عشر سنوات على انفجار الحلم

أنتقل من محطة إخبارية الى أخرى، هل صحيح ما أراه، إنه كانون الثاني/ يناير ٢٠١١، وقد انفجر الربيع العربي في تونس ومصر، أفكر هل سيصل إلينا في سوريا، وأعود لأقارن وضع مصر السياسي ووضع تونس بالوضع السياسي في سوريا، وتزداد مخاوفي، ويكبر القلق.
قبل ثورة يناير كان هناك في مصر حراك مطلبي، وخصوصًا عندما ظهر هناك تخوف من التوريث كما حصل في سوريا، فرأينا العديد من الاعتصامات التي قامت بها “كفاية”، كما ظهرت ترشيحات للرئاسة في مواجهة مبارك، وإن باءت بالفشل. أيضًا في تونس كانت الساحة زاخرة بوجود ديمقراطي مطلبي وبغليان إسلامي. أما الوضع في سوريا فقد كان مختلفًا تمامًا. إذ استطاع النظام السوري فرض سيطرته المطلقة بعد أحداث الثمانينيات، وبعد الصراع مع الإخوان المسلمين، والذي استغله ليمدّ قمعه إلى جميع معارضيه، فقد زجّ النظام السوري، منذ الثمانينيات، معارضيه في السجون لفترات طويلة، وقد نالني وعائلتي نصيبينا من هذا القمع، إذ قضيت ثلاث سنوات في ثمانينيات القرن الماضي في فرع فلسطين بسبب انتمائي إلى حزب العمل الشيوعي، ثم أمضيت اثنتي عشر سنة أخرى في انتظار شريك حياتي ونضالي، الذي أمضى في المعتقل ما يقارب الخمسة عشر عامًا للسبب ذاته متنقلًا من سجن إلى آخر.
لم يركن الشعب السوري ويستسلم تمامًا للقمع، بل حاول دومًا، وإن لم يكن بشكل جماهيري معمّم، خرق هذا القمع ومواجهته، من خلال نضال بعض التنظيمات الصغيرة التي قُمعت بشكل كامل وأودعت في السجون، أو عبر حراك النقابات في عام ١٩٨٠ والذي أيضًا قُمع بشدة ودفع ثمنه الكثير من قيادي النقابات سنينًا طويلة من حياتهم في المعتقلات. ولكن ما إن لاح بعض الانفراج وتبدّى تراخ نسبي للقبضة الأمنية حتى حاول السوريون مرة أخرى تنظيم أنفسهم ومواجهة آلة القمع، فكان ربيع دمشق ومنتدياته في بدايات القرن الحالي، والبيانات التي وقّعها العديد حينها للمطالبة بالإصلاح والتغيير السياسي السلمي (بيان ٩٩، وبيان الألف، وإعلان بيروت دمشق). سرعان ما قمع النظام أيضًا هذه المحاولة، فزجّ بقيادي إعلان دمشق في السجون، وأغلق المنتديات، ودفع كثيرٌ من الأشخاص ممن وقعوا البيانات والإعلانات ثمنًا لهذا التوقيع بالتسريح من العمل أو حتى بالاعتقال. شخصيًا، كان لي نصيبٌ مرة أخرى من هذا القمع فسُرِّحت من عملي عام ٢٠٠٦ على أرضية توقيعي إعلان بيروت دمشق.
إذًا، عندما انفجر الربيع العربي كانت القبضة الأمنية مُحكمة في سوريا، وهو ما دفع رأس النظام لإطلاق تصريحه الشهير حول استبعاد وصول الربيع العربي لسوريا وخصوصية الحالة السورية. تنادى السوريون إلى يوم غضب في أوائل شباط/ فبراير ٢٠١١، لكن دمشق في ذلك اليوم كانت خاويةً تمامًا، لم يكن في الشوارع إلا قطعان الأمن المنتشرة، وخصوصًا حول البرلمان، المنطقة المتَّفق عليها للتجمع. مرة أخرى عجز السوريون عن تفجير غضبهم وبقي الغضب حبيس الصدور، لكن ذلك لم يدم طويلًا، فقد خرج السوريون إلى الشوارع في منتصف آذار/ مارس، وانطلقت الحناجر تنادي بالحرية والكرامة، عمَّت التظاهرات أغلب المدن السورية، فكانت تخبو في منطقة وتنطلق في أخرى، أخيرًا وصل الربيع إلى سوريا.
رقص قلبي فرحًا مع المتظاهرين، غنّى معهم، وتنقّل على أكتافهم، شعرت أن انتظاري الطويل أثمر انتفاضة وتظاهرات، وأن ما انتظرته وعملت له طويلًا قد جاء.
بدأت تظهر تشكيلات سياسية جديدة على الساحة السورية إلى جانب الأحزاب والتشكيلات القديمة، كما وتبلورت تنظيمات مجتمع مدني مستقلة أول مرة في سوريا، وبدأ السوريون يتعرفون إلى العمل السياسي والمدني بعد سنوات طويلة من القمع، وحاولوا تشكيل تحالفات مختلفة، بعضها فشل حال ظهوره، وبعضها الآخر استمر من دون فاعلية حقيقية.
واجه النظام انتفاضة السوريين بالقمع كعادته واعتمد الحل الأمني، فاضطر الشعب إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسه، السلاح الذي كان وبالًا عليهم، فتحولت الثورة السورية إلى حرب، تطورت لتصبح حربًا أهلية إقليمية دولية مركبة، وكثر المتدخلون في الشأن السوري، وأصبحت سوريا ساحة صراع للمتنفذين الدوليين إما بشكل مباشر أو عبر وكلائهم المحليين. ابتعد الحلم، وقد يكون انكسر أيضًا، فرغت الساحات من المتظاهرين، سكتت الحناجر وارتفعت قرقعة السلاح، وكثر المستبدون والطغاة وتحاربوا فيما بينهم، وأصبح السوريون وقود حرب لهم.
ساهمتُ في تشكيل “تيار مواطنة” منذ الأيام الأولى للثورة، انخرط التيار في الثورة وفي العمل السياسي والمدني المرافق لها، عقد عدة تحالفات مع تشكيلات ديمقراطية، باء معظمها بالفشل للأسف، انضم التيار لائتلاف قوى الثورة والمعارضة إبان تشكيله، وانسحب منه في عام ٢٠١٧، بعد أن أرسل إلى الائتلاف المذكور رسالة تطالبه بتصحيح مساره، والتمايز عن التشكيلات الإسلامية المتطرفة التي تسيء للثورة دون أن يتلقى رد. ما زال التيار يؤمن بأهمية التحالفات والعمل السوري المشترك، فقد عقد مؤتمره الأخير تحت شعار “نحو جبهة ديمقراطية عريضة”، ولكنه يؤمن أيضًا أنه لتجاوز الاستعصاء والفشل الذي وصلت اليه الثورة السورية، يجب الوقوف على السنوات العشر الماضية وقراءتها قراءة نقدية لتجاوز الأخطاء، وهذا ما قام به في مراجعته النقدية في مؤتمره الأخير في نهاية العام الماضي.
ساهمتُ في عام ٢٠١٣ في تأسيس شبكة المرأة السورية، منظمة مجتمع مدني تنحاز للثورة، وتدمج النضال من أجل حرية سورية بالنضال من أجل حقوق المرأة السورية. عملتْ الشبكة على تمكين النساء سياسيًا لتساهم في رفد الساحة السياسية في سوريا بسياسيات فاعلات.
وفي عام ٢٠١٧ دعونا مجموعة من النساء السوريات إلى تشكيل الحركة السياسية النسوية، وهي تشكيل سياسي من منظور نسوي، كانت الحركة بالنسبة إليَّ حلمًا تحقق، فهي تجمع بين نضالي السياسي وهمّي النسوي اللذين افترقا طويلًا. قبل الثورة السورية كنت أومن بأولوية النضال السياسي على الهمّ والنضال النسوي، كنت أرى أن النضال النسوي ليس له معنى قبل التخلص من الدكتاتورية. بعد انطلاق الثورة السورية وانخراط النساء فيها بشكل كبير، من التظاهرات إلى العمل الإغاثي والمدني، واستبعادهن في أغلب الأحيان من طرف المجتمع الذكوري عن قيادة التشكيلات السياسية ومراكز صنع القرار، أو محاولة تأطيرهن في دور تزييني شكلي من دون فاعلية، تغيرت وجهة نظري، وصرت أرى تلازم مساري النضالين معًا، إذ لا ديمقراطية من دون وجود النساء وحصولهن على حقوقهن، ولا مواطنة كاملة من دون مساواة جندرية في القانون وأمامه.
لطالما تلقّت النساء جوابًا على مطالبتهن بوصول المرأة إلى مراكز صنع القرار بالسؤال: “وأين تلك النساء اللاتي يعملن بالسياسة؟” ردًا على ذلك جاء تشكيل الحركة السياسية النسوية والتي تضم الآن نساءً نسويات ورجالًا نسويين، يعملن/ون معًا على وصول المرأة إلى مراكز صنع القرار وعلى انخراطها في العمل السياسي بمستوياته كافة، ولبناء سوريا الجديدة، دولة خالية من الاستبداد.
خلال السنوات العشرة الماضية تأرجحت مشاعري تجاه تطورات الحدث، من التظاهرات إلى التسلح والحرب، التهجير والنزوح والدمار، القمع والاعتقالات، الأسلمة وسيطرة السلاح، بين فرح وغبطة بالانفجار، أو حتى اليأس في بعض اللحظات مما وصلنا إليه. غزا التطرف ثورتنا التي تحولت إلى حرب، وابتعد المنخرطون فيها عن هتافاتها الأولى، فأصبحت تنادي بدولة إسلامية بدلًا من الحرية والكرامة، وتطيّفت، وفاقمت الشرخ في المجتمع السوري. عاد كثيرون إلى انتماءاتهم ما قبل وطنية، تقسّمت سوريا إلى مناطق نفوذ، وتعددت الاحتلالات. نحن الآن في ثورة مضادة تتجلى في تنظيمات إسلامية مسيطرة، تُراوح بين الاعتدال والتطرف والأكثر تطرفًا، تخوض حربًا مع نظام طغمة، يرهن كل إمكانيات سوريا لمصلحته، وتدفع سوريا ثمنًا لبقائه، لكني ما زلت أومن بأن الثورة خلقت أفقًا للحراك المدني والسياسي، وأن جدار الأبد الذي سجننا النظام السوري خلفه قد خرق، وأن الثورة فتحت عدة فتحات في هذا الجدار.
نحتاج الآن إلى نشاط دؤوب وصبور، يعمل على البحث في المشتركات بين السورين، يعمل على رأب صدع مجتمعنا الذي تشظى، يبني هوية سورية جامعة، ويعمل على صوغ عقد اجتماعي يجمع السوريين، ويحقق دولة مواطنة كاملة لكل مواطنيها، عمل يستغل كل الإمكانيات التي أتاحتها سنوات النضال العشر الأخيرة، السياسية منها والمدنية، من أجل الوصول إلى سوريا الغد، سوريا الحلم.

مشاركة: