت معظم المقالات عروضًا لكتب استوقفتني وأعجبتني. وحين بدأ الربيع العربي ورأيت بأم عيني شبانًا في اللاذقية يحملون لافتات كُتبتْ عليها شعارات رائعة “الشعب السوري واحد” وغيرها من الشعارات، أدركت بحدسي الذي لم يخب أبدًا أنني أدشن ولادة كاتبة جديدة في روحي، كنت لا أزال أعمل في المستشفى الوطني الذي امتلأت جدرانه كلها، بما في ذلك جدران غرف المرضى، بعبارة “خلصت – خلصت – خلصت”، وهي العبارة التي قالتها بثينة شعبان والتي تقصد من خلالها أن المؤامرة على سوريا “خلصت”، ولم يكن أحد يجرؤ على التفوه بكلمة واحدة، وبدأت اللافتات تملأ شوارع اللاذقية وأظنها كلَّفت ملايين الليرات، فقد كانت اللافتات من أفضل أنواع الكتان، أذكر ما كُتب عليها: “الجزيرة والعربية وفرانس 24 هي قنوات سفك الدماء”، “حين تلامس رؤوس أعدائك بنعل حذائك لك الفخر”، والمقصود طبعًا في العبارة الأخيرة هو الرئيس، أما العبارة التي أطاشت صوابي فهي “إنه الأسد أيها الحمقى”، فكتبت يومها مقالةً عن احتقار الشعب السوري وعدّه أحمقًا، واستُدعيت بالطبع إلى فرع أمن الدولة واتُّهمت بأنني “أنشر الغسيل الوسخ” من خلال مقالاتي، فقد كنت أكتب بشكل أسبوعي في جريدتي الحياة والسفير. عرفت حينها، بعد سنوات من الاستدعاءات إلى فروع أمن الدولة، أن العبارة الموحَّدة بينهم هي “نشر الغسيل الوسخ” حتى صرخت ذات مرة بالمقدّم: وماذا تريدني أن أكتب عن الربيع.
لا يمكنني ذكر المهازل والتشبيح والظلم كله الذي جرى خلال عشر سنوات، لكن ثمة حادثتان أحرص على ذكرهما، فبعد أشهر من بداية الثورة السورية -وكنت لا أزال طبيبة عيون في المستشفى الوطني- قُدِّمت إلى جميع العاملين في المستشفى وفي دوائر الدولة كلها أوراقٌ بعنوان “مؤامرة بندر بن سلطان”. كانت الأوراق تقول إن بندر بن سلطان مع متآمرين معه سيدمّرون سوريا، وتشرح الأوراق بالتفصيل مراحل التدمير، كما حصل في السنوات اللاحقة تمامًا. بعد أيام من تلقي هذه الأوراق التي رميتها في القمامة، كنت أمارس عملي في العيادة العينية في المستشفى الوطني وحشد كبير من المرضى يرجوني أن أسرع في الفحص، أمرنا صوت جهوري عبر مكبر الصوت أن نترك عملنا كله ونتجمع في ساحة المستشفى الوطني الشاسعة، لم أستطع أن أخالف الرأي واعتقدت أن كارثة ما حلّت في اللاذقية.
وقفت في ساحة المستشفى الوطني التي ضمت مدير الصحة ومدير المستشفى والمحافظ وقائد الشرطة وشخصيات أخرى، إضافة إلى الأطباء والممرضات والمرضى، فأمر مدير المشفى بعض الموظفين بأن يثقبوا أكياسًا ضخمة بحجم أكياس الباطون، فثقبوها وتدفقت آلاف الحبوب البيضاء الصغيرة من الأكياس، فقال لنا مدير الصحة بأن هذه حبوب الهلوسة التي أرسلتها قناة الجزيرة، أي تلفزيون الجزيرة، إلى المستشفى الوطني في اللاذقية. كان مكتوبًا بالأحمر العريض على الأكياس “تلفزيون الجزيرة”، يومها تساءلت ببراءة “طيب من المُرسل إليه” وتلقيت نظرات نارية من المسؤولين، وأمر رئيس المشفى الموظفين أن يصبوا الكاز على حبوب الهلوسة، فاشتعلت النيران، وكم تمنيت لو أنني حصلت على بعض هذه الحبوب لأعرف ما إذا كانت الحبوب طباشيرَ أم حلوى رخيصة.
يومها كتبت هذه المقالة وأنا في اللاذقية وتعجبت لعدم استدعائي إلى فرع أمني، ثم كتبت بعده مقالةً بعنوان “مُتّهم حتى يثبت العكس”، وهي مقالة ساخرة تتناول المواطن السوري الذي يشعر طوال الوقت بأنه متّهم ومطالَب بتقديم براءة ذمة تجاه الدولة، وقد جنّ جنون أجهزة الأمن بسبب هذه المقالة واستُدعيت وحُقِّق معي وكالعادة “نشر الغسيل الوسخ”. لا يمكنني أن أصف شعوري وأنا أكتب بحرية شاعرة حين أتحدى عنصر مخابرات صغير مزروع بين تلافيف دماغي يتوعدني ويرهبني وأنا أكتب وأكتب، ولا أخجل من الاعتراف أنني حين كنت أضغط على كلمة إرسال كنت أبكي خوفًا ومع ذلك صار لوجودي معنى وقيمة وفرح، والكرامة فرح والفرح قوة، إلى أن كتبت مقالة “غرفة لا” حيث تذكرت كيف كنا نجدد البيعة للسيد الرئيس حافظ الأسد ونحن لا نزال طلابًا في الجامعة، كانت هناك غرفتان -غرفة “نعم” مشرعة الأبواب يدخلها الجميع ليقولوا له نعم والغرفة الأخرى “لا المقفلة”- يومها تساءلت لماذا تقفلونها ولا أحد يجرؤ على الدخول إليها، وطبعًا قامت القيامة واعتبروني تجاوزت الخطوط الحمر، فالسيد الرئيس خط أحمر، وصار كل شيء خطًا أحمر، صار الوطن أحمرَ.
لكن لا توجد سعادة في العالم توازي سعادة تحقيق الذات، كنت سعيدة بأنني اكتشفت نفسي وبأنني سأشهد للحق وسأكون شاهدة عصر، وأعترف أنني لست كاتبة سياسية لكنني كاتبة أوجاع الناس ومآسيهم، وكان بيتي في اللاذقية أشبه بصالون أدبي سياسي يجتمع فيه الأصدقاء ونحكي في أوضاع البلد. وأريد أن أترحم بكل حب على الصديق الرائع الذي أثر في شخصيتي الأستاذ عبد الله هوشة الذي كان أغلى الأصدقاء. لم أفكر يومًا واحدًا في أن أترك اللاذقية، على الرغم من وجود أسرتي كلها في باريس وابنتي في بريطانيا مع زوجها الإنكليزي، كنت أؤمن أن الأمكنة أرواح وأن روحي في أزقة اللاذقية، كنت أجد متعة في تأمل الغسيل المهترئ المنشور على الشرفات، وكنت أحب مقاهي البحر البسيطة التي أقصدها كل يوم، وقد كتبت معظم قصصي ومقالاتي في مقاهٍ بحْرية، وكنت أقول دومًا “باريس لا تخصّني”، هي رائعة لكنني لا أحس شيئًا تجاهها، فعلًا باريس لا تخصني، هي “كالزواج من دون حب”. لكن أُزعِجت بشكل فظيع في الفترة الأخيرة بين 2018 و2019، خاصة بعد أن عرض علي الأستاذ العظيم الصديق حسان عباس طباعة جميع مقالاتي في كتاب وأطلق عليه عنوان أن تكون إنسانًا، وللأسف لم ألتق الأستاذ حسان عباس، وفوجئت بأنني مطلوبة للأمن العسكري في حزيران/ يونيو 2020 وكان أحد السفلة (ب.س) قد طبع عشرات المقالات لي وقدمها إلى فرع الأمن، فمُنعت من السفر. وحين راجعت فرع الأمن العسكري، صُعقت بتساؤل أحدهم عن مقالة كتبتها منذ أكثر من أربع سنوات عن الخوذ البيض! وقلت له: لكن ما معنى أن تناقشني بمقالة كتبتها منذ سنوات؟ قال: “أنت مدحتيهم وهم إرهابيون”.
لن أطيل الحديث في حادثة الشاحنة التي أتمنى أن أكتبها ذات يوم روايةً والتي كنت قد كتبتها مقالةً. كنت في يوم خريفيّ أجلس في صيدلية إحدى صديقاتي وكانت صيدليتها قريبة من المستشفى العسكري -الذي تحول الآن إلى مستشفى لتركيب الأطراف الاصطناعية- وكانت الساعة حوالى السادسة عصرًا وشارع الجمهورية يغصّ بالناس والأطفال حين مرّت شاحنة تطفح بالجثث وأشلاء الجثث -رؤوس مقطوعة، أرجل مقطعة، أياد تائهة تبحث عن أصحابها- وكانت الشاحنة مكشوفة وسائقها يصرخ “وسّع طريق يا حيوان” يريد أن يصل إلى المستشفى بسرعة. أذكر نظرة الذعر المتجمدة في عيون الأطفال، فقد بالَ طفلٌ في ثيابه وهو يبرطم “بابا هدون ناس”! لم أنم في تلك الليلة وتناولت مهدّئًا للأعصاب لم يؤثر فيَّ أبدًا، وتعجبت لتركهم الجثث والأشلاء مكشوفة وقولهم إنها جثث الإرهابيين الذين قتلهم بكل فخر الجيش السوري.
لكن المعجزة التي حصلت لي، وأنا أسميها فعلًا معجزة، هي أنني لم أعد أخاف. فعلى الرغم من تقريع الأصدقاء والمحبين، إلا أن “شرش الخوف طق” كما يقولون، لأنني تذوقت معنى أن تكون ذاتك، تذوقت متعة أن تقول ما تريد، أن أشهد على قصص الناس الذين كانوا يقصدون بيتي. عدو الحياة هو الخوف وليس الموت، لأن كل كائن حيّ سيموت، أنا لم أعد خائفة، فقأت عين الخوف -كان هذا عنوان محاضرتي التي قدمتها في هولندا وسط حضور عربي وهولندي كثيف، خاصةً طبقة الروتاري- من يذق طعم الحرية لا يعود يخاف أبدًا. روحي ليست أغلى من قيمة روح أي سوري مات. لا معنى للحياة من دون حرية. أجد أنه ضروريٌ أن أذكر بنزاهة أنه منذ بداية الثورة السورية كتبتُ ثلاثة كتب: كتاب وجوه من سوريا الصادر عن دار الساقي، وقد تركت في هذا الكتاب أسماء الشخصيات كما هي حفاظًا على طهارة الحقيقة، والمجموعة القصصية طفل التفاح الصادرة عن الدار العربية للعلوم، ورواية الشحادة الصادرة عن منشورات ضفاف.
أعيش الآن بأمان في شقتي في باريس لكن الهوى، وهو عنوان روايتي، يذيبني شوقًا لبحر اللاذقية الساحر ولناسها الطيبين المقهورين، لكن بقائي صار خطرًا، ولا سيما أنني بذلت جهدًا جبارًا كي ألغي منع السفر. لكني أحلم وأؤمن بحلمي الذي هو حلم كل السوريين، أحلم أننا سنعود إلى حيث ننتمي، إلى اللاذقية أرملة الساحل السوري، إلى اللاذقية التي بلّطوا بحرها وردموا أجمل مقاهيها البحرية وشوهوها بأبنية عملاقة وهدموا كل بناء أثري فيها. ولا أنسى اليوم الذي كتبت فيه أنه لم يعد هناك ما يُسمى “اللاذقية القديمة” لأنهم هدموا بيوتها الأثرية كلها، فاتصل بي أحد المسؤولين المهمين وصرخ بي قائلًا “هذه الأبنية التي تدافعين عنها كانت وكرًا للإخوان المسلمين”، وقد أغاظه ضحكي حين قلت له: كان في الإمكان القضاء على الإخوان المسلمين من دون أن تهدموا أجمل بيوت أثرية في اللاذقية!

مشاركة: